تبدو بعض الأعمال الدرامية السورية التي تعرض علينا هذا الموسم، وكأن
الأحداث توقفت فيها عند عتبة لا يمكن تجاوزها منذ حلقاتها الأولى، وأصبحت
شخصياتها عصية على التطور الدرامي المطلوب الذي يفاجئ المشاهد ولا يترك له
فرصة معرفة محتوى الحلقات المقبلة من دون بذل أدنى جهد. تبدو هنا
«الاقحامات» الجديدة مضحكة إلى حد ما، ونقصد بهذا مثلاً مقاربة موضوعة
المثلية الجنسية في مسلسل «عن الخوف والعزلة»، اذ تفشل الفتاة التي تخلو
في زاوية معتمة إلى حبيبها في التوضيح له إن ابن خالتها شاذ جنسياً، وأنه
لن يستطيع البوح بشيء أمام أهلها، لأنها تعرف عنه أشياء كثيرة. بدا الحوار
هنا عقيماً إلى ابعد الحدود، وكان يمكن الاستغناء عنه بقليل من الجهد.
فالشاب بدا غريباً بلباسه الجلدي، والحلق في أذنه اليسرى، وربما كان يمكن
الاستغناء عنه نهائياً طالما أنه لا يقدم أو يؤخر في البنية الدرامية
العامة للمسلسل. بالطبع هذا خيار المخرج سيف الدين سبيعي والمؤلف فادي
قوشقجي، ولكن فشلهما معاً في ايصال مادة درامية صالحة للمشاهد هو ما يدعو
لتــناوله. ونحن لا ندعو للاقتصاص من المشهد بحد ذاته، ولكن سوء تنفيذه
يدعو إلى التدقيق به ومعاينته حتى لا تبدو الأمور وكأنها تنساق فقط نحو
دغدغة عواطف المشاهد البسيط بما يبدو له أنه فسحة جديدة للنظر في موضوعات
كان محرماً الخوض فيها على شاشته حتى وقت قريب.
«عن الحب والعزلة» يفشل منذ حلقاته الأولى في تغطية العنوان العريض
الذي يتكئ عليه، اذ يبدو وكأنه موجه إلى الجمهور المثقف بالدرجة الأولى،
لكن مشاهدة ثلاث حلقات منه تكشف عن فحوى نمطية شخصياته التي تحاول أن تدعي
لنفسها ما لا يمكن القيام به، اذ لا تتعدى «كاركترات» أكرم ولميس وحسام
وبسمة التي تحمل حروفها الأربعة معنى كلمة حب، هذه المحاولة القسرية في
اكتساب معاني اللعبة الدرامية، بدل تناولها الداخلي وتطويره. بخاصة أن هذه
الشخصيات ظهرت أنها صاحبة انكسارات مفاجئة لا تسمح بتطورها تلقائياً،
وتضعها في موقع الجمود الذي يمنعها من ابتكار ذواتها.
لا يمكن الادعاء أن المسلسل قد يفشل في اجتذاب مشاهدين أكفاء له. ربما
لا تبدو هذه وظيفته من حيث المبدأ، فهذه مسألة تظل في علم الغيب،
فالمسلسلات كثيرة من حوله، ونحن ما زلنا في الأيام الأولى، وهناك حيرة
كبيرة في تبني هذا المسلسل أو ذاك بغية الاستمرار في مشاهدته حتى نهاية
الموسم الدرامي، وإن ظهرت بعض المسلسلات الأخرى في وضعيات لا تحسد عليها
وقد لا تؤهلها للبقاء في حيز المنافسة. فقد ظهرت الحلقات الأولى وكأنها
محض تصوير (من باب التكهن) للحلقات الأخيرة، أو هي استعادة مقلوبة لنجاحات
مواسم سابقة. فالأحداث مكتملة منذ الحلقات الأولى، وما هو مهم هو اعادة
روايتها، كما هوي الحال مع «بيت جدي» – الجزء الثاني – الذي اكتمل بنجاح
مخرجه بتثبيت اسمه بوصفه عراباً للأخلاق النبيلة. القصة بالطبع تدور كما
هو واضح من حول أبو حجاز (رسلان) الذي قتل شقيق أبو الموت منذ ثمانية
أعوام... وهذان ستدور الأحداث من حولهما بمعنى ما، ففيما يفشل أهل الحارة
في حل الاشكال بينهما، باعتبار أن رسلان هو من غدر بالشقيق، سنجد في الضفة
الأولى شقيقاً لرسلان درس في فرنسا، ويعمل محققاً في السرايات الحكومية،
أي أنه مقرب من الفرنسيين، وهذا يفترض به أنه سيقلب الطاولة رأساً على
عقب، إما أمام رسلان، باعتباره خارجاً على القانون، أو الشقيق (نفسه) الذي
يحلم من خلال مونولوغاته بفرض هيمنته على الحارة التي تكون بحسب ادعاءاته
في حاجة إلى يد قوية كي تتحكم بها.
«باب الحارة»
على الضفة الأخرى يقف المسلسل الشامي الآخر، والذي يفترض به منافساً
قوياً لـ «بيت جدي» في جزئه الجديد ليثبت أن الموسيقى التصويرية هي البطل
الشعبي فيه، بخاصة أن أهل الحارة المحاصرة أثبتوا فيه هذه المرة قدرة
مخيفة على مراوغة الفرنسيين، اذ نكتشف فيهم القدرة على صناعة التنكر، بعمل
ماكياج مضاد لشخصية جاسوس مفترض للفرنسيين على يد الحلاق الثائر عصام، وهو
الماكياج الذي أخفقت الدراما السورية بعمله في وقتنا الراهن بدليل
استعانتها أحياناً بطواقم ماكياج ايراني. بالطبع يمكن الحديث كثيراً عن
الطريقة المضحكة التي يحاصر فيها الفرنسيون باب الحارة، والطريقة التي
يستعد فيها أبناء الحارة للذود عن شرفهم وكرامتها، وهذه نتركها للمشاهد
ليقارن، ففي جعبته ومخيلته الكثير من الصور التي تجود بها السينما
العالمية.
دموع سخية
في «قاع المدينة» لسمير حسين، يدخل الموضوع دمشق من فنائها الخلفي
مسلحاً بكلمات أغنية تدعو المشاهدين للتمتع بالقصص الحزينة، وجلسات
الديسكو وما يفترض أنه العوالم السفلية لمدينة بدت مرهقة ومتعبة من خلال
اقتيات الكثير من العلاقات الانسانية المرتبكة فيها، فرجاء (تاج حيدر)
ستكون هدف هذه العلاقات، وهي قد لا تصمد أمام «هـول» المجتمع الذئبي الذي
تعيش ضمن أسواره. ما نعرفه من خلال دموعها السخية وموهبتها الواضحة في
الأداء أن ثمة ما يتهددها من ذئب يترصد بها، ومن أبيها (حسن عويتي) الذي
يراهـن عليها لاكمال حياته الوضيعة.
وهذا سيكشف بالتأكيد عن أعماق أخرى لا نعرف ما إذا كان حسين قادراً
بوضعه الحالي الى الغوص فيها، كما هي حال الكثير من المسلسلات السورية
التي بات المشاهد يعرفها من عناوينها، وربما لا ينفع معها الكثير من الخدع
السينمائية التي بات يلجأ إليها المخرج بالتعاون مع خبراء بريطانيين أو
غير ذلك. كما الحال في «رجال الحسم» لنجدت أنزور الذي اختار أن يترك
لشخصياته أن تنمو ببطء شديد واملال ليس فيه ترقب من أي نوع، سوى معرفتنا
للمرة الأولى أن السيارات العسكرية المحترقة يمكن أن تسقط في مقدمة الكادر
التلفزيوني، كما لو أنها تهطل مع المطر.
من الصعب الحكم، وربما لا يجدر الكتابة قبل اكتمال الصورة الدرامية، أو
اكتمال قوسها المشدود هذا الموسم إلى نصفه، باعتبار أن أهل الدراما
السورية لم ينجحوا ببلوغ نصف ما بلغوه العام الماضي من انتاج درامي، ولكن
المشكلة كما تبدو تتعلق بالنصوص المكتوبة، بخاصة أن الحرفة في صناعة
المسلسلات أصبح يبدو مبالغاً فيها بالنظر إلى مثل هذه النصوص، علماً أن
بعضها لا يخلو من مناقشة عناوين عريضة مثل القضية الفلسطينية أو القضية
العراقية متمثلة بعلماء الذرة العراقيين الذين قتلوا أو اختفوا في ظروف
غامضة.
والموضوع الفلسطيني سيتكرر بقوة في (سفر الحجارة) ليوسف رزق، وإن فشل
على ما يبدو في تسويقه حتى لمصلحة محطات فلسطينية، كما بات يشكو أخيراً في
أحاديثه الصحافية والخاصة. لا تعرف المشكلة من جذورها، وإن بدا أن موضوع
«سفر الحجارة» مبالغاً فيه، لجهة تعاطيه النمطي مع الفلسطيني السوبرمان، -
كتابة هاني السعدي – وهي موضوعة أكل الزمان عليها وشرب، فالسينما
الفلسطينية الجديدة أخذت زمام المبادرة منذ زمن، وهي أوغلت في رسم صورة
جديدة للفلسطيني لم تألفها الصورة السينمائية العربية من قبل.
أمامنا الكثير قبل أن نقول رأياً فاصلاً في الأعمال المعروضة علينا،
ولكن هذه قراءة أولية في بعض أعمال مفترض أننا سنتابعها هي أو غيرها حتى
نهاية الموسم الدرامي لهذا العام.