قال الثوري رحمه الله تعالى: لم يفقه عندنا من لم يعدَّ البلاء نعمة، و الرخاء مصيبة. و قيل: الهموم التي تعرض للقلوب كفارات للذنوب. و سمع حكيم رجلاً يقول لآخر: لا أراك الله مكروهًا. فقال: كأنك دعوت عليه بالموت ، فإن صاحب الدنيا لا بدّ له أن يرى مكروهًا. و تقول العرب: ويلٌ أهونُ من ويْلَيْن. و قال ابن عيينة: الدنيا كلها غمومٌ فما كان فيها من سرور فهو ربحٌ.
و قال العتبي: إذا تناهى الغمُّ انقطع الدمع بدليل أنك لا ترى مضروبًا بالسياط و لا مقدمًا لضرب العنق يبكي. و قيل: تزوّج مغنّ بنائحة فسمعها تقول: اللَّهُمَّ أوْسِعْ لنا في الرزق، فقال لها: يا هذه، إنما الدنيا فرحٌ و حزنٌ و قد أخذنا بطرفي ذلك، فإن كان فرحٌ دعَوْني، و إن كان حزنٌ دعوك.
و قال وهب بن منبه: إذا سلك بك طريق البلاء سلك بك طريق الأنبياء.
و قال مطرف: ما نزل بي مكروه قط فاستعظمته إلا ذكرت ذنوبي فاستصغرته.
عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه يرفعه: « يودُّ أهلُ العافية يوم القيامة أنَّ لحومهم كانت تقرضُ بالمقاريض؛ لما يَرَوْنَ من ثواب الله تعالى لأهل البلاء » (1) .
و روى أبو عتبة عن النبيّ صلى الله عليه و سلم قال: « إذا أحبّ الله عبدًا ابتلاه، فإذا أحبه الحُبَّ البالغ اقتناه ». قالوا : و ما اقتناه ؟ قال : « لا يترك له مالاً و لا ولدًا ».
و مرَّ موسى عليه الصلاة و السلام برجل كان يعرفه مطيعًا لله عزَّ و جلَّ قد مزقت السباع لحمه، و أضلاعه، و كبده ملقاة على الأرض، فوقف متعجبًا فقال: أي ربي عبدك ابتليته بما أرى ! فأوحى الله تعالى إليه إنه سألني درجة لم يبلغها بعمله فأحببت أن ابتليه لأبلغه تلك الدرجة.
و كان عروة بن الزبير صبورًا حين ابتلى، حكي أنه خرج إلى الوليد بن يزيد فوطئ عظمًا فأصابته، فما بلغ إلى دمشق حتى بلغ به كل مذهب، فجمع له الوليد الأطباء، فأجمع رأيهم على قطع رجله . فقالوا له: اشرب مرقدًا (2) .
فقال: ما أحِبُ أن أغفل عن ذكر الله تعالى، فأحمي له المنشار و قطعت رجله. فقال: ضعوها بين يدي و لم يتوجَّعْ. ثم قال: لئن كنتُ ابتليتُ في عضوٍ فقد عُوفيتُ في أعضاء. فبينما هو كذلك إذا أتاه خبر ولده أنه اطلع من سطح على دواب الوليد فسقط بينها فمات. فقال: الحمد لله على كل حال، لئن أخذت واحدًا لقد أبقيت جماعة.
و قدم على الوليد وفد عبس فيهم شيخ ضرير، فسأله عن حاله و سبب ذهاب بصره. فقال: خرجت مع رفقة مسافرين و معي مالي، و عيالي، و لا أعلم عبسيًا يزيد ماله على مالي، فعرسنا في بطن وادٍ فَطَرَقَنَا سيلٌ فذهب ما كان من أهل، و مال، و ولد، غير صبي صغير، و بعير. فشرد البعير فوضعتُ الصغير على الأرض و مضيت لأخذ البعير فسمعت صيحة الصغير فرجعت إليه فإذا رأس الذئب في بطنه و هو يأكل فيه فرجعت إلى البعير فحطم وجهي برجليه فذهبت عيناي فأصبحت بلا عينين و لا ولد و لا مال و لا أهل. فقال الوليد: اذهبوا به إلى عروة ليعلم أن في الدنيا مَنْ هو أعظم مصيبة منه. و قيل : الحوادث الممضة (3) مكبسة لحظوظ جليلة ، إما ثواب مدخر، أو تطهير من الذنب ، أو تنبيه من الغفلة ، أو تعريف لقدر النعمة.
من كتاب " المستطرف في كل فن مستظرف " للكاتب شهاب الدين محمد الأبهيشي . تحقيق الدكتور مصطفى محمد الذهبي .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- أخرجه : الترمذي في الزهد 2402.
(2)- مرقدًا: منومًا.
(3)- الممضة: الموجعة.