بسم الله الرحمن الرحيم
( رواية ذاكرة الجسد )
رواية رائعه
للكاتبة : أحلام مستغانمي
و البطلة امل بوشوشة
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]صدرت
رواية ذاكرة الجسد سنة 1993 في بيروت. بلغت طبعاتها حتى فبراير 2004, 19
طبعة. بيع منها حتى الآن 130000 نسخة (عدا النسخ المقرصنة في عدة دول
عربية مثل الاردن – فلسطين- سوريا- مصر – لبنان). اعتبرها النقّاد أهم عمل
روائي صدر في العالم العربي خلال العشر سنوات الأخيرة وبسبب نجاحاتها
أثيرت حولها الزوابع مما جعلها الرواية الأشهر والأكثر إثارة للجدل. ظلّت
لعدة سنوات الرواية الاكثر مبيعاً حسب إحصائيات معارض الكتاب العربية
(معرض بيروت – عمّان- سوريا- تونس- الشارقة). حصلت على جائزة "نجيب محفوظ"
للرواية سنة 1997. وهي جائزة تمنحها الجامعة الأميركية بالقاهرة لأهم عمل
روائي بالّلغة العربية. جائزة "نور" عن مؤسسة نور للإبداع النسائي القاهرة
1996. جائزة "جورج طربيه للثقافة والابداع " سنة 1999 لأهم إنتاج إبداعي
(بيروت). صدرت عن الرواية ما لا يحصى من الدراسات والأطروحات الجامعيّة
عبر العالم العربي في جامعات الأردن, سوريا, الجزائر, تونس, المغرب
مرسيليا, البحرين. اعتمدت للتدريس في عدة جامعات في العالم العربي وأوروبا
منها: جامعة السوبورن.. جامعة ليون و(إيكس ان بروفنس) و(مون بوليه)
الجامعة الأمريكية في بيروت.. جامعة اليسوعية.. كلّيّة الترجمة.. الجامعة
العربية بيروت.. كما اعتدمت في البرنامج الدراسي لعدة ثانويات ومعاهد
لبنانية. كانت نصوصها ضمن مواد إمتحانات الباكلوريا في لبنان لسنة
2003. إشترت شركة أفلام مصر العالمية سنة 1998 حقوق الرواية لإنتاجها
سينمائياً.. لكن بطلب من المؤلفة ألغي العقد سنة 2001. أبدى الممثل العربي
القدير نور الشريف أكثر من مرّة أمنيته في نقل هذا العمل الى السينما في
فيلم ضخم, وعد بإيصاله الى مهرجان "كان" العالمي. كما تداولت الصحافة
العربية لعدة سنوات أسماء ممثلات رشحّن لأداء الدور النسائي في هذا
الفيلم. ترجمت الى عدّة لغات عالمية منها: - الانكليزية. صدرت الطبعة
الثانية سنة 2003. الفرنسية سنة 2003 عن دار Albin Michel تصدر الطبعة
الثانية هذا العام في سلسلة كتاب الجيب. الايطالية.. الصينية.. الكرديّة[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
هيا لنبدأ ....
بأسم الله ....
الفصل الأول
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]الفصل الأول
( رواية ذاكرة الجسد )
رواية رائعه
للكاتبة : أحلام مستغانمي
و البطلة امل بوشوشة
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]صدرت
رواية ذاكرة الجسد سنة 1993 في بيروت. بلغت طبعاتها حتى فبراير 2004, 19
طبعة. بيع منها حتى الآن 130000 نسخة (عدا النسخ المقرصنة في عدة دول
عربية مثل الاردن – فلسطين- سوريا- مصر – لبنان). اعتبرها النقّاد أهم عمل
روائي صدر في العالم العربي خلال العشر سنوات الأخيرة وبسبب نجاحاتها
أثيرت حولها الزوابع مما جعلها الرواية الأشهر والأكثر إثارة للجدل. ظلّت
لعدة سنوات الرواية الاكثر مبيعاً حسب إحصائيات معارض الكتاب العربية
(معرض بيروت – عمّان- سوريا- تونس- الشارقة). حصلت على جائزة "نجيب محفوظ"
للرواية سنة 1997. وهي جائزة تمنحها الجامعة الأميركية بالقاهرة لأهم عمل
روائي بالّلغة العربية. جائزة "نور" عن مؤسسة نور للإبداع النسائي القاهرة
1996. جائزة "جورج طربيه للثقافة والابداع " سنة 1999 لأهم إنتاج إبداعي
(بيروت). صدرت عن الرواية ما لا يحصى من الدراسات والأطروحات الجامعيّة
عبر العالم العربي في جامعات الأردن, سوريا, الجزائر, تونس, المغرب
مرسيليا, البحرين. اعتمدت للتدريس في عدة جامعات في العالم العربي وأوروبا
منها: جامعة السوبورن.. جامعة ليون و(إيكس ان بروفنس) و(مون بوليه)
الجامعة الأمريكية في بيروت.. جامعة اليسوعية.. كلّيّة الترجمة.. الجامعة
العربية بيروت.. كما اعتدمت في البرنامج الدراسي لعدة ثانويات ومعاهد
لبنانية. كانت نصوصها ضمن مواد إمتحانات الباكلوريا في لبنان لسنة
2003. إشترت شركة أفلام مصر العالمية سنة 1998 حقوق الرواية لإنتاجها
سينمائياً.. لكن بطلب من المؤلفة ألغي العقد سنة 2001. أبدى الممثل العربي
القدير نور الشريف أكثر من مرّة أمنيته في نقل هذا العمل الى السينما في
فيلم ضخم, وعد بإيصاله الى مهرجان "كان" العالمي. كما تداولت الصحافة
العربية لعدة سنوات أسماء ممثلات رشحّن لأداء الدور النسائي في هذا
الفيلم. ترجمت الى عدّة لغات عالمية منها: - الانكليزية. صدرت الطبعة
الثانية سنة 2003. الفرنسية سنة 2003 عن دار Albin Michel تصدر الطبعة
الثانية هذا العام في سلسلة كتاب الجيب. الايطالية.. الصينية.. الكرديّة[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
هيا لنبدأ ....
بأسم الله ....
الفصل الأول
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]الفصل الأول
ما زلت أذكر قولك ذات يوم :
"الحب هو ما حدث بيننا. والأدب هو كل ما لم يحدث".
يمكنني اليوم, بعد ما انتهى كل شيء أن أقول :
هنيئا للأدب على فجيعتنا إذن فما اكبر مساحة ما لم يحدث . إنها تصلح اليوم لأكثر من كتاب .
وهنيئا للحب أيضا ...
فما أجمل الذي حدث بيننا ... ما أجمل الذي لم يحدث... ما أجمل الذي لن يحدث .
قبل اليوم, كنت اعتقد أننا لا يمكن أن نكتب عن حياتنا إلا عندما نشفى منها .
عندما يمكن أن نلمس جراحنا القديمة بقلم , دون أن نتألم مرة أخرى .
عندما نقدر على النظر خلفنا دون حنين, دون جنون, ودون حقد أيضا .
أيمكن هذا حقاً ؟
نحن لا نشفى من ذاكرتنا .
ولهذا نحن نكتب, ولهذا نحن نرسم, ولهذا يموت بعضنا أيضا .
- أتريد قهوه ؟
يأتي صوت عتيقة غائبا, وكأنه يطرح السؤال على شخص غيري .
معتذرا دون اعتذار, على وجه للحزن لم أخلعه منذ أيام .
يخذلني صوتي فجأة ...
أجيب بإشارة من رأسي فقط .
فتنسحب لتعود بعد لحظات, بصينية قهوة نحاسيه كبيرة عليها إبريق، وفناجين, وسكريه, ومرشّ لماء الزهر, وصحن للحلويات .
في مدن أخرى تقدم القهوة جاهزة في فنجان, وضعت جواره مسبقاً معلقه وقطعة سكر .
ولكن قسنطينة مدينه تكره الإيجاز في كل شيء .
إنها تفرد ما عندها دائما .تماما كما تلبس كل ما تملك. وتقول كل ما تعرف .
ولهذا كان حتى الحزن وليمه في هذه المدينة .
أجمع الأوراق المبعثرة أمامي , لأترك مكاناً لفنجان القهوة وكأنني أفسح مكانا لك ..
بعضها مسودات قديمة, وأخرى أوراق بيضاء تنتظر منذ أيام بعض الكلمات فقط... كي تدب فيها الحياة, وتتحول من ورق إلى أيام .
كلمات فقط, أجتاز بها الصمت إلى الكلام, والذاكرة إلى النسيان, ولكن ..
تركت السكر جانبا, وارتشفت قهوتي مره كما عودني حبك .
فكرت
في غرابه هذا الطعم العذب للقهوة المرّة . ولحظتها فقط, شعرت أنني قادر
على الكتابة عنك فأشعلت سيجارة عصبيّة, ورحت أطارد دخان الكلمات التي
أحرقتني منذ سنوات, دون أن أطفئ حرائقها مرة فوق صفحه .
هل الورق مطفأة للذاكرة؟
نترك فوقه كل مرة رماد سيجارة الحنين الأخيرة , وبقايا الخيبة الأخيرة. .
من منّا يطفئ أو يشعل الآخر ؟
لا ادري ... فقبلك لم اكتب شيئا يستحق الذكر... معك فقط سأبدأ الكتابة.
ولا بد أن أعثر أخيراً على الكلمات التي سأنكتب بها, فمن حقي أن أختار اليوم كيف أنكتب. أنا الذي أخترت تلك القصة .
قصه كان يمكن أن لا تكون قصتي, لو لم يضعك القدر كل مره مصادفه, عند منعطفات فصولها .
من أين جاء هذا الارتباك؟
وكيف
تطابقت مساحة الأوراق البيضاء المستطيلة, بتلك المساحة الشاسعة البياض
للوحات لم ترسم بعد.. وما زالت مسنده جدار مرسم كان مرسمي ؟
وكيف غادرتني الحروف كما غادرتني قبلها الألوان. وتحول العالم إلى جهاز تلفزيون عتيق, يبث الصور بالأسود والأبيض فقط ؟
ويعرض شريطا قديما للذاكرة, كما تعرض أفلام السينما الصامتة .
كنت
أحسدهم دائماً, أولئك الرسامين الذين كانوا ينتقلون بين الرسم والكتابة
دون جهد, وكأنهم ينتقلون من غرفه إلى أخرى داخلهم. كأنهم ينتقلون بين
امرأتين دون كلفة ..
كان لا بد ألا أكون رجلا لامرأة واحدة !
ها هوذا القلم إذن.. الأكثر بوحا والأكثر جرحا ً.
ها هو ذا الذي لا يتقن المراوغة , ولا يعرف كيف توضع الظلال على الأشياء . ولا كيف ترش الألوان على الجرح المعروض للفرحة .
وها هي الكلمات التي حرمت منها , عارية كما أردتها , موجعه كما أردتها , فَلِمَ رعشة الخوف تشلّ يدي , وتمنعني من الكتابة؟
تراني أعي في هذه اللحظة فقط ، أنني استبدلت بفرشاتي سكيناً. وأن الكتابة إليك قاتله.. كحبك .
ارتشفت قهوتك المرة, بمتعه مشبوهة هذه المرّة. شعرت أنني على وشك أن اعثر على جمله أولى, ابدأ بها هذا الكتاب .
جمله قد تكون في تلقائية كلمات رسالة .
كأن أقول مثلا :
"أكتب إليك من مدينه ما زالت تشبهك, وأصبحت أشبهها. ما زالت الطيور تعبر هذه الجسور على عجل, وأنا أصبحت جسرا آخر معلقاً هنا.
لا تحبي الجسور بعد اليوم..".
أو شيئا آخر مثل :
" أمام فنجان قهوة ذكرتك ..
كان لا بد أن تضعي ولو مرة قطعة سكر في قهوتي . لماذا كل هذه الصينية.. من أجل قهوة مرّة..؟".
كان يمكن أن أقول أي شيء ...
ففي النهاية, ليست الروايات سوى رسائل وبطاقات, نكتبها خارج المناسبات المعلنة.. لنعلن نشرتنا النفسية, لمن يهمهم أمرنا .
ولذا أجملها, تلك التي تبدأ بجمله لم يتوقعها من عايش طقسنا وطقوسنا. وربما كان يوما سببا في كل تقلباتنا الجوية .
تتزاحم الجمل في ذهني . كل تلك التي لم تتوقعيها .
وتمطر الذاكرة فجأة ..
فأبتلع قهوتي على عجل. وأشرع نافذتي لأهرب منك إلى السماء الخريفية.. إلى الشجر والجسور والمارة.
إلى مدينة أصبحت مدينتي مرة أخرى . بعدما أخذت لي موعدا معها لسبب آخر هذه المرة .
ها هي ذي قسنطينة.. وها هو كل شيء أنت .
وها
أنت تدخلين إليّ, من النافذة نفسها التي سبق أن دخلت منها منذ سنوات. مع
صوت المآذن نفسه, وصوت الباعة, وخطى النساء الملتحفات بالسواد, والأغاني
القادمة من مذياع لا يتعب ...
"يا التفاحة .. يا التفاحة ... خبريني وعلاش الناس والعة بيك ..".
تستوقفني هذه الأغنية بسذاجتها .
تضعني وجهاً لوجه مع الوطن . تذكرني دون مجال للشك بأنني في مدينه عربيه فتبدو السنوات التي قضيتها في باريس حلماً خرافياً .
هل
التغزل بالفواكه ظاهره عربية؟ أم وحده التفاح الذي ما زال يحمل نكهة
خطيئتنا الأولى, شهيّ لحدّّ التغنّي به، في أكثر من بلد عربي .
وماذا لو كنت تفاحه؟
لا لم تكوني تفاحه .
كنت
المرأة التي أغرتني بأكل التفاح لا أكثر. كنت تمارسين معي فطرياً لعبة
حواء . ولم يكن بإمكاني أن أتنكر لأكثر من رجل يسكنني, لأكون معك أنت
بالذات في حماقة آدم !
-أهلا سي خالد..واش راك اليوم ..؟
يسلّم عليّ الجار, تسلّقت نظراته طوابق حزني. وفاجأه وقوفي الصباحي, خلف شرفة للذهول .
أتابع
في نظرة غائبة, خطواته المتجهة نحو المسجد المجاور . وما يليها من خطوات,
لمارة آخرين, بعضها كسلى, وأخرى عجلى, متجهة جميعها نحو المكان نفسه .
الوطن كله ذاهب للصلاة .
والمذياع يمجد أكل التفاحة .
وأكثر
من جهاز هوائي على السطوح, يقف مقابلا المآذن يرصد القنوات الأجنبية، التي
تقدم لك كل ليله على شاشة تلفزيونك, أكثر من طريقه _عصريه_ لأكل التفاح !
أكتفي بابتلاع ريقي فقط .
في الواقع لم أكن أحب الفواكه. ولا كان أمر التفاح يعنيني بالتحديد .
كنت أحبك أنت. وما ذنبي إن جاءني حبك في شكل خطيئة؟
كيف أنت.. يسألني جار ويمضي للصلاة .
فيجيب لساني بكلمات مقتضبة، ويمضي في السؤال عنك .
كيف أنا؟
أنا ما فعلته بي سيدتي.. فكيف أنتِ ؟
يا امرأة كساها حنيني جنوناً، وإذا بها تأخذ تدريجيا , ملامح مدينه وتضاريس وطن .
وإذا بي اسكنها في غفلة من الزمن, وكأنني اسكن غرف ذاكرتي المغلقة من سنين .
كيف حالك؟
يا شجرة توت تلبس الحداد وراثيا كل موسم .
يا قسنطينية الأثواب ....
يا قسنطينية الحب ... والأفراح والأحزان والأحباب .. أجيبي أين تكونين الآن؟ .
ها هي ذي قسنطينه ...
باردة الأطراف والأقدام. محمومة الشفاه, مجنونة الأطوار .
ها هي ذي .. كم تشبهينها اليوم أيضا ... لو تدرين !
دعيني أغلق النافذة!.
كان مارسيل بانيول يقول:
"تعوّد على اعتبار الأشياء العادية .. أشياء يمكن أن تحدث أيضاً " .
أليس الموت في النهاية شيئا عاديا. تماما كالميلاد, والحب, والزاج, والمرض, والشيخوخة, والغربة والجنون, وأشياء أخرى ؟
فما
أطول قائمة الأشياء العادية التي نتوقعها فوق العادة, حتى تحدث. والتي
نعتقد أنها لا تحدث سوى للآخرين, وأن الحياة لسبب أو لآخر ستوفر علينا
كثيرا منها, حتى نجد أنفسنا يوما أمامها .
عندما
ابحث في حياتي اليوم, أجد أن لقائي بك هو الشيء الوحيد الخارق للعادة
حقاً. الشيء الوحيد الذي لم أكن لأتنبأ به، أو أتوقع عواقبه عليّ. لأنَّني
كنت اجهل وقتها أن الأشياء غير العادية, قد تجر معها أيضا كثيرا من
الأشياء العادية .
ورغم ذلك ....
ما زلت أتساءل بعد كل هذه السنوات, أين أضع حبك اليوم ؟
أفي خانة الأشياء العادية التي قد تحدث لنا يوما كأية وعكه صحية أو زلة قدم.. أو نوبة جنون؟
أم .. أضعه حيث بدأ يوماً؟
كشيء خارق للعادة, كهدية من كوكب, لم يتوقع وجوده الفلكيون. أو زلزال لم تتنبأ به أية أجهزة للهزات الأرضية .
أكنتِ زلة قدم .. أم زلة قدر ؟.
أقلّب جريدة الصباح بحثا عن أجوبة مقنعه لحدث "عادي" غيّر مسار حياتي وجاء بي إلى هنا .
أتصفح تعاستنا بعد كل هذه الأعوام , فيعلق الوطن حبراً أسود بيدي .
هناك
صحف يجب أن تغسل يديك إن تصفحتها وإن كان ليس للسبب نفسه في كل مرة.
فهنالك واحده تترك حبرها عليك .. وأخرى أكثر تألقا تنقل عفونتها إليك .
ألأنّ
الجرائد تشبه دائما أصحابها, تبدو لي جرائدنا وكأنها تستيقظ كل يوم مثلنا,
بملامح متعبه وبوجه غير صباحي غسلته على عجل، ونزلت به إلى الشارع. هكذا
دون أن تكلف نفسها مشقة تصفيف شعرها, أو وضع ربطة عنق مناسبة.. أو إغرائنا
بابتسامة .
25 أكتوبر 1988 .
عناوين كبرى.. كثير من الحبر الأسود. كثير من الدم. وقليل من الحياء .
هناك جرائد تبيعك نفس صور الصفحة الأولى.. ببدلة جديدة كل مره .
هنالك جرائد.. تبيعك نفس الأكاذيب بطريقة أقل ذكاء كل مرّة ....
وهنالك أخرى، تبيعك تذكرة للهروب من الوطن.. لا غير .
وما دام ذلك لم يعد ممكنا, فلأغلق الجريدة إذن.. ولأذهب لغسل يدي .
آخر
مره استوقفتني فيها صحيفة جزائرية, كان ذلك منذ شهرين تقريبا. عندما كنت
أتصفح عن طريق المصادفة, وإذا بصورتك تفاجئني على نصف صفحه بأكملها, مرفقه
بحوار صحافي بمناسبة صدور كتاب جديد لك .
يومها
تسمَََََّر نظري أمام ذلك الإطار الذي كان يحتويك. وعبثا رحت أفكّ رموز
كلامك . كنت أقرأك مرتبكاً، متلعثماً, على عجل. وكأنني أنا الذي كنت أتحدث
إليك عني, ولست أنت التي كنت تتحدثين للآخرين, عن قصة ربما لم تكن قصتنا .
أي موعد عجيب كان موعدنا ذلك اليوم! كيف لم أتوقع بعد تلك السنوات أن تحجزي لي موعدا على ورق بين صفحتين, في مجلة لا اقرأها عادة .
إنّه قانون الحماقات، أليس كذلك؟ أن أشتري مصادفة مجلة لم أتعوّد شراءها، فقط لأقلب حياتي رأساً على عقبّ
وأين العجب؟
ألم تكوني امرأة من ورق. تحب وتكره على ورق. وتهجر وتعود على ورق. وتقتل وتحيي بجرّة قلم.
فكيف
لا أرتبك وأنا أقرأك. وكيف لا تعود تلك الرعشة المكهربة لتسري في جسدي،
وتزيد من خفقان قلبي، وكأنني كنت أمامك، ولست أمام صورة لك.
تساءلت كثيراً بعدها، وأنا أعود بين الحين والآخر لتلك الصورة، كيف عدتِ هكذا لتتربصي بي، أنا الذي تحاشيت كل الطرق المؤدية إليك؟
كيف
عدت.. بعدما كاد الجرح أن يلتئم. وكاد القلب المؤثث بذكراك أن يفرغ منك
شيئاً فشيئاً وأنت تجمعين حقائب الحبّ، وتمضين فجأة لتسكني قلباً آخر.
غادرت قلبي إذن..
كما
يغادر سائح مدينة جاءها في زيارة سياحية منظمة. كلّ شيء موقوت فيها
مسبقاً، حتى ساعة الرحيل، ومحجوز فيها مسبقاً، حتى المعالم السياحية التي
سيزورها، واسم المسرحية التي سيشاهدها، وعنوان المحلات التي سيشتري منها
هدايا للذكرى.
فهل كانت رحلتك مضجرة إلى هذا الحد؟
ها أنا أمام نسخة منك، مدهوش مرتبك، وكأنني أمامك.
تفاجئني تسريحتك الجديدة. شعرك القصير الذي كان شالاً يلف وحشة ليلي.. ماذا تراك فعلت به؟
أتوقف طويلاً عند عينيك. أبحث فيهما عن ذكرى هزيمتي الأولى أمامك.
ذات يوم.. لم يكن أجمل من عينيك سوى عينيك. فما أشقاني وما أسعدني بهما!
هل
تغيرت عيناك أيضاً.. أم أن نظرتي هي التي تغيرت؟ أواصل البحث في وجهك عن
بصمات جنوني السابق. أكاد لا أعرف شفاهك ولا ابتسامتك وحمرتك الجديدة.
كيف
حدث يوماً.. أن وجدت فيك شبهاً بأمي. كيف تصورتك تلبسين ثوبها العنابي،
وتعجنين بهذه الأيدي ذات الأظافر المطلية الطويلة، تلك الكسرة التي افتقدت
مذاقها منذ سنين؟
أيّ جنون كان لك.. وأية حماقة!
هل غيّر الزواج حقاً ملامحك وضحكتك الطفولية، هل غيّر ذاكرتك أيضاً، ومذاق شفاهك وسمرتك الغجرية؟
وهل أنساك ذلك "النبي المفلس" الذي سرقوا منه الوصايا العشر وهو في طريقه إليك.. فجاءك بالوصية الحادية عشرة فقط.
ها
أنت ذي أمامي، تلبسين ثوب الردّة. لقد اخترت طريقاً آخر. ولبست وجهاً آخر
لم أعد أعرفه. وجهاً كذلك الذي نصادفه في المجلات والإعلانات، لتلك النساء
الواجهة، المعدات مسبقاً لبيع شيء ما، قد يكون معجون أسنان، أو مرهماً ضد
التجاعيد.
أم تراك لبست هذا القناع، فقط لتروّجي لبضاعة في شكل كتاب، أسميتها "منعطف النسيان" بضاعة قد تكون قصتي معك.. وذاكرة جرحي؟
وقد تكون آخر طريقه وجدتها لقتلي اليوم من جديد, دون أن تتركي بصماتك على عنقي .
يومها تذكرت حديثاً قديماً لنا . عندما سألتك مرة لماذا اخترتِ الرواية بالذات. وإذا بجوابك يدهشني .
قلت يومها بابتسامة لم أدرك نسبة الصدق فيها من نسبة التحايل:
"
كان لا بد أن أضع شيئا من الترتيب داخلي.. وأتخلص من بعض الأثاث القديم .
إنَّ أعماقنا أيضا في حاجة إلى نفض كأيّ بيت نسكنه ولا يمكن أن أبقي
نوافذي مغلقه هكذا على أكثر من جثة ..
إننا
نكتب الروايات لنقتل الأبطال لا غير, وننتهي من الأشخاص الذين أصبح وجودهم
عبئاً على حياتنا. فكلما كتبنا عنهم فرغنا منهم... وامتلأنا بهواء نظيف
..." .
وأضفت بعد شيء من الصمت:
"
في الحقيقة كل رواية ناجحة, هي جريمة ما نرتكبها تجاه ذاكرة ما. وربما
تجاه شخص ما, على مرأى من الجميع بكاتم صوت. ووحده يدري أنَّ تلك الكلمة
الرصاصة كانت موجّهة إليه
والروايات
الفاشلة, ليست سوى جرائم فاشلة, لا بد أن تسحب من أصحابها رخصة حمل القلم,
بحجة أنهم لا يحسنون استعمال الكلمات, وقد يقتلون خطأ بها أيّ احد .. بمن
في ذلك أنفسهم , بعدما يكونون قد قتلوا القراء ... ضجراً !".
كيف لم تثر نزعتك الساديّة شكوكي يومها .. وكيف لم أتوقع كل جرائمك التي تلت ذلك اليوم, والتي جربت فيها أسلحتك الأخرى؟
لم أكن أتوقع يومها انك قد توجهين يوما رصاصك نحوي .
ولذا ضحكت لكلامك, وربما بدأ يومها انبهاري الآخر بك. فنحن لا نقاوم, في هذه الحالات , جنون الإعجاب بقاتلنا !
ورغم ذلك أبديت لك دهشتي . قلت :
_ كنت اعتقد أن الرواية طريقه الكاتب في أن يعيش مرة ثانيه قصه أحبها.. وطريقته في منح الخلود لمن أحب .
وكأنّ كلامي فاجأك فقلت وكأنك تكتشفين شيئا لم تحسبي له حسابا:
"الحب هو ما حدث بيننا. والأدب هو كل ما لم يحدث".
يمكنني اليوم, بعد ما انتهى كل شيء أن أقول :
هنيئا للأدب على فجيعتنا إذن فما اكبر مساحة ما لم يحدث . إنها تصلح اليوم لأكثر من كتاب .
وهنيئا للحب أيضا ...
فما أجمل الذي حدث بيننا ... ما أجمل الذي لم يحدث... ما أجمل الذي لن يحدث .
قبل اليوم, كنت اعتقد أننا لا يمكن أن نكتب عن حياتنا إلا عندما نشفى منها .
عندما يمكن أن نلمس جراحنا القديمة بقلم , دون أن نتألم مرة أخرى .
عندما نقدر على النظر خلفنا دون حنين, دون جنون, ودون حقد أيضا .
أيمكن هذا حقاً ؟
نحن لا نشفى من ذاكرتنا .
ولهذا نحن نكتب, ولهذا نحن نرسم, ولهذا يموت بعضنا أيضا .
- أتريد قهوه ؟
يأتي صوت عتيقة غائبا, وكأنه يطرح السؤال على شخص غيري .
معتذرا دون اعتذار, على وجه للحزن لم أخلعه منذ أيام .
يخذلني صوتي فجأة ...
أجيب بإشارة من رأسي فقط .
فتنسحب لتعود بعد لحظات, بصينية قهوة نحاسيه كبيرة عليها إبريق، وفناجين, وسكريه, ومرشّ لماء الزهر, وصحن للحلويات .
في مدن أخرى تقدم القهوة جاهزة في فنجان, وضعت جواره مسبقاً معلقه وقطعة سكر .
ولكن قسنطينة مدينه تكره الإيجاز في كل شيء .
إنها تفرد ما عندها دائما .تماما كما تلبس كل ما تملك. وتقول كل ما تعرف .
ولهذا كان حتى الحزن وليمه في هذه المدينة .
أجمع الأوراق المبعثرة أمامي , لأترك مكاناً لفنجان القهوة وكأنني أفسح مكانا لك ..
بعضها مسودات قديمة, وأخرى أوراق بيضاء تنتظر منذ أيام بعض الكلمات فقط... كي تدب فيها الحياة, وتتحول من ورق إلى أيام .
كلمات فقط, أجتاز بها الصمت إلى الكلام, والذاكرة إلى النسيان, ولكن ..
تركت السكر جانبا, وارتشفت قهوتي مره كما عودني حبك .
فكرت
في غرابه هذا الطعم العذب للقهوة المرّة . ولحظتها فقط, شعرت أنني قادر
على الكتابة عنك فأشعلت سيجارة عصبيّة, ورحت أطارد دخان الكلمات التي
أحرقتني منذ سنوات, دون أن أطفئ حرائقها مرة فوق صفحه .
هل الورق مطفأة للذاكرة؟
نترك فوقه كل مرة رماد سيجارة الحنين الأخيرة , وبقايا الخيبة الأخيرة. .
من منّا يطفئ أو يشعل الآخر ؟
لا ادري ... فقبلك لم اكتب شيئا يستحق الذكر... معك فقط سأبدأ الكتابة.
ولا بد أن أعثر أخيراً على الكلمات التي سأنكتب بها, فمن حقي أن أختار اليوم كيف أنكتب. أنا الذي أخترت تلك القصة .
قصه كان يمكن أن لا تكون قصتي, لو لم يضعك القدر كل مره مصادفه, عند منعطفات فصولها .
من أين جاء هذا الارتباك؟
وكيف
تطابقت مساحة الأوراق البيضاء المستطيلة, بتلك المساحة الشاسعة البياض
للوحات لم ترسم بعد.. وما زالت مسنده جدار مرسم كان مرسمي ؟
وكيف غادرتني الحروف كما غادرتني قبلها الألوان. وتحول العالم إلى جهاز تلفزيون عتيق, يبث الصور بالأسود والأبيض فقط ؟
ويعرض شريطا قديما للذاكرة, كما تعرض أفلام السينما الصامتة .
كنت
أحسدهم دائماً, أولئك الرسامين الذين كانوا ينتقلون بين الرسم والكتابة
دون جهد, وكأنهم ينتقلون من غرفه إلى أخرى داخلهم. كأنهم ينتقلون بين
امرأتين دون كلفة ..
كان لا بد ألا أكون رجلا لامرأة واحدة !
ها هوذا القلم إذن.. الأكثر بوحا والأكثر جرحا ً.
ها هو ذا الذي لا يتقن المراوغة , ولا يعرف كيف توضع الظلال على الأشياء . ولا كيف ترش الألوان على الجرح المعروض للفرحة .
وها هي الكلمات التي حرمت منها , عارية كما أردتها , موجعه كما أردتها , فَلِمَ رعشة الخوف تشلّ يدي , وتمنعني من الكتابة؟
تراني أعي في هذه اللحظة فقط ، أنني استبدلت بفرشاتي سكيناً. وأن الكتابة إليك قاتله.. كحبك .
ارتشفت قهوتك المرة, بمتعه مشبوهة هذه المرّة. شعرت أنني على وشك أن اعثر على جمله أولى, ابدأ بها هذا الكتاب .
جمله قد تكون في تلقائية كلمات رسالة .
كأن أقول مثلا :
"أكتب إليك من مدينه ما زالت تشبهك, وأصبحت أشبهها. ما زالت الطيور تعبر هذه الجسور على عجل, وأنا أصبحت جسرا آخر معلقاً هنا.
لا تحبي الجسور بعد اليوم..".
أو شيئا آخر مثل :
" أمام فنجان قهوة ذكرتك ..
كان لا بد أن تضعي ولو مرة قطعة سكر في قهوتي . لماذا كل هذه الصينية.. من أجل قهوة مرّة..؟".
كان يمكن أن أقول أي شيء ...
ففي النهاية, ليست الروايات سوى رسائل وبطاقات, نكتبها خارج المناسبات المعلنة.. لنعلن نشرتنا النفسية, لمن يهمهم أمرنا .
ولذا أجملها, تلك التي تبدأ بجمله لم يتوقعها من عايش طقسنا وطقوسنا. وربما كان يوما سببا في كل تقلباتنا الجوية .
تتزاحم الجمل في ذهني . كل تلك التي لم تتوقعيها .
وتمطر الذاكرة فجأة ..
فأبتلع قهوتي على عجل. وأشرع نافذتي لأهرب منك إلى السماء الخريفية.. إلى الشجر والجسور والمارة.
إلى مدينة أصبحت مدينتي مرة أخرى . بعدما أخذت لي موعدا معها لسبب آخر هذه المرة .
ها هي ذي قسنطينة.. وها هو كل شيء أنت .
وها
أنت تدخلين إليّ, من النافذة نفسها التي سبق أن دخلت منها منذ سنوات. مع
صوت المآذن نفسه, وصوت الباعة, وخطى النساء الملتحفات بالسواد, والأغاني
القادمة من مذياع لا يتعب ...
"يا التفاحة .. يا التفاحة ... خبريني وعلاش الناس والعة بيك ..".
تستوقفني هذه الأغنية بسذاجتها .
تضعني وجهاً لوجه مع الوطن . تذكرني دون مجال للشك بأنني في مدينه عربيه فتبدو السنوات التي قضيتها في باريس حلماً خرافياً .
هل
التغزل بالفواكه ظاهره عربية؟ أم وحده التفاح الذي ما زال يحمل نكهة
خطيئتنا الأولى, شهيّ لحدّّ التغنّي به، في أكثر من بلد عربي .
وماذا لو كنت تفاحه؟
لا لم تكوني تفاحه .
كنت
المرأة التي أغرتني بأكل التفاح لا أكثر. كنت تمارسين معي فطرياً لعبة
حواء . ولم يكن بإمكاني أن أتنكر لأكثر من رجل يسكنني, لأكون معك أنت
بالذات في حماقة آدم !
-أهلا سي خالد..واش راك اليوم ..؟
يسلّم عليّ الجار, تسلّقت نظراته طوابق حزني. وفاجأه وقوفي الصباحي, خلف شرفة للذهول .
أتابع
في نظرة غائبة, خطواته المتجهة نحو المسجد المجاور . وما يليها من خطوات,
لمارة آخرين, بعضها كسلى, وأخرى عجلى, متجهة جميعها نحو المكان نفسه .
الوطن كله ذاهب للصلاة .
والمذياع يمجد أكل التفاحة .
وأكثر
من جهاز هوائي على السطوح, يقف مقابلا المآذن يرصد القنوات الأجنبية، التي
تقدم لك كل ليله على شاشة تلفزيونك, أكثر من طريقه _عصريه_ لأكل التفاح !
أكتفي بابتلاع ريقي فقط .
في الواقع لم أكن أحب الفواكه. ولا كان أمر التفاح يعنيني بالتحديد .
كنت أحبك أنت. وما ذنبي إن جاءني حبك في شكل خطيئة؟
كيف أنت.. يسألني جار ويمضي للصلاة .
فيجيب لساني بكلمات مقتضبة، ويمضي في السؤال عنك .
كيف أنا؟
أنا ما فعلته بي سيدتي.. فكيف أنتِ ؟
يا امرأة كساها حنيني جنوناً، وإذا بها تأخذ تدريجيا , ملامح مدينه وتضاريس وطن .
وإذا بي اسكنها في غفلة من الزمن, وكأنني اسكن غرف ذاكرتي المغلقة من سنين .
كيف حالك؟
يا شجرة توت تلبس الحداد وراثيا كل موسم .
يا قسنطينية الأثواب ....
يا قسنطينية الحب ... والأفراح والأحزان والأحباب .. أجيبي أين تكونين الآن؟ .
ها هي ذي قسنطينه ...
باردة الأطراف والأقدام. محمومة الشفاه, مجنونة الأطوار .
ها هي ذي .. كم تشبهينها اليوم أيضا ... لو تدرين !
دعيني أغلق النافذة!.
كان مارسيل بانيول يقول:
"تعوّد على اعتبار الأشياء العادية .. أشياء يمكن أن تحدث أيضاً " .
أليس الموت في النهاية شيئا عاديا. تماما كالميلاد, والحب, والزاج, والمرض, والشيخوخة, والغربة والجنون, وأشياء أخرى ؟
فما
أطول قائمة الأشياء العادية التي نتوقعها فوق العادة, حتى تحدث. والتي
نعتقد أنها لا تحدث سوى للآخرين, وأن الحياة لسبب أو لآخر ستوفر علينا
كثيرا منها, حتى نجد أنفسنا يوما أمامها .
عندما
ابحث في حياتي اليوم, أجد أن لقائي بك هو الشيء الوحيد الخارق للعادة
حقاً. الشيء الوحيد الذي لم أكن لأتنبأ به، أو أتوقع عواقبه عليّ. لأنَّني
كنت اجهل وقتها أن الأشياء غير العادية, قد تجر معها أيضا كثيرا من
الأشياء العادية .
ورغم ذلك ....
ما زلت أتساءل بعد كل هذه السنوات, أين أضع حبك اليوم ؟
أفي خانة الأشياء العادية التي قد تحدث لنا يوما كأية وعكه صحية أو زلة قدم.. أو نوبة جنون؟
أم .. أضعه حيث بدأ يوماً؟
كشيء خارق للعادة, كهدية من كوكب, لم يتوقع وجوده الفلكيون. أو زلزال لم تتنبأ به أية أجهزة للهزات الأرضية .
أكنتِ زلة قدم .. أم زلة قدر ؟.
أقلّب جريدة الصباح بحثا عن أجوبة مقنعه لحدث "عادي" غيّر مسار حياتي وجاء بي إلى هنا .
أتصفح تعاستنا بعد كل هذه الأعوام , فيعلق الوطن حبراً أسود بيدي .
هناك
صحف يجب أن تغسل يديك إن تصفحتها وإن كان ليس للسبب نفسه في كل مرة.
فهنالك واحده تترك حبرها عليك .. وأخرى أكثر تألقا تنقل عفونتها إليك .
ألأنّ
الجرائد تشبه دائما أصحابها, تبدو لي جرائدنا وكأنها تستيقظ كل يوم مثلنا,
بملامح متعبه وبوجه غير صباحي غسلته على عجل، ونزلت به إلى الشارع. هكذا
دون أن تكلف نفسها مشقة تصفيف شعرها, أو وضع ربطة عنق مناسبة.. أو إغرائنا
بابتسامة .
25 أكتوبر 1988 .
عناوين كبرى.. كثير من الحبر الأسود. كثير من الدم. وقليل من الحياء .
هناك جرائد تبيعك نفس صور الصفحة الأولى.. ببدلة جديدة كل مره .
هنالك جرائد.. تبيعك نفس الأكاذيب بطريقة أقل ذكاء كل مرّة ....
وهنالك أخرى، تبيعك تذكرة للهروب من الوطن.. لا غير .
وما دام ذلك لم يعد ممكنا, فلأغلق الجريدة إذن.. ولأذهب لغسل يدي .
آخر
مره استوقفتني فيها صحيفة جزائرية, كان ذلك منذ شهرين تقريبا. عندما كنت
أتصفح عن طريق المصادفة, وإذا بصورتك تفاجئني على نصف صفحه بأكملها, مرفقه
بحوار صحافي بمناسبة صدور كتاب جديد لك .
يومها
تسمَََََّر نظري أمام ذلك الإطار الذي كان يحتويك. وعبثا رحت أفكّ رموز
كلامك . كنت أقرأك مرتبكاً، متلعثماً, على عجل. وكأنني أنا الذي كنت أتحدث
إليك عني, ولست أنت التي كنت تتحدثين للآخرين, عن قصة ربما لم تكن قصتنا .
أي موعد عجيب كان موعدنا ذلك اليوم! كيف لم أتوقع بعد تلك السنوات أن تحجزي لي موعدا على ورق بين صفحتين, في مجلة لا اقرأها عادة .
إنّه قانون الحماقات، أليس كذلك؟ أن أشتري مصادفة مجلة لم أتعوّد شراءها، فقط لأقلب حياتي رأساً على عقبّ
وأين العجب؟
ألم تكوني امرأة من ورق. تحب وتكره على ورق. وتهجر وتعود على ورق. وتقتل وتحيي بجرّة قلم.
فكيف
لا أرتبك وأنا أقرأك. وكيف لا تعود تلك الرعشة المكهربة لتسري في جسدي،
وتزيد من خفقان قلبي، وكأنني كنت أمامك، ولست أمام صورة لك.
تساءلت كثيراً بعدها، وأنا أعود بين الحين والآخر لتلك الصورة، كيف عدتِ هكذا لتتربصي بي، أنا الذي تحاشيت كل الطرق المؤدية إليك؟
كيف
عدت.. بعدما كاد الجرح أن يلتئم. وكاد القلب المؤثث بذكراك أن يفرغ منك
شيئاً فشيئاً وأنت تجمعين حقائب الحبّ، وتمضين فجأة لتسكني قلباً آخر.
غادرت قلبي إذن..
كما
يغادر سائح مدينة جاءها في زيارة سياحية منظمة. كلّ شيء موقوت فيها
مسبقاً، حتى ساعة الرحيل، ومحجوز فيها مسبقاً، حتى المعالم السياحية التي
سيزورها، واسم المسرحية التي سيشاهدها، وعنوان المحلات التي سيشتري منها
هدايا للذكرى.
فهل كانت رحلتك مضجرة إلى هذا الحد؟
ها أنا أمام نسخة منك، مدهوش مرتبك، وكأنني أمامك.
تفاجئني تسريحتك الجديدة. شعرك القصير الذي كان شالاً يلف وحشة ليلي.. ماذا تراك فعلت به؟
أتوقف طويلاً عند عينيك. أبحث فيهما عن ذكرى هزيمتي الأولى أمامك.
ذات يوم.. لم يكن أجمل من عينيك سوى عينيك. فما أشقاني وما أسعدني بهما!
هل
تغيرت عيناك أيضاً.. أم أن نظرتي هي التي تغيرت؟ أواصل البحث في وجهك عن
بصمات جنوني السابق. أكاد لا أعرف شفاهك ولا ابتسامتك وحمرتك الجديدة.
كيف
حدث يوماً.. أن وجدت فيك شبهاً بأمي. كيف تصورتك تلبسين ثوبها العنابي،
وتعجنين بهذه الأيدي ذات الأظافر المطلية الطويلة، تلك الكسرة التي افتقدت
مذاقها منذ سنين؟
أيّ جنون كان لك.. وأية حماقة!
هل غيّر الزواج حقاً ملامحك وضحكتك الطفولية، هل غيّر ذاكرتك أيضاً، ومذاق شفاهك وسمرتك الغجرية؟
وهل أنساك ذلك "النبي المفلس" الذي سرقوا منه الوصايا العشر وهو في طريقه إليك.. فجاءك بالوصية الحادية عشرة فقط.
ها
أنت ذي أمامي، تلبسين ثوب الردّة. لقد اخترت طريقاً آخر. ولبست وجهاً آخر
لم أعد أعرفه. وجهاً كذلك الذي نصادفه في المجلات والإعلانات، لتلك النساء
الواجهة، المعدات مسبقاً لبيع شيء ما، قد يكون معجون أسنان، أو مرهماً ضد
التجاعيد.
أم تراك لبست هذا القناع، فقط لتروّجي لبضاعة في شكل كتاب، أسميتها "منعطف النسيان" بضاعة قد تكون قصتي معك.. وذاكرة جرحي؟
وقد تكون آخر طريقه وجدتها لقتلي اليوم من جديد, دون أن تتركي بصماتك على عنقي .
يومها تذكرت حديثاً قديماً لنا . عندما سألتك مرة لماذا اخترتِ الرواية بالذات. وإذا بجوابك يدهشني .
قلت يومها بابتسامة لم أدرك نسبة الصدق فيها من نسبة التحايل:
"
كان لا بد أن أضع شيئا من الترتيب داخلي.. وأتخلص من بعض الأثاث القديم .
إنَّ أعماقنا أيضا في حاجة إلى نفض كأيّ بيت نسكنه ولا يمكن أن أبقي
نوافذي مغلقه هكذا على أكثر من جثة ..
إننا
نكتب الروايات لنقتل الأبطال لا غير, وننتهي من الأشخاص الذين أصبح وجودهم
عبئاً على حياتنا. فكلما كتبنا عنهم فرغنا منهم... وامتلأنا بهواء نظيف
..." .
وأضفت بعد شيء من الصمت:
"
في الحقيقة كل رواية ناجحة, هي جريمة ما نرتكبها تجاه ذاكرة ما. وربما
تجاه شخص ما, على مرأى من الجميع بكاتم صوت. ووحده يدري أنَّ تلك الكلمة
الرصاصة كانت موجّهة إليه
والروايات
الفاشلة, ليست سوى جرائم فاشلة, لا بد أن تسحب من أصحابها رخصة حمل القلم,
بحجة أنهم لا يحسنون استعمال الكلمات, وقد يقتلون خطأ بها أيّ احد .. بمن
في ذلك أنفسهم , بعدما يكونون قد قتلوا القراء ... ضجراً !".
كيف لم تثر نزعتك الساديّة شكوكي يومها .. وكيف لم أتوقع كل جرائمك التي تلت ذلك اليوم, والتي جربت فيها أسلحتك الأخرى؟
لم أكن أتوقع يومها انك قد توجهين يوما رصاصك نحوي .
ولذا ضحكت لكلامك, وربما بدأ يومها انبهاري الآخر بك. فنحن لا نقاوم, في هذه الحالات , جنون الإعجاب بقاتلنا !
ورغم ذلك أبديت لك دهشتي . قلت :
_ كنت اعتقد أن الرواية طريقه الكاتب في أن يعيش مرة ثانيه قصه أحبها.. وطريقته في منح الخلود لمن أحب .
وكأنّ كلامي فاجأك فقلت وكأنك تكتشفين شيئا لم تحسبي له حسابا:
- وربما كان صحيحا أيضا, فنحن في النهاية لا نقتل سوى من أحببنا. ونمنحهم تعويضا عن ذلك خلودا أدبيا . إنها صفقه عادلة . أليس كذلك؟!
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
يتبع .....