قال الإمام ابن القيم الجوزية
– رحمه الله –
في زاد المعاد :


(( نَوْعَا النّوْمِ))



ونحن نذكر فصلاً فى النوم، والنافع منه والضار.


فنقول:النوم حالة للبدن يَتبعُها غوْر الحرارةِ الغريزية والقُوى إلى باطن البدن لطلب الراحة، وهو نوعان: طبيعى، وغيرُ طبيعى.


1- فالطبيعى:إمساك القُوى النفسانية عن أفعالها، وهى قُوَى الحِسِّ والحركة الإرادية، ومتى أمسكتْ هذه القُوَى عن تحريك البدن اسْتَرخى، واجتمعتْ الرطوباتُ والأبخرةُ التى كانت تتحلَّل وتتفرَّق بالحركات واليقظة فى الدماغ الذى هو مبدأ هذه القُوَى، فيتخدَّرُ ويَسترخِى، وذلك النومُ الطبيعى.


2- وأمَّا النومُ غيرُ الطبيعى، فيكونُ لعَرض أو مرض، وذلك بأن تستولىَ الرطوباتُ على الدماغ استيلاءً لا تقدِرُ اليقظةُ على تفريقها، أو تصعد أبخرةٌ رَطبة كثيرة كما يكون عقيبَ الامتلاء مِن الطعام والشراب، فتُثقِلُ الدماغ وتُرخيه، فَيتخدَّرَ، ويقع إمساكُ القُوَى النفسانية عن أفعالها، فيكون النوم.



فَائِدَتَا النّوْم:
وللنوم فائدتان جليلتان:

إحداهما:سكونُ الجوارح وراحتُها مما يَعرض لها من التعب، فيُريح الحواسَّ مِن نَصَب اليقظة، ويُزيل الإعياء والكَلال.

والثانية:هضم الغذاء، ونُضج الأخلاط لأن الحرارة الغريزية فى وقت النوم تَغور إلى باطن البدن، فتُعين على ذلك، ولهذا يبرد ظاهره ويحتاج النائم إلى فضل دِثَار.



أَنْفَعُ كَيْفِيّاتِ النّوْمِ:
وأنفعُ النوم: أن ينامَ على الشِّق الأيمن، ليستقرَّ الطعام بهذه الهيئة فى المَعِدَة استقراراً حسناً، فإن المَعِدَة أميَلُ إلى الجانب الأيسر قليلاً، ثم يَتحوَّل إلى الشِّق الأيسر قليلاً ليُسرعَ الهضم بذلك لاستمالة المَعِدَة على الكَبِد، ثم يَستقرُّ نومُه على الجانب الأيمن، ليكون الغِذاء أسرعَ انحداراً عن المَعِدَة، فيكونُ النوم على الجانب الأيمن بُداءة نومه ونهايتَه، وكثرةُ النوم على الجانب الأيسر مضرٌ بالقلب بسبب ميل الأعضاء إليه، فتنصبُّ إليه المواد.



أَرْدَأُ نَوْعِيّاتِ النّوْمِ:
وأردأُ النومِ , النومُ على الظهر، ولا يَضرُّ الاستلقاء عليه للراحة من غير نوم، وأردأُ منه أن ينامَ منبطحاً على وجهه، وفى"المسند" و"سنن ابن ماجه"،عن أبى أُمامةَ الباهلي ـ رضي الله عنه ـ قال( مرَّ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على رجُلٍ نائم فى المسجد منبطح على وجهه، فضرَبه برجله، وقال: "قُمْ أوِ اقْعُدْ فإنَّهَا نومةٌ جَهَنَّمِيَّةٌ".
قال "أبقراطٌ" فى كتاب "التَّقدِمة" : وأما نومُ المريض على بطنه من غير أن يكون عادتُه في صحته جرتْ بذلك، فذلك يدلُّ على اختلاط عقل، وعلى ألمٍ في نواحي البطن، قال الشُرَّاح لكتابه: لأنه خالف العادة الجيدة إلى هيئة رديئة من غير سبب ظاهر ولا باطن.



مَنَافِعُ النّوْمِ الْمُعْتَدِلِ:
والنومُ المعتدل ممكِّنٌ للقُوَى الطبيعية من أفعالها، مريحٌ للقوة النفسانية، مُكْثرٌ من جوهر حاملها، حتى إنه ربَّما عاد بإرخائه مانعاً من تحلُّل الأرواح.



مَفَاسِدُ نَوْمِ النّهَارِ وَبِخَاصّةٍ آخِرُهُ:
ونومُ النهار ردئٌ يُورث الأمراضَ الرطوبية والنوازلَ، ويُفسد اللَّون، ويُورث الطِّحال، ويُرخى العصبَ، ويُكسل، ويُضعف الشهوة، إلاَّ في الصَّيفِ وقتَ الهاجِرة، وأردؤه نومُ أول النهار، وأردأُ منه النومُ آخره بعدَ العصر، ورأى عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ابناً له نائماً نومة الصُّبْحَةِ، فقال له: قم، أتنام فى الساعة التى تُقسَّمُ فيها الأرزاق ؟؟


وقيل: نوم النهار ثلاثة : خُلقٌ، وحُرق، وحُمق.
1- فالخُلق:نومة الهاجرة، وهى خُلق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
2- والحُرق:نومة الضحى، تُشغل عن أمر الدنيا والآخرة.
3- والحُمق: نومة العصر.قال بعض السَّلَف:مَن نام بعد العصر، فاختُلِسَ عَقلُه، فلا يلومنَّ إلا نفسه.
وقال الشاعر:

أَلاَ إنَّ نَوْمَاتِ الضُّحَى تُورِثُ الْفَتَى ** خَبَالاً وَنَوْمَاتُ الْعُصَيْرِ جُنُونُ



مَفَاسِدُ نَوْمِ الصّبْحَةِ:
ونوم الصُّبحة يمنع الرزق، لأن ذلك وقتٌ تطلبُ فيه الخليقةُ أرزاقَها، وهو وقتُ قسمة الأرزاق، فنومُه حرمانٌ إلا لعارض أو ضرورة، وهو مضر جداً بالبدن لإرخائه البدن، وإفسادِه للفضلات التي ينبغي تحليلُها بالرياضة، فيُحدث تكسُّراً وَعِيّاً وضَعفاً. وإن كان قبل التبرُّز والحركة والرياضة وإشغالِ المَعِدَة بشيء، فذلك الداء العُضال المولِّد لأنواع من الأدواء.



مَفَاسِدُ النّوْمِ فِي الشّمْسِ أَوْ بَعْضِهِ فِي الشّمْسِ:
والنومُ فى الشمس يُثير الداءَ الدَّفين، ونومُ الإنسان بعضُه فى الشمس، وبعضُه فى الظل رديء، وقد روى أبو داود فى "سننه" من حديث أبى هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا كان أحدكم في الشَّمْسِ فَقَلَصَ عنه الظِّلُّ ، فصار بَعْضُهُ في الشَّمْسِ وبَعْضُهُ فى الظِّل، فَلْيَقُمْ".
وفي "سنن ابن ماجه" وغيرها حديث بُريدَةَ بن الحُصَيب، "أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى أنْ يقعُدَ الرَّجُلُ بين الظِّلِّ والشمس"، وهذا تنبيه على منع النوم بينهما.
وفى "الصحيحين" عن البَرَاء بن عازِبٍ، أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إذا أتَيْتَ مَضْجَعَكَ فتوضَّأْ وُضُوءَكَ للصَّلاة، ثم اضطَّجِعْ على شِقِّكَ الأيمنِ، ثم قل:اللهُمَّ إنِّى أسْلمتُ نَفْسِي إليكَ، ووَجَّهْتُ وجْهي إليكَ، وفَوَّضْتُ أمري إليكَ، وألجأْتُ ظَهْري إليكَ، رَغبةً ورَهبةً إليكَ، لا ملجأَ ولا مَنْجا منك إلاَّ إليكَ، آمَنتُ بكتابِكَ الذي أنْزَلْتَ، ونبيِّكَ الذي أرْسلتَ. واجعلْهُنَّ آخر كلامِكَ، فإن مِتَّ مِن ليلتِك، مِتَّ على الفِطْرة".
وفى "صحيح البخاري" عن عائشة أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، "كان إذا صلَّى ركعتى الفجرِ يعنى سُنَّتَها اضْطَّجَعَ على شِقِّه الأيمنِ".




الْحِكْمَةُ مِنْ النّوْمِ عَلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ:
وقد قيل:إنَّ الحكمة فى النوم على الجانب الأيمن، أن لا يستغرقَ النائم فى نومه، لأن القلب فيه ميلٌ إلى جهة اليسار، فإذا نام على جنبه الأيمن، طلب القلبُ مُستقَرَّه من الجانب الأيسر، وذلك يمنع من استقرار النائم واستثقاله فى نومه، بخلاف قراره فى النوم على اليسار، فإنه مُستقَرُّه، فيحصُل بذلك الدَّعةُ التامة، فيستغرق الإنسان فى نومه، ويَستثقِل، فيفوتُه مصالح دينه ودنياه.




فَوَائِدُ الدّعَاءِ قَبْلَ النّوْمِ:
ولما كان النائمُ بمنزلة الميت، والنومُ أخو الموت ولهذا يستحيل على الحي الذي لا يموت، وأهلُ الجنَّة لا ينامون فيها كان النائم محتاجاً إلى مَن يحرُس نفسه، ويحفظُها مما يَعْرِضُ لها من الآفات، ويحرُسُ بدنه أيضاً من طوارق الآفات، وكان ربُّه وفاطرُه تعالى هو المتولى لذلك وحدَه. علَّم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النائمَ أن يقولَ كلماتِ التفويضِ والالتجاء، والرغبة والرهبة، ليَستدعىَ بها كمال حفظِ الله له، وحراسته لنفسه وبدنه، وأرشده مع ذلك إلى أن يَستذكِرَ الإيمانَ، وينامَ عليه، ويجعلَ التكلُّمَ به آخرَ كلامه، فإنه ربما توفاه الله فى منامه، فإذا كان الإيمانُ آخِرَ كلامه دخل الجنَّة، فتضمَّن هذا الهَدْىُ فى المنام مصالحَ القلب والبدن والروح فى النوم واليقظة، والدنيا والآخرة، فصلواتُ الله وسلامُه على مَن نالتْ به أُمتُه كُلَّ خير
وقوله: "أسلَمتُ نفْسى إليكَ" ؛ أي:جعلتُها مُسلَّمَةً لك تسليمَ العبدِ المملوك نفسَه إلى سيده ومالكه.
وتوجيهُ وجهه إليه:يتضمَّن إقبالَه بالكلِّية
على ربه، وإخلاص القصد والإرادة له، وإقراره بالخضوع والذل والانقياد،قال تعالى:{فَإنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ}.
وذكر الوجهَ إذ هو أشرفُ ما فى الإنسان، ومَجْمَعُ الحواس، وأيضاً ففيه معنى التوجُّهِ والقصدِ من قوله:

أسْتَغْفِرُ اللهَ ذَنباً لَسْتُ مُحْصِيَهُ *** رَبّ الْعِبَادِ إلَيْهِ الْوَجْهُ وَالْعَمَلُ

وتفويض الأمر إليه : ردُّهُ إلى الله سبحانه، وذلك يُوجب سُكون القلب وطمأنينتَه، والرِّضى بما يقضيه ويختارُه له مما يحبه ويرضاه، والتفويضُ
من أشرف مقامات العبودية، ولا عِلَّة فيه، وهو من مقامات الخاصة خلافاً لزاعمي خلاف ذلك.
وإلجاءُ الظَّهر إليه سبحانه:يَتضَمَّنُ قوةَ الاعتماد عليه، والثقة به، والسكونَ إليه، والتوكلَ عليه، فإنَّ مَن أسند ظهره إلى ركن وثيقٍ، لم يخف السقوطَ.
ولمَّا كان للقلب قوَّتان:قوة الطلب، وهي الرغبة، وقوة الهرب، وهي الرهبة، وكان العبد طالباً لمصالحه، هارباً من مضارِّه، جمع الأمرين في هذا التفويض والتوجُّه، فقال: "رغبةً ورهبةً إليك".
ثم أثنى على ربه، بأنه لا مَلجأ للعبد سواه، ولا منجا له منه غيره، فهو الذى يلجأ إليه العبدُ ليُنجِيَه من نفسه،كما فى الحديث الآخر: "أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِن سَخَطِكَ، وبمُعَافَاتِكَ من عُقُوبَتِكَ، وأعوذُ بِكَ مِنْكَ" ، فهو سبحانه الذى يُعيذ عبدَه ويُنجيه من بأسه الذى هو بمشيئته وقُدرته، فمنه البلاءُ، ومنه الإعانةُ، ومنه ما يُطلب النجاةُ منه، وإليه الالتجاءُ فى النجاة، فهو الذى يُلجأ إليه فى أن يُنجىَ مما منه، ويُستعاذُ به مما منه، فهو ربُّ كل شيء، ولا يكون شيء إلا بمشيئته:
{وَإن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إلاَّ هُوَ}[الأنعام: 17]،{قُلْ مَن ذَا الَّذِى يَعْصِمُكُم مِّنَ اللهِ إنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً}[الأحزاب: 17].
ثُمَّ ختم الدعاءَ بالإقرار بالإيمان بكتابه ورسوله الذي هو مَلاكُ النجاة، والفوز في الدنيا والآخرة، فهذا هَدْيُه في نومه.
لَوْ لَمْ يَقُلْ إنِّى رَسُولٌ لَكَـ *** ـانَ شَاهِدٌ فِى هَدْيِهِ يَنْطِقُ )) اهـ .

رحم الله الإمام العلامة شمس الدين ابن القيم الجوزية وأسكنه الفردوس الأعلى وغفر له ولوالديه ولشيخه الإمام بن تيمية وأجزل لهما ولطلابهما الأجر والمثوبة ..