القصه القصيره....( عناصرها و شروطها)..
يخلط بعض الكتاب بين القصة والقصة القصيرة، وهذا الخلط ناجم في الغالب من الدلالة اللفظية لكلا المصطلحين، وحقيقة الأمر أن القصة بمعناها المطلق تشمل كل الألوان السردية والحكائية وهي ذات جذور متوغلة في عمق تاريخ الأدب العربي، ومنها القصص الواردة في القرآن الكريم مثل قصص الأنبياء والأقوام والأمم، وكذلك الأساطير الشعبية والحكايات المستمدة من التراث، وهي تشكل رصيداً ضخماً من الإبداع المرتبط بتاريخ الأمة عبر الزمن، لكن القصة القصيرة بمفهومها الحديث فن وافد إلى الأدب العربي المعاصر من الغرب والشرق.
ولا يبرر هذا الخلط بين القصة والقصة القصيرة ما تشهده ساحة الإبداع الأدبي من فوضى نتيجة تداخل الأجناس الأدبية على أيدي المغرمين بتقليد أدباء الغرب، حتى أصبحنا نقرأ ما يسمى شعراً ما ليس له علاقة بالشعر، أو نقرأ قصة ما ليس له علاقة بالقصة، كل ذلك بحجة التجديد، وما هو سوى تقليد أعمى يتجاهل الذائقة الفنية للقارئ العربي الذي تربى على تلقي ألوان أدبية شكلت ذائقته الفنية بل وساهمت في تشكيل شخصيته العامة، وهي ألوان قابلة للتجديد وفق السياق العام للتطور الذي تشهده الحياة في المجتمع العربي المسلم، لا وفق ما يراه الآخرون.
قواعد صارمه:
إن الأدب العربي عبر تاريخه الطويل يحمل كماً هائلاً من القصص التي لا يمكن أن ينطبق عليها مصطلح القصة القصيرة، رغم أن هذا اللون الأدبي أي القصة القصيرة هو أكثر الألوان الأدبية قابلية للتطوير والتجديد، وهذا ما تؤكده النماذج القصصية الجديدة التي بدأت في التخلي عن تلك القواعد الصارمة التي وضعها كتّاب القصة القصيرة الأوائل، أو التي استنتجها النقاد من كتابات أولئك الرواد. وبصرف النظر عن مدى تقبل المتلقي للنصوص القصصية الجديدة، فإن على المبدعين التعامل بحذر مع النص قبل الإقدام على مغامرة التجريب، حتى لا يتخلى النص القصصي نهائياً عن كل مقومات القصة القصيرة.. ليصبح لوناً أدبياً آخر يمكن تصنيفه في أي ( خانة ) من ( خانات ) الأدب باستثناء القصة القصيرة.
فن جديد:
وكما قلنا: يعتبر فن القصة القصيرة من الفنون الأدبية الحديثة، التي عرفها الأدب العربي في هذا العصر، وإن كان هناك من يرجع جذورها الأولى إلى بعض الفنون الأدبية القديمة، لأنها تشترك معها في بعض الملامح، لكن حقيقة الأمر أن القصة القصيرة بشروطها الفنية المعروفة هي فن جديد، ليس في الأدب العربي فقط، ولكن حتى في الآداب الغربية الأخرى، إذ لم يظهر هذا الفن إلا منذ حوالي قرن تقريباً وفي هذا المعنى يقول الدكتور عزالدين إسماعيل : ( وأما القصة القصيرة فهي حديثة العهد في الظهور، وربما أصبحت في القرن العشرين أكثر الأنواع الأدبية رواجاً، وقد ساعد على ذلك طبيعتها والعوامل الخارجية.)
عصر السرعة:
أما من حيث طبيعتها فقد أغرت كثيراً من الشبان بكتابتها رغم أنها في الحقيقة أصعب أنواع القصص، ولذلك يخفق 70% على الأقل في كتابتها. وأما من حيث العوامل الخارجية، فقد تميز عصرنا بالآلية والسرعة، ومئات الصحف والمجلات تحتاج كل يوم لمئات القصص وهي بحكم الحيز والناحية الاقتصادية تفضل القصة القصيرة، ثم يذكر من هذه العوامل الإذاعة أيضاً، والناس الذين سيطرت على حياتهم السرعة في كل شيء حتى فيما يختارون للقراءة، فوجدوا في القصة القصيرة ضالتهم، لأنها تلائم روح العصر بكل تناقضاته وإشكالاته المختلفة. ثم إن (القصة القصيرة لا تزدهر مع حياة الخمول، بل تزدهر مع حياة المعاناة، لأنها تتخذ الومضة النفسية أو الحضارية للمجتمع والإنسان محوراً لها تعالجه وتهتم به، وما اهتمامها بالإنسان إلا اهتمام بالطبقات المسحوقة بشكل خاص).
وفي هذا العصر يعيش الإنسان أقسى أنواع المعاناة، وأشدها وطأة على النفس، وفي مثل هذه الظروف تزدهر القصة القصيرة.....
معطف جوجول
ويمكن القول أن القصة القصيرة ظهرت في وقت واحد في بلدين متباعدين، وعلى أيدي اثنين لم يتفقا على ذلك هما إدجار ألن بو 1809 1840 في أمريكا، وجوجول 1809 1852 في روسيا، وقد قال مكسيم جوركي عن جوجول (لقد خرجنا من معطف جوجول) وهو بهذا وضع تحديداً مبدئياً لتاريخ القصة القصيرة في الآداب العالمية، إلى أن جاء جي دي موباسان 1850 1892 في فرنسا ليقول عنه هولبروك جاكسان: (إن القصة القصيرة هي موباسان، وموباسان هو القصة القصيرة)....
مقدمة وعقدة:
وهناك شروط للقصة القصيرة هي المقدمة والعقدة والحل أو لحظة التنوير، كما أن للقصة عناصر تقليدية أيضاً هي الشخصية والحدث والبيئة الزمان والمكان لكن هذه الشروط أو العناصر لم تعد تشغل بال كتاب القصة الحديثة، إذ تجاوزها الكثيرون ممن يحاولون التجريب فهم يرون أنها (سير نحو هدف ما، ومن معاني السير البحث، ولا سيما البحث عن الوجود، والقصة هي أحسن مثال لهذا اللون من البحث، وهذا السير هو في الحقيقة مجهول، مغامرة منغلقة الأسرار، حركية دائمة ديمومة متدحرجة، وعلاقة القصاص بهذا اللون من البحث غريبة. إذ أن القصة تتبع من نفسه، فيتحملها عند كتابتها ومعايشتها، حتى تتمكن من تقرير مصيرها بنفسها فنياً.
أما القصة التقليدية فهي السكون والقرار، إذ هي مشروحة جاهزة، مضبوطة الأهداف.. منطقية قدرية " عاقلة " يصبها باعثها في قالب جامد مجتر ).
وهذا الكلام لا يؤخذ على علاته، فالعملية الإبداعية لا تقتصر في نجاحها على أساليب دون غيرها، سواء كانت هذه الأساليب تقليدية أو تجريبية، فإذا توفر الصدق الفني إلى جانب إشراقة الأسلوب وقدرته على تفجير الأسئلة في ضمير المتلقي، يمكن الحكم للعمل الإبداعي لا عليه. فما الفائدة في أن يقدم على التجريب من لا يملك الأدوات الفنية التي تؤهله لذلك، إن العملية الإبداعية في هذه الحالة لا تتعرض للتجريب بل للتخريب.
شروط غير ملزمة:
ومع ذلك فإن شروط القصة القصيرة لم تعد ملزمة، لأنها شروط قابلة للنقض، كغيرها من الشروط العامة التي تخضع حين تنفيذها لظروف مختلفة عن تلك التي كانت حين فرضها. وهي قابلة للتجاوز حسب درجة الوعي التي يتمتع بها المبدع.. ذلك الوعي الذي لا يتيح للمتلقي فرصة الوقوف والسؤال عن لماذا تم تجاوز هذا الشرط أو ذاك. فهو أمام عمل إبداعي متكامل، تم تشكيله وفق رؤية جديدة ومتطورة لا يملك المتلقي حيالها إلا الإعجاب. لكن إذا أمكننا أن نتخلى عن بعض أو كل شروط القصة القصيرة، فكيف لنا أن نتخلى عن كل أو بعض عناصرها ؟. إن هذا التخلي عن هذه العناصر يحيل الكتابة إلى لون أدبي آخر غير القصة. قد يندرج تحت مسمى الخاطرة أو الكتابات الوجدانية أو أي لون أدبي آخر غير القصة، وهذا لا يعني أن هذه العناصر جامدة ولا تقبل التطوير. وأول هذه العناصر الشخصية القصصية:
أولا- الشخصية:
كنا إلى وقت قريب نقرأ الشخصية القصصية فنجدها صدى لكاتبها، إذ أن ثمة علاقة تشبه التوحد بين المبدع وشخصياته القصصية، وهذا التوحد وإن كان يلقي الضوء على المبدع وفكره، إلا أنه يحول بين الشخصية وممارسة تصرفاتها الطبيعية، وفق الدوافع والأجواء التي وجدت فيها، وعندما يطل المبدع بفكره من خلال شخصياته القصصية، فإن هذا يكرس النمطية التي تتكرر بشكل أو بآخر، وتلقي بظلالها على ما يأتي بعدها.
لكننا مع تقدم التقنية القصصية، نتيجة فسح المجال أمام التجارب الجديدة.. أصبحنا نقرأ نماذج متعددة من تلك الشخصيات، لا تظهر فيها سيطرة الكاتب وتحكمه في مصيرها، وأصبح سلوكها مرهون الخطوات بالظروف والعوامل والأجواء التي وجدت بها، دون الشعور بأن الكاتب هو المتصرف بشؤونها، والمتحكم في تصرفاتها والمقرر لمصائرها، وهذا لا يلغي العلاقة بين المبدع والنص، ولكنه يجعل هذه العلاقة متوازنة ومحكومة بضوابط خفية يعرفها المدركون للإشكاليات المتعلقة بالإبداع أو التلقي.
الإبداع والنص:
وحين الحديث عن العلاقة بين المبدع والنص علينا ألا نتجاهل أهمية التجارب الذاتية في إثراء العمل الإبداعي، وهذه التجارب لا تبرر للمبدع فرض رأيه وفكره فيما يتعارض مع قدرة شخصيته القصصية على استيعاب وتمثل هذا الرأي أو الفكر، لأن العديد من العوامل هي التي تحدد هذه القدرة على الاستيعاب والتمثل، وبغياب هذه العوامل تصبح تلك القدرة مفقودة، والتناقض واضحاً بين الشخصية وسلوكها المحتمل والمتوقع. إن إدراك توازن العلاقة بين المبدع والنص يقودنا إلى شيء من التسليم بأن هذه العلاقة طبيعية وغير متنافرة، إذا تقيدت بتلك الضوابط الخفية التي أشرنا إليها آنفاً. أما القول بانعدام العلاقة بين المبدع والنص، كما يزعم المنادون بموت المؤلف، فإنه قول يتجاهل مجمل المعطيات التي تحيل النص من مجرد فكرة هلامية، إلى كائن يتنامى حتى يبلغ أوج نضجه. وهكذا يكون الحال بالنسبة للجزئيات التي يتكون منها النص في نهاية الأمر.
شخصيات مختلفة:
عند الحديث عن الشخصية القصصية سواء في الرواية أو القصة القصيرة، يتبادر إلى الأذهان أن المعنى هو الإنسان، وإن لواء البطولة في القصة لا يعقد إلا لهذا الإنسان، مع أن الأعمال الروائية والقصصية المشهورة تزخر بأبطال حقيقيين يتحكمون في مسار الأحداث، ولكنهم ليسوا رجالا أو نساء، ليسوا بشرا، وإن كانوا هم محور الأحداث، ومركز استقطابها، وعلاقتهم بالناس هي علاقة محكومة بظروفها، لا أقل ولا أكثر.
ونحن أمام عمل إبداعي مثل ( العجوز والبحر ) لهنجواي ننسب البطولة للعجوز، لكن هناك بطولة لشخصيات أخرى أشد ضراوة في مقاومة الظروف وتحدي الصعاب.. وأشد إصراراً على تحقيق هزيمة ساحقة بالعجوز الذي لم ينهزم لأنه يقول في النهاية : إن الإنسان قد يتحطم ولكنه لا ينهزم. فلدينا البحر الذي يشارك العجوز هذه البطولة، وكذلك سمك القرش الذي يشاركه أيضاً هذه البطولة، فنحن في هذا العمل الإبداعي أمام ثلاث شخصيات تتساوى في الأهمية : سانتياغو العجوز، والبحر الذي يقود الأحداث إلى المجهول، وأسماك القرش التي تصر على إلحاق الهزيمة بالعجوز.
الشخصية الإنسانية ليست شرطا:
فالشخصية الرئيسية أو البطل في القصة أو الرواية لا يشترط أن يكون إنساناً، قد يكون الزمان، أو المكان، أو الطبيعة، أو أحد المخلوقات التي يستصغرها الإنسان، فإذا هي تقوم بأعمال خارقة تبعث على الحيرة والتأمل في ملكوت الخالق، ونحن عندما نتحدث عن المكان مثلاً كبطل لقصة ما، فإننا لا نتحدث عن فلسفة الزمن، ولا عن الزمن بمعناه الميكانيكي، بل باعتباره الإطار الذي يمكن أن يستوعب مجموعة من الأحداث والشخصيات.. يتحكم في توجيهها وفق معايير معينة ليصبح هو البطل الحقيقي في النهاية، وكذلك عندما نتحدث عن المكان مثلا فنحن لا نتحدث عن ماهية المكان، ولا عن المكان بمعناه الهندسي، بل باعتباره بعداً مادياً للواقع، أي الحيز الذي تجرى فيه لا عليه الأحداث، والمساحة التي تتحرك فيها لا عليها الشخصيات. بمعنى أن تأثيره يصل إلى حد التحكم في مسار تلك الأحداث والشخصيات، مع الأخذ بعين الاعتبار أن المقصود بالزمن هنا لا علاقة له بالتاريخ، حتى لا يلتبس علينا الأمر، ونظن أن كل رواية أو قصة تاريخية.. بطلها الزمن. كما أن المقصود بالمكان هنا لا علاقة له بالأيديولوجيا، حتى لا يلتبس علينا الأمر، ونظن أن كل رواية أو قصة ذات أيديولوجيا محددة.. بطلها المكان.. ويمكن اعتبار بطل قصة ( في ضوء القمر ) لجي دي موباسان هو الزمن. بينما يمكن اعتبار بطل رواية ( الأرض الطيبة ) لبيرل باك هو المكان..
اتمنى انكم استفدتو ولكم احر تحياتي
يخلط بعض الكتاب بين القصة والقصة القصيرة، وهذا الخلط ناجم في الغالب من الدلالة اللفظية لكلا المصطلحين، وحقيقة الأمر أن القصة بمعناها المطلق تشمل كل الألوان السردية والحكائية وهي ذات جذور متوغلة في عمق تاريخ الأدب العربي، ومنها القصص الواردة في القرآن الكريم مثل قصص الأنبياء والأقوام والأمم، وكذلك الأساطير الشعبية والحكايات المستمدة من التراث، وهي تشكل رصيداً ضخماً من الإبداع المرتبط بتاريخ الأمة عبر الزمن، لكن القصة القصيرة بمفهومها الحديث فن وافد إلى الأدب العربي المعاصر من الغرب والشرق.
ولا يبرر هذا الخلط بين القصة والقصة القصيرة ما تشهده ساحة الإبداع الأدبي من فوضى نتيجة تداخل الأجناس الأدبية على أيدي المغرمين بتقليد أدباء الغرب، حتى أصبحنا نقرأ ما يسمى شعراً ما ليس له علاقة بالشعر، أو نقرأ قصة ما ليس له علاقة بالقصة، كل ذلك بحجة التجديد، وما هو سوى تقليد أعمى يتجاهل الذائقة الفنية للقارئ العربي الذي تربى على تلقي ألوان أدبية شكلت ذائقته الفنية بل وساهمت في تشكيل شخصيته العامة، وهي ألوان قابلة للتجديد وفق السياق العام للتطور الذي تشهده الحياة في المجتمع العربي المسلم، لا وفق ما يراه الآخرون.
قواعد صارمه:
إن الأدب العربي عبر تاريخه الطويل يحمل كماً هائلاً من القصص التي لا يمكن أن ينطبق عليها مصطلح القصة القصيرة، رغم أن هذا اللون الأدبي أي القصة القصيرة هو أكثر الألوان الأدبية قابلية للتطوير والتجديد، وهذا ما تؤكده النماذج القصصية الجديدة التي بدأت في التخلي عن تلك القواعد الصارمة التي وضعها كتّاب القصة القصيرة الأوائل، أو التي استنتجها النقاد من كتابات أولئك الرواد. وبصرف النظر عن مدى تقبل المتلقي للنصوص القصصية الجديدة، فإن على المبدعين التعامل بحذر مع النص قبل الإقدام على مغامرة التجريب، حتى لا يتخلى النص القصصي نهائياً عن كل مقومات القصة القصيرة.. ليصبح لوناً أدبياً آخر يمكن تصنيفه في أي ( خانة ) من ( خانات ) الأدب باستثناء القصة القصيرة.
فن جديد:
وكما قلنا: يعتبر فن القصة القصيرة من الفنون الأدبية الحديثة، التي عرفها الأدب العربي في هذا العصر، وإن كان هناك من يرجع جذورها الأولى إلى بعض الفنون الأدبية القديمة، لأنها تشترك معها في بعض الملامح، لكن حقيقة الأمر أن القصة القصيرة بشروطها الفنية المعروفة هي فن جديد، ليس في الأدب العربي فقط، ولكن حتى في الآداب الغربية الأخرى، إذ لم يظهر هذا الفن إلا منذ حوالي قرن تقريباً وفي هذا المعنى يقول الدكتور عزالدين إسماعيل : ( وأما القصة القصيرة فهي حديثة العهد في الظهور، وربما أصبحت في القرن العشرين أكثر الأنواع الأدبية رواجاً، وقد ساعد على ذلك طبيعتها والعوامل الخارجية.)
عصر السرعة:
أما من حيث طبيعتها فقد أغرت كثيراً من الشبان بكتابتها رغم أنها في الحقيقة أصعب أنواع القصص، ولذلك يخفق 70% على الأقل في كتابتها. وأما من حيث العوامل الخارجية، فقد تميز عصرنا بالآلية والسرعة، ومئات الصحف والمجلات تحتاج كل يوم لمئات القصص وهي بحكم الحيز والناحية الاقتصادية تفضل القصة القصيرة، ثم يذكر من هذه العوامل الإذاعة أيضاً، والناس الذين سيطرت على حياتهم السرعة في كل شيء حتى فيما يختارون للقراءة، فوجدوا في القصة القصيرة ضالتهم، لأنها تلائم روح العصر بكل تناقضاته وإشكالاته المختلفة. ثم إن (القصة القصيرة لا تزدهر مع حياة الخمول، بل تزدهر مع حياة المعاناة، لأنها تتخذ الومضة النفسية أو الحضارية للمجتمع والإنسان محوراً لها تعالجه وتهتم به، وما اهتمامها بالإنسان إلا اهتمام بالطبقات المسحوقة بشكل خاص).
وفي هذا العصر يعيش الإنسان أقسى أنواع المعاناة، وأشدها وطأة على النفس، وفي مثل هذه الظروف تزدهر القصة القصيرة.....
معطف جوجول
ويمكن القول أن القصة القصيرة ظهرت في وقت واحد في بلدين متباعدين، وعلى أيدي اثنين لم يتفقا على ذلك هما إدجار ألن بو 1809 1840 في أمريكا، وجوجول 1809 1852 في روسيا، وقد قال مكسيم جوركي عن جوجول (لقد خرجنا من معطف جوجول) وهو بهذا وضع تحديداً مبدئياً لتاريخ القصة القصيرة في الآداب العالمية، إلى أن جاء جي دي موباسان 1850 1892 في فرنسا ليقول عنه هولبروك جاكسان: (إن القصة القصيرة هي موباسان، وموباسان هو القصة القصيرة)....
مقدمة وعقدة:
وهناك شروط للقصة القصيرة هي المقدمة والعقدة والحل أو لحظة التنوير، كما أن للقصة عناصر تقليدية أيضاً هي الشخصية والحدث والبيئة الزمان والمكان لكن هذه الشروط أو العناصر لم تعد تشغل بال كتاب القصة الحديثة، إذ تجاوزها الكثيرون ممن يحاولون التجريب فهم يرون أنها (سير نحو هدف ما، ومن معاني السير البحث، ولا سيما البحث عن الوجود، والقصة هي أحسن مثال لهذا اللون من البحث، وهذا السير هو في الحقيقة مجهول، مغامرة منغلقة الأسرار، حركية دائمة ديمومة متدحرجة، وعلاقة القصاص بهذا اللون من البحث غريبة. إذ أن القصة تتبع من نفسه، فيتحملها عند كتابتها ومعايشتها، حتى تتمكن من تقرير مصيرها بنفسها فنياً.
أما القصة التقليدية فهي السكون والقرار، إذ هي مشروحة جاهزة، مضبوطة الأهداف.. منطقية قدرية " عاقلة " يصبها باعثها في قالب جامد مجتر ).
وهذا الكلام لا يؤخذ على علاته، فالعملية الإبداعية لا تقتصر في نجاحها على أساليب دون غيرها، سواء كانت هذه الأساليب تقليدية أو تجريبية، فإذا توفر الصدق الفني إلى جانب إشراقة الأسلوب وقدرته على تفجير الأسئلة في ضمير المتلقي، يمكن الحكم للعمل الإبداعي لا عليه. فما الفائدة في أن يقدم على التجريب من لا يملك الأدوات الفنية التي تؤهله لذلك، إن العملية الإبداعية في هذه الحالة لا تتعرض للتجريب بل للتخريب.
شروط غير ملزمة:
ومع ذلك فإن شروط القصة القصيرة لم تعد ملزمة، لأنها شروط قابلة للنقض، كغيرها من الشروط العامة التي تخضع حين تنفيذها لظروف مختلفة عن تلك التي كانت حين فرضها. وهي قابلة للتجاوز حسب درجة الوعي التي يتمتع بها المبدع.. ذلك الوعي الذي لا يتيح للمتلقي فرصة الوقوف والسؤال عن لماذا تم تجاوز هذا الشرط أو ذاك. فهو أمام عمل إبداعي متكامل، تم تشكيله وفق رؤية جديدة ومتطورة لا يملك المتلقي حيالها إلا الإعجاب. لكن إذا أمكننا أن نتخلى عن بعض أو كل شروط القصة القصيرة، فكيف لنا أن نتخلى عن كل أو بعض عناصرها ؟. إن هذا التخلي عن هذه العناصر يحيل الكتابة إلى لون أدبي آخر غير القصة. قد يندرج تحت مسمى الخاطرة أو الكتابات الوجدانية أو أي لون أدبي آخر غير القصة، وهذا لا يعني أن هذه العناصر جامدة ولا تقبل التطوير. وأول هذه العناصر الشخصية القصصية:
أولا- الشخصية:
كنا إلى وقت قريب نقرأ الشخصية القصصية فنجدها صدى لكاتبها، إذ أن ثمة علاقة تشبه التوحد بين المبدع وشخصياته القصصية، وهذا التوحد وإن كان يلقي الضوء على المبدع وفكره، إلا أنه يحول بين الشخصية وممارسة تصرفاتها الطبيعية، وفق الدوافع والأجواء التي وجدت فيها، وعندما يطل المبدع بفكره من خلال شخصياته القصصية، فإن هذا يكرس النمطية التي تتكرر بشكل أو بآخر، وتلقي بظلالها على ما يأتي بعدها.
لكننا مع تقدم التقنية القصصية، نتيجة فسح المجال أمام التجارب الجديدة.. أصبحنا نقرأ نماذج متعددة من تلك الشخصيات، لا تظهر فيها سيطرة الكاتب وتحكمه في مصيرها، وأصبح سلوكها مرهون الخطوات بالظروف والعوامل والأجواء التي وجدت بها، دون الشعور بأن الكاتب هو المتصرف بشؤونها، والمتحكم في تصرفاتها والمقرر لمصائرها، وهذا لا يلغي العلاقة بين المبدع والنص، ولكنه يجعل هذه العلاقة متوازنة ومحكومة بضوابط خفية يعرفها المدركون للإشكاليات المتعلقة بالإبداع أو التلقي.
الإبداع والنص:
وحين الحديث عن العلاقة بين المبدع والنص علينا ألا نتجاهل أهمية التجارب الذاتية في إثراء العمل الإبداعي، وهذه التجارب لا تبرر للمبدع فرض رأيه وفكره فيما يتعارض مع قدرة شخصيته القصصية على استيعاب وتمثل هذا الرأي أو الفكر، لأن العديد من العوامل هي التي تحدد هذه القدرة على الاستيعاب والتمثل، وبغياب هذه العوامل تصبح تلك القدرة مفقودة، والتناقض واضحاً بين الشخصية وسلوكها المحتمل والمتوقع. إن إدراك توازن العلاقة بين المبدع والنص يقودنا إلى شيء من التسليم بأن هذه العلاقة طبيعية وغير متنافرة، إذا تقيدت بتلك الضوابط الخفية التي أشرنا إليها آنفاً. أما القول بانعدام العلاقة بين المبدع والنص، كما يزعم المنادون بموت المؤلف، فإنه قول يتجاهل مجمل المعطيات التي تحيل النص من مجرد فكرة هلامية، إلى كائن يتنامى حتى يبلغ أوج نضجه. وهكذا يكون الحال بالنسبة للجزئيات التي يتكون منها النص في نهاية الأمر.
شخصيات مختلفة:
عند الحديث عن الشخصية القصصية سواء في الرواية أو القصة القصيرة، يتبادر إلى الأذهان أن المعنى هو الإنسان، وإن لواء البطولة في القصة لا يعقد إلا لهذا الإنسان، مع أن الأعمال الروائية والقصصية المشهورة تزخر بأبطال حقيقيين يتحكمون في مسار الأحداث، ولكنهم ليسوا رجالا أو نساء، ليسوا بشرا، وإن كانوا هم محور الأحداث، ومركز استقطابها، وعلاقتهم بالناس هي علاقة محكومة بظروفها، لا أقل ولا أكثر.
ونحن أمام عمل إبداعي مثل ( العجوز والبحر ) لهنجواي ننسب البطولة للعجوز، لكن هناك بطولة لشخصيات أخرى أشد ضراوة في مقاومة الظروف وتحدي الصعاب.. وأشد إصراراً على تحقيق هزيمة ساحقة بالعجوز الذي لم ينهزم لأنه يقول في النهاية : إن الإنسان قد يتحطم ولكنه لا ينهزم. فلدينا البحر الذي يشارك العجوز هذه البطولة، وكذلك سمك القرش الذي يشاركه أيضاً هذه البطولة، فنحن في هذا العمل الإبداعي أمام ثلاث شخصيات تتساوى في الأهمية : سانتياغو العجوز، والبحر الذي يقود الأحداث إلى المجهول، وأسماك القرش التي تصر على إلحاق الهزيمة بالعجوز.
الشخصية الإنسانية ليست شرطا:
فالشخصية الرئيسية أو البطل في القصة أو الرواية لا يشترط أن يكون إنساناً، قد يكون الزمان، أو المكان، أو الطبيعة، أو أحد المخلوقات التي يستصغرها الإنسان، فإذا هي تقوم بأعمال خارقة تبعث على الحيرة والتأمل في ملكوت الخالق، ونحن عندما نتحدث عن المكان مثلاً كبطل لقصة ما، فإننا لا نتحدث عن فلسفة الزمن، ولا عن الزمن بمعناه الميكانيكي، بل باعتباره الإطار الذي يمكن أن يستوعب مجموعة من الأحداث والشخصيات.. يتحكم في توجيهها وفق معايير معينة ليصبح هو البطل الحقيقي في النهاية، وكذلك عندما نتحدث عن المكان مثلا فنحن لا نتحدث عن ماهية المكان، ولا عن المكان بمعناه الهندسي، بل باعتباره بعداً مادياً للواقع، أي الحيز الذي تجرى فيه لا عليه الأحداث، والمساحة التي تتحرك فيها لا عليها الشخصيات. بمعنى أن تأثيره يصل إلى حد التحكم في مسار تلك الأحداث والشخصيات، مع الأخذ بعين الاعتبار أن المقصود بالزمن هنا لا علاقة له بالتاريخ، حتى لا يلتبس علينا الأمر، ونظن أن كل رواية أو قصة تاريخية.. بطلها الزمن. كما أن المقصود بالمكان هنا لا علاقة له بالأيديولوجيا، حتى لا يلتبس علينا الأمر، ونظن أن كل رواية أو قصة ذات أيديولوجيا محددة.. بطلها المكان.. ويمكن اعتبار بطل قصة ( في ضوء القمر ) لجي دي موباسان هو الزمن. بينما يمكن اعتبار بطل رواية ( الأرض الطيبة ) لبيرل باك هو المكان..
اتمنى انكم استفدتو ولكم احر تحياتي