أما محبة الوطن فمستولية على الطباع ، مستدعية أشد الشوق إليها. روي أن أبان قدم على النبي صلى الله عليه و سلم ، فقال: « يا أبان كيف تركت مكة ؟ » قال : تركت الإذخر(1) وقد أعذق ، والنمام(2) وقد أورق . فاغرورقت عينا رسول الله صلى الله عليه و سلم.
وقال بلال رضي الله تعالى عنه :
ألا ليــتَ شِـعْـري هـل أبيـتنّ ليلــة .... بـــوادٍ وحــولــي إذخـــر وجـليـــلُ
وهــل أرِدَنْ يـومًــا مـيــاهَ مـجـنــةٍ .... وهــل يـبــدُوَنْ لـي شامةٌ وطفيلُ(3)
وهــل أرِدَنْ يـومًــا مـيــاهَ مـجـنــةٍ .... وهــل يـبــدُوَنْ لـي شامةٌ وطفيلُ(3)
وقيل : من علامة الرشد أن تكون النفس إلى بلدها تواقة ، وإلى مسقط رأسها مشتاقة .
ومن حبّ الوطن : ما حكي أن سيدنا يوسف عليه السلام أوصى بأن يحمل تابوته إلى مقابر آبائه ، فمنع أهل مصر أولياءه من ذلك ، فلما بعث موسى عليه السلام وأهلك الله تعالى فرعون - لعنه الله -حمله موسى إلى مقابر آبائه فقبره بالأرض المقدّسة .
وأوصى الإسكندر رحمه الله تعالى أن تحمل رمته في تابوت من ذهب إلى بلاد الروم حبًّا لوطنه. واعتلّ سابور ذي الأكتاف وكان أسيرًا ببلاد الروم ، فقالت له بنت الملك وكانت قد أحبته : ما تشتهي ؟ قال: شربة من ماء دجلة ، وشمة من تراب ، إصطخر، فأتته بعد أيام بشربة من ماء وقبضة من تراب ، وقالت له : هذا من ماء دجلة ، ومن تربة أرضك ، فشرب واشتم بالوهم فنفعه من علته.
وقال الجاحظ : كان النفر في زمن البرامكة إذا سافر أحدهم أخذ معه تربة أرضه في جراب يتداوى به ، وما أحسن ما قال بعضهم :
بــلادٌ ألـفـنــاهـــا علـى كــلِّ حـالــةٍ .... وقــد يـؤلــف الشيء الذي ليس بالحسَـنْ
ونستعذبُ الأرضَ التي لا هواء بها .... ولا مــاؤهـــا عـــذبٌ ولـكـنـــهـــا وطَـــنْ
ونستعذبُ الأرضَ التي لا هواء بها .... ولا مــاؤهـــا عـــذبٌ ولـكـنـــهـــا وطَـــنْ
ووصف بعضهم بلاد الهند فقال : بحرها درّ، وجبالها ياقوت ، وشجرها عود ، وورقها عطر. وقال عبد الله بن سليمان في نهاوند : أرضها مسك ، وترابها الزعفران ، وثمارها الفاكهة ، وحيطانها الشهد . وقال الحجاج لعامله على أصبهان : وقد وليتك على بلدة حجرها الكحل ، وذبابها النحل ، وحشيشها الزعفران .
وكان يقال : البصرة خزانة العرب ، وقبة الإسلام لانتقال قبائل العرب إليها ، واتخاذ المسلمين بها وطنًا ومركزًا .
وكان أبو إسحاق الزجاج يقول : بغداد حاضرة الدنيا ، وما سواها بادية .
ومما جاء في ذمّ السفر: قيل لرجل : السفر قطعة من العذاب ، فقال : بل العذاب قطعة من السفر.
وقال بعضهم :
كــلُّ الـعــذابِ قـطـعــةٌ مـن الـسـفــر .... يـا ربُُّ فــارددنــا عـلـى خـيــرِِ الـحـضــر
وقيل لأعرابي : ما الغبطة ؟ قال : الكفاية مع لزوم الأوطان. ومرّ إياس بن معاوية بمكان فقال : أسمع صوت كلب غريب، فقيل له : بم عرفت ذلك ؟ قال: بخضوع صوته ، وشدّة نباح غيره. وأراد أعرابي السفر فقال لامرأته :
عــدّي الـسـنـيــنَ لغيبتــي وتصـبَّري .... وذري الـشـهــور فـإنـهـنّ قـصــارُ
فأجابته :
فــاذكـر صبابتنــا إليـــكَ وشــوقنا .... وارحَـــمْ بنـــاتَكَ إنهـُـنَّ صغــارُ
فأقام وترك السفر، ويقال ربّ ملازم لمهنته فاز ببغيته. وقال ابن الهيثم :
لَعَمْرُكَ مَـا ضـاقَـتْ بــلادُ بأَهْلِـهــا .... ولكــنَّ أخـــلاقُ الرِّجــالِ تضيــقُ
من كتاب " المستطرف في كل فن مستظرف " للكاتب شهاب الدين محمد الأبهيشي . تحقيق الدكتور مصطفى محمد الذهبي .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- الإذخر : من النباتات نافذة الرائحة.
(2)- النمام : من النباتات نافذة الرائحة أيضًا.
(3)- شامة و طفيل : أسماء مواضع.