العصرالعباسي
يتفق بعض المؤرخين على تقسيم الدولة العباسية الى عصرين متميزين : عصر
عباسي أول يعبرون عنه بالعصر الزاهي ، ويمتد من نشأة الدولة عام 132هـ حتى
أيام الخليفة الواثق بن المعتصم سنة 232هـ وبموته انتهى العصر الذهبي
للدولة العباسية ، وعصر ثان هو عصر التدهور والإنحلال ، ابتدأ بخلافة
المتوكل على الله سنة 232هـ وانتهى بسقوط الدولة العباسية على أيدي التتار
سنة 656هـ .
ويعمد فريق من المؤرخين الى جعل العصور العباسية أربعة تبعا للنفوذ السياسي الذي شهدته بغداد وللأوضاع السياسية التي كانت سائدة :
العصر العباسي الأول : دام نحوا من قرن ، امتاز بالنفوذ الفارسي ، حكمه سبعة خلفاء، وهو عصر القوة والزهو.
العصر العباسي الثاني : دام نحوا من قرن ، امتاز بالنفوذ التركي مع الخليفة المعتصم ، وفيه كان بدء الضعف.
العصر العباسي الثالث : دام نحوا من قرن ، امتاز بالنفوذ البديهي وهو عصر
الضعف الفعلي وقيام الدويلات ومنها : الحمدانية في الموصل وحلب ، البويهية
في شيراز ، الأخشيدية في الفسطاط بمصر …الخ.
العصر العباسي الرابع : دام نحوا من قرنين ، وهو عصر الانحلال الذي انتهى
بسقوط بغداد في أيدي المغول سنة 656هـ (1258م ) ، كما امتاز بالنفوذ
السلجوقي .
وقد أخذ العباسيون باستخدامهم الأعاجم ، بدلا من العصبية العربية التي
اعتمدتها الدولة الأموية اعتمادا كليا .. واحتاج العباسيون في اصطناعهم
الأعاجم الى المال ، فوقعوا تحت نفوذ الأغنياء كما أصبح الأعاجم من الفرس
والترك والديلم والصغد وغيرهم ، يتسابقون الى الإستئثار بالنفوذ عن طريق
المال .
وحكمت الدولة العباسية زهاء خمسة قرون ساست فيها العالم .. وفي ذلك يقول
الفخري صاحب الآداب السلطانية : " واعلم أن هذه الدولة من كبريات الدول
ساست العالم سياسة ممزوجة بالدين والملك، فكان أخيار الناس وصلحاؤها
يطيعونها تدينا ، والباقون يطيعونها رهبة أو رغبة .. لقد كانت دولة كثيرة
المحاسن ، جمة المكارم أسواق العالم فيها قائمة وبضائع الآداب فيها نافقة
، وشعائر الدين فيها معظمة ، والخيرات فيها دارة ، والدنيا عامرة ،
والحرمات مرعية ، والثغور محصنة .. ومازالت على ذلك حتى أواخرها ، فانتشر
الجبر واضطرب الأمر ، وانتقلت الدولة ".
خلفاء العصر العباسي الأول
بعد السفاح تولى أبو جعفر المنصور الخلافة ( شقيقه ) ويعد المنصور المؤسس
الحقيقي للدولة العباسية لأنه أحكم الرابطة بين القوة الزمنية والسلطة
الدينية .. ومن أهم أعماله بناء بغداد وتحصين الحدود بينه وبين الروم ..
واتخذ خالد بن برمك وزيراً له ، فبدأت عظمة البرامكة الذين قاموا بأعباء
الوزارة في صدر الدولة العباسية، وكانوا من أكبر دعائم التقدم والرقي ..
وكان المنصور يشرف على أعمال الدولة بنفسه، ويستعرض الجند، ويفتش الحصون،
ويراجع الداخل والخارج، ويحاسب عماله حساباً دقيقاً.
ولما أنهكت الأعمال صحته، قصد مكة ليقضي فيها بقية حياته، فمات على بعض ساعات منها، وذلك سنة 851 هـ.
تولى المهدي ابنه الخلافة وقد رسخت قدم الدولة وثبتت دعائمها، وسكن الناس
إلى حكمها .. وكان المهدي كريماً رحيماً، فعزم على محو كل إساءة اقترفها
المنصور، فعفا عن المسجونين السياسيين، ورد إلى بني هاشم ما كان والده قد
أخذه منهم، ووسع المدارس وزاد من عددها، كما وسع الحرم النبوي في المدينة
المنورة، وأنشأ القصور على الطريق من بغداد إلى مكة، وسعى في توفير الماء
على طول هذه الطريق، كذلك رتب البريد بين مكة والمدينة. وكان يعاصر المهدي
في غرب أوروبا الامبراطور شارلمان، فصادقه واستمرت المودة بين الدولتين
إلى زمن الرشيد. أما الدولة الرومانية الشرقية فكان العداء مستحكماً بين
المهدي وبينها، فقامت الحرب بينهما براً وبحراً، وانتهى الأمر بأن تقدم
المهدي وابنه هارون الرشيد إلى البوسفور، فصالحته الملكة "ايريني" على دفع
جزية سنوية.
وجاء بعد المهدي ابنه موسى الهادي سنة 169 هـ، فلم يعمر أكثر من أربعة عشر
شهراً وقد حاول أن يخلع أخاه الرشيد من ولاية العهد وينقلها إلى ابنه جعفر
وبينما هو يسعى لاتمام ذلك عاجلته منيته سنة 170 هـ.
هارون الرشيد :
مع تولي الرشيد الخلافة 170 هـ بلغت الدولة العباسية غاية قوتها وتجلى
عصرها الذهبي في أسمى مظاهره فلم يكن على وجه الأرض دولة تضارعها في عظمة
السلطان وضخامة الثروة ونشر العلوم والآداب وشيوع النعيم والترف واستتباب
الأمن .. ويعد الرشيد من أكبر حكام العالم، فقد قام متمسكاً بدينه، تقياً
محسناً محباً مع هذا لمظاهر العظمة، ماهراً في قيادة الجيوش .. ومن أجل
هذا كان أبوه يؤثره على أخيه الهادي .. وكان كثير التجول في أملاكه، بقصد
القضاء على الفوضى، وتوطيد الأمن، والتعرف على أحوال الرعية فسارت الطرق
آمنة، وتقلب فيها التجار والحجاج والعلماء من أقصاها إلى أقصاها .. وقد
شيد الرشيد من المساجد والمدارس والمستشفيات والقناطر والترع، ما يشهد له
بالحرص على مصالح رعيته، والهمل على راحتهم .. وفي عصره عظمت بغداد وكثرت
فيها القصور الفخمة التي أبدع المهندسون تنسيقها .. وعظمت كذلك الرصافة
المقابلة لها على الشاطئ الشرقي لنهر دجلة، وذلك بفضل ما أنشأه البرامكة
من قصور ومساجد وحمامات .. وفي عهده اتسع عمران العاصمة حتى بلغ مليوني
نسمة، وصارت ملتقى التجارة بين الهند والصين والشام والجزيرة وبحر المشرق
.. وقد زاد تبعاً لذلك خراج الدولة، فأخذ الخليفة ووزراؤه يغدقون بدون
حساب على الشعراء والعلماء والكتاب والمحتاجين، وينفق هؤلاء عن سعة ..
فراجت التجارة، وكثر التأنق في المعيشة، وبلغ الترف مبلغه الذي سارت به
الأمثال في أنحاء المعمورة، ولم ينقطع تغني الشعراء به حتى وقتنا هذا ..
وعهد هارون لأبنائه الأمين، ثم المأمون، ثم القاسم، وأخذ عليهم العهود
بألا يغيروا هذا الترتيب .. ومات الرشيد بعد أن حكم ثلاثاً وعشرين سنة،
بلغت فيها شهرته الآفاق البعيدة، حتى اتصل بامبراطور الصين، وتبادل
شارلمان معه الهدايا، فأرسل إليه الرشيد هدايا كثيرة تشهد بما كانت عليه
الدولة من الثروة والتقدم، ولاسيما الساعة التي دهش لها الأوروبيون
وحسبوها سحراً .. ثم تولى الأمين الخلافة بعد أبيه سنة 193 هـ، فكان
مسرفاً، مغرماً بالبذخ والترف .. وقيل أن وزيره الفضل بن الربيع أغراه
بخلع أخويه ونقل العهد إلى أبنائه دونهما .. فأرسل الأمين جيشاً يأتيه
بالمأمون فانهزم عند الري وأعلن المأمون نفسه خليفة بالبذخ والترف .. وقيل
أن وزيره الفضل بن الربيع أغراه بخلع أخويه ونقل العهد إلى أبنائه دونهما
فأرسل الأمين جيشاً يأتيه بالمأمون فانهزم عند الري وأعلن المأمون نفسه
خليفة ، وقبلته فارس بأجمعها .. وحاصر المأمون بغداد إلى أن سلم الأمين
نفسه لأخيه .. ولكن بعض الجند الفرس قتلوه، وقد أكرم المأمون أبناء أخيه
وزوجهم من بناته .. وكان المأمون مولعاً بالعلوم والفلسفة والآداب، فكان
عصره أرقى العهود في العصر العباسي .. وظهر فيه علماء مشهورون من أهل
الحديث وعلماء الكلام، وجعل لهم المأمون مجالس للمناظرة .. وكانت الترجمة
عن الفرس واليونان والهنود قد بدأت من قبل، وبخاصة الطب، فنقلت عن
اليونانية أيام المنصور كتب أبقراط وجالينوس في الطب، وترجم ابن المقفع
كتاب كليلة ودمنة عن البهلوية، كما ترجم المجسطي لبطليموس.
فلما كان عصر الرشيد غرف المترجمون من كنز العلوم اليونانية، فحملت الكتب
إلى بغداد ونقلت إلى العربية برعايته وتشجيع البرامكة فنشأ المأمون
متشبعاً بتلك العلوم، مقتنعاً بفائدتها، فنشطت حركة النقل نشاطاً كبيراً،
بفضل تعظيمه العلماء وما كان يغدقه عليهم من الأرزاق .. وكان للمأمون شغف
خاص بأرسطاطاليس، فأرسل في طلب كتبه جماعة إلى القسطنطينية، ممن يعرفون
اليونانية، ومعهم صاحب "بيت الحكمة". وقد أصلح علماء العرب أخطاء اليونان
وشرع بعضهم يضع مؤلفات علمية وفلسفية جديدة.
وقد راجت علوم الأقدمين واشتغل بها المتعلمون في بغداد وخارجها من حواضر
الإسلام، فكان المأمون حامل لواء العلوم على أنواعها، وسبب تلك النهضة
الكبرى.
توفي المأمون في آخر غزواته ببلاد الدولة البيزنطية سنة 218 هـ، إذ أصابته
الحمى فقضت عليه، وكان قد أوصى بالخلافة بعده إلى أخيه المعتصم .. وقد
أوصى المأمون أخاه المعتصم وصية جاء فيها: "يا أبا إسحاق، أدن مني، واتعظ
بما ترى، وخذ بسيرة أخيك في القرآن، واعمل على الخلافة إذا طوقكها الله
عمل المريد لله، الخائف من عذابه وعقابه، ولا تغتر بالله ومهلته، فكأن، قد
نزل بك الموت، ولا تغفل أمر الرعية، والعوام العوام، فإن الملك، الملك
بهم، والمنفعة فيهم وفي غيرهم من المسلمين".
الفنون والآثار والمباني والمدن
بدأت الخلافة العباسية قوية، واختار عبد الله [السفاح] بن محمد بن علي بن
عبدالله بن العباس العراق مقراً ليكون قريباً من بلاد فارس صاحبة الفضل في
تكوين الخلافة واتخذ مدينة الكوفة عاصمة له في أول الأمر ، ثم انتقل منها
الى الهاشمية التي أنشأها بالقرب من الكوفة ثم جاء الخليفة الثاني أبو
جعفر المنصور (أخوه) وأسس مدينة بغداد، وهي كلمة فارسية الأصل ومعناها
"عطية الله" وقد بدئ العمل بإنشائها سنة 541هـ ، وانتقل اليها المنصور في
العام التالي وأسماها دار السلام ، ولكنها ظلت تعرف باسمها الفارسي .
وتقع بغداد قرب مدينة "طيسقون" عاصمة الدولة الساسانية والتي استولى عليها سنة 636م.
من أقدم الآثار المعمارية التي ما تزال باقية حتى الآن من بغداد القديمة
القصر العباسي .. ومن المرجح أن يكون هذا القصر هو قصر التاج الذي وضع
أساسه الخليفة المعتمد سنة 289هـ ، وأتمه الخليفة المكتفي .. ويقع القصر
على الضفة الشرقية لنهر دجلة قرب القصر الحسني الذي كانت تقيم فيه بوران
بنت الحسن بن سهل زوجة الخليفة المأمون .. ويصف ياقوت الحموي قصر التاج
فيقول إن واجهته كان يتقدمها خمسة عقود وكل عقد يرتكز على عمودين من
الرخام.
ويشغل القصر مساحة كبيرة ، وتتوسطه حديقة تحيطها الغرف المقبية ، وقاعات
ذات قباب ، وكثير من الأروقة والدهاليز، وفي الجهة الجنوبية مجموعة من
الغرف تعرف باسم غرف الحريم..
لما ضاقت بغداد القديمة بساكنيها امتدت المباني الى خارجها ، وخاصة على
الضفة الشرقية لنهر دجلة ولذلك فقد بني سور آخر في القرن الخامس الهجري
سنة 488هـ (1095م) يحيط ببغداد ، وما يزال هذا السور باقيا حتى اليوم ..
وأهم أجزاء هذا السور باب الشرجة وباب المعظم .. ولما جدد السلاجقة هذا
السور في القرن السابع الهجري بنوا بابين ، باب الطلسم الذي نسفته الحكومة
التركية سنة 1917، وباب الوسطاني الذي رممته مديرية الآثار مؤخرا وحولته
الى متحف حربي .
من مدن العراق المهمة مدينة الرقة التي فتحها العرب سنة 18هـ ثم أنشأ
الخليفة المنصور مدينة جديدة تبعد عن القديمة نحو 300 قدم الى غربها ،
وسماها "الرقيقة" ، ووضع فيها حامية حتى يؤمن حدود البلاد الشمالية ضد
غزوات البيزنطيين . وفي وسط الرقيقة بنى المنصور مسجدها الجامع ، وكان
عبارة عن مستطيل تحيطه الأروقة من جهته الأربعة ، وقد بني من الطوب اللبن
(الطين) .. وقد تهدم المسجد ولم يبق منه الى مئذنته التي ترجع الى القرن
السادس الهجري .
شيدت شمالي بغداد بأمر الخليفة المعتصم سنة221هـ ثاني عواصم الدولة
العباسية في العراق واتخذها عاصمة للخلافة ، وخطط فيها القطائع لأصحاب
الحرف والجنود والقواد وسائر أفراد الشعب .. وفي عصر الخليفة المتوكل
ارتفع في وسط المدينة جامعه المشهور التي ما تزال مئذنته باقية وتعرف باسم
"ملوية" .. وقد راعى الخلفاء في بناء مدينة سامراء أن تكون قطائع (أحياء)
الجند يبعدون عن الأسواق وعن قطائع أصحاب الحرف المختلفة.
يعتبر الفن الإسلامي الفن الوحيد الذي اتخذ من الفن عنصرا زخرفيا مهما ،
ولعل مرجع ذلك ما أصدره خلفاء الدولة الأموية من أوامر صارمة جعلت الكتابة
على الطراز (النسيج والورق) أمرا ضروريا .. ولذلك تطور الخط العربي بسرعة
واتخذ له أشكالا زخرفية متنوعة وأسماء فنية متعدده ، أقدمها الخط الكوفي
الصلب ذو الزوايا ..
تعتبر المدرسة المستنصرية آخر مخلفات العصر العباسي المعمارية في العراق
وقد عرفت بالمستنصرية نسبة الى بانيها المستنصر بالله الذي تولى الخلافة
من 623-640 . والد المستعصم آخر العباسيين في [بغداد][640-656هـ] وبقتله
ودخول التتار بغداد سقطت الخلافة العباسية .. وقد أنفق على بنائها زهاء
700 ألف دينار ذهباً ، وأوقف لها نحواً من مليون دينار يدر عليها دخلا
سنويا قدره 70 ألف دينار.
والمدرسة مستطيلة الشكل يتوسطها صحن كبير ، وفيها أربعة إيوانات في
أضلاعها الأربعة ومن ملحقات المدرسة المستنصرية دار مجاورة تقع في شمالها
، تتكون من إيوان كبير وعدة إيوانات أخرى ، منها دار الحديث الشريف ودار
القرآن وكان يدرس في هذه الدور علم الطب والرياضيات ، وقد استمر التدريس
فيها حتى القرن العاشر الهجري.
وكانت الكتابة تزين مدخل المدرسة المستنصرية الأصلي، فهي من الآجر وبالخط
الثلث على أرضية نباتية مزهرة غاية في الدقة والإبداع ونقرأ في الصف
الثاني : " التي أعدها الذين آمنوا وعملوا الصالحات " وفي السطر
الثالث:"وأمر أن تجعل مدرسة للفقهاء على المذاهب الأربعة " ، وفي السطر
الرابع:"سيدنا ومولانا إمام المسلمين وخليفة رب العالمين " ، وفي السطر
الخامس :"أبو جعفر المنصور المستنصر بالله أمير المؤمنين".
الأخيضر
من القصور المهمة التي بنيت في العصر العباسي قصر الأخيضر ، وهو يقع في
الصحراء جنوبي غربي بغداد ، كما يبعد عن كربلاء نحو 45 كلم .. ويبدو في
تخطيط هذا القصر التأثر الواضح بالعمارة الساسانية المتمثلة في إيوان كسرى
الذي كان مايزال سليم في العصر العباسي .. كما يبدو في قصر الأخيضر التأر
بالأساليب المعمارية في قصور المنابرة بالحيرة ويتكون قصر الأخيضر من
مستطيل يبلغ طوله 175م وعرضه 170م ،وفي منتصف كل ضلع بوابة كبيرة ، وفي
أركان المستطيل أربعة أبراج ، وبين كل برجين كبيرين عشرة أبراج صغيرة ،
كما يحيط البوابة برجان كبيران ، لذلك فإنه يبدو من الخارج كأنه قلعة
والقصر مبني بالحجر الجيري والجبس للجدران الخارجية ، أما الأقبية والقباب
فهي من الطوب المحروق وعندما نمر من البوابة الرئيسية في الواجهة الشمالية
، فإننا ندخل دهليزا مغطى بقبو ويؤدي الى قاعة العرض وهذه القاعة مغطاة
بسقف من الطوب المحروق ، أما جدرانها فقد زخرفت بحنيات ترتكز على أعمدة
مبنية هي أيضا من الطوب وهذه الأعمدة ، فضلا عن دورها في زخرفة القاعة
وتجميله ، تخفف من قوة الضغط على الجدران ..
مدينة الموصل :
تعد الموصل من مدن العراق المهمة ، فقد كانت في العصر الأموي قاعدة للجيوش
العربية التي توغلت في أذربيجان وأرمينيا وكذلك ازدهرت الموصل ثانية في
القرن الرابع الهجري ، في عهد الحمدانيين الذين اتخذوها عاصمة لهم ، كما
استمرت عاصمة حكم الى الأتابكة ، ولعل من أهم آثارها الباقية مئذنة مسجدها
الجامع والتي تعرف باسم "الحدباء".
المنسوجات العباسية :
كانت المنسوجات الصوفية والحريرية من أهم الصادرات في العصر العباسي ،
وذلك لكثرة عدد المصانع .. وتدل أسماء بعض أنواع الأقمشة التي ما تزال
باقية حتى اليوم على مدى انتشار المنسوجات العربية وجودتها .. وبعض هذه
الأسماء استعملها الأوروبيون في العصور الوسطى وبقيت حتى اليوم مثل نسيج
"موسلين" نسبة الى مدينة الموصل.
التحف الخشبية :
كانت صناعة التحف الخشبية من الأعمال البارزة في تاريخ الفنون الإسلامية
وقد تأثرت الى حد كبير بالفنون الساسانية والبيزنطية والهندية ثم تطورت في
العصر العباسي حتى أصبح للفن الإسلامي أساليبه الخاصة في هذا الميدان.
المدن العباسية :
أراد العباسيون أن يتخذوا من العراق موئلاً لخلافتهم، فاتخذ عبدالله
السفاح "الهاشمية" مقراً للدولة .. ولم يلبث أبو جعفر المنصور أن اختار
قرية صغيرة على الضفة الغربية من دجلة لتكون حاضرة الخلافة، وهي بغداد ..
ويروي بعض المؤرخين أن كلمة "بغداد" فارسية الأصل، وهي مكونة من كلمتين:
"بلغ" ومعناها بالفارسية بستان و"داد" بمعنى يعطي (أي الله) .. وقد سماها
المنصور مدينة السلام أو دار السلام، وفي هذا الإسم إشارة إلى الجنة، وقد
اقتصر استعمال هذا الإسم في الشؤون الرسمية، وبه ضربت السكة، ولكن الناس
عامة كانوا يفضلون اسم "بغداد".
تخطيط المدينة :
شرع المنصور في بناء حاضرته الجديدة في موضع بغداد القديمة، وأمر باحضار
المهندسين والبنائين، والفعلة، والصناع من النجارين، والحدادين،
والحفارين، من الشام والموصل والكوفة وواسط وبلاد الديلم، حتى بلغ عددهم
مائة ألف على ما ذكره المؤرخون .. وقد وضع المنصور حجر الأساس في الوقت
الذي اختاره المنجمون، وكان الطالع في الشمس، وهي في القوس، فأخبره
المنجمون بما تدل عليه النجوم من طول بقائها، وكثرة عمارتها، واحتياج
الناس إلى ما فيها .. واحتفل الخليفة العباسي ببدء العمل احتفالاً كبيراً
حضره رجال الدولة من الأمراء والوزراء والعلماء والقادة والأعيان .. وقد
روى الطبري وغيره أن المنصور لما عزم على بناء بغداد أحب أن يعرف رسمها
فأمر أن تخط طريق المدينة بالرماد ،ثم دخل من موضع كل باب ، ومر في طرقات
المدينة ورجالها وهي مخططة بالرماد .. ثم أمر أن يوضع على تلك الخطوط حب
القطن ، ويصب عليه النفط وتوقد فيه النار ، فنظر والنار تشتعل ، وبذلك
أمكنه الوقوف على رسم مدينته الجديدة .. وقد أمر بحفر الأساس مكان الخطوط
، وكان ذلك في سنة 541هـ .. جعل المنصور مدينة بغداد مستديرة الشكل ، وبنى
داره وجامعه في وسطها ، حتى لا يكون أحد أقرب اليه من الآخر وهذا نوع من
البناء جديد عند المسلمين ، ويبدو أنهم أخذوه عن الفرس ولم يجعل المنصور
حول القصر والجامع بناً إلا الدار التي بناها للحرس من ناحية باب الشام ،
وسقيفة كبيرة ممتده على عمد مبنية بالآجر والجص ، خص قسما منها لصاحب
الشرطة وقسما آخر لصاحب الحرس. واتخذ حول ذلك قصور الأمراء ، ورجال الدين
، ودواوين الحكومة ، ومطبخ العامة .. وأخذ البناءون يبنون حول الدواوين
ودور الأهالي تتخللها الأسواق ،وجعل للمدينة شوارع رئيسية أربعة تتفرع
منها شوارع أخرى ... وأمر المنصور أن يبنى للمدينة سوران : سور داخلي عرضه
من أسفله خمسون ذراعا ومن أعلاه عشرون ذراعا ، وسور خارجي ارتفاعه ثلاثون
ذراعا وعرض كعرض السور الداخلي ، وليس عليه أبراج وحوله من الخارج خندق
عميق تجري فيه الماء من القناة التي تأخذ من نهر كرفايا ، وحافتا الخندق
جعلتا من الجص والآجر ، وفوق الخندق 361 برجاً .. سمك كل منها خمس أذرع ،
وكان بالسور الخارجي أربعة أبواب .
أبواب السور الخارجي :
هي باب الكوفة في الجنوب الغربي ، وباب البصرة في الجنوب الشرقي ، وباب
خرسان في الشمال الشرقي وكان على نهر دجلة ويتصل بقنطرة السفن ، كما عرف
هذا الباب باسم باب الدولة لإقبال قوة الدولة العباسية من خرسان ، وباب
الشام في الشمال الغربي ، وكان قطر مدينة بغداد من باب خرسان الى باب
الكوفة 2200 ذراعا ، ومن باب البصرة الى باب الشام كذلك . وبين السورين
ستون ذراعا ، وتعرف المسافة بين السورين "الفيصل" وكان وزن كل لبنة جعفرية
(نسبة الى أبي جعفر المنصور) مما استعمل في البناء 117 رطلاً .. وقد ذكر
اليعقوبي أن وزن اللبنة المربعة التي بلغ طولها ذراعا وعرضها ذراعا مائتا
رطل ، واللبنة المنصفة التي يبلغ طولها وعرضها مائة رطل .. وذكر صاحب كتاب
"مناقب بغداد" أن الطوب المستعمل هو اللبن والآجر .. وكان بين السورين
دهاليز تصل السور الخارجي بالداخلي ، فإذا دخل أحدهم من باب خرسان مثلا
عطف الى يساره في دهليز طليت جدرانه بالجص الأبيض ، وهكذا الحال مع سائر
الأبواب.
قصر الذهب :
بنى المنصور قصره المعروف باسم "قصر الذهب" في وسط بغداد ، وبنى المسجد
الجامع قبالته ، وقد بلغت مساحة القصر 160000 ذراع مربع ، وساحة الجامع
40000 ذراع مربع ويعتبر قصر الذهب والجامع مركز الدائرة ، ومن هذا المركز
تفرعت أربعة شوارع رئيسية متجهة نحو أبواب الأسوار .. وقد أقيمت على جانبي
هذه الشوارع الأبنية العالية وجاءت منسقة ومتشابهة في الشكل وأسلوب البناء
والجدير بالملاحظة أنه إذا وقف الإنسان في نهاية أحد شوارع بغداد يمكنه أن
يرى قصر الخلافة ، على أن بغداد سرعان ما ازدحمت بالعلماء والتجار والصناع
الذين أقبلوا عليها من كل حدب وصوب، فلم يرى بداً من الإقامة خارجها في
مكان طيب الهواء ،فبنى في عام 157هـ قصر الخلد .
القطائع والأرباض :
بعدما فرغ المنصور من بناء مدينته ، أقطع الأعيان قطائع من الأرض ، رغبة
في تخفيف الضغط على بغداد من جهة ، ومكافأة لهم على ما قدموه من خدمات ،
وسرعان ما عمرت هذه القطائع وازدحمت بالسكان .. وقد عرفت كل قطعة باسم
الرجل أو المجموعة التي تسكنها .. وجعل المنصور أرباض بغداد (ضواحيها)
أربعة أقسام ، وعين لكل ربض مسؤولاً عهد إليه ، عدا مهمة الإشراف، أن يقيم
سوقاً محلية تفي بحاجة السكان ، كما أمر أن تخط الشوارع والدروب وتنتظم
حولها المباني ، وأن يسمى الشوارع أو الدروب باسم القائد أو الرجل النابه
الذي يقيم فيه .. وسرعان ما عمرت الأرباض وكثرت فيها المساجد والحمامات.
سكك بغداد ودروبها :
أسهب المؤرخون في الكلام على سكك بغداد (أزقتها) ودروبها فنجد سكة الشرطة
، وسكة المطبق ، وسكة الربيع وذكر المؤرخون أمثال اليعقوبي أن عدد السكك
والدروب بلغ ستة آلاف ، وأن عدد الحمامات بلغ عشرة آلاف، والمساجد ثلاثين
ألفاً .. ويروي أن أحد بطارقة الروم وفد على المنصور ، فأمر الخليفة حاجبه
الربيع بن يونس أن يطوف به المدينة ويصعده الأسوار ، ويريه قباب الأبواب
والطاقات ليرى ما عليه حاضرة الخلافة من الأبهة والعمران .. وبعد انتهاء
جولته سأله المنصور عن رأيه في مدينته فقال: "يا أمير المؤمنين، انك بنيت
بناء لم يبنه أحد قبلك وفيه ثلاثة عيوب .. أما أول عيب فبعده عن الماء
ولابد للناس من الماء لشفاههم، أما العيب الثاني فإن العين خضرة وتشتاق
الى الخضرة وليس في بنائك بستان، وأما العيب الثالث فإن رعيتك في بنائك،
وإذا كانت الرعية مع الملك فشا سره".
وما أن خرج البطريق حتى أمر المنصور بمد قناتين من دجله ، وغرس العباسية ، ونقل الناس الى الكرخ.
بناء الكرخ :
قام ببناء الكرخ الربيع بن يونس من مال المنصور الخاص ، ويقع هذا الحي
غربي بغداد،وحولت الى الكرخ أسواق المدينة .. وعمد الخليفة المنصور
بتصميمها على قطعة من قماش عين عليها مواضع الأسواق، كما عين موضع المسجد
الجامع .وقد أفرد لكل حرفة سوقاً خاصة ، ثم أخذ حي الكرخ في الإتساع حتى
اتصل بمدينة بغداد.
الرصافة :
حقق بناء بغداد الغرض الذي كان يرمي اليه المنصور ، من منع وصول العدو
اليه غير أنه لم يحل دون ما قد يحدث اذا ثار عليه الجند .. الواقع أن
الخليفة لم يكن آمناً على نفسه باقامته في بغداد، اذ ثار الجند وحاربوه
على أبواب بغداد .. ولما أخمدت ثورتهم أمر ببناء الرصافة.
اتخذت الرصافة في الأصل ثكنات للجيش وسميت: رصافة بغداد ، وبغداد الشرقية
، لوقوعها في الجهة الشرقية من دجلة والمقابلة لبغداد وبنى لها المنصور
سوراً وحفر حولها خندقاً ، وجعل فيها ميداناً فسيحاً ، ومسجداً وبستاناً ،
وأجرى اليها الماء ، وقد تم بناؤها في خلافة ابنه المهدي 159هـ .. وسرعان
ما عمرت الرصافة حتى قاربت في الإتساع فظهرت فيها الحدائق والمتنزهات
والميادين الواسعة والمباني الفخمة ، حتى بدت بغداد بجانبها كأنها البلد
العتيق تجتمع في جزء من محاسن المدينة التي أحدثت في جواره.
اتساع بغداد :
بلغ اتساع بغداد والرصافة والكرخ اتساعا عظيما ، حتى غدت أشبه بمدن صغيرة
متلاصقة وأصبحت بغداد من مدائن الشرق في ذلك العصر ، وبلغ عدد سكانها
مليوني نسمة .. وازدهرت فيها الفنون المتنوعة ، وانتشرت منها الحضارة الى
سائر أنحاء العالم .. وقد عني المنصور بتنظيف مدينته ، فكانت الأزقة
والشوارع والساحات تكنس ويحمل التراب خارج المدينة .. وكانت المياه تؤمن
على هور البغال ، وفيما بعد أمر بإيصال الماء الى قصره وأحياء المدينه.
نفقات بناء بغداد :
تكلف بناء بغداد أموالاً طائلة إذ أن المنصور عمل على تحصينها تحصيناً
منيعاً وبنى فيها القصور الفخمة ، حتى تحاكي حواضر العالم الكبرى جمالاً
وقوة ، وخاصة القسطنطينية حاضرة الروم .. وقد بلغت نفقات المدينة وما
اليها من أسوار وأبواب ، والقصر ، والمسجد الجامع ، والأسواق ، والقباب ،
والخنادق وغيرها 81 مليون دينار من الذهب ، وعلى رواية الطبري .. وهكذا
تأسست مدينة بغداد في عهد أبي جعفر المنصور ، وقد حافظت على رونقها حتى
سنة 656هـ حين خربها التتار بقيادة هولاكو..
الأدب في العصر العباسي
وصلت الحياة الفكرية في العصر العباسي إلى ذروة التطور والازدهار، ولاسيما
في العلوم والآداب .. وقد عرف العصر حركات ثقافية مهمة وتيارات فكرية بفضل
التدخل بين الأمم .. وكان لنقل التراث اليوناني والفارسي والهندي، وتشجيع
الخلفاء والأمراء والولاة، وإقبال العرب على الثقافات المتنوعة، أبعد
الأثر في جعل الزمن العباسي عصراً ذهبياً في الحياة الفكرية .. ونحاول
فيما يأتي التعرف إلى الإنتاج الأدبي، شعره نثره، على اختلاف فنونه، وما
لحقه من خصائص وتطورات.
في العصر العباسي كانت العربية قد أصبحت اللغة الرسمية في البلدان الخاضعة
لسيطرة المسلمين، وكانت لغة العلم والأدب والفلسفة والدين لدى جميع
الشعوب. وقد كتب النتاج بمجمله في اللغة العربية مع أن قسماً كبيراً من
أصحابه ليسوا من العرب !!
تركت الثقافات الدخيلة أثراً عميقاً في علوم العرب وفلسفتهم، ولكن آداب
الأعاجم لم يكن لها مثل هذا الأثر فالعرب لم ينقلوا إلا جزءاً ضئيلاً من
الآداب الأعجمية، لأنهم لم يشعروا بحاجتهم إليها ولم يكن أدباء العرب
وشهراؤهم يتقنون لغات غربية، فظل أدبهم في مجمله صافياً بعيداً عن
التيارات الأجنبية.
وقد غلب الطابع العربي على الأعاجم الذين نظموا وكتبوا بالعربية، فتأثروا
بالاتجاهات الأدبية العربية وانحصر تجديدهم ضمن القوالب التقليدية فالعصر
العباسي حمل الأدب كثيراً من التجديد، ولكن ضمن الأطر التقليدية.
في العصر العباسي انتشرت المعارف، وكثر الاقبال على البحث والتدوين،
وأنشئت المكتبات وراجت أسواق الكتب وقد وضعت المؤلفات في مختلف فروع
المعرفة، في التاريخ والجغرافيا، والفلك والرياضيات، والطب والكيمياء
والصيدلة، والصرف والنحو، واللغة والنقد، والشعر، والقصص والدين،
والفللسفة والسياسة، والأخلاق والاجتماع وغير ذلك .. ويكفي أن نقرأ كتاب
الفهرست لابن النديم لنعرف إلى أي مدى كانت حركة التأليف مزدهرة .. وأقبل
الأدباء على الثقافات الجديدة يكتسبون منها معطيات عقلية، وقدرة على
التعليل والاستنباط وتوليد المعاني، والمقارنة والاستنتاج .. فالأدب
العباسي جاء أغنى مما سبقه، ويدلنا على هذا الغنى ما نراه في شعر أبي نواس
وأبي تمام وأبي الطيب والمتنبي وأبي علاء، وما نراه في نثر ابن المفقع
والجاحظ وبديع الزمان وسواهم .. ثم ان عمق الثقافة ساعد على عمق التجربة
الانسانية، فجاءالأدب العباسي زاخراً بالمعطيات الانسسانية من حيث تصويره
لجوهر الانسان وما يتعقب على النفس من حالات اليأس والأمل، والضعف والقوة،
والحزم والفرح وغير ذلك .. كما رسم الأدب العباسي المشاكل العامة في
الاجتماع والفكر والسياسة والأخلاق .. وهذا كله ظهر في خمريات أبي نواس
وخواطر الرومي، وحكم المتنبي، ووجدانيات أبي فراس، وتأملات المعري، وأمثال
ابن المفقع، وانتقادات الجاحظ .. فضلاً عن ذلك عرف العصر مدارس أدبية
شعرية ونثرية، منها مدرسة أبي نواس ومدرسة أبي تمام، ومدرسة أبي العتاهية،
ومدرسة المعري في ميادين الشعر.
وفي النثر عرفت مدرسة ابن المفقع، ومدرسة الجاحظ، ودرسة القاضي الفاضل،
ومدرسة بديع الزمان الهمذاني وكل من هذه المدارس خصائصها واتجاهاتها، وقد
كان لها الفضل في إعلاء شأن الحياة الأدبية في العصر العباسي.
ازدهر الشعر السياسي في العصر الأموي لأسباب متعددة أهمها قيام الأحزاب
السياسية وتناحرها .. ولكن هذا اللون انحسرت أهميته في العصر العباسي بسبب
ضعف الأحزاب والعصبيات القبلية .. وقد ازدهر بالمقابل شعر المدح بفعل
ازدهار الحياة الاقتصادية وتطور الحياة الإجتماعية، مع ميل الخلفاء إلى
الترف وحب الإطراء .. فأقبل الشعراء يمجدون الخلافة والأمراء وأصحاب
النفوذ، مقابل العطايا السنية وهذا ما جعل الشعراء يحملون بالثروات
الطائلة، فيقصدون بغداد والعواصم الأخرى للإقامة في جوار القصور .. وقوي
الهجاء كذلك بدافع تحاسد الشعراء، وإلحافهم في طلب الجوائز، وضمنوا هجائهم
الكلام المقنع أحياناً.
أما الغزل فقد مال به أصحابه بصورة عامة، إلى التهتك والإباحية، والفحش في
الألفاظ وكثر في العصر العباسي الخلعاء من الشعراء الماجنين، وأهمهم أبو
نواس، وحماد عجرد، ومطيع بن اياس، والضحاك، ووالبة بن الحباب .. إلا أن
فئة من المتعففين حافظ أفرادها على العذرية في الشعر، من أمثال البحتري
وأبي تمام وابن الرومي وأبي فراس الحمداني والشريف الرضي فهؤلاء جاءت
قصائدهم الغزلية صادرة عن وجدان صحيح فيه الصدق والبراءة والمحافظة على
الآداب العامة .. ثم ان الفخر الذي بني في الجاهلية على العصبية القليلة
ضعف شأنه مع ظهور الإسلام، إلا ما كان منه جماعياً وبالدين الإسلامي وأهله
.. أما العصر العباسي فقد تحول فيه الفخر إلى العصبية العنصرية أو
القومية، ولكنه لم يكن قوياً في العصر الأول والثاني.
وقد ازدهر الفخر في العصر الثالث مع اضطراب الأحوال السياسية وكثرة
المغمرين والاعتداد بالنفس وأبرز شعراء الفخر أبو الطيب المتنبي وأبو فراس
و الشريف الرضي .. وهذه الموضوعات الشعرية كانت معروفة في العصور السابقة
وحافظ الشعراء العباسيون على قوتها إلا أن البيئة العباسية ساعدت على
ازدهار فنون جديده كانت من قبل ضعيفة أو غير معروفة .. وأهم هذه الفنون
شعر المجون الذي كان وليد انتشار الزندقة وتفشي الفساد بفعل اختلاط الشعوب
، واتيان الأعاجم بفنون من الخلاعة والفحش وردئ العادات .. أما شعر الخمر
فقد ارتقى على أيدي أبي نواس وصحبه ، وأصابه من معطيات العصر ما جعل
الشعراء يبدعون فيه .. ومن دوافع ازدهار شعر الخمر الثقافة التي تيسرت
للعباسيين فعمقت تجربتهم وكثفت شعرهم .. فأبو نواس تجاوز الأعشى والأخطل
والوليد بن يزيد في هذا الفن ، واهتدى الى معان وصور وآفاق وأساليب صار
معها حامل لواء التجديد في الشعر العباسي وجعل من الخمريات رمزا لهذا
التجديد وأساسا لنشر الآراء وفلسفة الحياة والوجود .. وبعد أبي نواس
استمرت الخمريات فنا شعريا راقيا اشتهر فيه ابن المعتز ومعز الدولة
البويهي والغرائي وسواهم.
ومن الفنون الشعرية التي حافظت على رواجها وتطورت في العصر العباسي فن
الوصف التي شمل الطبيعة المطبوعة والطبيعية المصنوعة .. ولهذا اهتم
الشعراء بالرياض والقصور، والبرك، والأنهار، والجبال، والطيور، والمعارك،
ومجالس اللهو، وغير ذلك.
في العصر العباسي تطورت المعاني الشعرية عمقاً وكثافة ودقة في التصوير،
فجاءت شاملة للحقائق الانسانية وقد انصرف الشعراء عن المعاني القديمة إلى
معان جديدة، يساعد على ذلك ما كسبه العقل العباسي من الفلسفة وعلم الكلام
والمنطق، وما وصلوا إليه من أساليب فنية قوامها المحسنات اللفظية
والمعنوية ومثال ذلك أن أبا تمام يجمع في قصيدة "فتح عمورية" بين العملية
الفكرية والعملية الفنية، فأخرج من القصيدة شعراً جديداً راقياً، فيه من
القديم مسحة ومن الجديد أخرج معاني وصوراً طريفة وكثرت في الشعر العباسي
الأمثال والحكم (المتنبي والمعري)، وبرز فيه المنطق والأقيسة العقلية،
وترتيب الأفكار (أبو تمام، وابن الرومي، المتنبي). كما ظهر الإبداع في
التصوير والاعراب في الخيال، ومجاراة الحياة والفنون في الزخرفة والنقش،
والاهتمام بالألوان (ابن الرومي، والبحتري).
امتاز الشعر العباسي بدقة العبارة وحسن الجرس والايقاع، وذلك بتأثير
الحضارة ورفاه العيش كما امتاز بخروجه على المنهجية القديمة في بناء
القصيدة وترتيب أجزائها. وكثيراً ما ثار الشعراء على الأساليب القديمة،
وفي ذلك ذلك يقول المتنبي:
إذا كان شعر فالنسيب المقدم ... أكل بليغ قال شعراً متيم
وتمتاز القصيدة العباسية بوحدة البناء، وفيها صناعة وهندسة، مع استخدام
الصور البيانية، فضلاً عن التجديد في الألفاظ المستعملة والموحية.
النثر العباسي :
خطا النثر العباسي خطوات كبيرة، فواكب نهضة العصر وأصبح قادراً على
استيعاب المظاهر العلمية والفلسفية والفنية كما أن الموضوعات النثرية
تنوعت فشملت مختلف مناحي الحياة .. فالكتابة الفنية توزعت على ديوان
الرسائل والتوقيعات وغيرها .. وكان المسؤولون يختارون خيرة الكتاب لغة
وبلاغة وعلماً لتسلم الدواوين، ولاسيما ديوان الرسائل الذي كان يقتضي أكثر
من غيره اتقان البلاغة والتفنن ، و مستوى رفيع من الثقافة فضلاً عن ذلك
النثر الفني القصص و المقامات و النقد الأدبي ، و النوادر ، و الأمثال و
الحكم ، و التدوين ، و الرحلات ، و التاريخ ، و العلوم.
وظهرت الرسائل الأدبية التي تضمنت الحكم و جوامع الكلم و الأمثال و
الفكاهات و كانت موضوعات الرسائل تتراوح بين الأخبار و الأخوانيات ،
والاعتذار وغير ذلك وراجت الرسائل الطويلة في العصر العباسي فتناولت
السياسة والأخلاق والإجتماع، كرسالة الصاحبة لابن المقفع، ورسالة القيان
ورسالة التربيع والدوير للجاحظ، ورسالة الغفران لأبي العلاء المعري.
وعظم شأن القصص في العصر العباسي، فاتسع نطاقه وأصبح مادة أدبية غزيرة،
وتنوعت المؤلفات القصصية فأقبل الناس على مطالعتها وتناقلها ومنها ما اهتم
بالحقل الديني ككتاب قصص الأنبياء المسنى بالعرائس للثعلبي، وقصص الأنبياء
للكسائي، وقصة يوسف الصديق، وقصة أهل الكهف، وقصة الإسراء والمعراج ومنها
القصص الاجتماعية والغرامية والبطولية ككتاب الأغاني لأبي الفرج
الأصبهاني، وقصص العذريين، وسيرة عنتر، وحمزة البلوان، وسواها ومنها القصص
التاريخية التي تناولت سير الخلفاء والملوك والأمراء كما عرف العصر
العباسي القصص الدخيلة المنقولة، نذكر منها كليلة ودمنة، وكتاب مزدك،
وكتاب السندباد، وبعضاً من ألف ليلة وليلة، وأكثره خيالي خرافي يدور بعضه
على ألسنة الحيوان.
وإلى جانب القصة ازدهر أدب الأقصوصة، وكتاب البخلاء للجاحظ خير مثال على
هذا النوع من الأدب وقد امتاز الأدب القصصي العبسي بدقة الوصف والتصوير
وبراعة الحوار، والقدرة على استنباط الحقائق وتصوير مرافق الحياة، وتسقط
العجائب والغرائب، والكشف عن العقليات والعادات والتقاليد.
وفي العصر العباسي ظهر فن المقامة، وضعه بديع الزمان الهمذاني، ولقي
كثيراً من الرواج في العصر العباسي وما بعده .. وهو سرد قصصي يتناول
الأخلاق والعادات والأدب واللغة، ويمتاز بألأسلوبه المسجع وأغراقه في
الصناعة وكثرة الزخارف والمحسنات المتنوعة .. وفضلاً عما ذكرنا اهتم النثر
العباسي بتدوين العلوم على أنواعها وهذه العلوم كانت إما عربية إسلامية
كعلوم الشريعة والفقه والتفسير والحديث والقراءات والكلام والنحو والصرف
والبيان وغير ذلك، وإما أجنبية التأثير كالمنطق والفلسفة والرياضيات والطب
والكيمياء والفلك وعلم النبات والحيوان وغير ذلك. بهذا حاولنا أن نلقي
نظرة على الأدب العباسي، شعره ونثره، وأن توضح أهم ما تناوله من موضوعات
وما امتاز به من خصائص عامة.
حروب وفتوحات الدولة العباسية
في بلاد الهند :
لما قامت الدولة العباسية ولى أبو جعفر المنصور هشام بن عمر التغلبي بلاد
السند .. وفي عهده فتحت كشمير وهدم معبد "بوذا" وبني في موضعه مسجد .. وقد
تقدمت هذه البلاد في عهد هشام التغلبي واستقر بها الأمن وتوطدت أركانه ..
وفي عهد الخليفة المهدي غزا المسلمون بلاد الهند 901 هـ وحاصروا مدينة
"باربد" وضربوها بالمنجنيق وفتحوها عنوة على أن هذه الغزوة كانت كارثة على
جند العباسيين، فقد فشا الموت فيهم وقضى على عدد كبير من المقاتلين، ثم
دمرت الزوابع سفنهم في الخليج العربي فغرق كثير من الجند .. وفي عهد
الخليفة المأمون توسعت فتوحات المسلمين في السند والهند، وفي عهد المعتصم
انتشر الإسلام في البلاد الواقعة بين كشمير وكابول والملتان.
مع البيزنطيين :
لم تنقطع الحرب بين العرب والروم منذ ظهور الإسلام. فلما انتقل الحكم إلى
العباسيين تغيرت وجهة الحرب بينهما وأصبحت عبارة عن غارات، الغرض منها
الهدم والتخريب وإتلاف النفس والمال وهذا ما كان يخالف ما كانت عليه الحال
أيام الأمويين الذين كانت لهم سياسة مرسومة لمحاربة البيزنطيين بغية
احتلال القسطنطينية وبقيت الحرب بين العباسيين والبيزنطيين تشتعل من حين
إلى آخر حتى سنة 551هـ، حين طلب الإمبراطور قسطنطين الرابع الصلح مع
العباسيين على أن يؤدي لهم جزية سنوية.
وفي سنة 951 هـ خرج الخليفة المهدي على رأس جيش كثيف لغزو بلاد الروم،
ووصل إلى "البردان" وعسكر به، وأرسل العباس بن محمد فبلغ أنقرة، وفي سنة
561 هـ أعاد المهدي الكرة على البلاد البيزنطية فجمع جيشاً كثيفاً وعبر
الفرات وجعل عليه ابنه هارون فوصل هذا الجيش إلى سواحل البوسفور وأرغم
الملكة "ايرين" أرملة "ليو" الرابع، وكانت وصية على ابنها قسطنطين السادس
أن تدفع للمسلمين تسعين ألف دينار جزية سنوية، وأن تقيم لهم الأسواق
والأدلاء في الطريق عند عودتهم إلى بلادهم، وأن تسلم أسرى المسلمين وانتهت
هذه الغزوة بهدنة بين الفريقين لمدة ثلاث سنوات ولما تولى الرشيد الخلافة
سار بنفسه سنة 181 هـ على رأس جيش كبير إلى آسيا الصغرى، فانتصر على
البيزنطيين في معارك كثيرة وظل يتابع فتوحه حتى وصل إلى القسطنطينية
فسارعت الامبراطورة "ايرين" إلى طلب الهدنة مقابل دفع الجزية السابق ذكرها
غير أن نقفور الذي اعتلى العرش بن ايرين أرسل إلى الرشيد سنة 781 هـ
كتاباً ينتقض فيه الهدنة، ويلح في استرداد الجزية من جديد. ولم يقتصر
الرشيد في حروبه مع الروم على آسيا الصغرى، بل تعداها إلى البحر المتوسط
ففي سنة 190 هـ غزا جزيرة قبرص وأسر منها عدداً كبيراً من بينهم أسقفها.
أما عصر المأمون فقد اكتفى بتشجيع توماس الصقلبي الثائر على الامبراطور
"تيوفيليوس"، وعمل على تتويجه امبراطوراً على الدولة البيزنطية نفسها ولكن
سرعان ما اكتشفت حملة توماس ولم يتم له ما أراد وقد اتبع الامبراطور
البيزنطي السياسة نفسها مع الخليفة العباسي، فجل بلاد الروم موئلاً
للخرمية أتباع بابك الخرمي الفارسي الذي ثار سنة 102 هـ على المأمون وقد
استطاع المعتصم القضاء على بابك، ثم تفرغ لمحاربة الروم، فسار من فوره إلى
أنقرة في جيش ضخم، وهزم الامبراطور البيزنطي واستولى على أنقرة. ثم تابع
المسير حتى وصل عمورية حيث انتصر على البيزنطيين سنة 322 هـ، واقتحم
عمورية وخربها وعاد إلى سامراء حيث استقبل استقبالاً باهراً وفي هذه
المناسبة نظم أبو تمام قصيدة مشهورة جاء فيها:
السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف ... في متونهم جلاء الشك والريب
فيما بعد ساءت الحال في الدولة العباسية، فاستبد الأتراك والبويهيون
بالسلطة دون الخلفاء فوجد البيزنطيون في ذلك فرصة سانحة للإغارة على
المناطق الخاضعة للدولة العباسية فقد استولوا على ساحل مصر سنة 832 هـ،
كما أغاروا في زمن المتوكل على مدينة "عين زربا" سنة 142 هـ، وعلى الأراضي
الواقعة شمالي العراق فبلغوا آمد وأسروا كثيراً من المسلمين ولكن الخليفة
المتوكل عول على الانتقام، فاستولى على بعض المناطق البيزنطية جنوبي آسيا
الصغرى وأسر أحد البطارقة، واستولى على مدينة لؤولؤة ومنذ عهد الخليفة
المعتمد كانت الخلافة العباسية قد تقلصت إلى حدود الجزيرة والعراق، وتجدد
النزاع بين المسلمين والروم الذين راحوا يعبثون ببعض بلاد الدولة العباسية
.. وكانت شوكة الدولة البيزنطية قد قويت وانتشر فيها الأمن منذ اعتلاء
باسيل الأول العرش سنة (352 هـ) 768م، فتمكن من احراز النصر على بعض أمراء
المسلمين، ساعده على ذلك ضعف الخلفاء أو استبداد القوط بهم وثورة الجند
عليهم.
الحروب في مصر :
كان من أثر تحول الخلافة من الأمويين إلى العباسيين أن قامت حضارة جديدة
حلت مكان الفسطاط، هي العسكر وقد قام الجند العرب في مصر بدور مهم في شؤون
الدولة السياسي. فقد اشتركوا في كثير من الفتن والثورات، مثل فتنة محمد
النفس الزكية في عهد المنصور وعاونوا "دحية" في خروجه على العباسيين في
الصعيد، في عهد الخليفة المهدي كذلك كان للجند العرب في مصر نصيب كبير في
الفتنة التي قامت بين الأمين والمأمون وغدا اشتراك هؤلاء الجند في الثورات
مألوفاً حتى في الحالات التي لم يكن ثمة ما يدعو إلى الاشتراك فيها وقد
دعت هذه الحال الخليفة المعتصم سنة 812 هـ إلى أن يسقط أسماء الجند العرب
في مصر من ديوان العطاء وبذلك اندمج العرب بالمصريين فاحترفوا الزراعة
والصناعة وغيرها، وبذلك قضي تماماً على العصبيات العربية والشعوبيات في
مصر وهذا أمر لم يحدث في أي اقليم آخر من الأقاليم التابعة للدولة
الإسلامية.
في بلاد النوبة :
اتصل العرب اتصالاً وثيقاً بالبجة في القرن الثاني للهجرة عن طريق البحر
الأحمر، وعن طريق وادي النيل، وخاصة اقليم أسوان، بعد أن عقد مع ابن
الحبحاب معاهدة هدنة وحسن جوار غير أن البجة لم يحافظوا على العهد الذي
قطعوه على أنفسهم مه ابن الحبحاب، وكثرت غاراتهم على جهات أسوان عهد
الخليفة المأمون فقامت بين الفريقين مواقع عدة انتهت بإبرام هدنة جديدة،
كان من أهم شروطها أن تكون بلاد البجة من حدود أسوان، وعلى أن تكون منطقة
السودان ملكاً للخليفة العباسي، وأن يدفع ملك البجة كل عام الخرج، وهو
مائة من الإبل أو ثلاثمائة دينار وأن يحترم البجة الإسلام ولا يمنعوا
أحداً كل عام من المسلمين الدخول في بلادهم للتجارة، وإذا نزل البجة صعيد
مصر مجتازين أو تجاراً فلا يظهرون سلاحاً ولا يدخلون المدن والقرى بحال.
في بلاد المغرب :
غدت أفريقيا مسرحاً للفتن والقلاقل في العصر العباسي، وذلك لبعدها عن
السلطة المركزية في بغداد، ولجهل البربر في ذلك العصر، وعدم استعدادهم
لقبول الحضارة الإسلامية وبغضهم ولاتهم من العرب وفرضهم الضرائب الفادحة
عليهم وقد ساعد هذا الواقع على قيام دولة الأدارسة بالمغرب الأقصى سنة 271
هـ، كما ساعد الأغالبة في تونس على تأسيس دولتهم، وكان الرشيد قد أقطع
ابراهيم بن الأغلب تونس سنة 481 هـ.
أما عن جهل البربر وعدم استعدادهم للحضارة الإسلامية، فكان من آثاره أن
السلام لم يتوطد بين البربر والعرب النازلين في بلادهم منذ أن امتدت
الفتوحات الإسلامية إلى هذه البلاد وهذا يفسر لنا انتشار مذهبي الخوارج
والشيعة في بلاد المغرب، وقيام البربر في وجه العباسيين بين الحين والآخر.
وأما عن بغض البربر لولاتهم من العرب فيرجع إلى فداحة الضرائب التي أثقلت
كاهل الأهلين .. والحق أن قيام الخوارج من البربر في وجه العباسيين لم يكن
خروجاً على الدين بل كان خروجاً على السلطة الحاكمة لظلم الولاة لهم
وفرضهم عليهم الضرائب الفادحة.
استمرت قبائل البربر في أفريقيا تناوئ سلطان العباسيين، حتى بعث إليهم
الرشيد سنة 181 هـ هرثمة بن أعين على رأس جيش كثيف استطاع أن يضعف قوتهم
على أن هرثمة رأى بثاقب نظره وطول خبرته تأصل العداء في نفوس البربر،
فأرسل إلى الرشيد يعتذر عن البقاء بالمغرب بعد أن وليها سنتين ونصف السنة
.. ثم ولى الرشيد محمد بن مقاتل، فأساء معاملة الأهلين، فتجددت ثورات
البربر والعرب، وتمكن البربر من دخول القيروان .. إلا أن ابراهيم بن
الأغلب تمكن من طردهم، وأعاد إلى الرشيد ولايته .. وكان من أثر العداء
الذي اضمره البربر للأمويين والعباسيين، وانضمام بعض العرب إلى مذهب
الخارجين أن قامت الفتن والقلاقل في هذه البلاد، وعمل بعض زعمائهم على
الاستقلال عن الدولة العباسية، فتأسست ولايات من البربر، على يد زعماء من
العرب، استقلت استقلالاً يكاد يكون تاماً ومن الولايات التي استقلت ولاية
تاهوت وولاية سلجمانة (تافيلالت الحالية) التي أسسها بنو مدرار، وولاية
تلمسان التي أسسها الصنهاجيون، وولاية برغواطة في تامسنا (الشاوية
الحالية) على ساحل المحيط الأطلسي، ودولة الأغالبة في تونس، ودولة
الأدارسة في المغرب الأقصى.
في بلاد الأندلس :
تقلص سلطان العباسيين عن بلاد الأندلس بعد أن أفلت عبد الرحمن بن معاوية
بن هشام بن عبد الملك وانتقل إلى الأندلس ولكن أبا جعفر المنصور لم يهدأ
باله من ناحية عبد الرحمن الداخل (صقر قريش) ، فعمل على القضاء عل
يتفق بعض المؤرخين على تقسيم الدولة العباسية الى عصرين متميزين : عصر
عباسي أول يعبرون عنه بالعصر الزاهي ، ويمتد من نشأة الدولة عام 132هـ حتى
أيام الخليفة الواثق بن المعتصم سنة 232هـ وبموته انتهى العصر الذهبي
للدولة العباسية ، وعصر ثان هو عصر التدهور والإنحلال ، ابتدأ بخلافة
المتوكل على الله سنة 232هـ وانتهى بسقوط الدولة العباسية على أيدي التتار
سنة 656هـ .
ويعمد فريق من المؤرخين الى جعل العصور العباسية أربعة تبعا للنفوذ السياسي الذي شهدته بغداد وللأوضاع السياسية التي كانت سائدة :
العصر العباسي الأول : دام نحوا من قرن ، امتاز بالنفوذ الفارسي ، حكمه سبعة خلفاء، وهو عصر القوة والزهو.
العصر العباسي الثاني : دام نحوا من قرن ، امتاز بالنفوذ التركي مع الخليفة المعتصم ، وفيه كان بدء الضعف.
العصر العباسي الثالث : دام نحوا من قرن ، امتاز بالنفوذ البديهي وهو عصر
الضعف الفعلي وقيام الدويلات ومنها : الحمدانية في الموصل وحلب ، البويهية
في شيراز ، الأخشيدية في الفسطاط بمصر …الخ.
العصر العباسي الرابع : دام نحوا من قرنين ، وهو عصر الانحلال الذي انتهى
بسقوط بغداد في أيدي المغول سنة 656هـ (1258م ) ، كما امتاز بالنفوذ
السلجوقي .
وقد أخذ العباسيون باستخدامهم الأعاجم ، بدلا من العصبية العربية التي
اعتمدتها الدولة الأموية اعتمادا كليا .. واحتاج العباسيون في اصطناعهم
الأعاجم الى المال ، فوقعوا تحت نفوذ الأغنياء كما أصبح الأعاجم من الفرس
والترك والديلم والصغد وغيرهم ، يتسابقون الى الإستئثار بالنفوذ عن طريق
المال .
وحكمت الدولة العباسية زهاء خمسة قرون ساست فيها العالم .. وفي ذلك يقول
الفخري صاحب الآداب السلطانية : " واعلم أن هذه الدولة من كبريات الدول
ساست العالم سياسة ممزوجة بالدين والملك، فكان أخيار الناس وصلحاؤها
يطيعونها تدينا ، والباقون يطيعونها رهبة أو رغبة .. لقد كانت دولة كثيرة
المحاسن ، جمة المكارم أسواق العالم فيها قائمة وبضائع الآداب فيها نافقة
، وشعائر الدين فيها معظمة ، والخيرات فيها دارة ، والدنيا عامرة ،
والحرمات مرعية ، والثغور محصنة .. ومازالت على ذلك حتى أواخرها ، فانتشر
الجبر واضطرب الأمر ، وانتقلت الدولة ".
خلفاء العصر العباسي الأول
بعد السفاح تولى أبو جعفر المنصور الخلافة ( شقيقه ) ويعد المنصور المؤسس
الحقيقي للدولة العباسية لأنه أحكم الرابطة بين القوة الزمنية والسلطة
الدينية .. ومن أهم أعماله بناء بغداد وتحصين الحدود بينه وبين الروم ..
واتخذ خالد بن برمك وزيراً له ، فبدأت عظمة البرامكة الذين قاموا بأعباء
الوزارة في صدر الدولة العباسية، وكانوا من أكبر دعائم التقدم والرقي ..
وكان المنصور يشرف على أعمال الدولة بنفسه، ويستعرض الجند، ويفتش الحصون،
ويراجع الداخل والخارج، ويحاسب عماله حساباً دقيقاً.
ولما أنهكت الأعمال صحته، قصد مكة ليقضي فيها بقية حياته، فمات على بعض ساعات منها، وذلك سنة 851 هـ.
تولى المهدي ابنه الخلافة وقد رسخت قدم الدولة وثبتت دعائمها، وسكن الناس
إلى حكمها .. وكان المهدي كريماً رحيماً، فعزم على محو كل إساءة اقترفها
المنصور، فعفا عن المسجونين السياسيين، ورد إلى بني هاشم ما كان والده قد
أخذه منهم، ووسع المدارس وزاد من عددها، كما وسع الحرم النبوي في المدينة
المنورة، وأنشأ القصور على الطريق من بغداد إلى مكة، وسعى في توفير الماء
على طول هذه الطريق، كذلك رتب البريد بين مكة والمدينة. وكان يعاصر المهدي
في غرب أوروبا الامبراطور شارلمان، فصادقه واستمرت المودة بين الدولتين
إلى زمن الرشيد. أما الدولة الرومانية الشرقية فكان العداء مستحكماً بين
المهدي وبينها، فقامت الحرب بينهما براً وبحراً، وانتهى الأمر بأن تقدم
المهدي وابنه هارون الرشيد إلى البوسفور، فصالحته الملكة "ايريني" على دفع
جزية سنوية.
وجاء بعد المهدي ابنه موسى الهادي سنة 169 هـ، فلم يعمر أكثر من أربعة عشر
شهراً وقد حاول أن يخلع أخاه الرشيد من ولاية العهد وينقلها إلى ابنه جعفر
وبينما هو يسعى لاتمام ذلك عاجلته منيته سنة 170 هـ.
هارون الرشيد :
مع تولي الرشيد الخلافة 170 هـ بلغت الدولة العباسية غاية قوتها وتجلى
عصرها الذهبي في أسمى مظاهره فلم يكن على وجه الأرض دولة تضارعها في عظمة
السلطان وضخامة الثروة ونشر العلوم والآداب وشيوع النعيم والترف واستتباب
الأمن .. ويعد الرشيد من أكبر حكام العالم، فقد قام متمسكاً بدينه، تقياً
محسناً محباً مع هذا لمظاهر العظمة، ماهراً في قيادة الجيوش .. ومن أجل
هذا كان أبوه يؤثره على أخيه الهادي .. وكان كثير التجول في أملاكه، بقصد
القضاء على الفوضى، وتوطيد الأمن، والتعرف على أحوال الرعية فسارت الطرق
آمنة، وتقلب فيها التجار والحجاج والعلماء من أقصاها إلى أقصاها .. وقد
شيد الرشيد من المساجد والمدارس والمستشفيات والقناطر والترع، ما يشهد له
بالحرص على مصالح رعيته، والهمل على راحتهم .. وفي عصره عظمت بغداد وكثرت
فيها القصور الفخمة التي أبدع المهندسون تنسيقها .. وعظمت كذلك الرصافة
المقابلة لها على الشاطئ الشرقي لنهر دجلة، وذلك بفضل ما أنشأه البرامكة
من قصور ومساجد وحمامات .. وفي عهده اتسع عمران العاصمة حتى بلغ مليوني
نسمة، وصارت ملتقى التجارة بين الهند والصين والشام والجزيرة وبحر المشرق
.. وقد زاد تبعاً لذلك خراج الدولة، فأخذ الخليفة ووزراؤه يغدقون بدون
حساب على الشعراء والعلماء والكتاب والمحتاجين، وينفق هؤلاء عن سعة ..
فراجت التجارة، وكثر التأنق في المعيشة، وبلغ الترف مبلغه الذي سارت به
الأمثال في أنحاء المعمورة، ولم ينقطع تغني الشعراء به حتى وقتنا هذا ..
وعهد هارون لأبنائه الأمين، ثم المأمون، ثم القاسم، وأخذ عليهم العهود
بألا يغيروا هذا الترتيب .. ومات الرشيد بعد أن حكم ثلاثاً وعشرين سنة،
بلغت فيها شهرته الآفاق البعيدة، حتى اتصل بامبراطور الصين، وتبادل
شارلمان معه الهدايا، فأرسل إليه الرشيد هدايا كثيرة تشهد بما كانت عليه
الدولة من الثروة والتقدم، ولاسيما الساعة التي دهش لها الأوروبيون
وحسبوها سحراً .. ثم تولى الأمين الخلافة بعد أبيه سنة 193 هـ، فكان
مسرفاً، مغرماً بالبذخ والترف .. وقيل أن وزيره الفضل بن الربيع أغراه
بخلع أخويه ونقل العهد إلى أبنائه دونهما .. فأرسل الأمين جيشاً يأتيه
بالمأمون فانهزم عند الري وأعلن المأمون نفسه خليفة بالبذخ والترف .. وقيل
أن وزيره الفضل بن الربيع أغراه بخلع أخويه ونقل العهد إلى أبنائه دونهما
فأرسل الأمين جيشاً يأتيه بالمأمون فانهزم عند الري وأعلن المأمون نفسه
خليفة ، وقبلته فارس بأجمعها .. وحاصر المأمون بغداد إلى أن سلم الأمين
نفسه لأخيه .. ولكن بعض الجند الفرس قتلوه، وقد أكرم المأمون أبناء أخيه
وزوجهم من بناته .. وكان المأمون مولعاً بالعلوم والفلسفة والآداب، فكان
عصره أرقى العهود في العصر العباسي .. وظهر فيه علماء مشهورون من أهل
الحديث وعلماء الكلام، وجعل لهم المأمون مجالس للمناظرة .. وكانت الترجمة
عن الفرس واليونان والهنود قد بدأت من قبل، وبخاصة الطب، فنقلت عن
اليونانية أيام المنصور كتب أبقراط وجالينوس في الطب، وترجم ابن المقفع
كتاب كليلة ودمنة عن البهلوية، كما ترجم المجسطي لبطليموس.
فلما كان عصر الرشيد غرف المترجمون من كنز العلوم اليونانية، فحملت الكتب
إلى بغداد ونقلت إلى العربية برعايته وتشجيع البرامكة فنشأ المأمون
متشبعاً بتلك العلوم، مقتنعاً بفائدتها، فنشطت حركة النقل نشاطاً كبيراً،
بفضل تعظيمه العلماء وما كان يغدقه عليهم من الأرزاق .. وكان للمأمون شغف
خاص بأرسطاطاليس، فأرسل في طلب كتبه جماعة إلى القسطنطينية، ممن يعرفون
اليونانية، ومعهم صاحب "بيت الحكمة". وقد أصلح علماء العرب أخطاء اليونان
وشرع بعضهم يضع مؤلفات علمية وفلسفية جديدة.
وقد راجت علوم الأقدمين واشتغل بها المتعلمون في بغداد وخارجها من حواضر
الإسلام، فكان المأمون حامل لواء العلوم على أنواعها، وسبب تلك النهضة
الكبرى.
توفي المأمون في آخر غزواته ببلاد الدولة البيزنطية سنة 218 هـ، إذ أصابته
الحمى فقضت عليه، وكان قد أوصى بالخلافة بعده إلى أخيه المعتصم .. وقد
أوصى المأمون أخاه المعتصم وصية جاء فيها: "يا أبا إسحاق، أدن مني، واتعظ
بما ترى، وخذ بسيرة أخيك في القرآن، واعمل على الخلافة إذا طوقكها الله
عمل المريد لله، الخائف من عذابه وعقابه، ولا تغتر بالله ومهلته، فكأن، قد
نزل بك الموت، ولا تغفل أمر الرعية، والعوام العوام، فإن الملك، الملك
بهم، والمنفعة فيهم وفي غيرهم من المسلمين".
الفنون والآثار والمباني والمدن
بدأت الخلافة العباسية قوية، واختار عبد الله [السفاح] بن محمد بن علي بن
عبدالله بن العباس العراق مقراً ليكون قريباً من بلاد فارس صاحبة الفضل في
تكوين الخلافة واتخذ مدينة الكوفة عاصمة له في أول الأمر ، ثم انتقل منها
الى الهاشمية التي أنشأها بالقرب من الكوفة ثم جاء الخليفة الثاني أبو
جعفر المنصور (أخوه) وأسس مدينة بغداد، وهي كلمة فارسية الأصل ومعناها
"عطية الله" وقد بدئ العمل بإنشائها سنة 541هـ ، وانتقل اليها المنصور في
العام التالي وأسماها دار السلام ، ولكنها ظلت تعرف باسمها الفارسي .
وتقع بغداد قرب مدينة "طيسقون" عاصمة الدولة الساسانية والتي استولى عليها سنة 636م.
من أقدم الآثار المعمارية التي ما تزال باقية حتى الآن من بغداد القديمة
القصر العباسي .. ومن المرجح أن يكون هذا القصر هو قصر التاج الذي وضع
أساسه الخليفة المعتمد سنة 289هـ ، وأتمه الخليفة المكتفي .. ويقع القصر
على الضفة الشرقية لنهر دجلة قرب القصر الحسني الذي كانت تقيم فيه بوران
بنت الحسن بن سهل زوجة الخليفة المأمون .. ويصف ياقوت الحموي قصر التاج
فيقول إن واجهته كان يتقدمها خمسة عقود وكل عقد يرتكز على عمودين من
الرخام.
ويشغل القصر مساحة كبيرة ، وتتوسطه حديقة تحيطها الغرف المقبية ، وقاعات
ذات قباب ، وكثير من الأروقة والدهاليز، وفي الجهة الجنوبية مجموعة من
الغرف تعرف باسم غرف الحريم..
لما ضاقت بغداد القديمة بساكنيها امتدت المباني الى خارجها ، وخاصة على
الضفة الشرقية لنهر دجلة ولذلك فقد بني سور آخر في القرن الخامس الهجري
سنة 488هـ (1095م) يحيط ببغداد ، وما يزال هذا السور باقيا حتى اليوم ..
وأهم أجزاء هذا السور باب الشرجة وباب المعظم .. ولما جدد السلاجقة هذا
السور في القرن السابع الهجري بنوا بابين ، باب الطلسم الذي نسفته الحكومة
التركية سنة 1917، وباب الوسطاني الذي رممته مديرية الآثار مؤخرا وحولته
الى متحف حربي .
من مدن العراق المهمة مدينة الرقة التي فتحها العرب سنة 18هـ ثم أنشأ
الخليفة المنصور مدينة جديدة تبعد عن القديمة نحو 300 قدم الى غربها ،
وسماها "الرقيقة" ، ووضع فيها حامية حتى يؤمن حدود البلاد الشمالية ضد
غزوات البيزنطيين . وفي وسط الرقيقة بنى المنصور مسجدها الجامع ، وكان
عبارة عن مستطيل تحيطه الأروقة من جهته الأربعة ، وقد بني من الطوب اللبن
(الطين) .. وقد تهدم المسجد ولم يبق منه الى مئذنته التي ترجع الى القرن
السادس الهجري .
شيدت شمالي بغداد بأمر الخليفة المعتصم سنة221هـ ثاني عواصم الدولة
العباسية في العراق واتخذها عاصمة للخلافة ، وخطط فيها القطائع لأصحاب
الحرف والجنود والقواد وسائر أفراد الشعب .. وفي عصر الخليفة المتوكل
ارتفع في وسط المدينة جامعه المشهور التي ما تزال مئذنته باقية وتعرف باسم
"ملوية" .. وقد راعى الخلفاء في بناء مدينة سامراء أن تكون قطائع (أحياء)
الجند يبعدون عن الأسواق وعن قطائع أصحاب الحرف المختلفة.
يعتبر الفن الإسلامي الفن الوحيد الذي اتخذ من الفن عنصرا زخرفيا مهما ،
ولعل مرجع ذلك ما أصدره خلفاء الدولة الأموية من أوامر صارمة جعلت الكتابة
على الطراز (النسيج والورق) أمرا ضروريا .. ولذلك تطور الخط العربي بسرعة
واتخذ له أشكالا زخرفية متنوعة وأسماء فنية متعدده ، أقدمها الخط الكوفي
الصلب ذو الزوايا ..
تعتبر المدرسة المستنصرية آخر مخلفات العصر العباسي المعمارية في العراق
وقد عرفت بالمستنصرية نسبة الى بانيها المستنصر بالله الذي تولى الخلافة
من 623-640 . والد المستعصم آخر العباسيين في [بغداد][640-656هـ] وبقتله
ودخول التتار بغداد سقطت الخلافة العباسية .. وقد أنفق على بنائها زهاء
700 ألف دينار ذهباً ، وأوقف لها نحواً من مليون دينار يدر عليها دخلا
سنويا قدره 70 ألف دينار.
والمدرسة مستطيلة الشكل يتوسطها صحن كبير ، وفيها أربعة إيوانات في
أضلاعها الأربعة ومن ملحقات المدرسة المستنصرية دار مجاورة تقع في شمالها
، تتكون من إيوان كبير وعدة إيوانات أخرى ، منها دار الحديث الشريف ودار
القرآن وكان يدرس في هذه الدور علم الطب والرياضيات ، وقد استمر التدريس
فيها حتى القرن العاشر الهجري.
وكانت الكتابة تزين مدخل المدرسة المستنصرية الأصلي، فهي من الآجر وبالخط
الثلث على أرضية نباتية مزهرة غاية في الدقة والإبداع ونقرأ في الصف
الثاني : " التي أعدها الذين آمنوا وعملوا الصالحات " وفي السطر
الثالث:"وأمر أن تجعل مدرسة للفقهاء على المذاهب الأربعة " ، وفي السطر
الرابع:"سيدنا ومولانا إمام المسلمين وخليفة رب العالمين " ، وفي السطر
الخامس :"أبو جعفر المنصور المستنصر بالله أمير المؤمنين".
الأخيضر
من القصور المهمة التي بنيت في العصر العباسي قصر الأخيضر ، وهو يقع في
الصحراء جنوبي غربي بغداد ، كما يبعد عن كربلاء نحو 45 كلم .. ويبدو في
تخطيط هذا القصر التأثر الواضح بالعمارة الساسانية المتمثلة في إيوان كسرى
الذي كان مايزال سليم في العصر العباسي .. كما يبدو في قصر الأخيضر التأر
بالأساليب المعمارية في قصور المنابرة بالحيرة ويتكون قصر الأخيضر من
مستطيل يبلغ طوله 175م وعرضه 170م ،وفي منتصف كل ضلع بوابة كبيرة ، وفي
أركان المستطيل أربعة أبراج ، وبين كل برجين كبيرين عشرة أبراج صغيرة ،
كما يحيط البوابة برجان كبيران ، لذلك فإنه يبدو من الخارج كأنه قلعة
والقصر مبني بالحجر الجيري والجبس للجدران الخارجية ، أما الأقبية والقباب
فهي من الطوب المحروق وعندما نمر من البوابة الرئيسية في الواجهة الشمالية
، فإننا ندخل دهليزا مغطى بقبو ويؤدي الى قاعة العرض وهذه القاعة مغطاة
بسقف من الطوب المحروق ، أما جدرانها فقد زخرفت بحنيات ترتكز على أعمدة
مبنية هي أيضا من الطوب وهذه الأعمدة ، فضلا عن دورها في زخرفة القاعة
وتجميله ، تخفف من قوة الضغط على الجدران ..
مدينة الموصل :
تعد الموصل من مدن العراق المهمة ، فقد كانت في العصر الأموي قاعدة للجيوش
العربية التي توغلت في أذربيجان وأرمينيا وكذلك ازدهرت الموصل ثانية في
القرن الرابع الهجري ، في عهد الحمدانيين الذين اتخذوها عاصمة لهم ، كما
استمرت عاصمة حكم الى الأتابكة ، ولعل من أهم آثارها الباقية مئذنة مسجدها
الجامع والتي تعرف باسم "الحدباء".
المنسوجات العباسية :
كانت المنسوجات الصوفية والحريرية من أهم الصادرات في العصر العباسي ،
وذلك لكثرة عدد المصانع .. وتدل أسماء بعض أنواع الأقمشة التي ما تزال
باقية حتى اليوم على مدى انتشار المنسوجات العربية وجودتها .. وبعض هذه
الأسماء استعملها الأوروبيون في العصور الوسطى وبقيت حتى اليوم مثل نسيج
"موسلين" نسبة الى مدينة الموصل.
التحف الخشبية :
كانت صناعة التحف الخشبية من الأعمال البارزة في تاريخ الفنون الإسلامية
وقد تأثرت الى حد كبير بالفنون الساسانية والبيزنطية والهندية ثم تطورت في
العصر العباسي حتى أصبح للفن الإسلامي أساليبه الخاصة في هذا الميدان.
المدن العباسية :
أراد العباسيون أن يتخذوا من العراق موئلاً لخلافتهم، فاتخذ عبدالله
السفاح "الهاشمية" مقراً للدولة .. ولم يلبث أبو جعفر المنصور أن اختار
قرية صغيرة على الضفة الغربية من دجلة لتكون حاضرة الخلافة، وهي بغداد ..
ويروي بعض المؤرخين أن كلمة "بغداد" فارسية الأصل، وهي مكونة من كلمتين:
"بلغ" ومعناها بالفارسية بستان و"داد" بمعنى يعطي (أي الله) .. وقد سماها
المنصور مدينة السلام أو دار السلام، وفي هذا الإسم إشارة إلى الجنة، وقد
اقتصر استعمال هذا الإسم في الشؤون الرسمية، وبه ضربت السكة، ولكن الناس
عامة كانوا يفضلون اسم "بغداد".
تخطيط المدينة :
شرع المنصور في بناء حاضرته الجديدة في موضع بغداد القديمة، وأمر باحضار
المهندسين والبنائين، والفعلة، والصناع من النجارين، والحدادين،
والحفارين، من الشام والموصل والكوفة وواسط وبلاد الديلم، حتى بلغ عددهم
مائة ألف على ما ذكره المؤرخون .. وقد وضع المنصور حجر الأساس في الوقت
الذي اختاره المنجمون، وكان الطالع في الشمس، وهي في القوس، فأخبره
المنجمون بما تدل عليه النجوم من طول بقائها، وكثرة عمارتها، واحتياج
الناس إلى ما فيها .. واحتفل الخليفة العباسي ببدء العمل احتفالاً كبيراً
حضره رجال الدولة من الأمراء والوزراء والعلماء والقادة والأعيان .. وقد
روى الطبري وغيره أن المنصور لما عزم على بناء بغداد أحب أن يعرف رسمها
فأمر أن تخط طريق المدينة بالرماد ،ثم دخل من موضع كل باب ، ومر في طرقات
المدينة ورجالها وهي مخططة بالرماد .. ثم أمر أن يوضع على تلك الخطوط حب
القطن ، ويصب عليه النفط وتوقد فيه النار ، فنظر والنار تشتعل ، وبذلك
أمكنه الوقوف على رسم مدينته الجديدة .. وقد أمر بحفر الأساس مكان الخطوط
، وكان ذلك في سنة 541هـ .. جعل المنصور مدينة بغداد مستديرة الشكل ، وبنى
داره وجامعه في وسطها ، حتى لا يكون أحد أقرب اليه من الآخر وهذا نوع من
البناء جديد عند المسلمين ، ويبدو أنهم أخذوه عن الفرس ولم يجعل المنصور
حول القصر والجامع بناً إلا الدار التي بناها للحرس من ناحية باب الشام ،
وسقيفة كبيرة ممتده على عمد مبنية بالآجر والجص ، خص قسما منها لصاحب
الشرطة وقسما آخر لصاحب الحرس. واتخذ حول ذلك قصور الأمراء ، ورجال الدين
، ودواوين الحكومة ، ومطبخ العامة .. وأخذ البناءون يبنون حول الدواوين
ودور الأهالي تتخللها الأسواق ،وجعل للمدينة شوارع رئيسية أربعة تتفرع
منها شوارع أخرى ... وأمر المنصور أن يبنى للمدينة سوران : سور داخلي عرضه
من أسفله خمسون ذراعا ومن أعلاه عشرون ذراعا ، وسور خارجي ارتفاعه ثلاثون
ذراعا وعرض كعرض السور الداخلي ، وليس عليه أبراج وحوله من الخارج خندق
عميق تجري فيه الماء من القناة التي تأخذ من نهر كرفايا ، وحافتا الخندق
جعلتا من الجص والآجر ، وفوق الخندق 361 برجاً .. سمك كل منها خمس أذرع ،
وكان بالسور الخارجي أربعة أبواب .
أبواب السور الخارجي :
هي باب الكوفة في الجنوب الغربي ، وباب البصرة في الجنوب الشرقي ، وباب
خرسان في الشمال الشرقي وكان على نهر دجلة ويتصل بقنطرة السفن ، كما عرف
هذا الباب باسم باب الدولة لإقبال قوة الدولة العباسية من خرسان ، وباب
الشام في الشمال الغربي ، وكان قطر مدينة بغداد من باب خرسان الى باب
الكوفة 2200 ذراعا ، ومن باب البصرة الى باب الشام كذلك . وبين السورين
ستون ذراعا ، وتعرف المسافة بين السورين "الفيصل" وكان وزن كل لبنة جعفرية
(نسبة الى أبي جعفر المنصور) مما استعمل في البناء 117 رطلاً .. وقد ذكر
اليعقوبي أن وزن اللبنة المربعة التي بلغ طولها ذراعا وعرضها ذراعا مائتا
رطل ، واللبنة المنصفة التي يبلغ طولها وعرضها مائة رطل .. وذكر صاحب كتاب
"مناقب بغداد" أن الطوب المستعمل هو اللبن والآجر .. وكان بين السورين
دهاليز تصل السور الخارجي بالداخلي ، فإذا دخل أحدهم من باب خرسان مثلا
عطف الى يساره في دهليز طليت جدرانه بالجص الأبيض ، وهكذا الحال مع سائر
الأبواب.
قصر الذهب :
بنى المنصور قصره المعروف باسم "قصر الذهب" في وسط بغداد ، وبنى المسجد
الجامع قبالته ، وقد بلغت مساحة القصر 160000 ذراع مربع ، وساحة الجامع
40000 ذراع مربع ويعتبر قصر الذهب والجامع مركز الدائرة ، ومن هذا المركز
تفرعت أربعة شوارع رئيسية متجهة نحو أبواب الأسوار .. وقد أقيمت على جانبي
هذه الشوارع الأبنية العالية وجاءت منسقة ومتشابهة في الشكل وأسلوب البناء
والجدير بالملاحظة أنه إذا وقف الإنسان في نهاية أحد شوارع بغداد يمكنه أن
يرى قصر الخلافة ، على أن بغداد سرعان ما ازدحمت بالعلماء والتجار والصناع
الذين أقبلوا عليها من كل حدب وصوب، فلم يرى بداً من الإقامة خارجها في
مكان طيب الهواء ،فبنى في عام 157هـ قصر الخلد .
القطائع والأرباض :
بعدما فرغ المنصور من بناء مدينته ، أقطع الأعيان قطائع من الأرض ، رغبة
في تخفيف الضغط على بغداد من جهة ، ومكافأة لهم على ما قدموه من خدمات ،
وسرعان ما عمرت هذه القطائع وازدحمت بالسكان .. وقد عرفت كل قطعة باسم
الرجل أو المجموعة التي تسكنها .. وجعل المنصور أرباض بغداد (ضواحيها)
أربعة أقسام ، وعين لكل ربض مسؤولاً عهد إليه ، عدا مهمة الإشراف، أن يقيم
سوقاً محلية تفي بحاجة السكان ، كما أمر أن تخط الشوارع والدروب وتنتظم
حولها المباني ، وأن يسمى الشوارع أو الدروب باسم القائد أو الرجل النابه
الذي يقيم فيه .. وسرعان ما عمرت الأرباض وكثرت فيها المساجد والحمامات.
سكك بغداد ودروبها :
أسهب المؤرخون في الكلام على سكك بغداد (أزقتها) ودروبها فنجد سكة الشرطة
، وسكة المطبق ، وسكة الربيع وذكر المؤرخون أمثال اليعقوبي أن عدد السكك
والدروب بلغ ستة آلاف ، وأن عدد الحمامات بلغ عشرة آلاف، والمساجد ثلاثين
ألفاً .. ويروي أن أحد بطارقة الروم وفد على المنصور ، فأمر الخليفة حاجبه
الربيع بن يونس أن يطوف به المدينة ويصعده الأسوار ، ويريه قباب الأبواب
والطاقات ليرى ما عليه حاضرة الخلافة من الأبهة والعمران .. وبعد انتهاء
جولته سأله المنصور عن رأيه في مدينته فقال: "يا أمير المؤمنين، انك بنيت
بناء لم يبنه أحد قبلك وفيه ثلاثة عيوب .. أما أول عيب فبعده عن الماء
ولابد للناس من الماء لشفاههم، أما العيب الثاني فإن العين خضرة وتشتاق
الى الخضرة وليس في بنائك بستان، وأما العيب الثالث فإن رعيتك في بنائك،
وإذا كانت الرعية مع الملك فشا سره".
وما أن خرج البطريق حتى أمر المنصور بمد قناتين من دجله ، وغرس العباسية ، ونقل الناس الى الكرخ.
بناء الكرخ :
قام ببناء الكرخ الربيع بن يونس من مال المنصور الخاص ، ويقع هذا الحي
غربي بغداد،وحولت الى الكرخ أسواق المدينة .. وعمد الخليفة المنصور
بتصميمها على قطعة من قماش عين عليها مواضع الأسواق، كما عين موضع المسجد
الجامع .وقد أفرد لكل حرفة سوقاً خاصة ، ثم أخذ حي الكرخ في الإتساع حتى
اتصل بمدينة بغداد.
الرصافة :
حقق بناء بغداد الغرض الذي كان يرمي اليه المنصور ، من منع وصول العدو
اليه غير أنه لم يحل دون ما قد يحدث اذا ثار عليه الجند .. الواقع أن
الخليفة لم يكن آمناً على نفسه باقامته في بغداد، اذ ثار الجند وحاربوه
على أبواب بغداد .. ولما أخمدت ثورتهم أمر ببناء الرصافة.
اتخذت الرصافة في الأصل ثكنات للجيش وسميت: رصافة بغداد ، وبغداد الشرقية
، لوقوعها في الجهة الشرقية من دجلة والمقابلة لبغداد وبنى لها المنصور
سوراً وحفر حولها خندقاً ، وجعل فيها ميداناً فسيحاً ، ومسجداً وبستاناً ،
وأجرى اليها الماء ، وقد تم بناؤها في خلافة ابنه المهدي 159هـ .. وسرعان
ما عمرت الرصافة حتى قاربت في الإتساع فظهرت فيها الحدائق والمتنزهات
والميادين الواسعة والمباني الفخمة ، حتى بدت بغداد بجانبها كأنها البلد
العتيق تجتمع في جزء من محاسن المدينة التي أحدثت في جواره.
اتساع بغداد :
بلغ اتساع بغداد والرصافة والكرخ اتساعا عظيما ، حتى غدت أشبه بمدن صغيرة
متلاصقة وأصبحت بغداد من مدائن الشرق في ذلك العصر ، وبلغ عدد سكانها
مليوني نسمة .. وازدهرت فيها الفنون المتنوعة ، وانتشرت منها الحضارة الى
سائر أنحاء العالم .. وقد عني المنصور بتنظيف مدينته ، فكانت الأزقة
والشوارع والساحات تكنس ويحمل التراب خارج المدينة .. وكانت المياه تؤمن
على هور البغال ، وفيما بعد أمر بإيصال الماء الى قصره وأحياء المدينه.
نفقات بناء بغداد :
تكلف بناء بغداد أموالاً طائلة إذ أن المنصور عمل على تحصينها تحصيناً
منيعاً وبنى فيها القصور الفخمة ، حتى تحاكي حواضر العالم الكبرى جمالاً
وقوة ، وخاصة القسطنطينية حاضرة الروم .. وقد بلغت نفقات المدينة وما
اليها من أسوار وأبواب ، والقصر ، والمسجد الجامع ، والأسواق ، والقباب ،
والخنادق وغيرها 81 مليون دينار من الذهب ، وعلى رواية الطبري .. وهكذا
تأسست مدينة بغداد في عهد أبي جعفر المنصور ، وقد حافظت على رونقها حتى
سنة 656هـ حين خربها التتار بقيادة هولاكو..
الأدب في العصر العباسي
وصلت الحياة الفكرية في العصر العباسي إلى ذروة التطور والازدهار، ولاسيما
في العلوم والآداب .. وقد عرف العصر حركات ثقافية مهمة وتيارات فكرية بفضل
التدخل بين الأمم .. وكان لنقل التراث اليوناني والفارسي والهندي، وتشجيع
الخلفاء والأمراء والولاة، وإقبال العرب على الثقافات المتنوعة، أبعد
الأثر في جعل الزمن العباسي عصراً ذهبياً في الحياة الفكرية .. ونحاول
فيما يأتي التعرف إلى الإنتاج الأدبي، شعره نثره، على اختلاف فنونه، وما
لحقه من خصائص وتطورات.
في العصر العباسي كانت العربية قد أصبحت اللغة الرسمية في البلدان الخاضعة
لسيطرة المسلمين، وكانت لغة العلم والأدب والفلسفة والدين لدى جميع
الشعوب. وقد كتب النتاج بمجمله في اللغة العربية مع أن قسماً كبيراً من
أصحابه ليسوا من العرب !!
تركت الثقافات الدخيلة أثراً عميقاً في علوم العرب وفلسفتهم، ولكن آداب
الأعاجم لم يكن لها مثل هذا الأثر فالعرب لم ينقلوا إلا جزءاً ضئيلاً من
الآداب الأعجمية، لأنهم لم يشعروا بحاجتهم إليها ولم يكن أدباء العرب
وشهراؤهم يتقنون لغات غربية، فظل أدبهم في مجمله صافياً بعيداً عن
التيارات الأجنبية.
وقد غلب الطابع العربي على الأعاجم الذين نظموا وكتبوا بالعربية، فتأثروا
بالاتجاهات الأدبية العربية وانحصر تجديدهم ضمن القوالب التقليدية فالعصر
العباسي حمل الأدب كثيراً من التجديد، ولكن ضمن الأطر التقليدية.
في العصر العباسي انتشرت المعارف، وكثر الاقبال على البحث والتدوين،
وأنشئت المكتبات وراجت أسواق الكتب وقد وضعت المؤلفات في مختلف فروع
المعرفة، في التاريخ والجغرافيا، والفلك والرياضيات، والطب والكيمياء
والصيدلة، والصرف والنحو، واللغة والنقد، والشعر، والقصص والدين،
والفللسفة والسياسة، والأخلاق والاجتماع وغير ذلك .. ويكفي أن نقرأ كتاب
الفهرست لابن النديم لنعرف إلى أي مدى كانت حركة التأليف مزدهرة .. وأقبل
الأدباء على الثقافات الجديدة يكتسبون منها معطيات عقلية، وقدرة على
التعليل والاستنباط وتوليد المعاني، والمقارنة والاستنتاج .. فالأدب
العباسي جاء أغنى مما سبقه، ويدلنا على هذا الغنى ما نراه في شعر أبي نواس
وأبي تمام وأبي الطيب والمتنبي وأبي علاء، وما نراه في نثر ابن المفقع
والجاحظ وبديع الزمان وسواهم .. ثم ان عمق الثقافة ساعد على عمق التجربة
الانسانية، فجاءالأدب العباسي زاخراً بالمعطيات الانسسانية من حيث تصويره
لجوهر الانسان وما يتعقب على النفس من حالات اليأس والأمل، والضعف والقوة،
والحزم والفرح وغير ذلك .. كما رسم الأدب العباسي المشاكل العامة في
الاجتماع والفكر والسياسة والأخلاق .. وهذا كله ظهر في خمريات أبي نواس
وخواطر الرومي، وحكم المتنبي، ووجدانيات أبي فراس، وتأملات المعري، وأمثال
ابن المفقع، وانتقادات الجاحظ .. فضلاً عن ذلك عرف العصر مدارس أدبية
شعرية ونثرية، منها مدرسة أبي نواس ومدرسة أبي تمام، ومدرسة أبي العتاهية،
ومدرسة المعري في ميادين الشعر.
وفي النثر عرفت مدرسة ابن المفقع، ومدرسة الجاحظ، ودرسة القاضي الفاضل،
ومدرسة بديع الزمان الهمذاني وكل من هذه المدارس خصائصها واتجاهاتها، وقد
كان لها الفضل في إعلاء شأن الحياة الأدبية في العصر العباسي.
ازدهر الشعر السياسي في العصر الأموي لأسباب متعددة أهمها قيام الأحزاب
السياسية وتناحرها .. ولكن هذا اللون انحسرت أهميته في العصر العباسي بسبب
ضعف الأحزاب والعصبيات القبلية .. وقد ازدهر بالمقابل شعر المدح بفعل
ازدهار الحياة الاقتصادية وتطور الحياة الإجتماعية، مع ميل الخلفاء إلى
الترف وحب الإطراء .. فأقبل الشعراء يمجدون الخلافة والأمراء وأصحاب
النفوذ، مقابل العطايا السنية وهذا ما جعل الشعراء يحملون بالثروات
الطائلة، فيقصدون بغداد والعواصم الأخرى للإقامة في جوار القصور .. وقوي
الهجاء كذلك بدافع تحاسد الشعراء، وإلحافهم في طلب الجوائز، وضمنوا هجائهم
الكلام المقنع أحياناً.
أما الغزل فقد مال به أصحابه بصورة عامة، إلى التهتك والإباحية، والفحش في
الألفاظ وكثر في العصر العباسي الخلعاء من الشعراء الماجنين، وأهمهم أبو
نواس، وحماد عجرد، ومطيع بن اياس، والضحاك، ووالبة بن الحباب .. إلا أن
فئة من المتعففين حافظ أفرادها على العذرية في الشعر، من أمثال البحتري
وأبي تمام وابن الرومي وأبي فراس الحمداني والشريف الرضي فهؤلاء جاءت
قصائدهم الغزلية صادرة عن وجدان صحيح فيه الصدق والبراءة والمحافظة على
الآداب العامة .. ثم ان الفخر الذي بني في الجاهلية على العصبية القليلة
ضعف شأنه مع ظهور الإسلام، إلا ما كان منه جماعياً وبالدين الإسلامي وأهله
.. أما العصر العباسي فقد تحول فيه الفخر إلى العصبية العنصرية أو
القومية، ولكنه لم يكن قوياً في العصر الأول والثاني.
وقد ازدهر الفخر في العصر الثالث مع اضطراب الأحوال السياسية وكثرة
المغمرين والاعتداد بالنفس وأبرز شعراء الفخر أبو الطيب المتنبي وأبو فراس
و الشريف الرضي .. وهذه الموضوعات الشعرية كانت معروفة في العصور السابقة
وحافظ الشعراء العباسيون على قوتها إلا أن البيئة العباسية ساعدت على
ازدهار فنون جديده كانت من قبل ضعيفة أو غير معروفة .. وأهم هذه الفنون
شعر المجون الذي كان وليد انتشار الزندقة وتفشي الفساد بفعل اختلاط الشعوب
، واتيان الأعاجم بفنون من الخلاعة والفحش وردئ العادات .. أما شعر الخمر
فقد ارتقى على أيدي أبي نواس وصحبه ، وأصابه من معطيات العصر ما جعل
الشعراء يبدعون فيه .. ومن دوافع ازدهار شعر الخمر الثقافة التي تيسرت
للعباسيين فعمقت تجربتهم وكثفت شعرهم .. فأبو نواس تجاوز الأعشى والأخطل
والوليد بن يزيد في هذا الفن ، واهتدى الى معان وصور وآفاق وأساليب صار
معها حامل لواء التجديد في الشعر العباسي وجعل من الخمريات رمزا لهذا
التجديد وأساسا لنشر الآراء وفلسفة الحياة والوجود .. وبعد أبي نواس
استمرت الخمريات فنا شعريا راقيا اشتهر فيه ابن المعتز ومعز الدولة
البويهي والغرائي وسواهم.
ومن الفنون الشعرية التي حافظت على رواجها وتطورت في العصر العباسي فن
الوصف التي شمل الطبيعة المطبوعة والطبيعية المصنوعة .. ولهذا اهتم
الشعراء بالرياض والقصور، والبرك، والأنهار، والجبال، والطيور، والمعارك،
ومجالس اللهو، وغير ذلك.
في العصر العباسي تطورت المعاني الشعرية عمقاً وكثافة ودقة في التصوير،
فجاءت شاملة للحقائق الانسانية وقد انصرف الشعراء عن المعاني القديمة إلى
معان جديدة، يساعد على ذلك ما كسبه العقل العباسي من الفلسفة وعلم الكلام
والمنطق، وما وصلوا إليه من أساليب فنية قوامها المحسنات اللفظية
والمعنوية ومثال ذلك أن أبا تمام يجمع في قصيدة "فتح عمورية" بين العملية
الفكرية والعملية الفنية، فأخرج من القصيدة شعراً جديداً راقياً، فيه من
القديم مسحة ومن الجديد أخرج معاني وصوراً طريفة وكثرت في الشعر العباسي
الأمثال والحكم (المتنبي والمعري)، وبرز فيه المنطق والأقيسة العقلية،
وترتيب الأفكار (أبو تمام، وابن الرومي، المتنبي). كما ظهر الإبداع في
التصوير والاعراب في الخيال، ومجاراة الحياة والفنون في الزخرفة والنقش،
والاهتمام بالألوان (ابن الرومي، والبحتري).
امتاز الشعر العباسي بدقة العبارة وحسن الجرس والايقاع، وذلك بتأثير
الحضارة ورفاه العيش كما امتاز بخروجه على المنهجية القديمة في بناء
القصيدة وترتيب أجزائها. وكثيراً ما ثار الشعراء على الأساليب القديمة،
وفي ذلك ذلك يقول المتنبي:
إذا كان شعر فالنسيب المقدم ... أكل بليغ قال شعراً متيم
وتمتاز القصيدة العباسية بوحدة البناء، وفيها صناعة وهندسة، مع استخدام
الصور البيانية، فضلاً عن التجديد في الألفاظ المستعملة والموحية.
النثر العباسي :
خطا النثر العباسي خطوات كبيرة، فواكب نهضة العصر وأصبح قادراً على
استيعاب المظاهر العلمية والفلسفية والفنية كما أن الموضوعات النثرية
تنوعت فشملت مختلف مناحي الحياة .. فالكتابة الفنية توزعت على ديوان
الرسائل والتوقيعات وغيرها .. وكان المسؤولون يختارون خيرة الكتاب لغة
وبلاغة وعلماً لتسلم الدواوين، ولاسيما ديوان الرسائل الذي كان يقتضي أكثر
من غيره اتقان البلاغة والتفنن ، و مستوى رفيع من الثقافة فضلاً عن ذلك
النثر الفني القصص و المقامات و النقد الأدبي ، و النوادر ، و الأمثال و
الحكم ، و التدوين ، و الرحلات ، و التاريخ ، و العلوم.
وظهرت الرسائل الأدبية التي تضمنت الحكم و جوامع الكلم و الأمثال و
الفكاهات و كانت موضوعات الرسائل تتراوح بين الأخبار و الأخوانيات ،
والاعتذار وغير ذلك وراجت الرسائل الطويلة في العصر العباسي فتناولت
السياسة والأخلاق والإجتماع، كرسالة الصاحبة لابن المقفع، ورسالة القيان
ورسالة التربيع والدوير للجاحظ، ورسالة الغفران لأبي العلاء المعري.
وعظم شأن القصص في العصر العباسي، فاتسع نطاقه وأصبح مادة أدبية غزيرة،
وتنوعت المؤلفات القصصية فأقبل الناس على مطالعتها وتناقلها ومنها ما اهتم
بالحقل الديني ككتاب قصص الأنبياء المسنى بالعرائس للثعلبي، وقصص الأنبياء
للكسائي، وقصة يوسف الصديق، وقصة أهل الكهف، وقصة الإسراء والمعراج ومنها
القصص الاجتماعية والغرامية والبطولية ككتاب الأغاني لأبي الفرج
الأصبهاني، وقصص العذريين، وسيرة عنتر، وحمزة البلوان، وسواها ومنها القصص
التاريخية التي تناولت سير الخلفاء والملوك والأمراء كما عرف العصر
العباسي القصص الدخيلة المنقولة، نذكر منها كليلة ودمنة، وكتاب مزدك،
وكتاب السندباد، وبعضاً من ألف ليلة وليلة، وأكثره خيالي خرافي يدور بعضه
على ألسنة الحيوان.
وإلى جانب القصة ازدهر أدب الأقصوصة، وكتاب البخلاء للجاحظ خير مثال على
هذا النوع من الأدب وقد امتاز الأدب القصصي العبسي بدقة الوصف والتصوير
وبراعة الحوار، والقدرة على استنباط الحقائق وتصوير مرافق الحياة، وتسقط
العجائب والغرائب، والكشف عن العقليات والعادات والتقاليد.
وفي العصر العباسي ظهر فن المقامة، وضعه بديع الزمان الهمذاني، ولقي
كثيراً من الرواج في العصر العباسي وما بعده .. وهو سرد قصصي يتناول
الأخلاق والعادات والأدب واللغة، ويمتاز بألأسلوبه المسجع وأغراقه في
الصناعة وكثرة الزخارف والمحسنات المتنوعة .. وفضلاً عما ذكرنا اهتم النثر
العباسي بتدوين العلوم على أنواعها وهذه العلوم كانت إما عربية إسلامية
كعلوم الشريعة والفقه والتفسير والحديث والقراءات والكلام والنحو والصرف
والبيان وغير ذلك، وإما أجنبية التأثير كالمنطق والفلسفة والرياضيات والطب
والكيمياء والفلك وعلم النبات والحيوان وغير ذلك. بهذا حاولنا أن نلقي
نظرة على الأدب العباسي، شعره ونثره، وأن توضح أهم ما تناوله من موضوعات
وما امتاز به من خصائص عامة.
حروب وفتوحات الدولة العباسية
في بلاد الهند :
لما قامت الدولة العباسية ولى أبو جعفر المنصور هشام بن عمر التغلبي بلاد
السند .. وفي عهده فتحت كشمير وهدم معبد "بوذا" وبني في موضعه مسجد .. وقد
تقدمت هذه البلاد في عهد هشام التغلبي واستقر بها الأمن وتوطدت أركانه ..
وفي عهد الخليفة المهدي غزا المسلمون بلاد الهند 901 هـ وحاصروا مدينة
"باربد" وضربوها بالمنجنيق وفتحوها عنوة على أن هذه الغزوة كانت كارثة على
جند العباسيين، فقد فشا الموت فيهم وقضى على عدد كبير من المقاتلين، ثم
دمرت الزوابع سفنهم في الخليج العربي فغرق كثير من الجند .. وفي عهد
الخليفة المأمون توسعت فتوحات المسلمين في السند والهند، وفي عهد المعتصم
انتشر الإسلام في البلاد الواقعة بين كشمير وكابول والملتان.
مع البيزنطيين :
لم تنقطع الحرب بين العرب والروم منذ ظهور الإسلام. فلما انتقل الحكم إلى
العباسيين تغيرت وجهة الحرب بينهما وأصبحت عبارة عن غارات، الغرض منها
الهدم والتخريب وإتلاف النفس والمال وهذا ما كان يخالف ما كانت عليه الحال
أيام الأمويين الذين كانت لهم سياسة مرسومة لمحاربة البيزنطيين بغية
احتلال القسطنطينية وبقيت الحرب بين العباسيين والبيزنطيين تشتعل من حين
إلى آخر حتى سنة 551هـ، حين طلب الإمبراطور قسطنطين الرابع الصلح مع
العباسيين على أن يؤدي لهم جزية سنوية.
وفي سنة 951 هـ خرج الخليفة المهدي على رأس جيش كثيف لغزو بلاد الروم،
ووصل إلى "البردان" وعسكر به، وأرسل العباس بن محمد فبلغ أنقرة، وفي سنة
561 هـ أعاد المهدي الكرة على البلاد البيزنطية فجمع جيشاً كثيفاً وعبر
الفرات وجعل عليه ابنه هارون فوصل هذا الجيش إلى سواحل البوسفور وأرغم
الملكة "ايرين" أرملة "ليو" الرابع، وكانت وصية على ابنها قسطنطين السادس
أن تدفع للمسلمين تسعين ألف دينار جزية سنوية، وأن تقيم لهم الأسواق
والأدلاء في الطريق عند عودتهم إلى بلادهم، وأن تسلم أسرى المسلمين وانتهت
هذه الغزوة بهدنة بين الفريقين لمدة ثلاث سنوات ولما تولى الرشيد الخلافة
سار بنفسه سنة 181 هـ على رأس جيش كبير إلى آسيا الصغرى، فانتصر على
البيزنطيين في معارك كثيرة وظل يتابع فتوحه حتى وصل إلى القسطنطينية
فسارعت الامبراطورة "ايرين" إلى طلب الهدنة مقابل دفع الجزية السابق ذكرها
غير أن نقفور الذي اعتلى العرش بن ايرين أرسل إلى الرشيد سنة 781 هـ
كتاباً ينتقض فيه الهدنة، ويلح في استرداد الجزية من جديد. ولم يقتصر
الرشيد في حروبه مع الروم على آسيا الصغرى، بل تعداها إلى البحر المتوسط
ففي سنة 190 هـ غزا جزيرة قبرص وأسر منها عدداً كبيراً من بينهم أسقفها.
أما عصر المأمون فقد اكتفى بتشجيع توماس الصقلبي الثائر على الامبراطور
"تيوفيليوس"، وعمل على تتويجه امبراطوراً على الدولة البيزنطية نفسها ولكن
سرعان ما اكتشفت حملة توماس ولم يتم له ما أراد وقد اتبع الامبراطور
البيزنطي السياسة نفسها مع الخليفة العباسي، فجل بلاد الروم موئلاً
للخرمية أتباع بابك الخرمي الفارسي الذي ثار سنة 102 هـ على المأمون وقد
استطاع المعتصم القضاء على بابك، ثم تفرغ لمحاربة الروم، فسار من فوره إلى
أنقرة في جيش ضخم، وهزم الامبراطور البيزنطي واستولى على أنقرة. ثم تابع
المسير حتى وصل عمورية حيث انتصر على البيزنطيين سنة 322 هـ، واقتحم
عمورية وخربها وعاد إلى سامراء حيث استقبل استقبالاً باهراً وفي هذه
المناسبة نظم أبو تمام قصيدة مشهورة جاء فيها:
السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف ... في متونهم جلاء الشك والريب
فيما بعد ساءت الحال في الدولة العباسية، فاستبد الأتراك والبويهيون
بالسلطة دون الخلفاء فوجد البيزنطيون في ذلك فرصة سانحة للإغارة على
المناطق الخاضعة للدولة العباسية فقد استولوا على ساحل مصر سنة 832 هـ،
كما أغاروا في زمن المتوكل على مدينة "عين زربا" سنة 142 هـ، وعلى الأراضي
الواقعة شمالي العراق فبلغوا آمد وأسروا كثيراً من المسلمين ولكن الخليفة
المتوكل عول على الانتقام، فاستولى على بعض المناطق البيزنطية جنوبي آسيا
الصغرى وأسر أحد البطارقة، واستولى على مدينة لؤولؤة ومنذ عهد الخليفة
المعتمد كانت الخلافة العباسية قد تقلصت إلى حدود الجزيرة والعراق، وتجدد
النزاع بين المسلمين والروم الذين راحوا يعبثون ببعض بلاد الدولة العباسية
.. وكانت شوكة الدولة البيزنطية قد قويت وانتشر فيها الأمن منذ اعتلاء
باسيل الأول العرش سنة (352 هـ) 768م، فتمكن من احراز النصر على بعض أمراء
المسلمين، ساعده على ذلك ضعف الخلفاء أو استبداد القوط بهم وثورة الجند
عليهم.
الحروب في مصر :
كان من أثر تحول الخلافة من الأمويين إلى العباسيين أن قامت حضارة جديدة
حلت مكان الفسطاط، هي العسكر وقد قام الجند العرب في مصر بدور مهم في شؤون
الدولة السياسي. فقد اشتركوا في كثير من الفتن والثورات، مثل فتنة محمد
النفس الزكية في عهد المنصور وعاونوا "دحية" في خروجه على العباسيين في
الصعيد، في عهد الخليفة المهدي كذلك كان للجند العرب في مصر نصيب كبير في
الفتنة التي قامت بين الأمين والمأمون وغدا اشتراك هؤلاء الجند في الثورات
مألوفاً حتى في الحالات التي لم يكن ثمة ما يدعو إلى الاشتراك فيها وقد
دعت هذه الحال الخليفة المعتصم سنة 812 هـ إلى أن يسقط أسماء الجند العرب
في مصر من ديوان العطاء وبذلك اندمج العرب بالمصريين فاحترفوا الزراعة
والصناعة وغيرها، وبذلك قضي تماماً على العصبيات العربية والشعوبيات في
مصر وهذا أمر لم يحدث في أي اقليم آخر من الأقاليم التابعة للدولة
الإسلامية.
في بلاد النوبة :
اتصل العرب اتصالاً وثيقاً بالبجة في القرن الثاني للهجرة عن طريق البحر
الأحمر، وعن طريق وادي النيل، وخاصة اقليم أسوان، بعد أن عقد مع ابن
الحبحاب معاهدة هدنة وحسن جوار غير أن البجة لم يحافظوا على العهد الذي
قطعوه على أنفسهم مه ابن الحبحاب، وكثرت غاراتهم على جهات أسوان عهد
الخليفة المأمون فقامت بين الفريقين مواقع عدة انتهت بإبرام هدنة جديدة،
كان من أهم شروطها أن تكون بلاد البجة من حدود أسوان، وعلى أن تكون منطقة
السودان ملكاً للخليفة العباسي، وأن يدفع ملك البجة كل عام الخرج، وهو
مائة من الإبل أو ثلاثمائة دينار وأن يحترم البجة الإسلام ولا يمنعوا
أحداً كل عام من المسلمين الدخول في بلادهم للتجارة، وإذا نزل البجة صعيد
مصر مجتازين أو تجاراً فلا يظهرون سلاحاً ولا يدخلون المدن والقرى بحال.
في بلاد المغرب :
غدت أفريقيا مسرحاً للفتن والقلاقل في العصر العباسي، وذلك لبعدها عن
السلطة المركزية في بغداد، ولجهل البربر في ذلك العصر، وعدم استعدادهم
لقبول الحضارة الإسلامية وبغضهم ولاتهم من العرب وفرضهم الضرائب الفادحة
عليهم وقد ساعد هذا الواقع على قيام دولة الأدارسة بالمغرب الأقصى سنة 271
هـ، كما ساعد الأغالبة في تونس على تأسيس دولتهم، وكان الرشيد قد أقطع
ابراهيم بن الأغلب تونس سنة 481 هـ.
أما عن جهل البربر وعدم استعدادهم للحضارة الإسلامية، فكان من آثاره أن
السلام لم يتوطد بين البربر والعرب النازلين في بلادهم منذ أن امتدت
الفتوحات الإسلامية إلى هذه البلاد وهذا يفسر لنا انتشار مذهبي الخوارج
والشيعة في بلاد المغرب، وقيام البربر في وجه العباسيين بين الحين والآخر.
وأما عن بغض البربر لولاتهم من العرب فيرجع إلى فداحة الضرائب التي أثقلت
كاهل الأهلين .. والحق أن قيام الخوارج من البربر في وجه العباسيين لم يكن
خروجاً على الدين بل كان خروجاً على السلطة الحاكمة لظلم الولاة لهم
وفرضهم عليهم الضرائب الفادحة.
استمرت قبائل البربر في أفريقيا تناوئ سلطان العباسيين، حتى بعث إليهم
الرشيد سنة 181 هـ هرثمة بن أعين على رأس جيش كثيف استطاع أن يضعف قوتهم
على أن هرثمة رأى بثاقب نظره وطول خبرته تأصل العداء في نفوس البربر،
فأرسل إلى الرشيد يعتذر عن البقاء بالمغرب بعد أن وليها سنتين ونصف السنة
.. ثم ولى الرشيد محمد بن مقاتل، فأساء معاملة الأهلين، فتجددت ثورات
البربر والعرب، وتمكن البربر من دخول القيروان .. إلا أن ابراهيم بن
الأغلب تمكن من طردهم، وأعاد إلى الرشيد ولايته .. وكان من أثر العداء
الذي اضمره البربر للأمويين والعباسيين، وانضمام بعض العرب إلى مذهب
الخارجين أن قامت الفتن والقلاقل في هذه البلاد، وعمل بعض زعمائهم على
الاستقلال عن الدولة العباسية، فتأسست ولايات من البربر، على يد زعماء من
العرب، استقلت استقلالاً يكاد يكون تاماً ومن الولايات التي استقلت ولاية
تاهوت وولاية سلجمانة (تافيلالت الحالية) التي أسسها بنو مدرار، وولاية
تلمسان التي أسسها الصنهاجيون، وولاية برغواطة في تامسنا (الشاوية
الحالية) على ساحل المحيط الأطلسي، ودولة الأغالبة في تونس، ودولة
الأدارسة في المغرب الأقصى.
في بلاد الأندلس :
تقلص سلطان العباسيين عن بلاد الأندلس بعد أن أفلت عبد الرحمن بن معاوية
بن هشام بن عبد الملك وانتقل إلى الأندلس ولكن أبا جعفر المنصور لم يهدأ
باله من ناحية عبد الرحمن الداخل (صقر قريش) ، فعمل على القضاء عل