قد دل قوله تعالى : { كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى } (1) على ذم الغنى إن كان سبب الطغيان . وسئل أبو حنيفة رحمه الله تعالى عن الغنى والفقر فقال : وهل طغى من طغى من خلق الله عز وجل إلا بالغنى وتلا هذه الآية المتقدمة . والمحققون يرون الغنى والفقر من قبل النفس لا في المال . وكان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يرون الفقر فضيلة . وحدث الحسن رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : « يدخل فقراء أمتي الجنة قبل الأغنياء بأربعين عامًا » (2) ، فقال جليس للحسن : أمن الأغنياء أنا أم من الفقراء ؟ فقال : هل تغذيت اليوم ؟ فال : نعم . قال : فهل عندك ما تتعشى به ؟ قال : نعم ، قال : فإذًا أنت من الأغنياء .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : كان النبي صلى الله عليه و سلم يبيت طاويًا ليالي ما له ولا لأهله عشاء . وكان عامة طعامه الشعير . وكان يعصب الحجر(3) على بطنه من الجوع ، وكان صلى الله عليه و سلم يأكل خبز الشعير غير منخول ، هذا وقد عرضت عليه مفاتيح كنوز الأرض فأبى أن يقبلها صلوات الله وسلامه عليه . وكان يقول : « اللَّهمّ توفني فقيرًا ولا تتوفني غنيًّا ، واحشرني في زمرة المساكين »(4) .
وقال جابر رضي الله تعالى عنه : دخل النبي صلى الله عليه و سلم على ابنته فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنها وهي تطحن بالرحى ، وعليها كساء من وبر الإبل فبكي وقال : « تجرَّعي (5) يا فاطمة مرارة الدنيا لنعيم الآخرة ؛ قال الله تعالى : {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى }(6) » .
وقال صلى الله عليه و سلم : « الفقر موهبة من مواهب الآخرة وهبها الله تعالى لمن اختاره ولا يختاره إلا أولياء الله تعالى » .
وفي الخبر : إذا كان يوم القيامة يقول الله عز وجل لملائكته : أدنوا إليّ أحبائي ، فتقول الملائكة : ومَنْ أحباؤك يا إله العالمين ؟ فيقول : فقراء المؤمنين أحبائي . فيدنونهم منه ، فيقول : يا عبادي الصالحين إني ما زويت (7) الدنيا عنكم لهوانكم عليّ ، ولكن لكرامتكم ، تمتعوا بالنظر إليّ وتمنوا ما شئتم ، فيقولون : وعزتك وجلالك لقد أحسنت إلينا بما زويت عنا منها ، ولقد أحسنت بما صرفت عنا ، فيأمر بهم فيكرمون ويحبرون ويزفون إلى أعلى مراتب الجنان .
وقال صلى الله عليه و سلم : « هل تنصرون إلا بفقرائكم وضعفائكم ، والذي نفسي بيده ليدخلن فقراء أمتي الجنة قبل أغنيائها بخمسمائة عام ، والأغنياء يحاسبون على زكاتهم » .
وقال عليه الصلاة والسلام : « رب أشعث أغبر ذي طمرين (8) لا يؤبه به لو أقسم على الله تعالي لأبره » (9) أي لو قال : اللَّهم إني أسألك الجنة لأعطاه الجنة ولم يعطه من الدنيا شيئًا .
وقال عليه الصلاة والسلام : « إن أهل الجنة كل أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه به ، الذين إذا استأذنوا على الأمير لا يؤذن لهم ، وإن خطبوا النساء لم ينكحوا ، وإذا قالوا لم ينصت لهم ، حوائج أحدهم تتلجلج في صدره لو قسم نوره على الناس يوم القيامة لوسعهم »(10) .
من كتاب " المستطرف في كل فن مستظرف " للكاتب شهاب الدين محمد الأبشيهى . تحقيق الدكتور مصطفى محمد الذهبي .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - سورة العلق : 6 - 7 .
(2) - أخرجه : مسلم في الزهد و الرقائق 2979 .
(3) - يعصب الحجر : يربطه بعُصابة .
(4) - أخرجه : الترمذي في الزهد 2353 .
(5) - تجرَّعي : ذوقي .
(6) - سورة الضحى : 5 .
(7) - زويت : حبستها عنكم .
(8) - طمرين : ثوبين باليين .
(9) - أخرجه : البخاري في الصلح 2703 .
(10) - أخرجه : الترمذي في المناقب 3854 .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - سورة العلق : 6 - 7 .
(2) - أخرجه : مسلم في الزهد و الرقائق 2979 .
(3) - يعصب الحجر : يربطه بعُصابة .
(4) - أخرجه : الترمذي في الزهد 2353 .
(5) - تجرَّعي : ذوقي .
(6) - سورة الضحى : 5 .
(7) - زويت : حبستها عنكم .
(8) - طمرين : ثوبين باليين .
(9) - أخرجه : البخاري في الصلح 2703 .
(10) - أخرجه : الترمذي في المناقب 3854 .