قال الله تعالى حكاية عن يعقوب صلوات الله وسلامه عليه : { يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ } (1) الآية، فلما أفشى يوسف عليه السلام رؤياه بمشهد بما أمره يعقوب ، أخبرت إخوته فحل به ما حل. ومن شواهد الكتاب العزيز في السر قوله تعالى: { فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهَ مَا أَوْحَى } (2) ، وقوله تعالى: { وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينً } ( 3)، أي بمتَّهم ، وفي الحديث : « استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان. فإن كل ذي نعمة محسود» . وقال علي رضي الله عنه وكرم وجهه: سِرُّكَ أسيرك فإذا تكلمت به صرت أسيره.
واعلم أن أمناء الأسرار، أقل وجودًا من أمناء الأحوال، وحفظ الأموال أيسر من كتمان الأسرار ؛ لأن إحراز الأموال منيعة بالأبواب و الأقفال، و إحراز الأسرار بارزة يذيعها لسان ناطق ، ويشيعها كلام سابق، وحمل الأسرار أثقل من حمل الأموال فإن الرجل يستقل بالحمل الثقيل فيحمله ويمشي به ، ولا يستطيع كتم السر، وإن الرجل يكون سره في قلبه فيلحقه من القلق والكرب ما لا يلحقه من حمل الأثقال، فإذا أذاعه استراح قلبه ، وسكن خاطره ، وكأنما ألقى عن نفسه حملاً ثقيلاً.
وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: القلوب أوعية، والشفاه أقفالها، والألسن مفاتيحها
، فليحفظ كل إنسان مفتاح سره . ومن عجائب الأمور: أن الأموال كلما كثرت خزائنها كان أوثق لها
، و أما الأسرار؛ فإنها كلما كثرت خزائنها كان أضيع لها ، وكم من إظهار سر أراق دم صاحبه ومنعه من بلوغ مآربه ، ولو كتمه أَمِنَ من سطوته.
وقال أنو شروان: من حصّن سرّه فله بتحصُّينه خصلتان : الظفر بحاجته والسلامة من السطوات، وقيل: كلما كثرت خزان الأسرار زادت ضياعًا . وقيل: انفرِدْ بسرك لا تودَعْهُ حازمًا فيزل ، ولا جاهلاً فيخون. وقال كعب بن سعد الغنوي:]
ولستُ بمبدٍ للرجال سريرتِي(4) ... ولا أنا عن أسرارِهم بسؤولُ
وقال أبو مسلم صاحب الدولة:
أدركتُ بالحزمِ والكتمان ما عجزَتْ ... عنه ملوكُ بني مروانَ إذ جهدُوا
مـا زلــت أســعى عليم في ديـــارهم ... والقوم في غفلةٍ بالشام قد رَقَدُوا
حــتى ضرَبْتَهم بالســيــفِ فانتبــهوا ... من نــومــةٍ لــم ينمها قبلـهم أحدُ
ومَنْ رَعَـا غنـمًـا في أرضِ مسبعَةٍ(5) ... ونامَ عنها تولّى رعــيــها الأســدُ
مـا زلــت أســعى عليم في ديـــارهم ... والقوم في غفلةٍ بالشام قد رَقَدُوا
حــتى ضرَبْتَهم بالســيــفِ فانتبــهوا ... من نــومــةٍ لــم ينمها قبلـهم أحدُ
ومَنْ رَعَـا غنـمًـا في أرضِ مسبعَةٍ(5) ... ونامَ عنها تولّى رعــيــها الأســدُ
وأسرّ رجل إلى صديقه حديثاً، ثم قال له: أفهمتَ؟ قال: بل جهلتُ. ثم قال له: أحفظتَ؟ قال: بل نسيتُ. وقيل لبعضهم: كيف كتمانك للسر؟ قال: أجحد المخبر، وأحلف للمستخبر. وقال المهلب: أدنى أخلاق الشريف كتمان السر، وأعلى أخلاقه نسيان ما أسر إليه.
و من أحسن ما قيل في كتمان السر:
و لها سرائرُ في الضمير طوَيْتَهَا ... نسى الضميرُ بأنها في طيَّهِ
وقد أجازه الشيخ شمس الدين البديري (6) فقال:
إني كتمـت حـــديثَ ليلى لــم أبْحْ ... يـومًا بظــاهــرهِ ولا بخفيِّهِ
وحفظتُ عهدَ ودادِها متـــمسكــا ... في حبِّها بــرشـادِهِ أو غيِّهِ
ولها سرائرُ في الضمير طوَيْتُهَا ... نسي الضمير بأنها في طيِّهِ
وقيل: كتمان الأسرار يدل على جواهر الرجال ، وكما أنه لا خير في آنية لا تمسك ما فيها
، فكذلك لا خير في إنسان لا يمسك سره . قال الشاعر:
ومستودعي سرًّا كــتــمــتُ مــكانـَه ... عن الحسِّ خوفاً أن يَنَمَّ به الحسُّ
وخفتُ عنه من هوى النفسِ شهوةَ ... فأودَعْتُهُ من حيـث لا تبلغ النفس
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : ما أفشيت سري إلى أحد قط فأفشاه ، فلمته إذ كان صدري به أضيق.
من كتاب " المستطرف في كل فن مستظرف " للكاتب شهاب الدين محمد الأبهيشي . تحقيق الدكتور مصطفى محمد الذهبي .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- سورة يوسف: 5.
](2)- سورة النجم: 10.
(3)- سورة التكوير: 24.
(4)- سريرتي: ما أخفي.
(5)- مسبعةً: تكثر فيها السباع.
(6)- ورد في نسخ : البدوي.
(5)- مسبعةً: تكثر فيها السباع.
(6)- ورد في نسخ : البدوي.