محكمة الضّمير - المتّهم عاق ..
..
.. سيق بي إلى قاعة مزدحمة بالوجوه الشّاحبة.. وزجّ بي بين أربعة من
الجدران الخشبيّة، وعلى رأسي وجه شاحب يرصدني.. ونظرات مقزّزة تنعتني بما
لذّ لهم، وطاب من النّعات المثيرة للسّخط..
...
محكمة!!..
.. ودخل اثنان من أصحاب الرؤوس المدوّرة، والبطون الكبيرة، والوجوه الصّفراء..
ــ أنت موصوف بالكراهيّة، والعصيان .. لذا فأنت متّهم بالعقوق.. ما أقوالك؟؟..
ــ سيّدي الرّئيس (القاضي).. السّيد ممثّل النّيابة.. اسمحوا لي أن أوضّح التّالي:
..
أسمى
علاقات الحبّ البشريّة بين الأحياء علاقة الأمّ بابنها.. حبّ فطريّ يبدأ
بأوّل نفس وبأوّل إحساس بالوجود.. إحساس غير واع لكنّه موجود وفي نماء..
..
لكن؛ أكبر عقبة هي أنّنا نخرج إلى الحياة في وقت يثير استهجان أوليائنا..
ما الّذي أخّركم؟.. أو ما الّذي أتى بكم في هذا الحين؟؟.. هذا الاستهجان
هو الّذي يصنع الكثير من أحزاننا فيما بعد.. ويخطّ الكثير من انكساراتنا،
وضياعنا الأبديّ..
..إنّ
الحياة الّتي نخرج إليها؛ والمليئة بالأنوار، والصّخب، والوجوه الشّاحبة
نتخيّلها مكافأة لنا على حسن إقامتنا الجنينيّة.. وامتيازا بشريًّا.. لكن؛
هذا الخروج يشابه هبوط أبوينا من جنّتهما.. نحن نهبط من جنّة كنّا نتغذّى
فيها دون كثير عناء.. وننعم بالدّفء.. لكن؛ الشّيء الوحيد الّذي ينغّص
إقامتنا هو زيادة أحجامنا.. زيادة تصبح محرجة لأمّهاتنا، معيقة
لاستمراريتهنّ بالشّكل العادي.. فتبدأ رحلة الهبوط، ورحلة العذاب بأوّل
صرخة، وتنفّس الهواء المعكّر بالصّراعات.. والمطبّات.. وأوّل ما يصفع
وجوهنا نظرة تحمل سؤالا يبدو تافها لكثيرين، لكنّه مؤلم لنا؛ ونحن أبناء
الأسابيع الأولى.. "لماذا؟".. نعم .."لماذا قدمتم تزاحموننا في الحياة؟"..
سؤال سيستهجنه كثير من الآباء لو وُوجهوا به.. ولكنّ الحقيقة هي استهجانهم
لوجودنا.. إنّه الرّفض الضّمني الّذي نتلمّسه من وجوههم الشّاحبة،
ونظراتهم الجافّة، وأيديهم الباردة، وصراخهم عند تبوّلنا، وتبرّزنا،
وصراخنا.. لا يفهمون أنّ أوّل لغة نستعملها هي اللّغة الأولى لجميعنا،
والمتكوّنة من أشياء رئيسيّة.. ابتسام يعبّر عن الرّضا والتّفاعل، وبكاء
يعبّر عن حاجة، وصراخ يعبّر عن رفض.. وهدوء يعكس قناعة..
..
ذاك الرّفض الدّفين الّذي نلمسه يوما بعد يوم.. ونسمع ونفهم دون وعي أنّنا
مرفوضون كلّيا أو جزئيا.. الرّفض الكلّي مصيبة لا أكبر منها.. والرّفض
الجزئي يكون لميعادنا، أو جنسنا، أو صفاتنا.. يا من كنتم سببا في وجودنا
اعلموا أنّنا زرعكم الّذي زرعتم.. يا من زرعتمونا سلفا أنّى لكم أن
ترفضونا؟؟.. ألمن يزرع قمحا أن ينتظر إلّا قمحا؟؟.. نحن ثمرة بذركم في أرض
لكم سقيتموها بمائكم، وسمادكم.. وسلّطتم عليها فصولكم، وهواءكم.. لا
ترفضونا.. نحن صنيعكم.. توقّفوا.. ألم تأتوا كما أتينا؟؟.. أم أنّكم
تفعلون ما فعل آباؤكم الأوّلون؟؟..
..
إن مصيبتنا هي أنّنا مرفوضون، ثم مزدرون، ثم موصوفون بالجهل المطبق، وعدم
الوعي، وتصنعون ما تصنعون في يومكم كأنّنا لا نعي شيئا.. ولا نبغي غير شيء
من حليب أمّهاتنا.. وشيئا من التّطهر من أدراننا.. لا.. نحن نرفض تجاهلكم
لنا.. ونرفض جوّكم المعكّر المليء بالحروب، والفوضى، والصّخب، والوجوه
الشّاحبة.. أنتم تخطفوننا عند حملكم لنا.. وترموننا عند وضعكم لنا..
وتتجاهلوننا، وتتذمّرون منّا، وتصرخون في وجوهنا أن كـفانا طلبا، وكفانا
قرفا.. ألم تطلبوا الحياة مثلنا؟؟.. ألم تكونوا قذرين مثلنا؟؟.. لماذا
تتذمّرون منّا، وتتّهموننا بالجشع، والأنانيّة، وأنّا مزعجون، لا مبالون
براحتكم وحاجاتكم؟؟.. لماذا تصرخون في وجوهنا.. وتصفعوننا بأعينكم
وبأيديكم وبقلوبكم؟؟.. نعم.. عندما لا تملؤ قلوبكم بالرّحمة، تكون الصّفعة
وراء الصّفعة.. و(الرّفسة) وراء الرّكلة.. وتكون الهزيمة، والضّياع،
والنّزيف.. لماذا تريدون أن تتحكّموا بنا بالرّيموت كونترول.. ننام كما
تريدون.. نطلب الحياة كما تريدون.. نتبرّز في المرحاض مرّة في اليوم بعد
استئذان، واعتذار عن جرمنا كما تريدون.. ونلعب كما تريدون.. ونأكل كما
تريدون.. متى تريدون.. الكمّ الّذي تريدون.. تريدون.. تريدون.. تريدون
جيلا محطّم الكيان والإرادة.. لا يمشي إلّا بالأوامر.. ولا يعبّر إلّا عن
حاجة سيّده.. ولا يمشي إلّا بمنطقه.. ولا يحقّق إلّا ما عجز عن تحقيقه..
ثم تتأفّفون.. وتتّهموننا بأنّنا جيل فاشل، بلا إرادة، بلا وعي، بلا
ضمير.. تعيّشوننا في غضب وراء غضب.. في صراع الدّيكة، وصراع الثّيران.. في
مساحة أشبه بالسّجن.. مملوءة بالماء، والنّار، والرّماد، والبراكين،
والزلازل.. والقذارات.. حروب تصفونها بمشاغل اليوم.. ونعرّفها بزلازل
اليوم.. ونحن نرضع أصابعنا، ونعي أنّنا مرفوضون.. ومتروكون لأمواج اليوم
تتقاذفنا.. فإن تذمّرنا يوما، أو ثرنا، أو أجرمنا، تتذمّرون.. وتصرخون..
"هؤلاء بلا أخلاق.. بلا ضمير.. هؤلاء قوم مجرمون.. منكرون..".. متى كنّا
بأخلاق وضمير.. وأين كنتم ونحن ننمو، ونكبر بلا أخلاق وبلا ضمير؟؟.. أم
أنّكم تعيدون مواويلكم القديمة، وشعاراتكم العفنة.. "المِتْرَبِّي مِنْ
عَنْدْ رَبِّي.."..
..هل
شهدتم في النّاس أنَّ النّاس العاديّين يولدون بالوعي الكامل، مزوّدين
بقائمة من الأخلاق، ومعزّزين بضمير لا تحطّمه أعاصير السّنوات.. نحن نولد
كقشّة في مهبّ الرّيح.. كأوراق بيضاءَ ملطّخة بنقاط سوداء تترجم في
أنانيّة غريزية، وفي استعداد فطريّ للجريمة عندما نحسّ أنّنا مهدّدون
بالتّرك جانبا.. ضف إلى أنّه؛ ونحن صغار نحبّ أن يكون كلّ شيء لنا.. الأمّ
والأب، واللُّعَب، وكلّ الأشياء المحيطة بنا.. ونحبّ العبث بكلّ ما نصادفه
كي نشبع غرائزنا دون وعي بالخطر المحيط..
..هذه
الأمور وأخرى ممّا تجهلون، وتتجاهلون، وتحتقرون هي الّتي تحدّد من نكون..
سويّين، طيّبين، طاهرين.. أو أنانيّين متغطرسين، مجرمين، معتدّين بالّذات،
وجانحين للسّيطرة، والاعتلاء.. أو محطّمين مهزومين.. صورا لأشباح أليفة
مرئيّين مائة بالمائة..
..
.. إن كان في احتجاجنا عقوق.. فنحن ضحاياه سلفا..
لكلّ هذا ولغيره ألتمس من هيئة المحكمة الموقّّرة البراءة..
..
.. في هذه اللّحظات دقّ جرس المنبّه.. لقد حلّ يوم جديد..
..
.. سيق بي إلى قاعة مزدحمة بالوجوه الشّاحبة.. وزجّ بي بين أربعة من
الجدران الخشبيّة، وعلى رأسي وجه شاحب يرصدني.. ونظرات مقزّزة تنعتني بما
لذّ لهم، وطاب من النّعات المثيرة للسّخط..
...
محكمة!!..
.. ودخل اثنان من أصحاب الرؤوس المدوّرة، والبطون الكبيرة، والوجوه الصّفراء..
ــ أنت موصوف بالكراهيّة، والعصيان .. لذا فأنت متّهم بالعقوق.. ما أقوالك؟؟..
ــ سيّدي الرّئيس (القاضي).. السّيد ممثّل النّيابة.. اسمحوا لي أن أوضّح التّالي:
..
أسمى
علاقات الحبّ البشريّة بين الأحياء علاقة الأمّ بابنها.. حبّ فطريّ يبدأ
بأوّل نفس وبأوّل إحساس بالوجود.. إحساس غير واع لكنّه موجود وفي نماء..
..
لكن؛ أكبر عقبة هي أنّنا نخرج إلى الحياة في وقت يثير استهجان أوليائنا..
ما الّذي أخّركم؟.. أو ما الّذي أتى بكم في هذا الحين؟؟.. هذا الاستهجان
هو الّذي يصنع الكثير من أحزاننا فيما بعد.. ويخطّ الكثير من انكساراتنا،
وضياعنا الأبديّ..
..إنّ
الحياة الّتي نخرج إليها؛ والمليئة بالأنوار، والصّخب، والوجوه الشّاحبة
نتخيّلها مكافأة لنا على حسن إقامتنا الجنينيّة.. وامتيازا بشريًّا.. لكن؛
هذا الخروج يشابه هبوط أبوينا من جنّتهما.. نحن نهبط من جنّة كنّا نتغذّى
فيها دون كثير عناء.. وننعم بالدّفء.. لكن؛ الشّيء الوحيد الّذي ينغّص
إقامتنا هو زيادة أحجامنا.. زيادة تصبح محرجة لأمّهاتنا، معيقة
لاستمراريتهنّ بالشّكل العادي.. فتبدأ رحلة الهبوط، ورحلة العذاب بأوّل
صرخة، وتنفّس الهواء المعكّر بالصّراعات.. والمطبّات.. وأوّل ما يصفع
وجوهنا نظرة تحمل سؤالا يبدو تافها لكثيرين، لكنّه مؤلم لنا؛ ونحن أبناء
الأسابيع الأولى.. "لماذا؟".. نعم .."لماذا قدمتم تزاحموننا في الحياة؟"..
سؤال سيستهجنه كثير من الآباء لو وُوجهوا به.. ولكنّ الحقيقة هي استهجانهم
لوجودنا.. إنّه الرّفض الضّمني الّذي نتلمّسه من وجوههم الشّاحبة،
ونظراتهم الجافّة، وأيديهم الباردة، وصراخهم عند تبوّلنا، وتبرّزنا،
وصراخنا.. لا يفهمون أنّ أوّل لغة نستعملها هي اللّغة الأولى لجميعنا،
والمتكوّنة من أشياء رئيسيّة.. ابتسام يعبّر عن الرّضا والتّفاعل، وبكاء
يعبّر عن حاجة، وصراخ يعبّر عن رفض.. وهدوء يعكس قناعة..
..
ذاك الرّفض الدّفين الّذي نلمسه يوما بعد يوم.. ونسمع ونفهم دون وعي أنّنا
مرفوضون كلّيا أو جزئيا.. الرّفض الكلّي مصيبة لا أكبر منها.. والرّفض
الجزئي يكون لميعادنا، أو جنسنا، أو صفاتنا.. يا من كنتم سببا في وجودنا
اعلموا أنّنا زرعكم الّذي زرعتم.. يا من زرعتمونا سلفا أنّى لكم أن
ترفضونا؟؟.. ألمن يزرع قمحا أن ينتظر إلّا قمحا؟؟.. نحن ثمرة بذركم في أرض
لكم سقيتموها بمائكم، وسمادكم.. وسلّطتم عليها فصولكم، وهواءكم.. لا
ترفضونا.. نحن صنيعكم.. توقّفوا.. ألم تأتوا كما أتينا؟؟.. أم أنّكم
تفعلون ما فعل آباؤكم الأوّلون؟؟..
..
إن مصيبتنا هي أنّنا مرفوضون، ثم مزدرون، ثم موصوفون بالجهل المطبق، وعدم
الوعي، وتصنعون ما تصنعون في يومكم كأنّنا لا نعي شيئا.. ولا نبغي غير شيء
من حليب أمّهاتنا.. وشيئا من التّطهر من أدراننا.. لا.. نحن نرفض تجاهلكم
لنا.. ونرفض جوّكم المعكّر المليء بالحروب، والفوضى، والصّخب، والوجوه
الشّاحبة.. أنتم تخطفوننا عند حملكم لنا.. وترموننا عند وضعكم لنا..
وتتجاهلوننا، وتتذمّرون منّا، وتصرخون في وجوهنا أن كـفانا طلبا، وكفانا
قرفا.. ألم تطلبوا الحياة مثلنا؟؟.. ألم تكونوا قذرين مثلنا؟؟.. لماذا
تتذمّرون منّا، وتتّهموننا بالجشع، والأنانيّة، وأنّا مزعجون، لا مبالون
براحتكم وحاجاتكم؟؟.. لماذا تصرخون في وجوهنا.. وتصفعوننا بأعينكم
وبأيديكم وبقلوبكم؟؟.. نعم.. عندما لا تملؤ قلوبكم بالرّحمة، تكون الصّفعة
وراء الصّفعة.. و(الرّفسة) وراء الرّكلة.. وتكون الهزيمة، والضّياع،
والنّزيف.. لماذا تريدون أن تتحكّموا بنا بالرّيموت كونترول.. ننام كما
تريدون.. نطلب الحياة كما تريدون.. نتبرّز في المرحاض مرّة في اليوم بعد
استئذان، واعتذار عن جرمنا كما تريدون.. ونلعب كما تريدون.. ونأكل كما
تريدون.. متى تريدون.. الكمّ الّذي تريدون.. تريدون.. تريدون.. تريدون
جيلا محطّم الكيان والإرادة.. لا يمشي إلّا بالأوامر.. ولا يعبّر إلّا عن
حاجة سيّده.. ولا يمشي إلّا بمنطقه.. ولا يحقّق إلّا ما عجز عن تحقيقه..
ثم تتأفّفون.. وتتّهموننا بأنّنا جيل فاشل، بلا إرادة، بلا وعي، بلا
ضمير.. تعيّشوننا في غضب وراء غضب.. في صراع الدّيكة، وصراع الثّيران.. في
مساحة أشبه بالسّجن.. مملوءة بالماء، والنّار، والرّماد، والبراكين،
والزلازل.. والقذارات.. حروب تصفونها بمشاغل اليوم.. ونعرّفها بزلازل
اليوم.. ونحن نرضع أصابعنا، ونعي أنّنا مرفوضون.. ومتروكون لأمواج اليوم
تتقاذفنا.. فإن تذمّرنا يوما، أو ثرنا، أو أجرمنا، تتذمّرون.. وتصرخون..
"هؤلاء بلا أخلاق.. بلا ضمير.. هؤلاء قوم مجرمون.. منكرون..".. متى كنّا
بأخلاق وضمير.. وأين كنتم ونحن ننمو، ونكبر بلا أخلاق وبلا ضمير؟؟.. أم
أنّكم تعيدون مواويلكم القديمة، وشعاراتكم العفنة.. "المِتْرَبِّي مِنْ
عَنْدْ رَبِّي.."..
..هل
شهدتم في النّاس أنَّ النّاس العاديّين يولدون بالوعي الكامل، مزوّدين
بقائمة من الأخلاق، ومعزّزين بضمير لا تحطّمه أعاصير السّنوات.. نحن نولد
كقشّة في مهبّ الرّيح.. كأوراق بيضاءَ ملطّخة بنقاط سوداء تترجم في
أنانيّة غريزية، وفي استعداد فطريّ للجريمة عندما نحسّ أنّنا مهدّدون
بالتّرك جانبا.. ضف إلى أنّه؛ ونحن صغار نحبّ أن يكون كلّ شيء لنا.. الأمّ
والأب، واللُّعَب، وكلّ الأشياء المحيطة بنا.. ونحبّ العبث بكلّ ما نصادفه
كي نشبع غرائزنا دون وعي بالخطر المحيط..
..هذه
الأمور وأخرى ممّا تجهلون، وتتجاهلون، وتحتقرون هي الّتي تحدّد من نكون..
سويّين، طيّبين، طاهرين.. أو أنانيّين متغطرسين، مجرمين، معتدّين بالّذات،
وجانحين للسّيطرة، والاعتلاء.. أو محطّمين مهزومين.. صورا لأشباح أليفة
مرئيّين مائة بالمائة..
..
.. إن كان في احتجاجنا عقوق.. فنحن ضحاياه سلفا..
لكلّ هذا ولغيره ألتمس من هيئة المحكمة الموقّّرة البراءة..
..
.. في هذه اللّحظات دقّ جرس المنبّه.. لقد حلّ يوم جديد..