اللسانيات النظرية ولسانيات النص :
الكاتب : د. مدحت الجيار
(1)
تعيش اللغة العربية ــ شأنها شأن كل لغات العالم ــ تغيراً مستمراً بفعل الحراك الاجتماعي والثقافي، وبفعل التغاير الذي يصنعه المبدعون في لغتهم الخاصة. إذ يقدم هؤلاء المبدعون لغة خاصة تخلق سياقات جديدة لمفردات اللغة، وتسبك تراكيب خاصة في صياغة الجمل والعبارات.
(1) تعيش اللغة العربية ــ شأنها شأن كل لغات العالم ــ تغيراً مستمراً بفعل الحراك الاجتماعي والثقافي، وبفعل التغاير الذي يصنعه المبدعون في لغتهم الخاصة. إذ يقدم هؤلاء المبدعون لغة خاصة تخلق سياقات جديدة لمفردات اللغة، وتسبك تراكيب خاصة في صياغة الجمل والعبارات. بما يخلق ثراءً واضحاً في معجم اللغة وبلاغتها ومعانيها وتراكيبها. ويفرض هذا الأمر ضرورة معاودة النظر في التراث النظري من اللسانيات الموروثة، أو السابقة على النص الحديث، وموازنته بالإبداعية الجديدة التي تغنى هذا التراث النظري وتطوره. وتظهر هنا إضافة لسانيات جديدة، يخلقها النص على المستوى اللغوي والبلاغي، تضاف ــ بالطبع ــ إلى ما يحمله النص السابق أو الثابت. وهنا يصبح واضحاً أن اللسانيات النظرية تمد النص بموروث ثابت نسبياً أي تعطيه اللبنة الأولى، ثم تعطى له حرية الحركة في الكتابة والتجديد والتحديث. فيغتني النص بموروث قديم وحديث ــ كدافع متطور ــ من التراث مثل الموجات المتسابقة ويغنى النص الحديث النص القديم ثم الفكر اللساني بما هو جديد. وكأننا نقول أن لغتنا العربية تملك أكبر ثروة من اللسانيات القديمة والحديثة، على المستويين: النظري والنصي. لأنها امتلكت النص الشعري طوال أكثر من ألف عام وخمسمائة. والنص الشعري أعطاها ــ عبر العصور ــ نحواً جديداً، وبلاغة جديدة، كانت تعدل دائماً من اللسانيات النظرية، وتعطى قضايا جديدة، وتراكيب ومعجماً جديداً حتى أن الضرورات الشعرية التي أعطيت للشاعر العربي طوال تاريخه رخصا (في النحو والعروض والصرف بخاصة) وكانت إشارة لهذه القدرة الشعرية اللسانية على العطاء. ونظرة سريعة إلى منجزات لغة الشعر في لغتنا ولغات الآخرين سوف تكشف عن قدرة خاصة ومذهلة للشعر على تحريك الثابت النسبي، وهز التقاليد اللسانية وهجر ما تمجه الذائقة. يتم ذلك في لحظة واحدة. وتتبعنا لنشأة علوم النحو والصرف والبلاغة واللغة (لدينا) تكشف العلاقة (الصراعية) بين منجز اللسانيات النظرية ولسانيات النص العربي. حتى أننا نستطيع القول: إن علم اللسانيات العربي القديم ــ وقد تأثر بعلوم اللسانيات اليونانية ــ لم يجد غضاضة في إضافة لسانيات "أرسطية" إلى لسانيات النص العربي. ثم كان النص الشعري ثم النثري قد أضاف هذه الإضافات مرة أخرى بعد استعمالها وشيوعها على الألسنة. إننا أمام الثابت النسبي، والمتحول المبدع، في حالة من الاغتناء المتبادل، مما يعطي للإنسان فرصة العطاء المبدع والتجديد والتنوير اللغوي. ولا يبعد عن هذا الكلام ما رآه يكبسون من العلاقة المدهشة بين (نص النحو) و(نحو النص) أو ما يراه سوسير من التجدد المدهش للشفرة اللغوية أو العلاقة اللغوية التي تغير النظام الإشاري والرمزي للغة النص السابق وتعيد صياغة النظام اللغوي باستمرار. وليس الأدب والشعر ــ بخاصة الشفهي ــ أقل خطراً في هذه العملية، بل هو رأس الصراع الدائم بين اللسانيات النظرية ولسانيات النص المتحرك الدائم. ولهذا نجد التصرف الهائل في النحو والصرف والعروض والأصوات بلا حدود في النصوص الشفهية، لأنها لا تتعامل ــ مباشرة ــ مع اللسانيات النظرية، بل ترفضها ــ في كثير من الأحيان ــ وبالتالي ففي الشعر الشفاهي ثم ما كتب وقيد منه تحت اسم الشعر الشعبي ثم النثر الشفاهي والشعبي المدون منه، كلاهما يحمل تنوعاً بلا نهاية. إنه ذلك النص (الحر) غير الخائف من تسلط اللسانيات النظرية. وهو لا ينتظر التقييم أو النقد، لأنه يؤدي بمعزل عن الفئات المثقفة أو المتصلة بلسانيات نظرية ما. ونظرة سريعة على مقولات أرسطو في فن الشعر أو فن الخطابة ثم نظرة إلى ما يقوله عبدالقاهر الجرجاني أو ابن جنى أو ثعلب أو حازم القرطاجني، سيري، التواصل الضخم في اللسانيات النظرية بل سيري المتابع التأثير الشديد للنص الشعري والنثري بل القرآني على هذه اللسانيات النظرية. وعندما تتقدم في التاريخ العربي للإبداع سنجد أن فترة صعود النصوص الشفاهية والشعبية قد أضافت ثراءً ظهر أثره في الإبداعية العربية في القرن العشرين ثم في اللسانيات النظرية في الوقت نفسه. ولابد أن نراعي في هذا السياق أن مناهج الدرس اللغوي والنقدي والأسلوبي لم تنفصل عن بعضها البعض، وبالتالي ظهرت الإشكالية فيما بين الأجيال الشعرية والسردية في النص الجديد، ومعرفة لسانياته وهو ما دخل تحت ما أسميناه في دراستنا المعاصرة "النقد التطبيقي" أو اللسانيات التطبيقية. وهذه صاحبة الفضل في معرفة الفوارق الفنية بين لسانيات سبقت ولسانيات نصوص معاصرة. الأمر الذي يشير لأهمية عمل المعاجم النوعية للشعر والنثر، والمعاجم المرحلية (التي تهتم بلسانيات ومعجم كل مرحلة تاريخية) كما تشير لأهمية الدراسة اللسانية المعاصرة بعد الاغتناء الضخم من علوم اللغة الحديثة وتفجر النص العربي، وتفجر الواقع اللغوي المعاصر عبر وسائط التكنولوجيا الحديثة، ابتداءً من البث الفضائي إلى الكمبيوتر وشبكات الانترنت وتداخل النصوص المتوازي مع تداخل الأجناس والاستنساخ والوصول لرقائق صوتية وفنية لم نكن نستطيع قياسها من قبل بالطرق غير المتقدمة. وهذا ما جعل اللسانيات تتواصل مع علوم أخرى بلاغية ونقدية وأسلوبية. ثم تداخل اللسانيات مع المنجز التكنولوجي. وقد تواصل النص الأولى بجمالياته الموروثة والجديدة مع الوسائط نفسها ومع الحقول والعلوم نفسها. مما يجعلنا ننادي بضرورة وجود علم لسانيات تطبيقي، مستقل (وصفي تحليلي). وتتحرك هذه الأفكار كلها ــ الآن ــ على خلفية تقدم علم اللغة (اللسانيات) وكونه أصلاً في العمل لأي دارس في أي اتجاه. لغوي، بلاغي، جمالي نقدي. وكما يقول محمد الحناش فإن "دور اللسانيات الحديثة، هو إعادة هيكلة قواعد النحو العربي (بمفهومه الواسع طبعاً) من منظور جديد، فتقدمها بطرق أخرى تكون أكثر ملاءمة مع التطور الذي حصل في المجتمع العربي. وهذا المنهج لا يعني الانتقاص من قيمة التراث اللغوي (اللساني) بل تأكيد لقيمته.."(1) نجد ثراءً (بالقوة) في هيئات وتراكيب وأجرومية النص العربي.. وهي موجودة الآن (بالفعل).. وللغة قدرتها المستمرة وحياتها الدائمة وحركتها التي لا تتوقف لأنها لغة الإنسان.. هل نعود لحديث سوسير الذي يفرق بين اللغة والحديث؟!. (2) ومهما يكن من أمر البدايات الاعتباطية في نشأة اللغة أو في نشأة الأدب، ثم ظهور القواعد والمحددات.. فإن عمل اللسانيات يبدأ من اكتمال اللغة ونضوج أدبها.. لأنه يهدف إلى تقصيد اللسان ووصف أنظمته الصوتية والدلالية والمجازية في آن واحد.. وهذه الأنظمة ليست خالدة بالطبع، فإن الاستعمال يحولها إلى هياكل وهيئات واستخدامات صعبة.. وعندما تتجه اللسانيات إلى السهولة والتيسير أو إلى نقلها لغير الناطقين بها، أو حين يستخدمها الناس العاديون الذين يستهلكون اللغة ولا ينتجون لسانها. عند هذه الحدود تتغاير اللغة في النص عن اللغة في النظرية.. ونشير هنا إلى أن اللسانيات النظرية تتغير وهي تتعامل مع لسانيات النص.. وهذا النص قد يكون جملة شفاهية، أو جملة مكتوبة، موروثة أو آنيه، قديمة أو جديدة.. ولهذا تبدأ اللسانيات من لسانيات النص بشكل عام، وتقف عند لسانيات الأدب والشعر بخاصة وقفة مليئة بالحذر والصبر، ففيها مفتاح التطور والتغير. وهذه إشارة إلى أن لسانيات النص تعني لسانيات الأدب ــ كما قلنا ــ وبالتالي فهي تتعامل مع لسانيات لها مرجع وجذور اجتماعية ونفسية وتاريخية وفنية.. وأن الرسالة ليست غفلاً وليست شفافة بل هي كما يقول البنيون التوليديون رسالة أو لسان له بنيته السطحية (الرسالة من الخارج) وبنيته العميقة (الرسالة من الداخل أو الباطن العميق). ومن ثمّ فهناك في لسانيات النص مستويات لا حصر لها في الدلالة والتركيب خاصة حين يتلاعب الإيقاع أو يتلاعب المعنى بتركيب النص أو حين يجعل المجاز الجملة أو النص مثل الموجات الدلالية يستوعب منها المرسل والمستقبل على قدر مخزونة، وقدر فهمه.. أعني أن قدرة الأداء قد تختلف عن قدرة التلقي، ويصبح هذا الفارق لصالح النص المرسل. "وشأن البنيوية في اللسانيات كشأنها في فروع الدرس العلمي الأخرى؛ إنها تعني –ابتداءً- مقاربة جديدة لحقائق معروفة بالفعل يعاد النظر فيها طبقاً لوظيفتها في النظام.. ويتضمن الموقف البنيوي –بالإضافة إلى ذلك- إلحاحاً على الوظيفة الاجتماعية (التواصلية) للغة، وتمييزاً واضحاً بين الظواهر التاريخية والخصائص المميزة للنظام اللغوي في لحظة زمنية بعينها..".(2) والنظام اللساني المنطوق أو المكتوب بنية متولدة من بنية أكبر منها، لأن العلاقة بين البنيتين تمثل حالة وضع الشفرة بين المرسل والمرسل إليه وتحمل دلالة الشفرة لدى كليهما.. وهذا ما جعل حلقة براغ اللسانية ترى أن "اللغة المكتوبة واللغة المنطوقة لا تنطبقان، ولكل منهما خصائصه المميزة.. ولابد إذن من فحص العلاقة بين لغة الكتابة ولغة النطق".(3) وساعدت الرؤية النفسية على تعميق لسانيات النص وأكملت ما تراه الرؤى الاجتماعية والبنيوية التوليدية حيث تجد اللسانيات النفسية "الإنسان أثناء عملية التواصل. ومن ثمّ يشمل مجال الاهتمام المباشر لهذا العلم: الظواهر العضوية والنفسانية لإنتاج الكلام وإدراكه، والمواقف العاطفية والذهنية تجاه حدث بعينه من أحداث التواصل، والخلفية الثقافية والاجتماعية التي تشكلت نفسية الفرد في مواجهتها.."(4) وبالتالي تكون لغوية النص واجتماعيته ونفسيته وفنيته موضوعاً متكاملاً عند النظر إلى النص من زاوية لسانيات النص. ذلك أن هذه العلوم الحديثة قد أحدثت ثورة في النظر إلى مكونات اللسان: الصوتي والدلالي والتركيبي والمعجمي والمجازي والرمزي. وجعل هذا التقدم النظر إلى اللسانيات القديمة نظرية ونصاً، يدين الماضي دون اتهام بالتقصير. لأن موروث اللسانيات النظرية في العالم كله، لم يكن قد تدعم بإنجازات العلم المعاصر بعد. وبالتالي أصبح للسانيات النص الغلبة في اللسانيات المعاصرة خاصة أنها فتحت النص على منافذ وساحات لم يكن اللسان القديم قد توصل إليها أو إلى تأثيرها في اللسانيات النظرية أو لسانيات النص بعد. ولو قارنا اللسانيات النظرية في أي لغة، بلسانيات أحد نصوص الأدباء الراسخين لوجدنا الفارق واضحاً. ولا نستطيع أن نحكم هنا بخطأ أو نقصان لسانيات النص، بل نحكم عليها بالمخالفة للمعيار السائد أو الموروث، أو نحكم عليها بما نصفه بالانحراف عن المعيار اللساني النظري. ذلك أن قيمة النص ولسانه لن يخضع لحكم القيمة في البداية لأنه يحتاج إلى عدة خطوات علمية تمكنا نحن الباحثين والنقاد والبلاغين من معرفة درجة الاقتراب من اللسان النظري ومدى إضافة اللسان النصي له. فوصف مكونات النص (الهيكل اللغوي وعلاقاته) يمهد لتحليله، ثم تقييمه ثم الحكم عليه حتى نصل إلى معرفة درجة انحرافه أو إضافته.. فيوضع النص ضمن تصنيف لغوي وفني ونقدي أدبي يساعد في رصد الظواهر النصية الجديدة. وتقف اللغة المجازية بكل فنونها كجوهر للتغيير والتثوير اللساني الذي يعطي للسانيات النص حيويته الدائمة.. لأن أحد أهداف صاحب هذا النص خاصة، أن يخالف السائد والموجود والموروث ليفسح مجالاً لنصه كي يعيش بين النصوص المتميزة داخل آداب هذه اللغة أو داخل سياق هذه الأمة الحضاري. ويهمنا أن نشير إلى مقولة تودوروف في هذا السياق لأنه يرى "أن اللغة المجازية تتعارض مع اللغة الشفافة لكي تفرض حضور الكلمات وأن اللغة الأدبية تتعارض مع اللغة المشتركة لكي تفرض حضور الأشياء. فوجود خصم مشترك يفسر صلة القرابة بينهما.. ويفسر في الوقت نفسه، الإمكانية المتاحة لهما لكي تستغني أحداهما عن الأخرى. ويستخدم الأدب الصورة البلاغية كسلاح في صراعه مع المعنى المحصن، ومع الدلالة المجردة اللذين استوليا على الكلمات في الحديث اليومي ويتحقق هذا التعاون بشكل مختلف في النثر عنه في الشعر...".(5) وهذا ما جعل البلاغة والدرس البلاغي يقف على أرضية صلبة لأنها تتعامل مع النصوص، وليس مع تأملات نظرية مجردة كذلك ارتبط علم البلاغة العربية بالنص منذ بداياته حتى الآن. فمن النص الشعري كمفسر للغة النص القرآني.. إلى بلاغة النص القرآني حالة كونه متسقاً من ناحية مع لغة العرب آن نزوله، وحالة كونه مخالفاً لها في بعض الجوانب المعجمية والبلاغية والنحوية التي لفتت الأنظار إلى ضرورة تبيان الفارق ودراسته. وبالتالي كان اشتمال علم البلاغة على البيان والبديع والمعاني مستفيداً من أساسيات النحو والصرف واللغة والمعجم والأساليب العربية.. كان ذلك اشتمالاً طبيعياً فقد كان علم النص المقدس الذي يحوي كل العلوم الأساسية المساعدة له، والشارحة المؤولة للنص العربي.
________________________________________________
** هوامش:
1- محمد الحناش، البنيوية في اللسانيات، الحلقة الأولى، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1980م، ص6.
2- ميلكا إفيتش، اتجاهات البحث اللساني، ترجمة سعد مصلوح، ووفاء كامل، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ص193.
3- المرجع السابق، ص249.
4- المرجع السابق، ص309.
5- تزيفتان تودوروف، الأدب والدلالة، ترجمة محمد نديم خشفة، مركز الإنماء الحضاري، الطبعة الأولى، 1996م، ص117.
+
كتاب اللسانيات
+
المعجم الموحد لمصطلحات اللسانيات
=
في المرفقات