- نماذج من الجرائم ضد الإنسانية للاستعمار الفرنسي في الجزائر أولا- نماذج عن جرائم الإبادة الجماعية:
نفذت السلطات الاستعمارية الفرنسية المدنية والعسكرية، إبان الاحتلال
عامة، والثورة التحريرية خاصة مخطط إجراميا لإبادة الجزائريين، وعمدت إلى
استخدام كل الإجراءات الممكنة والمتوفرة لديها، ولم تكتف في سياستها
القمعية والعقابية أي أحد، بل وسعتها لتشمل من دون تمييز المدنيين العزل
من أطفال ونساء وشيوخ. وارتكبت فرنسا على إثرها فرنسا مئات المجازر
الجماعية، وحالات التقتيل الفردي والعشوائي، وفي هذا الإطار استعانت
القوات الفرنسية بعدة وسائل وقوانين عقابية تتعارض مع القوانين الدولية
وحتى الفرنسية أطلقت عليها السلطات السياسية الاستعمارية اسم القوانين
الخاصة les" pouvoirs spécieux " ( )
ونظرا لتعدد الجرائم الفرنسية في الجزائر من\ دخولها سنة 1830 وعدم حصرها،
فقد حاولنا جمع ما استطعنا جمعه، وقسما الجرائم الإبادة إلى قسمين أولها
في القرن التاسع عشر والثانية في القرن العشرين، وانتهت دراستنا على
الجرائم التالية.
1- نماذج عن جرائم الإبادة في القرن التاسع عشر:
تعددت الجرائم التي ارتكبتها فرنسا الاستعمارية في القرن التاسع عشر، بطرق
مروعة فمن التقتيل الجماعي للسكان، إلى النهب والسلب وتدنيس المقدسات، وقد
أطلق احد الجنرالات الفرنسيين" Bugeaud" سياسة الأرض المحروقة وحرب
الإبادة،( ) على مشروعهم الهمجي والقائمة على إنهاء الوجود الجزائري بكل
الطرق .
فإلى جانب عمليات الاستيطان واغتصاب الأراضي الصالحة للزراعة شنت قوات
الاستعمار الفرنسي حرب إبادة منظمة للسكان، بتوجيه من قادة الجيش، وارتكبت
مجازر جماعية استهدفت مئات السكان والقبائل الجزائرية( )، خاصة تلك التي
أبدت رفضها للاستعمار الفرنسي، وقد عبر عن هذه السياسة الإجرامية أحد
الفرنسيين المشاركين، في إحدى عمليات الإبادة كمايلي: "...أن مسالة العرب
قبرت نهائيا، ولم يبقى لهم سوى الموت أو الهجرة أو قبول الخدمة عند
أسيادهم، هل يستيقظون قبل أن تطلق عليهم رصاصة الرحمة؛؟ أتمنى ذلك..." ( )
واتسمت عملية الإبادة قبل حدوثها بنوع من التخطيط المسبق
للعملية حيث يصفها احد القادة الفرنسيين بقوله: "... وقد تتخذ الإجراءات
الصارمة للإطاحة بالقبيلة المنوي تدميرها بقوات كبيرة، بحيث يكون الهرب
مستحيلا لأي مخلوق، والسكان الآمنون لايدركون الخطر المحدق بهم، إلا عندما
يسمعون قرع الطبول التي تضرب نغمة مؤذية للسمع وبعد ذلك تحدث المفاجأة
التي لايوجد لها مثيلا إلا فيما نعرفه من قصص إبادة الهنود الحمر..."
و يعترف الكونت ديريسون-d’hérisson هو الأخر في كتابه" مطاردة الإنسان" la
chasse a" homme"، فيقول:" إننا والحق يقال أتينا ببرميل مملوء ة أذانا
غنمناها أزواجا من الأسرى..."
ترى لماذا قطع أذان الأهالي وجمعها؟. يؤكد ديريسون أن في أيام الاحتلال
بلاد القبائل سنة 1857 كان قادة الاحتلال الفرنسي يشجعون الجنود ويعطوهم
عشر فرنكات عن كل زوج من أذان الأهالي التي يحضرونها ...!
ويستمر ديريسون في اعترافاته ويقول:
" ...اقترفنا جرائم يذوب لوحشيتها الصخر، وكثيرا ما حكمنا بالإعدام... ونفذنا ذلك رميا بالرصاص"
وهذه تصريحات لضباط آخرين:
يقول العقيد "فوري" – forey –:" انطلقت من مليانة سبعة طوابير بهدف
التخريب، واختطاف اكبر عدد ممكن من قطعان الغنم، وعلى الأخص النساء
والأطفال، لان الوالي العام ( الجنرال بيجو) كان يريد بإرسالهم إلى فرنسا
أن يلقي الفزع في قلوب السكان، واختطفنا في هذه الحملة ما يزيد على ثلاثة
ألاف من رؤوس الغنم، وأشعلنا النار في مايزيد على عشرة من القرى الكبرى،
وقطنا واحرقنا أكثر من عشرة ألاف من أشجار الزيتون التين وغيرها...
ويتحدث الرائد " ويستي " عن إحدى حملاته فيقول:" إن الدواوير التي أحرقت
والمحاصيل الزراعية التي أتلفت، لا تكاد تصدق، فلم يكن يرى من الجانبين من
الطابور سوى النيران."
ويقول " ديفو " في مذكراته - عن قرية بني راشد - :" بعد العشاء كانت جميع
المنازل قد التهبت بالحطب الذي بنيت به، وكانت السنة اللهب تتصاعد، فكم
كانت هذه العملية جريئة من طرف جيوشنا، فرغم الجرائم لا أنسى قساوة حياة
هؤلاء المساكين في فصل الخريف القريب، كم امرأة وطفل هلكوا .
ولم تكن عمليات الإبادة والتخريب قاصرة على المناطق الشمالية بل
امتدت إلى المناطق الجنوبية والى واحات الصحراء، مثل ماحدث في واحة
الزعاطشة سنة 1849.
حيث ها هو العقيد " بان " – pein " يكرر نفس المشهد في مدينة الاغواط سنة
1852، يحدثنا بان بنفسه فيقول: " لقد كانت مذبحة شنيعة حقا، كانت المساكن
والخيام التي في ساحة المدينة والشوارع والأزقة، والميادين، كانت كلها تغص
بالجثث. إن الإحصائيات التي أقيمت بعد الاستيلاء على المدينة وحسب معلومات
استقيناها من مصادر موثوقة، أكدت أن عدد القتلى من النساء والأطفال 2300
قتيل، أما عدد الجرحى فلا يكاد يذكر لسبب بسيط هو أن جنودنا كانوا يهجمون
على المنازل ويقتلون كل من وجدوه بلا شفقة ولا رحمة."
هكذا كانت حملات العدو التوسعية لم تتحلى ولو بقيمة إنسانية واحدة، فهذه
الجرائم المذكورة على أساس الاعتراف الذي صرح به هؤلاء الجنود الذين
ارتكبوا هذه الجرائم، ماهي إلا محولة إبادة شعب برمته عن طريق الرق والقتل
والإبادة الجماعية وغيرها، فقد تفنن الاستعمار الفرنسي في بداية الحملة،
خاصة في مرحلة الحكم العسكري التي دامت من 1830 إلى 1870 والتي سخرت فيها
كل الأساليب القمعية من إبادة وتشريد، وهذا كله من اجل القضاء على فتيل
المقاومة. وقد تعددت جرائم الإبادة في هذه مرحلة ومن أهمها مايلي:
1- إبادة سكان البليدة:(26 نوفمبر 1830)
وقعت هذه الجريمة على اثر الهجوم الذي نظمه المقاومون ضد الحامية الفرنسية
بالمدينة، وبعد انسحاب المقاومون قامت القوات الفرنسية بالانتقام من
السكان العزل، ففي يوم 26 نوفمبر 1830 أقدم الضابط " ترو لير" إلى إصدار
أمر إلى وحداته العسكرية بمحاصرة بلدة البليدة الآمنة وأقدمت على تقتيل
جميع سكانها البالغ عددهم قرابة الألفين مواطن
وفي بضع ساعات تحولت المدينة إلى مقبرة حقيقية وامتزج التراب بالدم حتى
أصبح لون الأرض احمرا لشدة القتل الذي لم يرحم لا طفلا ولا شيخا و لا
عجوزا ولا امرأة .
2-إبادة قبيلة العوفية بوادي الحراش ومصادرة ممتلكاتها:(05 افريل 1832)
وسبب ذلك كونهم اشتبهوا فيها بأنها قامت بسلب مبعوثي " فرحات بن السعيد "
احد عملاء فرنسا بمنطقة الزيبان، بالرغم من أن التحقيق قد أوضح انه ليس
لقبيلة العوفية أي مسؤولية في ذلك ، فقد أقدم الجنرال دوروفيقو" والذي يعف
بسياسة العنصرية اتجاه الجزائريين، بإعطاء أمر بمحاصرة قبيلة العوفية
المتمركزة في المنطقة الجنوبية من وادي الحراش في ليلة 05 افريل 1832،
وبعد إلقاء القبض على شيخها "الربيعية" وإعدامه دون محاكمة ، ثم قتل جميع
أفرادها في مذبحة رهيبة والناس نيام، وعند عودتهم من هذا العمل المخجل كان
الفرسان يحملون القتلى على أسنة رماحهم ...!!، وبيعت كل أرزاقهم لقنصل
الدانمرك، وباقي الغنيمة عرضت في سوق باب عزون، وكان يظهر في هذا المنظر
الفظيع أساور النساء في معاصم مبتورة، وأقراط أذان لاصقة و أشلاء اللحم
متدلية منها ثم وزع ثمن هذا البيع على ذابحي أصحابها، وفي مساء ذلك اليوم
أمرت السلطات السكان بإضاءة محلاتهم احتفالا بذلك
فلهول هذه المجزرة ولعنة أرواحها التي زهقت باطلا، ظلت تراود الدوق روفيقو
في نومه ويقضته حتى أصيب بهستيريا رهيبة، فقد على إثرها عقله وجن
3- إبادة قبيلة بني صبيح :
يعترف الجنرال كافينياك بجريمته في إبادة قبيلة بني صبيح عام 1844 قائلا:
" لقد تولى الأجناد -(أصل الكلمة "الجنود" لكنها وردت هكذا فنقلناها كما
وردت)- جمع كميات كبيرة من الحطب، ثم كدسوها عند مدخل المغارة التي حملنا
قبيلة بني صبيح على اللجوء إليها بكل ما تملك من متاع وحيوانات وفي المساء
اضرمت النار وأخذت جميع الاحتياطات حتى لا يتمكن أيا كان من الخروج حيا.
أما الناجون من فرن كافينياك الذين كانوا خارج أراضي القبيلة، فقد تولى
العقيد كانروبار" جمعهم بعد حوالي عام من حرق أهاليهم، ثم قلدهم إلى
المغارة ثانية وأمر ببناء جميع مخارجها ليجعل منها على حد تعبيره:" مقبرة
واسعة لإيواء أولئك المتزمتين . ولم ينزل احد تلك المغارة، ولا يعرف احد
غيري أنها تضم تحت ركامها خمسمائة من الأشرار الذين لن يقوموا بعد ذلك
بذبح الفرنسيين" وفي تعليقه على هذه
الجريمة قال السيد برار " لقد ظلت تلك المغارة مغلقة وبداخلها جثث رجال ونساء وأطفال وقطعان تتآكل أو يأكلها التراب" ( )
4- إبادة قبيلة أولاد رياح بجبال الظهرة:
مهندس هذه الجريمة التي تضرب لنا مثالا أخر عن جرائم الإبادة المنظمة
التامة الأركان، من الركن المادي إلى المعنوي وحتى الشرعي الدولي من خلال
المقاصد الضرورية في أركان الجريمة ضد الإنسانية، هو القائد بيليسيه –
builissyh – وخلاصتها أن معركة كبيرة وقعت خلال جانفي 1845 بناحية الظهرة
تعرف عند الفرنسيين بانتفاضة الطرق الصوفية، شاركت فيها على الخصوص
القادرية والرحمانية والدرقاوية والطيبية وفروعها، وكانت قبيلة أولاد رياح
التي شاركت في الانتفاضة تقطن جنوب تنس فغزاها بيليسيه( )، بحجة المشاركة
في انتفاضة الصوفية.
وأمام عمليات الحرق العشوائي فر ماتبقى من السكان إلى الجبال واحتموا بغار
يطلق عليه اسم غار الفراشيش ، وعددها أكثر من 1000 شخص رجالا ونساءا
وأطفالا وشيوخا مع حيواناتهم، فحاصرهم بيليسيه وجنوده بالغار من جميع
الجهات وطالب القبيلة بالاستسلام فردت عليه بإطلاق النار، فأعطى الأوامر
لجنوده بتكديس الحطب أمام مدخل المغارة، وإشعاله فهلك كل أفراد القبيلة
المقدرين كما ذكرنا بحوالي 1000 شخص ( )
وتوالت هذه العملية يومين كاملين 17 و 18 جوان، وقبل طلوع نهار اليوم
الثاني بنحو ساعة وقع انفجار كبير داخل المغارة فقضى على من تبقى على قيد
الحياة ( )
ونظرا لكون السلطات الفرنسية أعجبت بهذا العمل قامت بمكافأة الجنرال بيجو
الحاكم العام حيث منحت له "عصا المارشالية " أو ما يسمى بقاهر الجزائريين
وهذا دليل على أن فرنسا دولة قانون بالفعل!
5- إبادة واحة الزعاطشة:( 26 نوفمبر 1849)
بدافع الانتقام من الانتصارات التي حققتها مقاومة الشيخ بوزيان ببسكرة،
أرسلت السلطات الفرنسية " والعقيد " كاريوكسي ". hiripion جيشا قوامه 19
ألف جندي بقيادة الجنرال هيربيون "
فحاصروا كل المحيط الخاص بالقبيلة واستخدمت المدفعية لضرب الواحة
وتدميرها، وكلل هذا القصف بدخول الفرنسيين إلى الواحة في 26 نوفمبر 1849(
).
وبدءوا في تنفيذ أحكام الإعدام في حق أكثر من 1500 شخص من الواحة على
رأسها الشيخ بوزيان وتعليق رأسه على مقصلة أمر بنصبها على باب معسكره،
رفقة رأس ابنه ورأس الحاج موسى الدرقاوي نكاية وعبرة للثائرين ( )، وقام
بحرق أشجار النخيل وانعكس ذلك سلبا على السكان حيث انتشرت المجاعات والفقر
بين السكان الناجين من هول المجزرة
هذه النماذج المقدمة هي مجرد عينة من أنواع القهر والعذاب الذي ذاقه الشعب
الجزائري على ايدي الاستعمار، فجرائم الإبادة التي رسمتها أنامل الجنود لم
تتوقف عند هذا الحد بداية من سنوات الخمسينات من القرن التاسع عشر اقترف
سفاحون آخرون يشيب لهوله الولدان، أمثال ديمونتنياك الذي اشتهر كقاطع
للرؤوس، يسجل في كتابه رسائل جندي : " أننا رابطنا في وسط البلاد وهمنا
الوحيد الإحراق والقتل والتدمير والتخريب حتى تركنا البلاد قاعا صفصفا، إن
بعض القبائل لازالت تقاومنا لكننا نطاردها من كل جانب حتى تصبح النساء
والأطفال بين سبي وذبيح والغنائم بين سلب ونهب . ( )
وفي رسالة بعث بها إلى احد أصدقائه قائلا :" لا يمكن تصور الرعب الذي
يستولي على العرب حيث يرون قطع رأس ب مسيحية، فاني أدركت ذلك منذ زمن بعيد
واقسم لك بأنه لا يفلت احد من أظفاري حتى ينال من بز رأسه مايناله... وقد
أنذرت بنفسي جميع الجنود الذين أتشرف بقيادتهم أنهم لو أتوا بعربي حي
لأنهلت عليهم ضربا بعرض نصل سيفي. وأما قطع الرؤوس فهي تكون على مرأى
ومسمع جميع الناس( )
ويضيف هذا السفاح قائلا:"ينبغي أن نقتل كل الرجال والأطفال وان نضعهم في
السفن ونبعث بهم إلى جزر المركيز أو غيرها،وبكلمة مختصرة، ينبغي أن نقضي
على كل من لايركع أمامنا كالكلب "( )
وديمونتنياك هذا هو القائل في إحدى رسائله: " قد اقطع الرؤوس لطرد الخواطر المحزنة التي تساورني احيانا ...!!!"( )
هذه الظواهر اللاانسانية ميزة تميز بها معظم جنرالات دولة القانون، فرنسا
فلا يكاد الجنرال" سانت أرنو " يشذ عن هذه الظاهرة حيث يقول: " ان ناحية
بني مناصر بديعة وهي من اغنى نواحي افريقيا،
ترى فيها القرى والمساكن متقاربة بعضها لبعض، احرقنا كل شيء فيها وحطمنا
كل شيء. الحرب وما أدراك ما الحرب!، ما أكثر عدد النساء والأطفال الذين
اعتصموا بثلوج الأطلس فماتوا فيها بردا وجوعا"
" إننا نحطم ونحرق، ونخرب الديار والأشجار أما المعارك فإنها لاتوجد أو قلما توجد"
وعن حملته التي قادها على منطقة القبائل 1851 يقول سانت أرنو: " تركت
ورائي حريقا هائلا، أحرقت نحو مائتين من القرى، أتلفت جميع البساتين وقطعت
جميع أشجار الزيتون "( )
إن فضاعة القوات الفرنسية اتجاه تعاملهم نحو السفك والقتل فقط، أثارت كذلك
بعض السياسيين في فرنسا، وعلى شاكلة هذا الأمر فقد تم إيفاد لجنة في
التحقيق تدعى في الكتابات بـ :" اللجنة الإفريقية" التي أرسلها الملك لويس
فيليب في أواخر 1833 والتي تعتبر إدانة صارخة للاحتلال الفرنسي، وفي مايلي
ماجاء في التقرير الذي اعدته اللجنة: " لقد استحوذنا على أوقاف المؤسسات
الدينية.... بل ذهبنا إلى أكثر من ذلك الاعتداء على حرمات المساجد
والمقابر، ( ) والمنازل والأماكن المقدسة عند المسلمين.وتضيف" لقد أصبحنا
أكثر وحشية من السكان الذين جئنا لتمدينهم..."( ) ( انظر الملحق الخاص
بالنص الكامل للجنة الإفريقية والملحق الخاص بأسماء المساجد التي حولت)
وعليه فان كل ماسمعناه وقراناه عن جرائم الاستعمار الفرنسي في هذه الفترة
– أي القرن التاسع عشر- لا تزال مجرد قطرات من بحر الدماء الذي اغرق فيه
الجزائريون بلا رحمة ولا شفقة، هذه الجرائم الابادية لم تتوقف عند هذا
الحد، وفي هذا القرن بل أخذت مناحي أخرى وأشكالا أكثر جهنمية في القرن
العشرين
2- نماذج عن جرائم الابادة في القرن العشرين:ق20)
قبل إن نتطرق إلى أهم الأعمال الإجرامية للاستعمار الفرنسي دعنا نلقي
نظرة عن واقع الجزائريين في هذا القرن نتيجة ما فرض عليهم من سياسات هدفت
إلى القضاء على البنية الاجتماعية للمجتمع الجزائري وتحضيره للإبادة
بالنار ومن أهم هذه السياسات نذكر مايلي:
أ – إقحام الجزائريين في الحبين العالميتين (1914 و 1939)
فبعد
فرض قانون التجنيد الإجباري على الجزائريين سنة 1912،( ) هذا القانون
الجائر والذي تكمن صبغته الإجرامية في كون أن الحكومة الفرنسية لم تعترف
بالجزائريين كمواطنين فرنسيين، حتى
تطبق هذا القانون الإجرامي العقابي التي تلجا إليه الدول في الحروب وهو ما
يتعارض مع اتفاقية لاهاي 1907 التي تمنع تجنيد سكان المستعمرات للأغراض
العسكرية والأعمال الشاقة( ) ، عملت كذلك الإدارة الفرنسية على فرض سياسة
التجويع والتجهيل.
ب- فرض سياسة التجويع والتجهيل :
تفشت ظاهرة الجوع والفقر في أوساط الجزائريين وذلك كنتيجة حتمية لعمليات
المصادرة الواسعة للأراضي الزراعية وبالرغم من أن الحكومة الفرنسية حاولت
تقنين عملية توزيع المواد الغذائية على السكان، إلا أن ذلك لم يكن سوى ذر
الرماد في الأعين.
فقد جاء في تقرير احد الأطباء الفرنسيين أثناء زيارته للجزائر في 1945
والذي يدعى " جورج توماس " حيث قال: " كنت في الجزائر سنة1945 وقت
المجاعة..، عندما كان الآلاف يموتون جوعا ... كما شاهدت القمع ورأيت 200
شخص يموتون من داء الملا ريا في غرداية.
وعن تجهيل الجزائريين فقد عملت الآلة الاستدمارية على محاربة كل أنواع
التعليم وقد نجحت في هذه السياسة إلى حد بعيد في القرن العشرين، حيث كانت
ترمي هذه السياسة إلى أن يصبح الشعب الجزائري كله لا يعرف القراءة
والكتابة .( )
وهو مادلت عليه الإحصائيات، ففي سنة 1944 بلغ عدد الأطفال الجزائريين في
سن الدراسة بـ:1250000، ولم تتح الفرصة إلا لـ: 11000 طفل، وقد بلغ عدد
المسجلين في المدارس من الجزائريين سنة 1945 من التعليم الابتدائي حتى
العالي بما فيهم الحضانة 85201( )
بينما بلغ عدد الأوربيين المتمدرسين في الجزائر لنفس السنة 241000 .( )
على الرغم من الفارق الكبير بين عدد المعمرين، الذين لم يتجاوزوا 700000
نسمة وعدد الجزائريين يزيد عن 08 ملايين
نسمة، وجل المتعلمين مبعدون عن كل ماهو تقني حتى تبقى الجزائر تابعة دائما
للاستعمار ( ) وكان هدف التعليم الأول والأخير هو غرس فكرة الجزائر فرنسية
في أذهان الجزائريين، وذلك من خلال دروس الجغرافيا والتاريخ الرامية إلى
دمج الجزائر ككتلة متوسطية تابعة للتراب الفرنسي جغرافيا وتاريخيا.
ولعل من أهم الانتهاكات التي اقترفها الجيش الفرنسي في هذه المرحلة خاصة
مع ما تزامن من وعي سياسي تمثل في نضوج الحركة الوطنية، هذا الوعي جعل
الإدارة الفرنسية تترصد زعمائه، من السجن تارة إلى التضييق تارة أخرى،
ولما كان العالم يشهد تطورات سياسية لها دلالات واسعة ليس على القارة
الأوربية فقط، بل ينعكس على المناطق الأخرى خاصة القارة الإفريقية،
فانتهاء الحرب العالمية الثانية وان كان إنذار سلام على الأوربيين، فانه
كان إنذار شؤم على الجزائريين الذين تحولت فرحتهم إلى مأساة حقيقية
تناقلتها الألسن والكتابات إلى اليوم، هذه المأساة تمثلت في مجزرة الثامن
ماي 1945
1-مجزرة الثامن ماي 1945 :
اغتنم زعماء الحركة الوطنية فرصة الاحتفال بالعيد العالمي للشغل 01 ماي
1945، وكذلك الاحتفال بالهدنة من نفس الشهر نتيجة انتهاء الحرب العالمية
الثانية، فنظموا مظاهرات سلمية تندد بالقمع الاستعماري، ( ) وتؤكد للعالم
مشروعية الطموحات الوطنية للشعب الجزائري وتفند مقولة السياسة "الجزائر
فرنسية " فقد أعلن رجالات الحركة الوطنية تطليق الامبريالية وتحقيق
الاستقلال( )
فإذا كان مناضلي حزب الشعب قد استطاعوا احتواء إعداد الجماهير في الجزائر
العاصمة، فان الوضع بسطيف وما جاورها لم يتوقف عند هذا الحد، حيث لم يستطع
المشرفون احتواء غضب الجماهير فانفرط عقد المسيرة وانتشر أفرادها عبر
شوارع المدينة واشتبكوا مع القوات الاستعماري ومع اللفيف الأوربي، ( )
وبالرغم من كون المسيرة كانت سلمية إلا أنها أخذت ضحايا في اليوم الأول
تراوحت أعدادهم مابين 29 أو 27 قتيلا، ولكن بعدها انتشر القمع وراح سكان
سطيف يهاجمون المراكز
الكولونيالية، نتيجة للتصعيد في الإجراءات القمعية، فقد طبقت القوات
الفرنسية في حملتها القمعية إستراتيجية العمليات الكاسحة،( ) فتم استخدام
الطائرات المقنبلة بأمر من السلطات السياسية الفرنسية " وزير الخارجية
تيكسيه " ووزير الطــيران " تيون " teyon ، الشيوعي لتدمير المد اشر
والقرى وأقدمت
الوحدات البرية المشكلة من اللفيف الأجنبي والدرك والشرطة والمعمرين، إلى
استباحة قتل كل جزائري يصادفونه أماهم وتدمير وحرق كل بيت مازال واقفا لم
يسقط تحت نيران الطيران( )
ومهما كانت الأعذار التي تبرأت بها السلطات الفرنسية فان كل الشهادات
الفرنسية والأجنبية والجزائريين تؤكد على أن القمع الذي مورس على
الجزائريين كان لامبرر له، وانه كان كان مبالغ فيه، وأكدوا أن السلطات
الفرنسية كان بإمكانها إنهاء القمع بانتهاء المظاهرات في نفس اليوم، كما
يقع في كثير من المناسبات الشبيهة، ( ) وكان بإمكانها اجتناب أعمال القمع
والتقتيل والإعدام دون محاكمة، فقد كتب عن هذا شارل أندري جوليان مايلي: "
توجد وسائل قمع أخرى تمت ممارستها على الشعب الجزائري، فقد القي ببعضهم
داخل الأفران في هيليوبوليس (بالقرب من قالمة) وكان اشياري وهو نائب عامل
العمالة
قد أطلق شخصيا النار على المتظاهرين " وباعتراف من السيد كيطولي، الناطق باسم المعمرين ورئيس بلدية سكيكدة.( )
فالقتل والتدمير والإعدام الجماعي وقنبلة القرى والمد اشر والأرياف
بالإضافة إلى الاعتقالات وحملات النفي التي استمرت لمدة أسبوع، تبين
النوايا الإجرامية مع سبق الإصرار والترصد للسلطات الفرنسية بالتخطيط
المسبق لارتكاب المجزرة،( ) ومن أهم المصادر التي أكدت ذلك صحيفة" ستارز-
اندرستربيرز" لسان حال الجيش الأمريكي في 28 ماي 1945 حيث ورد فيها مايلي:
" ... إن قاذفات القنابل الفرنسية قد حطمت قرى آهلة بالسكان بأكملها ...
لقد طار الطيارون الفرنسيون حوالي ثلاثمائة مرة في اليوم الواحد مستعملين
القاذفات الأمريكية الثقيلة والمتوسطة، حتى سويت القرى بعدد من القرى ...
والدواوير... أثناء حملة دامت تسعة أيام( )
وتدل الحصيلة النهائية لعدد القتلى الجزائريين مدى عظمة
الحقد الاستعماري اتجاه الشعب الجزائري ومدى الرغبة في إنهاء وجوده، وان
اختلفت الإحصائيات فالتقديرات الجزائرية تشير إلى أن عدد الضحايا بلغت
مابين 45 ألف إلى 100 ألف شهيد،( ) بالإضافة إلى ألاف الجرحى.
بينما التقديرات الأجنبية المقربة من فرنسا ومنها الأمريكية تقدرها بين 07
ألاف و 18 ألف ضحية وأكدت على انه أمام الاستخدام الواسع للطائرات
المقنبلة والإعدام الجماعي ساهم في ارتفاع عدد القتلـى
غير المبلغ عنهم كما أكدت صحيفة "نيويورك تايمز". وجاء في البرقية الصادرة
عن كتابة الدولة الأمريكية للخارجية بمقر السفارة مايلي: " بخصوص الوضع في
الجزائر الناتج عن انتفاضة الأهالي يوم 08 ماي والإجراءات الردعية
والقمعية التي اتخذتها السلطات الفرنسية بعد ذلك ... وفي هذا الإطار يمكنك
أن تشير إلى أننا أخذنا علنا بالكلمة التي أذاعها "تيكسيه" في 29 يونيو
بعد التحقيق في الانتفاضة والتي قال فيها بان عدد المسلمين الذين قتلوا لا
يتجاوز عددهم 1500 نسمة. إن معظم المصادر المعتمدة تقدر بان عدد القتلى
أعلى من ذلك بكثير، ولكن حتى لو سلمنا بإحصاء " تيكسيه "، فانه يدل على
تجاوز الحد في الإجراءات القمعية( )
حتى المصادر الفرنسية تذهب إلى أن العدد الحقيقي يتجاوز ما أكدته السلطات
الفرنسية برئاسة الوزير " تيكسيه " بأربع أو خمس مرات والتي تقدرها بـ:
1500 ضحية،( ) ولم تتوقف السلطات الفرنسية بارتكاب هذه المجزرة بل لجأت
إلى اعتقال مايقارب 2400 جزائري والحكم على 49 و 64 بالمؤبد والأعمال
الشاقة،و 329 بالأعمال الشاقة المؤقتة،( ) إلى جانب حل الأحزاب السياسية
واعتقال الزعماء السياسيين.
وعليه فانه ورغم كل التضحيات التي قدمها الجزائريون إلى فرنسا في الحرب
العالمية الثانية، إلا أن قادة الاحتلال الفرنسي أبوا إلا أن يتركوا
بصمتهم في يوم احتفل به العالم ضد النازية والاحتلال، ويتركوا خلف وحشيتهم
45 ألف شهيد، وكان مفهوم السلام والأمن العالميين يمس شعوب أوربا دون
سواهم.
أعمال القمع والإجرام زادت حدتها عندما انطلقت شرارة المقاومة والثورة
التحريرية في 01 نوفمبر 1954 بهدف قمع الثوار وإخماد نار الثورة، ومنها
عرفت هذه الفترة من تاريخ الجزائر أحداثا ومجازر لا تختلف عن سابقاتها إلا
من حيث المكان والزمان.
نفذت السلطات الاستعمارية الفرنسية المدنية والعسكرية، إبان الاحتلال
عامة، والثورة التحريرية خاصة مخطط إجراميا لإبادة الجزائريين، وعمدت إلى
استخدام كل الإجراءات الممكنة والمتوفرة لديها، ولم تكتف في سياستها
القمعية والعقابية أي أحد، بل وسعتها لتشمل من دون تمييز المدنيين العزل
من أطفال ونساء وشيوخ. وارتكبت فرنسا على إثرها فرنسا مئات المجازر
الجماعية، وحالات التقتيل الفردي والعشوائي، وفي هذا الإطار استعانت
القوات الفرنسية بعدة وسائل وقوانين عقابية تتعارض مع القوانين الدولية
وحتى الفرنسية أطلقت عليها السلطات السياسية الاستعمارية اسم القوانين
الخاصة les" pouvoirs spécieux " ( )
ونظرا لتعدد الجرائم الفرنسية في الجزائر من\ دخولها سنة 1830 وعدم حصرها،
فقد حاولنا جمع ما استطعنا جمعه، وقسما الجرائم الإبادة إلى قسمين أولها
في القرن التاسع عشر والثانية في القرن العشرين، وانتهت دراستنا على
الجرائم التالية.
1- نماذج عن جرائم الإبادة في القرن التاسع عشر:
تعددت الجرائم التي ارتكبتها فرنسا الاستعمارية في القرن التاسع عشر، بطرق
مروعة فمن التقتيل الجماعي للسكان، إلى النهب والسلب وتدنيس المقدسات، وقد
أطلق احد الجنرالات الفرنسيين" Bugeaud" سياسة الأرض المحروقة وحرب
الإبادة،( ) على مشروعهم الهمجي والقائمة على إنهاء الوجود الجزائري بكل
الطرق .
فإلى جانب عمليات الاستيطان واغتصاب الأراضي الصالحة للزراعة شنت قوات
الاستعمار الفرنسي حرب إبادة منظمة للسكان، بتوجيه من قادة الجيش، وارتكبت
مجازر جماعية استهدفت مئات السكان والقبائل الجزائرية( )، خاصة تلك التي
أبدت رفضها للاستعمار الفرنسي، وقد عبر عن هذه السياسة الإجرامية أحد
الفرنسيين المشاركين، في إحدى عمليات الإبادة كمايلي: "...أن مسالة العرب
قبرت نهائيا، ولم يبقى لهم سوى الموت أو الهجرة أو قبول الخدمة عند
أسيادهم، هل يستيقظون قبل أن تطلق عليهم رصاصة الرحمة؛؟ أتمنى ذلك..." ( )
واتسمت عملية الإبادة قبل حدوثها بنوع من التخطيط المسبق
للعملية حيث يصفها احد القادة الفرنسيين بقوله: "... وقد تتخذ الإجراءات
الصارمة للإطاحة بالقبيلة المنوي تدميرها بقوات كبيرة، بحيث يكون الهرب
مستحيلا لأي مخلوق، والسكان الآمنون لايدركون الخطر المحدق بهم، إلا عندما
يسمعون قرع الطبول التي تضرب نغمة مؤذية للسمع وبعد ذلك تحدث المفاجأة
التي لايوجد لها مثيلا إلا فيما نعرفه من قصص إبادة الهنود الحمر..."
و يعترف الكونت ديريسون-d’hérisson هو الأخر في كتابه" مطاردة الإنسان" la
chasse a" homme"، فيقول:" إننا والحق يقال أتينا ببرميل مملوء ة أذانا
غنمناها أزواجا من الأسرى..."
ترى لماذا قطع أذان الأهالي وجمعها؟. يؤكد ديريسون أن في أيام الاحتلال
بلاد القبائل سنة 1857 كان قادة الاحتلال الفرنسي يشجعون الجنود ويعطوهم
عشر فرنكات عن كل زوج من أذان الأهالي التي يحضرونها ...!
ويستمر ديريسون في اعترافاته ويقول:
" ...اقترفنا جرائم يذوب لوحشيتها الصخر، وكثيرا ما حكمنا بالإعدام... ونفذنا ذلك رميا بالرصاص"
وهذه تصريحات لضباط آخرين:
يقول العقيد "فوري" – forey –:" انطلقت من مليانة سبعة طوابير بهدف
التخريب، واختطاف اكبر عدد ممكن من قطعان الغنم، وعلى الأخص النساء
والأطفال، لان الوالي العام ( الجنرال بيجو) كان يريد بإرسالهم إلى فرنسا
أن يلقي الفزع في قلوب السكان، واختطفنا في هذه الحملة ما يزيد على ثلاثة
ألاف من رؤوس الغنم، وأشعلنا النار في مايزيد على عشرة من القرى الكبرى،
وقطنا واحرقنا أكثر من عشرة ألاف من أشجار الزيتون التين وغيرها...
ويتحدث الرائد " ويستي " عن إحدى حملاته فيقول:" إن الدواوير التي أحرقت
والمحاصيل الزراعية التي أتلفت، لا تكاد تصدق، فلم يكن يرى من الجانبين من
الطابور سوى النيران."
ويقول " ديفو " في مذكراته - عن قرية بني راشد - :" بعد العشاء كانت جميع
المنازل قد التهبت بالحطب الذي بنيت به، وكانت السنة اللهب تتصاعد، فكم
كانت هذه العملية جريئة من طرف جيوشنا، فرغم الجرائم لا أنسى قساوة حياة
هؤلاء المساكين في فصل الخريف القريب، كم امرأة وطفل هلكوا .
ولم تكن عمليات الإبادة والتخريب قاصرة على المناطق الشمالية بل
امتدت إلى المناطق الجنوبية والى واحات الصحراء، مثل ماحدث في واحة
الزعاطشة سنة 1849.
حيث ها هو العقيد " بان " – pein " يكرر نفس المشهد في مدينة الاغواط سنة
1852، يحدثنا بان بنفسه فيقول: " لقد كانت مذبحة شنيعة حقا، كانت المساكن
والخيام التي في ساحة المدينة والشوارع والأزقة، والميادين، كانت كلها تغص
بالجثث. إن الإحصائيات التي أقيمت بعد الاستيلاء على المدينة وحسب معلومات
استقيناها من مصادر موثوقة، أكدت أن عدد القتلى من النساء والأطفال 2300
قتيل، أما عدد الجرحى فلا يكاد يذكر لسبب بسيط هو أن جنودنا كانوا يهجمون
على المنازل ويقتلون كل من وجدوه بلا شفقة ولا رحمة."
هكذا كانت حملات العدو التوسعية لم تتحلى ولو بقيمة إنسانية واحدة، فهذه
الجرائم المذكورة على أساس الاعتراف الذي صرح به هؤلاء الجنود الذين
ارتكبوا هذه الجرائم، ماهي إلا محولة إبادة شعب برمته عن طريق الرق والقتل
والإبادة الجماعية وغيرها، فقد تفنن الاستعمار الفرنسي في بداية الحملة،
خاصة في مرحلة الحكم العسكري التي دامت من 1830 إلى 1870 والتي سخرت فيها
كل الأساليب القمعية من إبادة وتشريد، وهذا كله من اجل القضاء على فتيل
المقاومة. وقد تعددت جرائم الإبادة في هذه مرحلة ومن أهمها مايلي:
1- إبادة سكان البليدة:(26 نوفمبر 1830)
وقعت هذه الجريمة على اثر الهجوم الذي نظمه المقاومون ضد الحامية الفرنسية
بالمدينة، وبعد انسحاب المقاومون قامت القوات الفرنسية بالانتقام من
السكان العزل، ففي يوم 26 نوفمبر 1830 أقدم الضابط " ترو لير" إلى إصدار
أمر إلى وحداته العسكرية بمحاصرة بلدة البليدة الآمنة وأقدمت على تقتيل
جميع سكانها البالغ عددهم قرابة الألفين مواطن
وفي بضع ساعات تحولت المدينة إلى مقبرة حقيقية وامتزج التراب بالدم حتى
أصبح لون الأرض احمرا لشدة القتل الذي لم يرحم لا طفلا ولا شيخا و لا
عجوزا ولا امرأة .
2-إبادة قبيلة العوفية بوادي الحراش ومصادرة ممتلكاتها:(05 افريل 1832)
وسبب ذلك كونهم اشتبهوا فيها بأنها قامت بسلب مبعوثي " فرحات بن السعيد "
احد عملاء فرنسا بمنطقة الزيبان، بالرغم من أن التحقيق قد أوضح انه ليس
لقبيلة العوفية أي مسؤولية في ذلك ، فقد أقدم الجنرال دوروفيقو" والذي يعف
بسياسة العنصرية اتجاه الجزائريين، بإعطاء أمر بمحاصرة قبيلة العوفية
المتمركزة في المنطقة الجنوبية من وادي الحراش في ليلة 05 افريل 1832،
وبعد إلقاء القبض على شيخها "الربيعية" وإعدامه دون محاكمة ، ثم قتل جميع
أفرادها في مذبحة رهيبة والناس نيام، وعند عودتهم من هذا العمل المخجل كان
الفرسان يحملون القتلى على أسنة رماحهم ...!!، وبيعت كل أرزاقهم لقنصل
الدانمرك، وباقي الغنيمة عرضت في سوق باب عزون، وكان يظهر في هذا المنظر
الفظيع أساور النساء في معاصم مبتورة، وأقراط أذان لاصقة و أشلاء اللحم
متدلية منها ثم وزع ثمن هذا البيع على ذابحي أصحابها، وفي مساء ذلك اليوم
أمرت السلطات السكان بإضاءة محلاتهم احتفالا بذلك
فلهول هذه المجزرة ولعنة أرواحها التي زهقت باطلا، ظلت تراود الدوق روفيقو
في نومه ويقضته حتى أصيب بهستيريا رهيبة، فقد على إثرها عقله وجن
3- إبادة قبيلة بني صبيح :
يعترف الجنرال كافينياك بجريمته في إبادة قبيلة بني صبيح عام 1844 قائلا:
" لقد تولى الأجناد -(أصل الكلمة "الجنود" لكنها وردت هكذا فنقلناها كما
وردت)- جمع كميات كبيرة من الحطب، ثم كدسوها عند مدخل المغارة التي حملنا
قبيلة بني صبيح على اللجوء إليها بكل ما تملك من متاع وحيوانات وفي المساء
اضرمت النار وأخذت جميع الاحتياطات حتى لا يتمكن أيا كان من الخروج حيا.
أما الناجون من فرن كافينياك الذين كانوا خارج أراضي القبيلة، فقد تولى
العقيد كانروبار" جمعهم بعد حوالي عام من حرق أهاليهم، ثم قلدهم إلى
المغارة ثانية وأمر ببناء جميع مخارجها ليجعل منها على حد تعبيره:" مقبرة
واسعة لإيواء أولئك المتزمتين . ولم ينزل احد تلك المغارة، ولا يعرف احد
غيري أنها تضم تحت ركامها خمسمائة من الأشرار الذين لن يقوموا بعد ذلك
بذبح الفرنسيين" وفي تعليقه على هذه
الجريمة قال السيد برار " لقد ظلت تلك المغارة مغلقة وبداخلها جثث رجال ونساء وأطفال وقطعان تتآكل أو يأكلها التراب" ( )
4- إبادة قبيلة أولاد رياح بجبال الظهرة:
مهندس هذه الجريمة التي تضرب لنا مثالا أخر عن جرائم الإبادة المنظمة
التامة الأركان، من الركن المادي إلى المعنوي وحتى الشرعي الدولي من خلال
المقاصد الضرورية في أركان الجريمة ضد الإنسانية، هو القائد بيليسيه –
builissyh – وخلاصتها أن معركة كبيرة وقعت خلال جانفي 1845 بناحية الظهرة
تعرف عند الفرنسيين بانتفاضة الطرق الصوفية، شاركت فيها على الخصوص
القادرية والرحمانية والدرقاوية والطيبية وفروعها، وكانت قبيلة أولاد رياح
التي شاركت في الانتفاضة تقطن جنوب تنس فغزاها بيليسيه( )، بحجة المشاركة
في انتفاضة الصوفية.
وأمام عمليات الحرق العشوائي فر ماتبقى من السكان إلى الجبال واحتموا بغار
يطلق عليه اسم غار الفراشيش ، وعددها أكثر من 1000 شخص رجالا ونساءا
وأطفالا وشيوخا مع حيواناتهم، فحاصرهم بيليسيه وجنوده بالغار من جميع
الجهات وطالب القبيلة بالاستسلام فردت عليه بإطلاق النار، فأعطى الأوامر
لجنوده بتكديس الحطب أمام مدخل المغارة، وإشعاله فهلك كل أفراد القبيلة
المقدرين كما ذكرنا بحوالي 1000 شخص ( )
وتوالت هذه العملية يومين كاملين 17 و 18 جوان، وقبل طلوع نهار اليوم
الثاني بنحو ساعة وقع انفجار كبير داخل المغارة فقضى على من تبقى على قيد
الحياة ( )
ونظرا لكون السلطات الفرنسية أعجبت بهذا العمل قامت بمكافأة الجنرال بيجو
الحاكم العام حيث منحت له "عصا المارشالية " أو ما يسمى بقاهر الجزائريين
وهذا دليل على أن فرنسا دولة قانون بالفعل!
5- إبادة واحة الزعاطشة:( 26 نوفمبر 1849)
بدافع الانتقام من الانتصارات التي حققتها مقاومة الشيخ بوزيان ببسكرة،
أرسلت السلطات الفرنسية " والعقيد " كاريوكسي ". hiripion جيشا قوامه 19
ألف جندي بقيادة الجنرال هيربيون "
فحاصروا كل المحيط الخاص بالقبيلة واستخدمت المدفعية لضرب الواحة
وتدميرها، وكلل هذا القصف بدخول الفرنسيين إلى الواحة في 26 نوفمبر 1849(
).
وبدءوا في تنفيذ أحكام الإعدام في حق أكثر من 1500 شخص من الواحة على
رأسها الشيخ بوزيان وتعليق رأسه على مقصلة أمر بنصبها على باب معسكره،
رفقة رأس ابنه ورأس الحاج موسى الدرقاوي نكاية وعبرة للثائرين ( )، وقام
بحرق أشجار النخيل وانعكس ذلك سلبا على السكان حيث انتشرت المجاعات والفقر
بين السكان الناجين من هول المجزرة
هذه النماذج المقدمة هي مجرد عينة من أنواع القهر والعذاب الذي ذاقه الشعب
الجزائري على ايدي الاستعمار، فجرائم الإبادة التي رسمتها أنامل الجنود لم
تتوقف عند هذا الحد بداية من سنوات الخمسينات من القرن التاسع عشر اقترف
سفاحون آخرون يشيب لهوله الولدان، أمثال ديمونتنياك الذي اشتهر كقاطع
للرؤوس، يسجل في كتابه رسائل جندي : " أننا رابطنا في وسط البلاد وهمنا
الوحيد الإحراق والقتل والتدمير والتخريب حتى تركنا البلاد قاعا صفصفا، إن
بعض القبائل لازالت تقاومنا لكننا نطاردها من كل جانب حتى تصبح النساء
والأطفال بين سبي وذبيح والغنائم بين سلب ونهب . ( )
وفي رسالة بعث بها إلى احد أصدقائه قائلا :" لا يمكن تصور الرعب الذي
يستولي على العرب حيث يرون قطع رأس ب مسيحية، فاني أدركت ذلك منذ زمن بعيد
واقسم لك بأنه لا يفلت احد من أظفاري حتى ينال من بز رأسه مايناله... وقد
أنذرت بنفسي جميع الجنود الذين أتشرف بقيادتهم أنهم لو أتوا بعربي حي
لأنهلت عليهم ضربا بعرض نصل سيفي. وأما قطع الرؤوس فهي تكون على مرأى
ومسمع جميع الناس( )
ويضيف هذا السفاح قائلا:"ينبغي أن نقتل كل الرجال والأطفال وان نضعهم في
السفن ونبعث بهم إلى جزر المركيز أو غيرها،وبكلمة مختصرة، ينبغي أن نقضي
على كل من لايركع أمامنا كالكلب "( )
وديمونتنياك هذا هو القائل في إحدى رسائله: " قد اقطع الرؤوس لطرد الخواطر المحزنة التي تساورني احيانا ...!!!"( )
هذه الظواهر اللاانسانية ميزة تميز بها معظم جنرالات دولة القانون، فرنسا
فلا يكاد الجنرال" سانت أرنو " يشذ عن هذه الظاهرة حيث يقول: " ان ناحية
بني مناصر بديعة وهي من اغنى نواحي افريقيا،
ترى فيها القرى والمساكن متقاربة بعضها لبعض، احرقنا كل شيء فيها وحطمنا
كل شيء. الحرب وما أدراك ما الحرب!، ما أكثر عدد النساء والأطفال الذين
اعتصموا بثلوج الأطلس فماتوا فيها بردا وجوعا"
" إننا نحطم ونحرق، ونخرب الديار والأشجار أما المعارك فإنها لاتوجد أو قلما توجد"
وعن حملته التي قادها على منطقة القبائل 1851 يقول سانت أرنو: " تركت
ورائي حريقا هائلا، أحرقت نحو مائتين من القرى، أتلفت جميع البساتين وقطعت
جميع أشجار الزيتون "( )
إن فضاعة القوات الفرنسية اتجاه تعاملهم نحو السفك والقتل فقط، أثارت كذلك
بعض السياسيين في فرنسا، وعلى شاكلة هذا الأمر فقد تم إيفاد لجنة في
التحقيق تدعى في الكتابات بـ :" اللجنة الإفريقية" التي أرسلها الملك لويس
فيليب في أواخر 1833 والتي تعتبر إدانة صارخة للاحتلال الفرنسي، وفي مايلي
ماجاء في التقرير الذي اعدته اللجنة: " لقد استحوذنا على أوقاف المؤسسات
الدينية.... بل ذهبنا إلى أكثر من ذلك الاعتداء على حرمات المساجد
والمقابر، ( ) والمنازل والأماكن المقدسة عند المسلمين.وتضيف" لقد أصبحنا
أكثر وحشية من السكان الذين جئنا لتمدينهم..."( ) ( انظر الملحق الخاص
بالنص الكامل للجنة الإفريقية والملحق الخاص بأسماء المساجد التي حولت)
وعليه فان كل ماسمعناه وقراناه عن جرائم الاستعمار الفرنسي في هذه الفترة
– أي القرن التاسع عشر- لا تزال مجرد قطرات من بحر الدماء الذي اغرق فيه
الجزائريون بلا رحمة ولا شفقة، هذه الجرائم الابادية لم تتوقف عند هذا
الحد، وفي هذا القرن بل أخذت مناحي أخرى وأشكالا أكثر جهنمية في القرن
العشرين
2- نماذج عن جرائم الابادة في القرن العشرين:ق20)
قبل إن نتطرق إلى أهم الأعمال الإجرامية للاستعمار الفرنسي دعنا نلقي
نظرة عن واقع الجزائريين في هذا القرن نتيجة ما فرض عليهم من سياسات هدفت
إلى القضاء على البنية الاجتماعية للمجتمع الجزائري وتحضيره للإبادة
بالنار ومن أهم هذه السياسات نذكر مايلي:
أ – إقحام الجزائريين في الحبين العالميتين (1914 و 1939)
فبعد
فرض قانون التجنيد الإجباري على الجزائريين سنة 1912،( ) هذا القانون
الجائر والذي تكمن صبغته الإجرامية في كون أن الحكومة الفرنسية لم تعترف
بالجزائريين كمواطنين فرنسيين، حتى
تطبق هذا القانون الإجرامي العقابي التي تلجا إليه الدول في الحروب وهو ما
يتعارض مع اتفاقية لاهاي 1907 التي تمنع تجنيد سكان المستعمرات للأغراض
العسكرية والأعمال الشاقة( ) ، عملت كذلك الإدارة الفرنسية على فرض سياسة
التجويع والتجهيل.
ب- فرض سياسة التجويع والتجهيل :
تفشت ظاهرة الجوع والفقر في أوساط الجزائريين وذلك كنتيجة حتمية لعمليات
المصادرة الواسعة للأراضي الزراعية وبالرغم من أن الحكومة الفرنسية حاولت
تقنين عملية توزيع المواد الغذائية على السكان، إلا أن ذلك لم يكن سوى ذر
الرماد في الأعين.
فقد جاء في تقرير احد الأطباء الفرنسيين أثناء زيارته للجزائر في 1945
والذي يدعى " جورج توماس " حيث قال: " كنت في الجزائر سنة1945 وقت
المجاعة..، عندما كان الآلاف يموتون جوعا ... كما شاهدت القمع ورأيت 200
شخص يموتون من داء الملا ريا في غرداية.
وعن تجهيل الجزائريين فقد عملت الآلة الاستدمارية على محاربة كل أنواع
التعليم وقد نجحت في هذه السياسة إلى حد بعيد في القرن العشرين، حيث كانت
ترمي هذه السياسة إلى أن يصبح الشعب الجزائري كله لا يعرف القراءة
والكتابة .( )
وهو مادلت عليه الإحصائيات، ففي سنة 1944 بلغ عدد الأطفال الجزائريين في
سن الدراسة بـ:1250000، ولم تتح الفرصة إلا لـ: 11000 طفل، وقد بلغ عدد
المسجلين في المدارس من الجزائريين سنة 1945 من التعليم الابتدائي حتى
العالي بما فيهم الحضانة 85201( )
بينما بلغ عدد الأوربيين المتمدرسين في الجزائر لنفس السنة 241000 .( )
على الرغم من الفارق الكبير بين عدد المعمرين، الذين لم يتجاوزوا 700000
نسمة وعدد الجزائريين يزيد عن 08 ملايين
نسمة، وجل المتعلمين مبعدون عن كل ماهو تقني حتى تبقى الجزائر تابعة دائما
للاستعمار ( ) وكان هدف التعليم الأول والأخير هو غرس فكرة الجزائر فرنسية
في أذهان الجزائريين، وذلك من خلال دروس الجغرافيا والتاريخ الرامية إلى
دمج الجزائر ككتلة متوسطية تابعة للتراب الفرنسي جغرافيا وتاريخيا.
ولعل من أهم الانتهاكات التي اقترفها الجيش الفرنسي في هذه المرحلة خاصة
مع ما تزامن من وعي سياسي تمثل في نضوج الحركة الوطنية، هذا الوعي جعل
الإدارة الفرنسية تترصد زعمائه، من السجن تارة إلى التضييق تارة أخرى،
ولما كان العالم يشهد تطورات سياسية لها دلالات واسعة ليس على القارة
الأوربية فقط، بل ينعكس على المناطق الأخرى خاصة القارة الإفريقية،
فانتهاء الحرب العالمية الثانية وان كان إنذار سلام على الأوربيين، فانه
كان إنذار شؤم على الجزائريين الذين تحولت فرحتهم إلى مأساة حقيقية
تناقلتها الألسن والكتابات إلى اليوم، هذه المأساة تمثلت في مجزرة الثامن
ماي 1945
1-مجزرة الثامن ماي 1945 :
اغتنم زعماء الحركة الوطنية فرصة الاحتفال بالعيد العالمي للشغل 01 ماي
1945، وكذلك الاحتفال بالهدنة من نفس الشهر نتيجة انتهاء الحرب العالمية
الثانية، فنظموا مظاهرات سلمية تندد بالقمع الاستعماري، ( ) وتؤكد للعالم
مشروعية الطموحات الوطنية للشعب الجزائري وتفند مقولة السياسة "الجزائر
فرنسية " فقد أعلن رجالات الحركة الوطنية تطليق الامبريالية وتحقيق
الاستقلال( )
فإذا كان مناضلي حزب الشعب قد استطاعوا احتواء إعداد الجماهير في الجزائر
العاصمة، فان الوضع بسطيف وما جاورها لم يتوقف عند هذا الحد، حيث لم يستطع
المشرفون احتواء غضب الجماهير فانفرط عقد المسيرة وانتشر أفرادها عبر
شوارع المدينة واشتبكوا مع القوات الاستعماري ومع اللفيف الأوربي، ( )
وبالرغم من كون المسيرة كانت سلمية إلا أنها أخذت ضحايا في اليوم الأول
تراوحت أعدادهم مابين 29 أو 27 قتيلا، ولكن بعدها انتشر القمع وراح سكان
سطيف يهاجمون المراكز
الكولونيالية، نتيجة للتصعيد في الإجراءات القمعية، فقد طبقت القوات
الفرنسية في حملتها القمعية إستراتيجية العمليات الكاسحة،( ) فتم استخدام
الطائرات المقنبلة بأمر من السلطات السياسية الفرنسية " وزير الخارجية
تيكسيه " ووزير الطــيران " تيون " teyon ، الشيوعي لتدمير المد اشر
والقرى وأقدمت
الوحدات البرية المشكلة من اللفيف الأجنبي والدرك والشرطة والمعمرين، إلى
استباحة قتل كل جزائري يصادفونه أماهم وتدمير وحرق كل بيت مازال واقفا لم
يسقط تحت نيران الطيران( )
ومهما كانت الأعذار التي تبرأت بها السلطات الفرنسية فان كل الشهادات
الفرنسية والأجنبية والجزائريين تؤكد على أن القمع الذي مورس على
الجزائريين كان لامبرر له، وانه كان كان مبالغ فيه، وأكدوا أن السلطات
الفرنسية كان بإمكانها إنهاء القمع بانتهاء المظاهرات في نفس اليوم، كما
يقع في كثير من المناسبات الشبيهة، ( ) وكان بإمكانها اجتناب أعمال القمع
والتقتيل والإعدام دون محاكمة، فقد كتب عن هذا شارل أندري جوليان مايلي: "
توجد وسائل قمع أخرى تمت ممارستها على الشعب الجزائري، فقد القي ببعضهم
داخل الأفران في هيليوبوليس (بالقرب من قالمة) وكان اشياري وهو نائب عامل
العمالة
قد أطلق شخصيا النار على المتظاهرين " وباعتراف من السيد كيطولي، الناطق باسم المعمرين ورئيس بلدية سكيكدة.( )
فالقتل والتدمير والإعدام الجماعي وقنبلة القرى والمد اشر والأرياف
بالإضافة إلى الاعتقالات وحملات النفي التي استمرت لمدة أسبوع، تبين
النوايا الإجرامية مع سبق الإصرار والترصد للسلطات الفرنسية بالتخطيط
المسبق لارتكاب المجزرة،( ) ومن أهم المصادر التي أكدت ذلك صحيفة" ستارز-
اندرستربيرز" لسان حال الجيش الأمريكي في 28 ماي 1945 حيث ورد فيها مايلي:
" ... إن قاذفات القنابل الفرنسية قد حطمت قرى آهلة بالسكان بأكملها ...
لقد طار الطيارون الفرنسيون حوالي ثلاثمائة مرة في اليوم الواحد مستعملين
القاذفات الأمريكية الثقيلة والمتوسطة، حتى سويت القرى بعدد من القرى ...
والدواوير... أثناء حملة دامت تسعة أيام( )
وتدل الحصيلة النهائية لعدد القتلى الجزائريين مدى عظمة
الحقد الاستعماري اتجاه الشعب الجزائري ومدى الرغبة في إنهاء وجوده، وان
اختلفت الإحصائيات فالتقديرات الجزائرية تشير إلى أن عدد الضحايا بلغت
مابين 45 ألف إلى 100 ألف شهيد،( ) بالإضافة إلى ألاف الجرحى.
بينما التقديرات الأجنبية المقربة من فرنسا ومنها الأمريكية تقدرها بين 07
ألاف و 18 ألف ضحية وأكدت على انه أمام الاستخدام الواسع للطائرات
المقنبلة والإعدام الجماعي ساهم في ارتفاع عدد القتلـى
غير المبلغ عنهم كما أكدت صحيفة "نيويورك تايمز". وجاء في البرقية الصادرة
عن كتابة الدولة الأمريكية للخارجية بمقر السفارة مايلي: " بخصوص الوضع في
الجزائر الناتج عن انتفاضة الأهالي يوم 08 ماي والإجراءات الردعية
والقمعية التي اتخذتها السلطات الفرنسية بعد ذلك ... وفي هذا الإطار يمكنك
أن تشير إلى أننا أخذنا علنا بالكلمة التي أذاعها "تيكسيه" في 29 يونيو
بعد التحقيق في الانتفاضة والتي قال فيها بان عدد المسلمين الذين قتلوا لا
يتجاوز عددهم 1500 نسمة. إن معظم المصادر المعتمدة تقدر بان عدد القتلى
أعلى من ذلك بكثير، ولكن حتى لو سلمنا بإحصاء " تيكسيه "، فانه يدل على
تجاوز الحد في الإجراءات القمعية( )
حتى المصادر الفرنسية تذهب إلى أن العدد الحقيقي يتجاوز ما أكدته السلطات
الفرنسية برئاسة الوزير " تيكسيه " بأربع أو خمس مرات والتي تقدرها بـ:
1500 ضحية،( ) ولم تتوقف السلطات الفرنسية بارتكاب هذه المجزرة بل لجأت
إلى اعتقال مايقارب 2400 جزائري والحكم على 49 و 64 بالمؤبد والأعمال
الشاقة،و 329 بالأعمال الشاقة المؤقتة،( ) إلى جانب حل الأحزاب السياسية
واعتقال الزعماء السياسيين.
وعليه فانه ورغم كل التضحيات التي قدمها الجزائريون إلى فرنسا في الحرب
العالمية الثانية، إلا أن قادة الاحتلال الفرنسي أبوا إلا أن يتركوا
بصمتهم في يوم احتفل به العالم ضد النازية والاحتلال، ويتركوا خلف وحشيتهم
45 ألف شهيد، وكان مفهوم السلام والأمن العالميين يمس شعوب أوربا دون
سواهم.
أعمال القمع والإجرام زادت حدتها عندما انطلقت شرارة المقاومة والثورة
التحريرية في 01 نوفمبر 1954 بهدف قمع الثوار وإخماد نار الثورة، ومنها
عرفت هذه الفترة من تاريخ الجزائر أحداثا ومجازر لا تختلف عن سابقاتها إلا
من حيث المكان والزمان.