مفترق الطريـــــــــــــــــــق
وقف يتأمل المارة بقلق ، يرمق الذاهبين والعائدين ، و يرقب مراسم الفرح هنا ، وشعائر الحزن هناك ، ماذا دهاهم يردد تارة ، وتارة ماذا دهاني ؟! ، لم يحدد بعد أي فوج سيتبع ، وأي درب سيقطع ، ولكنه آثر الوقوف ينظرللطريق بوجومٍ حاملاً كل المتاع في حقيبة سوداء تخفي مابداخلها عن أعين المارة ، ترى ما متاعه للسفر !
غاص واستغرق مليًا في حال الطريق ، لكن هذا لم يشفِ حيرته ، شعر أن جسده ينمو ويداه تقبضانِ بشدة على الحقيبة ، ورغم هذا لازال حائرًا كطفلٍ في ذلك الجسم الكبير ، ترعبه دقات الساعة على معصمة وإيقاع نبضه وخفقات قلبه ، دائمًا ما يشعر أنهم يعدون عليه الأنفاس ، وسيتوقفون في أي وقت بدون إنذار ، كلعبة المسدس ذي الرصاصة الواحدة ، وكلما زاد إدراكه زاد رعبه ، محظوظٌ هو فكثيرين لم يدركوا هذا بعد...
طال الوقوف حتى عزم أمره وسار بين الناس يمشي في منتصف الطريق تمامًا ، وأحيانًا على يمينه ، وأحاييناً على يساره ، حتى السير لم يعطه ما كان يتمناه ، وقف مرهقًا تتسابق أنفاسه للخروج ، فوجد عجوزًا يجلس بالقربِ فذهبَ إليه وقال : سيدي إنني مسافر وتائه هلا أشرت لي على الطريق الأقصر ، فلم يجب العجوز وأشار له على طريق جبلي ، فقال له : لقد أرهقني المشي في هذا الطريق فما بالك بالجبال والصخور ! إنه وعرٌ وصعبٌ الكل يردد هذا ، فقال : له كيفما تريد! ، فأجاب : شكرًا على أية حال ، هلا أعطيتني قليلاً من الماء! وأشار لزجاجة بجانب مقعد العجوز ، فأشار العجوز لبركة ماء صغيرة يخطوا عليها المارة : وقال له إشرب منها ! ، فشعر أنه يسخر منه فاستطرد العجوز : من هنا أنت تشرب أفكارك ، فارو ظمأ جوفك أيضًا ، فحمل المتاع وتابع غير مكترث بما قاله العجوز ، وظل يسير في تقلب موج الطريق ، لم يعد يهمه تعب أو فرح ، لم يعد يشعر بأي شئ ، وفجأة وجد اسمه مكتوب بخطٍ كبير على لافتة بمنتصف الطريق ، فصاح إنها علامة!! ، أخيرًا ! ، وسابق خطاه إلى اللافتة وما إن وصل حتى نظر في ذهول إلى اللافتة ومفترق الطرق !
وجد على جانبي اللافتة طريقين ، فأصابه اليأس مرة أخرى ، ووجد ذاك الرجل العجوز ثانية ، ورجل على يساره تظهر عليه علامات الثراء ، فقال له الثري : هذا هو الطريق على يسار اللافتة ، أترى تلك القصور والأضواء الساطعة ، فقال : نعم ، قال كل هذا من أجلك وتحت تصرفك ، هيا إذهب ونل جائزة صبرك ! ، فتهلل وجهه ولمعت عيناه بأمل وحلمٍ جميلين ، فنطق العجوز : هذا لاشئ! يابني إنه هلاكك فقط ، هذا الطريق على يمينك به الذي لن ترضى مبادلته بأضعاف أضعاف ما على يسارك ، فاستغرب هو وسأل : أين !؟ أرني أرجوك ، قال العجوز : أترى هذا الجبل !؟ ، قال نعم قال : خلفه كل شئ ينتظرك ! ، فبادر الثري يقول له بمكرٍ دعك من هذا الكذب ، أتترك ما تراه لأجل شئ يوجد فقط في خيال العجوز !
قال العجوز : إني صدقتك القول وهذا سبيلي وسبيل كل عاقل ! ، فقال هو : أين عقلك يا رجل ! ، أتريدني تسلق الصخور واقتطاع الصحراء حتى أنال شيئًا لا أثر له !! ، أليس من المنطق أن أنال ماهو أمامي ، فقاطعه العجوز : أليس من المنطق أن تسعى وراء ما هو باقٍ ! ، فسكت وقال له الثري : هيا لا تتردد بماذا سينفعك العجوز عندما تقتلك الوحدة وتلفحك نار الصحراء القاسية ، أما إذا سلكت هذا الطريق فلك الضح والريح !، هيا إذهب وفزّ ، فنظر للعجوز الصامت وبداخله شئ يدفعه نحو الجبل ، ولكنه نظر إلى القصور والأضواء والجمال مرة أخرى ! ، ونظر خلفه إلى الطريق وذكرياته المرة ، فأغمض قلبه وخطا خطوة على يساره ثم تبعتها خطوات قليلة ، فجاء أحد أعوان الرجل الثري يسير مسرعًا بعربة سوداء كبيرة ، حسب أنه أتى كي يوصله لقصوره وأملاكه الجديدة ، لكنه لم يتوقف وأزاد من سرعته حتى صدمه فسقط قتيلاً على أول الطريق تمامًا ، تنهد العجوز وضحك الثري ، وانمحى اسمه من اللافتة ، وجاء رجالاً ليحملوه ليلحق بقوافل العائدين ، وكان لازال متشبثًا بحقيبة السفر ، وفيها اختياره .