يا فتاة
الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ومن سار على نهجهم، واهتدى بهديهم إلى
يوم الدين … أما بعد :
فهناك سؤال يفرض نفسه
:-
لماذا الحديث إلى
الفتاة ولماذا نخصها بالخطاب ؟ أعرف أن الإجابة موجودة لديكِ سلفا ولكن ماذا
عَلَىَّ لو قلت إني أتحدث لك :-
1- لأنك أمي وهل خرج
أحد للدنيا دون أم؟ وهل تنفس الصعداء قبل أن يعيش في بطن أمه شهورا؟ وبين أحضانها
سنيات من عمره وهى ترعاه وتعاهده؟ وحين يشب طوقه ويصلب عوده يعود به الحنين، فطرة
فطر عليها، يعود به الحنين ليلتصق بشريكة الحياة فالمرأة والرجل لصيقان يبدأ حياته
وتاريخه من خلالها، ويودع الدنيا كذلك.
2- لأن الكثير يتحدثون
عنك يا فتاة، ويرفعون شعار نصرة قضيتك فالأديب قد سخر شعره ونثره، والكاتب قد وظف
قلمه، والصحفي قد استنفر قوته فالجميع أجلبوا بخيلهم ورجلهم ما بين كاتب ومفكر
وعامل ومنفذ. الجميع نزلوا بثقلهم ليتحدثوا عنك يا فتاة، عن قضية المرأة وحقوق
المرأة. ويعلو ضجيج وصخب الأصوات المأجورة ليذيب الصوت الصادق والناصح الذي لم تعد
تسمعه الفتاة إلا خافتا.
ألم تسمعي
يا فتاة ذلك الصوت القائل يوما من الدهر :-
حينما كنا صغاراً في
الكتاتيب علمونا أن وجه المرأة عورة
والقائل
:-
مزقيه ذات البرقع لا تخافي
مزقيه
وابن بلدك القائل
:-
محجبة تريك سفور جهل
ومسفرة تريك حجاب علم
إنها أصوات لا أشك أنك
تسمعينها وتقرئينها هنا وهناك. ويعلو ضجيجها ويرتفع صخبها، وكلها تدعو إلى دعوة
واحدة، وتتحدث عن قضية واحدة هي قضيتك. لقد زعموا أنك مظلومة لقد زعموا أنك مهانة
وزعموا أنهم يتحدثون باسمك ونقلوا وكالة دون موافقة صاحب الشأن ودون موافقة الوكيل
فصار الجميع يتحدث ويبدئ ويعيد في قضية المرأة.
يا فتاة : يعلو ضجيج وصخب
هذه الأصوات المأجورة ليذيب الصوت الصادق والناصح الذي لم تعد تسمعه الفتاة إلا
خافتًا.
ألا يحق بعد ذلك
للناصحين أن يرفعوا هاماتهم، وينادون بصوت مسموع رافعين الراية ليقولوا هاهنا
الطريق يا فتاة وإياك وبنيات الطرق وأزقة الغفلة؟
3- ونتحدث إليك لأن
النبي صلى الله عليه وسلم يوليك يا فتاة عناية واهتماما يليقان بمقامك ؛ ففي كل عيد
يخطب فيه المسلمين، ينصرف إلى النساء، إلى العواتق وذوات الخدور ليحدثهن ويعظهن،
وتستقل النسوة هذا الأمر فتطمع بالمزيد. وتتطلع إلى ما فوق ذلك ؛ فتأتى إحداهن إليه
صلى الله عليه وسلم قائلة : ذهب الرجال بحديثك فاجعل لنا يوما من نفسك فيعدهن صلى
الله عليه وسلم ويحدثهن حديثاً خاصًّا لا شأن للرجال
به.
وحين نتصفح دواوين السنة
ونقرأ ما سطر فيها، نرى الكثير من النصوص التي توصي بحقك ورعايتك والعناية بك، ولقد
كان صلى الله عليه وسلم في مجمع عظيم في حجة الوداع يجعل قضية المرأة من أهم
القضايا فيقول صلى الله عليه وسلم : " الله الله في النساء، اتقوا الله في النساء
". ويجعل النبي صلى الله عليه وسلم التعامل مع المرأة معيارًا تقاس من خلاله خيرية
الرجل فيقول : صلى الله عليه وسلم "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي
".
بل إن الأمر يتجاوز مجرد هذا
التوجيه لنرى هديه صلى الله عليه وسلم في المكانة التي يعليها المرأة. فيحبس صلى
الله عليه وسلم الجيش لماذا ؟ لأن زوجه عائشة رضي الله عنها قد فقدت عقدًا لها.
فيأتي إليها أبو بكر الصديق رضي الله عنه فينتهرها فيقول : حبست رسول الله صلى الله
عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء، وحين قام البعير وجدوا العقد تحته.
فنزلت آية التيمم. فقال أسيد بن حضير رضي الله عنه : ما هي بأول بركتكم يا آل أبي
بكر.
ويرتفع شأن المرأة عند النبي
صلى الله عليه وسلم. فتأتي أم هانئ رضي الله عنها إلى النبي صلى الله عليه سلم
فتقول: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم زعم ابن أختك أنه قاتلُ رجلاً قد أجرتُه.
فقال صلى الله عليه وسلم :"قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ".
فللمرأة مكانة وقيمة
يرفعها إليها النبي صلى الله عليه وسلم فتصبح كلمتها نافذة على المسلمين، وحين تجير
رجلاً فتقبل إجارتها ولا يسوغ لأي امرئ أيًّا كان أن يغفل
جوار هذه المرأة.
4- ونتحدث إليك لأنك أم
المصلحين، والمجددين. أقرأت سير المجاهدين الصادقين. وهل خفيت عليك صفحات العلماء
العاملين، تأملي في التاريخ وارفعي الرأس وانظري إلى سماء أمتك لتري هناك نجوما
تلوح في الأفق ساهمت في صياغة تاريخ الأمة وصناعة مجدها، وخطت صفحاته البيضاء. فليس
يغيب عن ناظريك أبداً اسم الشافعي وعمر بن عبد العزيز وابن تيمية ومحمد بن عبد
الوهاب وغيرهم ممن حاز قصب التجديد وأخذ منه بنصيب وافر. ولن تنسَيْ سير نور الدين
الشهيد، أو صلاح الدين، أو الغزنوي أو غيرهم ممن حمل روحه على كفه وسار في ميدان
الوغى وشعاره ولسان حاله يقول :
أذا العرش إن حانت وفاتي
فلا تكن على شرجع يعلى بخضر المطارف
ولكن أحن يومي سعيـدا
بصحبة يمسون في فج من الأرض خائف
يتغنى بها صادقا من قلبه،
وقد صفا لإخوانه أهل الإسلام وغلا مِرجله على أهل الأوثان. وهاهى صفحات سيرة أبى
حنيفة ومالك وأحمد والعز بن عبد السلام وغيرهم كثير ممن أراد الله بهم خيرا ففقههم
في الدين فساروا ينشرون ميراث محمد صلى الله عليه وسلم. وقبل الجميع صحابة رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
يا فتاة كم تهزك هذه
الأسماء هزا، وكم تطرب أذنك ويتشنف سمعك حين تسمعين بها. لكن لا تنسي أن أولئك
وغيرهم كان لكل منهم أم برة صادقة طالما دعت الله عز وجل أن يجعل ابنها قرة عين
لها، وكان له شريكة حياة يسكن لها ويطمئن إليها وهي تقول له كل صباح والله لا يخزيك
الله أبداً، وتحتمل اللأواء معه وتصبر وتصابر وكانت خير زاد له ومعين.
فإذا كنت أنت أم الدعاة وأم
المصلحين، وأنت بعد ذلك الزوجة الوفية لهم فيحق لنا يا فتاة أن نخاطبك ونخصك
بالحديث.
من أخاطب
؟
يـافـتـاة :- من أخاطب
في هذه الرسالة ؟ ولمن أتحدث ؟
إنى أخاطب الفتاة
الحصان الرزان، الطاهرة العفيفة. فتاة ولدت من أبوين فاضلين، وعاشت في بيت محافظ
تستيقظ وتنام وتغدو وتروح وهي تسمع الدعاء لها بالستر والعافية. ولكنها مع فتن
العصر وصوارفه، ومع الغربة الحالكة بدأت تنظر ذات اليمين والشمال، وتلتفت إلى
الوراء، فترفع سماعة الهاتف لتخاطب شابًّا لم تعرفه إلا من كلامه،
وتسهر أحيانا على فلم ينسخ من ذاكرتها كل صور البراءة والعفة لتتراءى أمام ناظريها
مظاهر السفور والعلاقة المحرمة.
فتعيش في دوامة من
الصراع، فتسمع تارة هذا الصوت النشاز، الذي يدعوها إلى الارتكاس في الحمأة والتخلي
عن كل معاني العفة. وتسمع أخرى الصوت الصادق يهزها من داخلها هزًّا عنيفاً ليقول
لها رويدك فهو طريق الغواية وبوابة الهلاك، وتتصارع هذا الأصوات أمام سمعها وتتموج
هذه الأفكار في خاطرها.
إنها تؤمن بالله واليوم
الآخر حق الإيمان، وتعرف الجنة والنار، وتؤمن بالحلال والحرام، ولكن الصراع مع
الشهوة قد رجح لغير كفتها.
ومع ذلك كله فقد رزقت أباً
غافلا قد شغل بتجارته وعلاقته مع أصدقائه وزملائه، وأمًّا بعيدة عنها كل البعد لا
يعنيها شأنها ولاتشغلها قضيتها، ولم تعتد أن تتلقى منهم الابتسامة الصادقة والكلمة
الوادة، ولم تر منهم القلب الحنون، ولم تر منهم من يفتح ذراعيه لها، وحينئذ وجدت
بغيتها وضالتها في صاحبتها صاحبة السوء التي تلقاها في المدرسة، وربما كانت الضالة
في شاب تائه غاو ضال يغويها بمعسول الكلام.
يا فتــاة :- إن كنت
كذلك فما أجدرك أن نخاطبك، وما أجدرك أن تقدِّري موقفي، فاصغَيْ لصوتي وحكَّمي
عقلك، فإن سمعت خيرا فحيهلاً، وإن كان غير ذلك فأنت وما تريدين. أما إن كنتِ من أهل
الصلاح والاستقامة فاسمعي ما أقول وكوني رسولة خير، وترجمان صدق لمن وراءك وأسهمي
معنا في إبلاغ هذا الصوت الذي أصبح نشازا قد اختفي تحت ركام الأصوات الهائلة التي
تدعو الفتاة إلى الغواية والضلال والانحراف، والتي صارت تتاجر بقضية المرأة وحيائها
وعفتها، بل صارت تتاجر بحياة الأمة وعفتها وعفافها. لقد اختفت الأصوات الناصحة
الصادقة، وبقيت حبيسة تحت هذا الركام من آلاف المجلات الوافدة والمسلسلات الساقطة،
والأصوات التي تعلو هنا وهناك، والتي تدعو الفتاة والشباب جميعاً إلى هذا الطريق
وتقول لهم بلسان الحال والمقال هيت لكم.
يا فتــاة :- لست أتحدث
من فراغ، ولا أبني قصورا في الرمال بل أتحدث عن واقع رأيته ولمسته، وحدثني عنه
الثقات. فقد قرأت بعيني رسالة عتاب على جفاء صديق لم يستقبلها بالأحضان، واعتذر عن
مبادلة القبلات فعاشت جحيماً لا يطاق لتكَدُّرِ خاطر من كان لا يزول عنها الهم إلا
بسماع صوته.
نعم قرأت تلك الرسالة التي
سطرَتْها أناملها لصديق السوء. والرسالة الأخرى التي كانت من شاب لم يدرك قيمة عمله
ومهنته وما استؤمن عليه فسطر رسالة غرام مكتوبة بالآلة الكاتبة، وعلى ورق رسمي
ليرسلها إلى صديقته. وسمعت الرواية بسند متصل رجاله ثقات عن مكالمة هاتفية تفيض
عاطفة وقد علا نشيج الفتاة بالبكاء وهى تسمع التهديد بالقطيعة واختيار البديل
فصاحبها يعرف عشرين فتاة غيرها سيختار أوفاهن له، وما أبعده عن الوفاء
!!
إنها صور كثيرة يا فتاة، لا
أظن أني - مهما بلغت من الإحاطة، وحفظت من النماذج - أحيط بما لم تحيطين به، أو
أدرك مالا تدركين.