في تلك البقعة البعيدة من أرض الطهارة، حيث اختلطت دماء الشهداء بعبق تراب الأرض، و حيث علت الأحزان تفاصيل الزمان و المكان، و حيث يطفو الإيمان على قلب الإنسان رغم لعنة الظلم و الاستيطان،</STRONG></SPAN>
في تلك القرية الصغيرة يعيش ياسر وأسرته: طفل بعمر الزهور، لم يتجاوز سنه من الأعوام عشرا، وحيد أبويه و أملهما في مستقبل زاهر قد يسترقه له و لهما رغم تجاعيد الزمن.</STRONG></SPAN>
لياسر شجرة زيتون، زرعها أبواه يوم ولد، فكبرت معه بمرور السنين و تعود على الاعتناء بها يوميا، كان يسقيها و يشذب ما تمادى من أغصانها و ينظف ما تساقط من أوراقها الجافة، وفي لحظات التجلي كان يلجأ إلى فينها فتحميه من رياح الهجير و حره و تزيده طمأنينة على تلك التي يمنحه إياها حضن أبويه الدافئ.</STRONG></SPAN>
شهدت نزقه و عبثه الطفولي، و احتضنته أيام الدراسة، حيث كان يصحب أوراقه و كتبه </SPAN>إليها، و يلمس في تعاليها محفزا يدفعه إلى الكد و الاجتهاد حتى يجاري شموخها،</STRONG></SPAN>
من أريجها كان يستنشق عبير وطنه الصامد، </STRONG></SPAN>
كانت له نموذجا لذات الوطن بعزته و شموخه و رغبته الأزلية في معانقة السماء و الانسلاخ من حدود الزمان و المكان،</STRONG></SPAN>
كانت باختصار الركن الرابع في فضاء حياته البسيط :</STRONG></SPAN>
أب و أم و وطن وشجرة..</STRONG></SPAN>
في ذاك الصباح من يوم الجمعة استفاق نشيطا كعادته، اليوم عطلة و تفاصيله يعيها سلفا: سويعة في الحقل مع الوالد بين لهو و جد في معانقة التراب الطاهر، و أخرى رفقة رفيقة عمره يسقيها بمائه و عرقه و يداعب أغصانها كما تعود و من تم حمام ساخن فارتداء جلباب أبيض يجعله في أبهى حلة لكي يكاتف أقرانه من أبناء القرية وقيت صلاة الجمعة.</STRONG></SPAN>
كل الظروف اجتمعت لكي يقضي ياسر و أسرته يوما هادئا مفعما بالنشاط و مظاهر الفرح و الحبور .. غير أن القدر يخبئ دوما مالا يخطر ببال أحد،</STRONG></SPAN>
لحظات قبل الهجير، صم الآذان صوت كصرير الرعد اهتزت له الأرض و استمرت في اهتزازها.</STRONG></SPAN>
هرع أبو ياسر، و أم ياسر و معهما ياسر لاستقصاء الأمر و استبيان سبب الصوت الصاخب الذي تجرأ على اقتحام فضاء هدوئهم الأزلي، و مع أول إطلالة صعقوا جميعا من هول الصدمة : جرافة و دبابة و جنود بلباس </SPAN>أخضر في أيديهم بنادق و من أعينهم تتطاير حمم الشر،</STRONG></SPAN>
ما الذي يجري؟ تساءل ياسر ببراءة</STRONG></SPAN>
لم ينبس الأب ببنت شفة، كان مدركا لما يحصل، و كان على يقين أن القدر لا بد أن يسوقهم إليه يوما، تماما كما حصل مع آخرين كثر..</STRONG></SPAN>
تماما كما حصل مع وطنه بأكمله.</STRONG></SPAN>
تملك الوجوم الأسرة الصغيرة و هي ترمق الجرافة تسير نحوهم كقدر محتوم، تدوس ما اخضر و ما جف مما اعترض لها طريقا من أوراق الشجر و حبات التراب الأحمر.</STRONG></SPAN>
كانت تسير نحوهم مباشرة، حتى لم يعد يفصلها عنهم إلا شجرة،</STRONG></SPAN>
و لكن ليس أي شجرة،</STRONG></SPAN>
كانت شجرة الزيتون ذاتها،</STRONG></SPAN>
انقبض قلب ياسر و انسابت دمعة ساخنة على خده الصغير، لم يستوعب بعد ما حدث، </STRONG></SPAN>
كان من الممكن أن يجد تفسيرا لأي شيء، إلا لأن يجتث أحد شجرته التي لم يتذكر يوما أنها آذت أحدا، بل بالعكس، كل ما فعلته منذ فتح أعينه عليها هي أنها منحت ثمرها و ظلها لكل من يطلبه.</STRONG></SPAN>
على غفلة من الجميع، و الجرافة و من يقودها يقتربان أكثر من جدع الشجرة، انتفض الصغير في حركة رد فعل طبيعية و انطلق كالسهم نحو معشوقته محاولا الدفاع عنها من جور </SPAN>الغرباء،</STRONG></SPAN>
" ياسر، ارجع يا ولدي " صرخ الأب و الأم في نفس الوقت،</STRONG></SPAN>
لم يكن للصراخ أن يثنيه عما اعتزم القيام به، </STRONG></SPAN>
و مع اقترابه أكثر ارتفعت أفواه الرشاشات نحو صدره الطاهر،</STRONG></SPAN>
و مع وصوله إلى الشجرة...</STRONG></SPAN>
بااااااااخ</STRONG></SPAN>
صوت طلقة،</STRONG></SPAN>
فصرخة</STRONG></SPAN>
فصرختان</STRONG></SPAN>
فلحظة صمت</STRONG></SPAN>
ثم جسد يعانق شجرة و من قلبه تسيل جداول دم تسقي ترابها</STRONG></SPAN>
سقاها بماء طوال حياته</STRONG></SPAN>
و سقاها بدم حينما اختار أن تنتهي حياته و هو في حضنها</STRONG></SPAN>
تماما كما كان دوما.</STRONG></SPAN>