أين ينتهي البحر
كَانَ عَقْلِيَ
الصَّغيرُ يُوهِمُني أنَّ البحرَ يَنْتَهِي عِنْدَ مُنْتَهَى النَّظَرِ، وكنتُ
أظنُ واهماً أنّ الشمسَ وقتَ المغيبِ تغسلُ وجهَهَا بماءِ البحرِ، وتستريحُ بعدَ
ذلكَ منْ عناءِ عملِها طوالَ النهارِ فتنامُ ليلاً حتى مطلعِ الفجرْ...
اعتقدتُ طويلاً، ولمْ
أسألَ الناسَ متحققاً منْ صحةِ اعتقادي، ربما لأنني أحبُّ دائماً الاحتفاظَ
بخيالاتي «المتحمِّسَةِ» كَيْلا تدوسها خيولُ الحقيقةِ.. اعتقدتُ ــــ واهماً
أيضاً ــــ أنّ خط نهايةِ البحرِ الوهميّ في عقلي يسكنُ سداً صلباً، يحولُ دونَ
تسرُّبِ الماءِ منَ البحرِ فلا يتحوّلُ إلى وادٍ سحيقٍ عميق.. سداً يقفُ كالجبلِ
الشامخِ، يحجزُ الماءَ عنْ تدفقهِ...
ظننتُ أنّ العالمَ
ينتهي عندَ هذهِ النقطةِ.. وأنّ الماءَ لو تسرَّبَ منْ فجوةٍ ما لَسَالَ في
الفضاءِ..
ياااه.. يا لهُ من
خيالٍ مضحكٍ..
ومعْ ذلكَ لمْ أكنْ أريدُ
تغييرَ «الحقيقة»..
لكني اكتشفتُ ــــ
غصباً عني ــــ أنّ الأحلامَ شيءٌ و«البحرَ» شيءٌ آخر..
عِنْدَما
اُصْطَحَبَنِي أبي برحلةٍ بحريةٍ بإلحاحٍ شديدٍ مني.. نظرتُ إلى بعيدٍ بعيدٍ.
وكلما أوغلتْ
السفينةُ في أعماقِ البحرِ؛ ابتعدَ السدُّ الوهميّ عني حتى كادَ يتلاشى.. وكنتُ
أظنُّني أقتربُ منهُ.
لمْ أجرؤْ على البوحِ
بهذا الوهمِ «الحقيقة»..
وددتُ الصُّراخَ
بأعلى صوتٍ.. آمرُ البحّارةَ بأنْ يقودوا السفينةَ نحوَ «السدِّ»..
كانتْ ضرباتُ قلبي
تشتدُّ بارتفاعِ السفينةِ وهبوطِها..
صعدتُ إلى أعلى مكانٍ
في السفينةِ.. ساعدني أحدُ البحّارةِ لأصلَ إلى منارةِ السفينةِ... أعطاني منظاراً
كبيراً.. اعتقدتُ أخيراً أني سأشاهدُ نهايةَ البحر.. اعتقدَ البحَّارُ أنني سعيدٌ
بما أراهُ من بحرٍ عظيمٍ.. صرتُ أبحثُ في كلِّ اتجاهٍ.. أبحثُ عن نهايةِ البحرِ،
لا عن هيبتِهِ وجلالِهِ..
تخيّلتُ في عقلي
الصغيرِ كيفَ يمكنُ للبحرِ أنْ يتجمَّدَ في نقطَةٍ ما من الأرضِ، ويصبحُ صلباً
كالصخرِ..
وفيما بعدُ اكتشفتُ
وهمَ طفولتي.. أحلامُ نهاياتِ البحرِ..
وحَزِنْتُ عِنْدَمَا
اكْتَشَفْتُ: بَرَاءةَ الأحْلامِ من حقيقتِهَا..
لكنَّ بعضَ أحلامي
الطفوليةِ تحقّقَتْ..
رضيتُ من بقايا
الطفولةِ الساحرةِ..
علمتُ أنّ في الأرضِ
قطعاً من بحرٍ متجمدٍ..
رأيتُ بعينيّ كيف
يصبحُ البحرُ جامداً كالصخر (حقاً حقاً)؟.
عرفتُ أنّ هناكَ
مناطقُ شاسعة متجمدةً تماماً.. وأنّ الحرارةَ عندَ طرفَيْ الأرضِ في شمالِها
وجنوبها وما يحيطُ بنقطةِ ارتكازِها التي نراها في مجسّماتٍ أرضيّة، تهبطُ بشكلٍ
مخيفٍ، ويصبحُ ميزانُ الحرارةِ دائماً تحتَ الصِّفْر بعشراتِ الدرجاتِ..
رأيتُ كيفَ يصبحُ هذا
البحرُ الهادرُ قطعةً مِنَ الأرضِ..؟
وكيفَ يسيرُ الناسُ
بمراكبٍ متزحلقةٍ تجرُّها كلابٌ فوقَ ماءٍ متجمِّدٍ..
وهناكَ يحفرُ صيّادون
«البحر»..
نعمْ..
يشقّونَهُ بفأسٍ أو
منشارٍ، لا لِيَغْرُسوا شجرةً بلْ لِيَرْموا خيوطَ صيودهمِ الدقيقةِ وفي رأسِها
حديدةٌ مسننةٌ عليها شريحةُ سمكٍ شهيّة، تجذبُ رائحتُها الأسماكَ منْ أعماقِ بحرٍ
متجمّدٍ في قمّتهِ.. سائلٌ في قعرهِ..
تخيّلتُ في عقلي ــــ
الذي ما زالَ يحلُم ــــ كيفَ يستقرُّ الجامدُ فوقَ متحركِ؟
وكيف يحفظُ الباردُ
الدافىءْ؟
ويثبتُ ناسٌ ويسيرونَ
بهدوءٍ وسكونٍ واطمئنانٍ فوقَ جليدٍ يخفي أمتاراً من أعماقِ مائيةٍ متحركةٍ..
دهشتُ أكثرَ عندما
رأيتُ جبالاً بيضاءً.. جبالاً ناصعةً..
ودهشتُ أكثرَ وأكثرَ
عندما علمتُ أنّ هذهِ الجبالُ الضّخمةُ ليستْ سوى قمماً لجبالٍ مخفيةٍ..
وأنّ ما في البحرِ
منها ما هو أضخمُ بمراتٍ مِنْ قِمَمِها الظاهرة..
ولاحظتُ أنّ سكانَ
القطبِ المتجمِّدِ بيوتُهم من صخرٍ مائيٍّ متجلّدٍ.. وكذلكَ أثاثُ بيوتِهمْ..
عجبتُ كيفَ أنّ بيوتَهم
هذهِ مصنوعةٌ مِنْ قطعِ ثلجٍ مرصوصةٍ بِدِّقةٍ بالغةٍ، وبطريقةٍ عجيبةٍ، تجعلُ
البيتَ دافئاً من الداخلِ، فلا يتسلَّلُ بردٌ إلى ساكنيهِ.. وكأنّهمْ يردِّدونَ
قولَ الشاعرِ العربيِّ القديمِ: وداوِني بالتي كانتْ هي الداءُ...
درستُ في مدرستي بعدَ
ذلكَ أنّ السّحبَ العظيمةَ التي نراها عادةً في فصلِ الشتاءِ، عبارةٌ عن ماءٍ
متجمعٍ في طبقاتِ الجوِّ العليا..
تنقلَهُ الرياحُ إلى
حيثُ أَمَرَها اللَّهُ.. لتُسْقِطَ ماءً.. يبقى على حالهِ أو يتحوَّلُ برداً أو
ثلجاً..
أدركتُ أشياءَ كثيرةً
لم أكنْ أعرِفُها..
وعلمتُ أنّ الهواءَ
الذي يدخلُ في رئتيّ يحوي هو أيضاً كميةً كبيرةً من ماءِ..
وأنّ جسمي الذي أعيشُ
فيه كانَ في الأصلِ ماءً وتراباً..
ذهبَ الترابُ بأصلهِ
وشكلهِ وبقيَ الماءُ المتغلغلُ في تفاصيلِ الجسدِ.. منْ لحمٍ وعظمٍ ودمٍ.. فلا
توجدُ خليةٌ حيةٌ بغيرِ ماءٍ..
وقد كانَ العربُ
قديماً يقولونَ لمنْ ماتَ: «ذهبَ ماؤهُ»، وهذا يعني أنّ الماءَ سرُّ الحياةِ..
ألمْ يقل اللَّهُ
تعالى: { وجعلنا من الماء كل شيء حي }؟
وعلمتُ أنّ الماءَ
هوَ الحياةُ نفسها..
حتى الدماءَ التي
تسري في أنحاءِ الجسمِ إذا جفَّتْ وذهبَ ماؤُها لا يبقى غيرُ ذراتٍ حمراءٍ باهتةً
اللونَ..
وكنتُ ألاحظُ ذلكَ
إذا جرحتُ نفسي أثناء لعبي مع أقراني الصغار..
ومثل هذا عصائر
الفاكهة، لو تركتُ في كأس عصيراً حتى جفَّ تماماً لمَا بقي غيرُ بقايا ملونةٍ في
قعر الكأس..
وقد لاحظتُ أن أمي
تضيفُ إلى الحليبِ المجفَّفِ أضعافاً من حجمهِ ماءً ليصبحَ حليباً سائلاً
أشربُهُ..
وعلمتُ أنّ الإنسانَ
يستطيعُ البقاءَ حيًّا أسابيعَ طويلةً من دونِ أنْ يأكلَ لقمةً واحدةً، لكنّه
يموتُ إذا لم يشربْ ماءً لأيامٍ قليلةٍ وربما لساعاتٍ، كما أنّ الإنسانَ يستطيعُ
أن يحيا على لُقَيماتٍ بسيطةٍ طوالَ عمره لكنه لا يستغني عن كميةٍ وافرةٍ من
الماءِ ليشربَها يومياً..
ورأيتُ المريضَ الذي
لا يستطيعُ تناولَ الطعامِ والشرابِ يقومونَ بحقنهِ بمصلٍ في شرايينهِ، وهذا
المصلُ عبارةً عن ماءٍ وبعضُ المغذياتِ..
ورأيتُ أيضاً حِرْصَ
الناسِ الشديدِ على الماءِ في البلادِ التي ليس بها ينابيعٌ وأمطارُ..
رأيتُهمْ كيفَ
يصنعونَ من ماءِ البحرِ المالحِ ماءً حلواً طيبَ المذاقِ..
رأيتُ الينابيعَ على
أنواعِها..
الصافي الباردُ
الرقراقُ، الفوّارُ الحارُّ، المعدنيُّ الأحمرُ مثلَ حديدٍ مهترىءٍ..
علمتُ أنَّ في أعماقِ
البحرِ ينابيعُ كثيرة، وفي جوفِ الأرضِ أنهاراً لا تُعَدُّ، وفي الجبالِ بين
الصخورِ مخابىءُ مياهٍ عجيبة..
لم أكنْ لأصدِّقَ
أنَّ مياهَ البحرِ التي أراها واحدةً متصلةً قد تكونُ في بعض الأماكنِ من البحارِ
أو المحيطاتِ مياهاً متعددةً.. وبحاراً منفصلةً.. يحدُّها جدارٌ مائيٌ وهميٌّ
حقيقيٌّ، لا يمكنُ للعينِ أنْ تراهُ بوضوحٍ.. فالمياهُ متلاصقةٌ متلاحمةٌ، ولهذا
أسماكٌ ولذلك أسماكُ.. للأولِ حرارةٌ وللثاني حرارةٌ مختلفةٌ.. ومواصفاتٌ
مختلفةٌ..
لم أصدقْ كما قلتُ في
أولِ الأمرِ.. ولكنّها حقيقةٌ أقربُ إلى حلمٍ..
وعلمتُ أن الكرةَ
الأرضيةَ هي في الواقعِ كرةٌ مائيةٌ.. فالماءُ يشكِّلُ أكثرَ من ثُلُثَيْ الأرضِ..
واليابسةُ ليستْ سوى جزيرةٍ تشكِّلُ الثلثَ فقطْ أو أقلّ..
فأدركتُ أنَّ الماءَ
هوَ الذي يحملُ الأرضَ وليستْ الأرضَ هي التي تحملُ الماءَ..
وعرفتُ أنّ عمقَ
الأرضِ يسيلُ.. وأنّ اليابسةَ تسبُح على بحرٍ ملتهبٍ.. يخرجُ إلينا من حينٍ لآخرَ
من فوهاتِ براكينٍ نراها في العالمِ..
ورأيتُ أيضاً أنّ
البحرَ في حقيقتهِ ثائرٌ.. لا كما يبدو هادئاً وديعاً..
وقد شاهدتُ ــــ
وشاهدَ العالمُ مثلي ــــ ما حدثَ في شرقِ آسيا الجنوبي يوم اكتسحَ الماءَ أعالي
الجبالِ، في مشهدٍ قلّما يتكرَّرُ، سمِّي حينها بكارثةِ تسونامي..
ورأيتُ فيضاناتٍ
عجيبةٍ في الفلبين وسيريلانكا والهند وأعاصيرُ هوجاءَ في أنحاءٍ متفرقةٍ من
العالمِ، حيثُ تنقضُ رياحٌ مصحوبةٌ برعودٍ ومياهٍ جارفةٍ تتركُ الأرضَ خراباً
ودماراً..
ليسَ هذه فقطْ..
بلْ علمتُ أنّ ماءً
في زمنٍ بعيدٍ بعيدٍ تحوَّلَ إلى فضاءٍ أغرقَ الأرضَ كلَّها ولمْ يبقَ غيرُ سفينةٍ
واحدةٍ عليها بعضُ أجدادنا المؤمنينَ الذينَ أبقوا على الأرضِ بشراً، ولولاهم
لغرقَ الناسُ جميعاً، كما تقولُ قصةُ النبي نوح عليه وعلى نبينا السلام...
وبعد ذلكَ كلهِ.. ما
زلتُ أحلمُ بأنّ للبحر آخراً..
ركبتُ سفناً وقطعتُ
بحاراً من شطآنٍ إلى شطآنٍ..
لكني ما زلتُ أحلمُ
بأنّ للبحرِ نهايةً..
لكن، أينْ ينتهي
البحرُ؟؟ ما زلتُ أحلمُ..
كَانَ عَقْلِيَ
الصَّغيرُ يُوهِمُني أنَّ البحرَ يَنْتَهِي عِنْدَ مُنْتَهَى النَّظَرِ، وكنتُ
أظنُ واهماً أنّ الشمسَ وقتَ المغيبِ تغسلُ وجهَهَا بماءِ البحرِ، وتستريحُ بعدَ
ذلكَ منْ عناءِ عملِها طوالَ النهارِ فتنامُ ليلاً حتى مطلعِ الفجرْ...
اعتقدتُ طويلاً، ولمْ
أسألَ الناسَ متحققاً منْ صحةِ اعتقادي، ربما لأنني أحبُّ دائماً الاحتفاظَ
بخيالاتي «المتحمِّسَةِ» كَيْلا تدوسها خيولُ الحقيقةِ.. اعتقدتُ ــــ واهماً
أيضاً ــــ أنّ خط نهايةِ البحرِ الوهميّ في عقلي يسكنُ سداً صلباً، يحولُ دونَ
تسرُّبِ الماءِ منَ البحرِ فلا يتحوّلُ إلى وادٍ سحيقٍ عميق.. سداً يقفُ كالجبلِ
الشامخِ، يحجزُ الماءَ عنْ تدفقهِ...
ظننتُ أنّ العالمَ
ينتهي عندَ هذهِ النقطةِ.. وأنّ الماءَ لو تسرَّبَ منْ فجوةٍ ما لَسَالَ في
الفضاءِ..
ياااه.. يا لهُ من
خيالٍ مضحكٍ..
ومعْ ذلكَ لمْ أكنْ أريدُ
تغييرَ «الحقيقة»..
لكني اكتشفتُ ــــ
غصباً عني ــــ أنّ الأحلامَ شيءٌ و«البحرَ» شيءٌ آخر..
عِنْدَما
اُصْطَحَبَنِي أبي برحلةٍ بحريةٍ بإلحاحٍ شديدٍ مني.. نظرتُ إلى بعيدٍ بعيدٍ.
وكلما أوغلتْ
السفينةُ في أعماقِ البحرِ؛ ابتعدَ السدُّ الوهميّ عني حتى كادَ يتلاشى.. وكنتُ
أظنُّني أقتربُ منهُ.
لمْ أجرؤْ على البوحِ
بهذا الوهمِ «الحقيقة»..
وددتُ الصُّراخَ
بأعلى صوتٍ.. آمرُ البحّارةَ بأنْ يقودوا السفينةَ نحوَ «السدِّ»..
كانتْ ضرباتُ قلبي
تشتدُّ بارتفاعِ السفينةِ وهبوطِها..
صعدتُ إلى أعلى مكانٍ
في السفينةِ.. ساعدني أحدُ البحّارةِ لأصلَ إلى منارةِ السفينةِ... أعطاني منظاراً
كبيراً.. اعتقدتُ أخيراً أني سأشاهدُ نهايةَ البحر.. اعتقدَ البحَّارُ أنني سعيدٌ
بما أراهُ من بحرٍ عظيمٍ.. صرتُ أبحثُ في كلِّ اتجاهٍ.. أبحثُ عن نهايةِ البحرِ،
لا عن هيبتِهِ وجلالِهِ..
تخيّلتُ في عقلي
الصغيرِ كيفَ يمكنُ للبحرِ أنْ يتجمَّدَ في نقطَةٍ ما من الأرضِ، ويصبحُ صلباً
كالصخرِ..
وفيما بعدُ اكتشفتُ
وهمَ طفولتي.. أحلامُ نهاياتِ البحرِ..
وحَزِنْتُ عِنْدَمَا
اكْتَشَفْتُ: بَرَاءةَ الأحْلامِ من حقيقتِهَا..
لكنَّ بعضَ أحلامي
الطفوليةِ تحقّقَتْ..
رضيتُ من بقايا
الطفولةِ الساحرةِ..
علمتُ أنّ في الأرضِ
قطعاً من بحرٍ متجمدٍ..
رأيتُ بعينيّ كيف
يصبحُ البحرُ جامداً كالصخر (حقاً حقاً)؟.
عرفتُ أنّ هناكَ
مناطقُ شاسعة متجمدةً تماماً.. وأنّ الحرارةَ عندَ طرفَيْ الأرضِ في شمالِها
وجنوبها وما يحيطُ بنقطةِ ارتكازِها التي نراها في مجسّماتٍ أرضيّة، تهبطُ بشكلٍ
مخيفٍ، ويصبحُ ميزانُ الحرارةِ دائماً تحتَ الصِّفْر بعشراتِ الدرجاتِ..
رأيتُ كيفَ يصبحُ هذا
البحرُ الهادرُ قطعةً مِنَ الأرضِ..؟
وكيفَ يسيرُ الناسُ
بمراكبٍ متزحلقةٍ تجرُّها كلابٌ فوقَ ماءٍ متجمِّدٍ..
وهناكَ يحفرُ صيّادون
«البحر»..
نعمْ..
يشقّونَهُ بفأسٍ أو
منشارٍ، لا لِيَغْرُسوا شجرةً بلْ لِيَرْموا خيوطَ صيودهمِ الدقيقةِ وفي رأسِها
حديدةٌ مسننةٌ عليها شريحةُ سمكٍ شهيّة، تجذبُ رائحتُها الأسماكَ منْ أعماقِ بحرٍ
متجمّدٍ في قمّتهِ.. سائلٌ في قعرهِ..
تخيّلتُ في عقلي ــــ
الذي ما زالَ يحلُم ــــ كيفَ يستقرُّ الجامدُ فوقَ متحركِ؟
وكيف يحفظُ الباردُ
الدافىءْ؟
ويثبتُ ناسٌ ويسيرونَ
بهدوءٍ وسكونٍ واطمئنانٍ فوقَ جليدٍ يخفي أمتاراً من أعماقِ مائيةٍ متحركةٍ..
دهشتُ أكثرَ عندما
رأيتُ جبالاً بيضاءً.. جبالاً ناصعةً..
ودهشتُ أكثرَ وأكثرَ
عندما علمتُ أنّ هذهِ الجبالُ الضّخمةُ ليستْ سوى قمماً لجبالٍ مخفيةٍ..
وأنّ ما في البحرِ
منها ما هو أضخمُ بمراتٍ مِنْ قِمَمِها الظاهرة..
ولاحظتُ أنّ سكانَ
القطبِ المتجمِّدِ بيوتُهم من صخرٍ مائيٍّ متجلّدٍ.. وكذلكَ أثاثُ بيوتِهمْ..
عجبتُ كيفَ أنّ بيوتَهم
هذهِ مصنوعةٌ مِنْ قطعِ ثلجٍ مرصوصةٍ بِدِّقةٍ بالغةٍ، وبطريقةٍ عجيبةٍ، تجعلُ
البيتَ دافئاً من الداخلِ، فلا يتسلَّلُ بردٌ إلى ساكنيهِ.. وكأنّهمْ يردِّدونَ
قولَ الشاعرِ العربيِّ القديمِ: وداوِني بالتي كانتْ هي الداءُ...
درستُ في مدرستي بعدَ
ذلكَ أنّ السّحبَ العظيمةَ التي نراها عادةً في فصلِ الشتاءِ، عبارةٌ عن ماءٍ
متجمعٍ في طبقاتِ الجوِّ العليا..
تنقلَهُ الرياحُ إلى
حيثُ أَمَرَها اللَّهُ.. لتُسْقِطَ ماءً.. يبقى على حالهِ أو يتحوَّلُ برداً أو
ثلجاً..
أدركتُ أشياءَ كثيرةً
لم أكنْ أعرِفُها..
وعلمتُ أنّ الهواءَ
الذي يدخلُ في رئتيّ يحوي هو أيضاً كميةً كبيرةً من ماءِ..
وأنّ جسمي الذي أعيشُ
فيه كانَ في الأصلِ ماءً وتراباً..
ذهبَ الترابُ بأصلهِ
وشكلهِ وبقيَ الماءُ المتغلغلُ في تفاصيلِ الجسدِ.. منْ لحمٍ وعظمٍ ودمٍ.. فلا
توجدُ خليةٌ حيةٌ بغيرِ ماءٍ..
وقد كانَ العربُ
قديماً يقولونَ لمنْ ماتَ: «ذهبَ ماؤهُ»، وهذا يعني أنّ الماءَ سرُّ الحياةِ..
ألمْ يقل اللَّهُ
تعالى: { وجعلنا من الماء كل شيء حي }؟
وعلمتُ أنّ الماءَ
هوَ الحياةُ نفسها..
حتى الدماءَ التي
تسري في أنحاءِ الجسمِ إذا جفَّتْ وذهبَ ماؤُها لا يبقى غيرُ ذراتٍ حمراءٍ باهتةً
اللونَ..
وكنتُ ألاحظُ ذلكَ
إذا جرحتُ نفسي أثناء لعبي مع أقراني الصغار..
ومثل هذا عصائر
الفاكهة، لو تركتُ في كأس عصيراً حتى جفَّ تماماً لمَا بقي غيرُ بقايا ملونةٍ في
قعر الكأس..
وقد لاحظتُ أن أمي
تضيفُ إلى الحليبِ المجفَّفِ أضعافاً من حجمهِ ماءً ليصبحَ حليباً سائلاً
أشربُهُ..
وعلمتُ أنّ الإنسانَ
يستطيعُ البقاءَ حيًّا أسابيعَ طويلةً من دونِ أنْ يأكلَ لقمةً واحدةً، لكنّه
يموتُ إذا لم يشربْ ماءً لأيامٍ قليلةٍ وربما لساعاتٍ، كما أنّ الإنسانَ يستطيعُ
أن يحيا على لُقَيماتٍ بسيطةٍ طوالَ عمره لكنه لا يستغني عن كميةٍ وافرةٍ من
الماءِ ليشربَها يومياً..
ورأيتُ المريضَ الذي
لا يستطيعُ تناولَ الطعامِ والشرابِ يقومونَ بحقنهِ بمصلٍ في شرايينهِ، وهذا
المصلُ عبارةً عن ماءٍ وبعضُ المغذياتِ..
ورأيتُ أيضاً حِرْصَ
الناسِ الشديدِ على الماءِ في البلادِ التي ليس بها ينابيعٌ وأمطارُ..
رأيتُهمْ كيفَ
يصنعونَ من ماءِ البحرِ المالحِ ماءً حلواً طيبَ المذاقِ..
رأيتُ الينابيعَ على
أنواعِها..
الصافي الباردُ
الرقراقُ، الفوّارُ الحارُّ، المعدنيُّ الأحمرُ مثلَ حديدٍ مهترىءٍ..
علمتُ أنَّ في أعماقِ
البحرِ ينابيعُ كثيرة، وفي جوفِ الأرضِ أنهاراً لا تُعَدُّ، وفي الجبالِ بين
الصخورِ مخابىءُ مياهٍ عجيبة..
لم أكنْ لأصدِّقَ
أنَّ مياهَ البحرِ التي أراها واحدةً متصلةً قد تكونُ في بعض الأماكنِ من البحارِ
أو المحيطاتِ مياهاً متعددةً.. وبحاراً منفصلةً.. يحدُّها جدارٌ مائيٌ وهميٌّ
حقيقيٌّ، لا يمكنُ للعينِ أنْ تراهُ بوضوحٍ.. فالمياهُ متلاصقةٌ متلاحمةٌ، ولهذا
أسماكٌ ولذلك أسماكُ.. للأولِ حرارةٌ وللثاني حرارةٌ مختلفةٌ.. ومواصفاتٌ
مختلفةٌ..
لم أصدقْ كما قلتُ في
أولِ الأمرِ.. ولكنّها حقيقةٌ أقربُ إلى حلمٍ..
وعلمتُ أن الكرةَ
الأرضيةَ هي في الواقعِ كرةٌ مائيةٌ.. فالماءُ يشكِّلُ أكثرَ من ثُلُثَيْ الأرضِ..
واليابسةُ ليستْ سوى جزيرةٍ تشكِّلُ الثلثَ فقطْ أو أقلّ..
فأدركتُ أنَّ الماءَ
هوَ الذي يحملُ الأرضَ وليستْ الأرضَ هي التي تحملُ الماءَ..
وعرفتُ أنّ عمقَ
الأرضِ يسيلُ.. وأنّ اليابسةَ تسبُح على بحرٍ ملتهبٍ.. يخرجُ إلينا من حينٍ لآخرَ
من فوهاتِ براكينٍ نراها في العالمِ..
ورأيتُ أيضاً أنّ
البحرَ في حقيقتهِ ثائرٌ.. لا كما يبدو هادئاً وديعاً..
وقد شاهدتُ ــــ
وشاهدَ العالمُ مثلي ــــ ما حدثَ في شرقِ آسيا الجنوبي يوم اكتسحَ الماءَ أعالي
الجبالِ، في مشهدٍ قلّما يتكرَّرُ، سمِّي حينها بكارثةِ تسونامي..
ورأيتُ فيضاناتٍ
عجيبةٍ في الفلبين وسيريلانكا والهند وأعاصيرُ هوجاءَ في أنحاءٍ متفرقةٍ من
العالمِ، حيثُ تنقضُ رياحٌ مصحوبةٌ برعودٍ ومياهٍ جارفةٍ تتركُ الأرضَ خراباً
ودماراً..
ليسَ هذه فقطْ..
بلْ علمتُ أنّ ماءً
في زمنٍ بعيدٍ بعيدٍ تحوَّلَ إلى فضاءٍ أغرقَ الأرضَ كلَّها ولمْ يبقَ غيرُ سفينةٍ
واحدةٍ عليها بعضُ أجدادنا المؤمنينَ الذينَ أبقوا على الأرضِ بشراً، ولولاهم
لغرقَ الناسُ جميعاً، كما تقولُ قصةُ النبي نوح عليه وعلى نبينا السلام...
وبعد ذلكَ كلهِ.. ما
زلتُ أحلمُ بأنّ للبحر آخراً..
ركبتُ سفناً وقطعتُ
بحاراً من شطآنٍ إلى شطآنٍ..
لكني ما زلتُ أحلمُ
بأنّ للبحرِ نهايةً..
لكن، أينْ ينتهي
البحرُ؟؟ ما زلتُ أحلمُ..