هكذا
اختارت وانتقت كلماتها الطيبة لأمير بكل مواصفات ” الأمير النبيل” الذي
يبلى تحت رؤيته النافذة مؤلف ” جمهورية أفلاطون” الحاكمة من بعده ، نعم هو
الأمير الذي جمع بين الفكر السلطوي وأخلاق السلطة والقدرة على الابتكار
وابتداع طريقة حكم فريدة من نوعها تستهل دراسات معمقة بل وتستحق جائزة
نوبل للسلام ، بل وتحتاج جائزة اكبر شخصيات القرنين الماضيين لفسلفة الحكم
الرشيد حتى في زمن الحرب ، انه وبلا منازع ، فقه قيمة الإنسان، وعلم أن
الحرب في المقام الأول والأخير مسرحها “جسد الإنسان” وذلك ما ستتعرفون
عليه في مراسلاته مستقبلا ، وكذلك ما كان المتنبي ليقول في شخصه بيته
الشهير ” الخيل والليل والبيداء تعرفني والرمح والقرطاس والقلم ” ولو
عاصره لأهداه حبا وتواضعا وانحناء لهذا الجزائري من المغرب الأوسط الذي
انحنى له كثير من أسياد قرنه إجلالا وتعظيما في مشارق الأرض ومغاربها وفي
الأجيال المتقدمة والمتأخرة .
ليلى خليفة : أثر الأبعاد الروحانية في شخصية الأمير عبد القادر
ألقت الدكتورة ليلى خليفة عن مجمع اللغة العربية عمان الأردن محاضرة في
الملتقى الدولي حول رمزية مبايعة الأميرعبد القادر يوم الثلاثاء في محاضرة
تحت عنوان ” الجوانب العرفانية والفلسفية لمفهوم البيعة والعهد والميثاق
عند الشيخ الأكبر أين وجدت نفسها أمام اكبر من أمير رزق نعمة الحب
والاحترام حيا وميتا في مشارق الأرض ومغاربها فتدنت من ذاكرته وشخصيته
التي يحسبها بعض ضعاف العقول أنها من عداد الموتى فنادت الكلمات جميعها
وكتبت هذه الكلمات- في شخص عبد القادر الذي وبإيمان ما وحب ما وعطاء ما
وإخلاص ما لهذه الأمة المسلمة وحارس بوابة البحر المتوسط الإفريقي والعربي
والإسلامي قديما وحديثا – تقول مستعملة إسقاطا تأويليا لابن عربي على شخص
الأمير عبد القادر وعلى بيعته التي كان لها هذا الصيت والشيوع الهادئ لما
كان من طينة المصطفين في آخر الزمان علما وحكما وشرفا وقدرة على القيادة
في زمن عموم البلوى على الأمة الإسلامية بل والبشرية جمعاء.
” إن البيعة ومعانيها من عقد وعهد وميثاق
عند الشيخ الأكبر الشيخ الأمير عبد القادر تأخذ أبعادا ومفاهيما تخضع
للتأويل وتستحق التأمل مليا ، تأملها وعقلها وعمل بها أميرنا وذهب بها
أحسن مذهب ليبقى عبرة لمن يعتبر .
فدورهذه البيعة أساسي في كل من يريد طريق الله بالرغم من المصاعب ذلك لان
الطريق خطر مستشهدة بحكمة ابن عربي حين ينصح من عمق الماضي ” قطاع الطرق
كثيرون وعقباتها كثيرة ….. إلا أن الفتى عبد القادر الأمير لم يستكن لهذه
النوائب ولم يتراجع بل اقبل قدما ” كما قال موسى عليه السلام ” أو امضي
حقبا ” إذن، فالبيعة شاهدة ولا بد للمريب أن يجاهد نفسه التي تنازعه حتى
ترضى وتسلم عندها تصبح بيعته عينه ومبتغى رضاه وتصبح بيعة العقبة بيعة ”
رضوان ” .
حضرة البيعة وحاضرة أسرارها
إن من أسرار البيعة عند ابن عربي – حسب الدكتورة ليلى خليفة – هو من حضرة
أسمائه الحسنى “حضة الحياء” وهي في القول السليم ” خادم مفتاح البيعة ”
وتزيد ليلى نقلا عن ابن العربي ، ولما كان الخليفة لابد له عند شيخنا أن
يظهر بكل صورة يجب أن يظهر بها من استخلفه كان لابد من التخلق بجميع
الصفات والأسماء الالاهية .
ومعلوم أن هذا التخلق لايكون إلا من
“حضرة الحياء” فان العبد إذا قامت به هذه الصفات الالاهية ، فمن هذه
“الحضرة ” تأتيه و منها يقبلها ، فانه لكونه على الصورة الالاهية يقبل من
كل حضرة الالاهية ما تعطيه ، لان لها وجه الى الحق ووجه الى العبد ،”فوافق
شن طبقة” فضمه وعانقه ووافقه حسب ابن العربي نقلا دائما .
ومعلوم أن العهد شرطه انتظام الحضرتين ،
وهذا الانتظام شرطه الصورة الالاهية التي خلق عليها آدم والذي يسمح بان
يقبل ما ستعطيه له “الحضرات الالاهية ” والتي بها استحق الخلافة والبيعة
ويبقى السؤال هنا لما أدرج هذا عند ابن العربي من حضة الحياء؟ .
وللجواب على هذا الارتباط فهو مرتبط – حسب ابن عربي – بمفهوم الصورة الالاهية ” أن الله خلق آدم على صورته ّ.
وبإيجاز نجد أن كون الإنسان الخليفة على
الصورة الالاهية عند ابن عربي يأخذ معنى مثال “الرداء ” يكون على صورة
المرتدي فيتميز الرداء من المرتدي فيكون على نفس الصورة أو الهيئة . ويقول
الشيخ عن تجلي الحق برداء الكبرياء ” الكبرياء ردا الحق وليس سواه، فان
الحق تردى بك إذ كنت صورته، ولهذا ما يتجلى إلا بك “.
ولذلك من عرف الرداء عرف المرتدي. ويوثق
الشيخ الأكبر اللحمة بين مفهوم البيعة والرداء على هذا السياق والمفهوم ”
ما ارتديت بشيئ إلا بك فاعرف قدرك ولا عجب شيئ لايعرف قدره ”
ولما كان الله سبحانه وتعالى ” حييى ” ويحب الستر ، ولما كان الرداء مثل
الصورة الالاهية والستر والحجاب الذي يظهر للرؤيا ، وماهو الإنسان إلا
صاحب الخليفة والبيعة ” ليس عهده إلا صورته ” ، فيكون بذلك عهده هو ستره
وردائه .
وتتضح إشارة ابن عربي حين يفصل ذلك يقول ” إن الحياء لباب الله مفتاح “.
وهو في الفهم الثابت المستخلص لقول الشيخ ب ” لما ليس عهده سوى صورته ”
بمعنى أن التخلق بالصفات الالاهية وقيامها بالإنسان هي”عملية لباس وتعهد “.
وان كانت معاني العهود والمواثيق حاضرة
في معنى البيعة فان معنى البيع والشراء والسوق يبقى حاضرا فما حقيقة هذا
البيع؟ تتساءل الدكتورة ليلى.
ينبه ابن العربي لما جاء في الآية
الكريمة من القرآن العظيم ” لنبلونكم حتى نعلم ” شارحا هذه الآية كالتالي
” حتى .. كلف وابتلى ليعلم ما يكون منه فيما آتاه به ” ، فجاء زمان ” حتى
” وهو ” زمان عمر الدنيا ” من ابتلاء ودعوة وغفلة ، ومن جهة أخرى جاء
العفو والتذكير والجبر والسلم والبيع والشراء .فان الدنيا عند شيخنا
مربوطة بآخرتها ، وان زمان عمرها هو زمان للصلح واستدراك للفائت بالعمل
بما جاءت به الرسل والشرائع الأخبار الالاهية .
إلا انه تغيرت وتوانت على الإنسان أحوال، والمراد من كل ذلك -عند ابن
العربي – هو ” تمام العلم الذي يزداد بتنوع الأحوال “. والعلوم عنده لابد
لها من ميزان وموازين ترد بها الى الله ، وتضيف الدكتورة ليلى مستأنفة
الفكرة و ” يدخلنا الحديث عن الوزن والموازين عالم التسوق من تثمين وبيع
وشراء ومساومة وتجارة وصكوك ، فيأخذ العبد صفة البيع والشراء من الاسم
الالاهي ” المسعر ” من ” حضرة التسعير . ويعتمد الشيخ أن قول الرسول صلى
الله عليه وسلم حين طلب منه المسلمون أن يثمن ويسعر لهم إثبات لهذه الحضرة
” أن الله هو المسعر وارجوا من الله أن ألقاه وليس لكم من احد على طوبة ” .
فمعرفة مقادير الأثمان والتي هي عوض من
الأشياء يقول ابن العربي ” انه لايعلم قدرها إلا الله سبحانه وتعالى “،
وان حقيقة الوزن بين الشيئين بالقيمة يبقى مجهولا ، وان ما نراه من بيع
وشراء وسوق هو في الحقيقة مراضاة بين البائع والمشتري ويتحكم في الأسعار
الوقت والزمان وأحوال الناس ، ولكن حقيقة قيمة الأشياء لا يعرفها إلا الله
عز وجل .
وأما فيما يخص البيع والشراء في ما بين
المؤمنين فيشرح ” إن الله يشتري من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ” فيقع البيع
والشراء بين الله والمؤمن ، تبيع النفس الناطقة ما لها من نعيم في هذه
الدنيا عوض نعيم الجنة وتستشهد في سبيل الله وهو الثمن ، فيأخذ المشتري ”
الله ” الى منزله الى أن يقبض ثمنها والذي هو الجنة ، ثم يتصدق بها عليه
فيردها له ، فيفرح الشهداء ببيعتهم أنهم انتقلوا الى الآخرة دون موت ، هم
أحياء عند ربهم يرزقون ويتنعمون بالنعيم الحسي بما رده الله عليهم من
أنفسهم بالنعيم المعنوي والمعارف الالاهية .
ولما كانت صفة البيعة عند ابن عربي هي ” واطيعوا الله واطيعوا الرسول ” يقول دائما فمن أطاع الرسول فقد أطاع الله .
والتساؤل هنا يقول : هل كانت هنا البيعة والمبايعة بالوكالة والحقيقة أن
حضرة الوكالة باسم الوكيل هي الحضرة الحاكمة على البيعة ، لان الأجرة
البالغة لله سبحانه وتعالى تكون له من حيث انه هو الله الوكيل . فتحقق
الإنسان بالعلم وتيقنه بكمال علم الله فيه على علم في نفسه يرجؤه الى
توكيل الله في أموره تلك والتصرف بها .
كما تلتقي عند ابن عربي رتبة الوكالة
الالاهية ورتبة الحياة تساوي رتبة الوكالة الالاهية سرت في الكون سريان
الحياة ، فتأمى انه ما في الكون إلا حي ، فما في الكون إلا وكيل موكل ،
فيسري حكم البيعة في العالم سريان الحياة والوكالة كأنها ختم اللطيفة
الإنسانية .
ومنه يفهم أن كل خلق مسبح حي هو في
الحقيقة مبايع وان لم يتلفظ – يخبرنا ابن عربي – فمن لم يوكل الحق بلفظ
وكله الحال منه. فحكم البيعة ملازم لحكم الاستواء الرحماني على العرش حكم
الوجود . فان سورة البيعة عند ابن العربي
يستند الى سورة الاستواء الرحماني على العرش وان كل ما في الوجود عنده
يسبح له ويبايعه سواء تلفظ بها أولم يتلفظ صافح أو لم يصافح ، فالأسباب
كلها عند ابن العربي ” يد الحق ” .
ومن هنا اعتبر ابن العربي ” المبايعة
العامة ” للقطب جاء بسورة النبات يبايع القطب مبايعة عامة لان النبات له
سر برزخي بين الحيوان والمعدن.
تصوف الأمير عبد القادر في مراسلاته وسجنه وحربه
تحدث الدكتور سالم فهد الراشد ممثل دولة الكويت في الاليسكو المنظمة
العربية للثقافة والفنون الكويتي المحاضر في مقدمة محاضرته عن مستويات
اللغة وهذه نجدها في نصب وجزم ورفع الفعل المضارع من الأفعال الخمسة لقد
كتب الأمير عبد القادر في زمن المفاوضات حول معاهدة التافنة إلى الأميرة ”
أميلي” يقول لها / بدل
أن ترسلي لي أبناءك الأمجاد ليحاربوني ، فليأتوا لمساعدتي على أن ابني أسس
حضارة تكونين قد ساهمت فيها ، وبهذا تكونين قد قمت بالهدف المضاعف ،
المتمثل في تهدئة قلبك كأم ، وجعل رعاياك ورعاياي سعداء ، فليحفظ الله
ماهو قال إليك ).
يبدأ الأمير بمفعول فيه ظرف ” بدل أن
ترسلي ” بهذه البداية أراد أن يضع البديل الذي يراه مناسبا للتعامل بين
البشر وهو ” احترام الآخر ” .
ولعل استخدام الجملة الفعلية الطويلة هنا
تمنح القارئ ليفكر مليا في الأمر قبل أن يقدم عليه. فقد استخدم الأمير
القائد فعلا مضارعا من الأفعال الخمسة منصوبا بأن
” أن ترسلي ” ، ثم قدم الجار والمجرور ” أرسلي لي ” ، ولم يقل ” ترسلي لنا
” ويفهم منها أنها رسالة شخصية تحمل قدرا من الخصوصية ، على اعتبار انه هو
“المسؤول عن الجزائر” . وكذلك معنى ” لا تحمليني ” ويقصد به في نص هذه
الرسالة ” لا تحمليني مسؤولية حرب ضروس لاتبقي ولا تذر وتريقين دماء شباب
لاذنب لهم .
ومن أهم الملاحظات التي سجلها الدكتور في
نص هذه الرسالة هي أن الأمير لم يستخدم كلمة ” جنود ّأو جيش ” ، بل آثر أن
يستخدم كلمة ” ابناءك ” ويزيد على ذلك بوصفهم بالأمجاد “. وهذا هو البعد
الصوفي في انتقاء الألفاظ وتعد سابقة في إدارة الحرب وشؤون الرعية وخطابات
الدولة بلم يسبقه إليها أحد.
كما يؤكد الأمير صفة الخصوصية لما استعمل
” لام التعليل” في نصب الفعل المضارع من الأفعال الخمسة ” ليحاربوني ” ثم
بقدرة فائقة يستعمل ” لام الأمر ”
ليجزم الفعل المضارع لان” المقام قد اختلف ” فليأتوا لمساعدتي ” ، وأخيرا
الفعل المضارع المرفوع بثبوت النون تكونين . والملاحظ هنا كيف يلتف الأمير
عبد القادر على الخصم ويقيده وتقييده بأخلاقيات سامية قلما نجدها في
خطابات وقتنا الحاضر.
أما في عبارة “في تهدئة قلبك كأم ”
نستشعر قدرا من التحنان إذا كان هو الرجل قد حن على هذه الجند وناداهم
بالأبناء ونعتهم بالأمجاد وناداهم فما بالك أنت كأم ؟
ومنه نستخلص أربع مستويات في الخطاب لدى الأمير عبد القادر ، المستوى
الأول توكيدي ، والثاني تعليلي ، والمستوى الثالث بصغة الأمر المتأدب ،
والرابع تغريري ” تكونين ” .
وأما المنادى المضاف وهو واجب النصب في قصيدة بعنوان ” يا سواد العين ”
ياسواد العين يا روح الجسد يا ربيع القلب يا نعم السند
والمعلوم أن ملفوظة السواد مدلوله الحزن والعين هي موضع البكاء والدمع وهي
من النعم التي لاتقدر بثمن ، فسواد العين أثمن وأقلى من العين ، فإذا كانت
العين هي ذلك الوعاء الذي يحفظ السواد فالكلمات هي وعاء الحروف والجمل هي
وعاء
الكلمات. فالغرض هنا من المناداة
الاهتمام بالا قلى من الغالي ثم يمسك في هذا البيت ب “ياروح الجسد ”
والسؤال هنا ما فائدة الجسد بدون روح ، إذن النداء هنا لمحرك القيمة ألا
وهو الروح والإشباع الروحي في الفكر هو خاصية الفكر الصوفي كما هو معروض .
كما لو وضعنا – يضيف المصدر ذاته – ”
ياربيع القلب ” مع مانقله الأستاذ عبد الباقي مفتاح حيث قال ” وجعل الأمير
من سجنه في فرنسا خلوة للذكر والتفكير والتدبر فأشرقت عليه مطالع الفتح
النوراني وحصلت له وقائع روحانية ومشاهد ومرائي للرسول صلى الله عليه وسلم
وللخليل إبراهيم عليه السلام وهوما أومأ إليه في الموقفين ” و يقصد به
كتاب المواقف.
ثم إذا نظرنا في الشطر الثاني من البيت
الثاني حين يقول ” يانعم السند ” ينقل لنا الأستاذ خالد بن تونس عن هذه
القولة الشعرية يقول كتب لنا الأميرعبد القادر قال الله تعالى لأحد عباده
( أتزعم انك تبحث عن التقرب مني وتفنى فيه ، لكنني ابحث عنك أكثر مما أنت
تبحث عني ، نعم السند ، نعم السند ، لقد بحثت عنك لتصبح في حضرتي بلا
واسطة وذلك يوم قلت ” ألست بربكم ” ).
كما نلحظ في هذا البيت في الشطر الأول حسن التقسيم وهو من علم البديع.
كما انشد الأمير يقول:
شاقني حب الحسين شاقني مالي حكم الله في الخلق مرد
ويعتقد الباحث هنا أن الأمير قدم شبه الجملة الجار والمجرور لتسليط الضوء
على علاقة الاعتقاد بحكم الله النافذ في مخلوقاته ، وهذا هو الفرق بين
الخطاب الصوفي الذي ينشد المعنى العميق وبين الخطاب اللغوي الذي يتقيد
بالجملة .
وعن الدواخل النفسية للأمير وفلسفته في
إدارة الحروب والمعارك ينضح وعائه في نفس القصيدة من خلال هذا البيت حين
يرفع إلينا حال معنوياته كاشفا عنها من قلب الوغى :
إذا تشتكي خيلي الجراح تحمحما أقول لها صبرا كصبري وإجمالي
ومن الملاحظات التي تسجل هنا نبل الأمير
ورأفته حتى بالخيل وذلك من كرم أخلاقه العالية حين يطلب الاعتذار من فرسه
ويوصيها بالصبر معه لما لها من دور في حمل أعباء الثورة لا يتنكر له إلا
جاحد نعمة ، فهو لاينظر في هذا المخلوق المسخر كوسيلة بل يستوفيها حقها
حتى في شاعريته خشية ظلمها وهذه المشاعر لاتنبع إلا من قائد عظيم تفجرت
على فاهه ينابيع الحكمة وحزنت لفراقه النجم والشجر وكثير من الدواب
والأنعام .
الأمير يتسلل من الوثائق العثمانية عبر الباب العالي إلى الجزائر
انه من المعلوم أن الأمير عبد القادر زار اسطنبول ” تركيا
حاليا ” قادما إليها من فرنسا والذي كان استجابة لدعوة الأمير العثماني
عبد المجيد عنباك ، كما كانت تلك الزيارة موافقة على شروط الدولة
العثمانية من قبل فرنسا – ولم يوضح هذه الشروط – ثم انتقل منها إلى مدينة
بورسا ماكثا بها ثلاث سنوات ، وبعد ذلك سافر إلى دمشق السورية إلى أن أتاه
اجله .
أحصى الدكتور دي قالار من جامعة سنجوق
بقونيا التركية وجود أكثر من 100 وثيقة أرشيفية في خزانة الأرشيف العثماني
تخص حياة ومراسلات الأمير عبد القادر وأولاده وأقربائه
ومضمون هذه الوثائق جملة معاشات الأمير وأسرته ويردف المصدر ذاته قائلا
«إن بين يدي ما يزيد عن 120 وثيقة وما هو موجود في الحقيقة أكثر من ذلك
بكثير”، وتنقسم تلك الوثائق التي بحوزته إلى أربعة أقسام وعي كالتالي:
- 1 – الوثائق الخاصة بمجيئ الشيخ إلى الأستانة (اسطنبول ) من فرنسا
وهما ترجمة – خاصة للباحث – للخبرين اللذان نشرا في جريدتين فرنسيتين المتعلقين بالمعاهدة بين الأمير وفرنسا.
-2 – الوثيقة الثانية الخاصة بمجيئ الأمير إلى اسطنبول من فرنسا .
-3- وثيقة بخصوص طلبه لزيارة الخليفة
-4 – الوثائق المتعلقة بذهابه إلى مدينة بورسا وحياته فيها ووصوله واستقباله من طرف الوالي ورجالات الدولة .
وهناك وثائق أخرى كشراء قصر أو استئجار
بيت. وكذلك وثائق تتعلق بطلبه بعودته لزيارة الخليفة وكذا وثائق تتعلق
بالبحث عن الأشياء الضائعة لقاضي أفندي من أقرباء الشيخ، وكذلك وثائق أخرى
تتعلق بأقربائه..
وثائق تتعلق بذهابه إلى دمشق وحياته
فيها: ومنها وصوله إلى سوريا واستقباله من رجال الدولة ، وثانيا حصوله على
500 قرش شهريا ، وثالثا تقدمه بطلب لمنحه قرية كفريت من قرى دمشق . رابعا
دوره في حادثة الشام التي وقعت في سنة 1276 هجري ، الخامسة تهنئة عيد من
قبل الشيخ ، والسادس أن يعطى له نيشان ( وسام ) من الدرجة العليا من قبل
الدولة العثمانية ، السابع توسطه لبعض الأشخاص لدى الخليفة ، والثامن
عودته من جزيرة كليت ، والتاسعة هي طلبه من الخليفة هي طلبه من الخليفة
تعيين راتب شهري لأبنائه ، وعاشرا تراجعه عن نية ذهابه إلى الحرمين
الشريفين ، والحادية عشر هي إنشاء قبره بعد وفاته
الوثائق المتعلقة بأولاده وأقربائه
أولا : مطالب أولاده من الدولة العثمانية وثانيا تعيين راتب شهري لابنيه
مير علي ومحمد باشا وكذا رغبة ابنه مير هاشم في العودة من الجزائر ومطلب
ابنته زينب ، وكذلك هناك وثيقة فرنسية متعلقة بابنه عمر .
وطرح الأمير عبد القادر كذلك استرداد بعض
الأراضي التي قبض عليها بعض الفلاحين، ومهمة تعيين راتب شهري ابن أخيه
محمد وكذا ابن أخيه عبد القادر…..الخ .
وللعلم هذه الوثائق الأصلية كلها مدونة
باللغة العثمانية ولا تكمن الصعوبة في الوصول والحصول عليها وإنما مكمن
المشكل في قلة المترجمين بهذه اللغة ويتعدى هذا المشكل ليشمل حتى الباحثين
الأتراك في حد ذاتهم حسب ما صرح لنا به المصدر ذاته على هامش الملتقى
الدولي .
كتاب “الفتوحات المكية ” طبعه الأمير على نفقته الخاصة
دافع احد المحاضرين دفاعا فكريا مستميتا
عن شخص الأمير عبد القادر إذ رد على أولئك المشككين في صحة نسبة مواقف
الأمير بل وحتى تصوفه وطالت تلك التشكيكات حتى أسرته وأباه وجده التي كانت
من مشاهير الطريقة القادرية في الجزائر والشام- إلا انه عاد بتذكير حماة
هذه المدرسة بدون ذكرها – قائلا والعجيب أن هذا التشكيك الفاقد لكل سند
ابتدع من طرف أشخاص يحبون الأمير ويدافعون عنه لكن تكوينهم العقائدي
والثقافي جعلهم ينكرون عليه التصوف لاسيما التصوف العرفاني السامي .
وبعدها حاول دحض هذا الإنكار بقوة مالا
يوافقه واقعيا ذلك قائلا ” لان حججهم وبعد تأمل عميق نجدها فارغة لا تستند
إلا على تساؤلات وهمية التي لاتغني من الحق في شيئ” .
وأول هذه الحقائق -يشرح ذات المصدر-
والتي يقر بها حتى أولئك المنكرون هو أن الأمير بإجماع كل من عرفه وأرخ له
هو أشهر مدافع عن المذهب الصوفي العرفاني للشيخ محي الدين ابن العربي ،
وكان في وقته أشهر متكلم بهذا المشرف في الشام وهو الذي بعث من أصحابه
عالمين إلى قونيا بأوسع موسوعة صوفية للشيخ محي الدين ابن العربي وهو أول
من طبعه على نفقته أي “كتاب الفتوحات المكية ” . وكان يدرس كتبه وفي
مقدمتها ” الفتوحات “و ” فصص الحكم ” في مجالس علمية كان يحضرها ثلة من
أكابر علماء دمشق وهاؤلاء أنفسهم هم الذين أكدوا أن كتاب ” المواقف ” بكل
ما فيه هو ح للأمير عبد القادر وما هو إلا امتداد وشروح وتأكيد المفاهيم
المبثوثة في فكر الشيخ محي الدين ، ولذلك فنسبة المواقف للأمير طبيعية جدا
، إذ لم يفعل فيها سوى تدوين وكتابة وإملاء ما كان يدرسه من تعاليم الشيخ
محي الدين .
…. ونقحه العلامة محمد الطنطاوي بأمر من الأمير قبل وفاته
وأشد هؤلاء العلماء التزاما بملازمته هم أربعة وهم الشيخ محمد الطنطاوي
الذي أرسله الأمير قبل وفاته ب 12 سنة مع الشيخ محمد بلمبارك الجزائري
لتحقيق كتاب الفتوحات قبل طبعه ، والثاني هو علامة الشيخ عبد الرزاق
البيطار مؤلف كتاب ” حلة البشر في القرن الثالث عشر ” وخصص فيه تراجم
مستفيضة للأمير خصوصا ولأبيه ولابنيه محمد باشا ومحي الدين ولأخيه محمد ،
وقد أطنب في مدح الأمير فخصص له 32 صفحة . وفيها يقول عنه ” وحضرت عليه
على من حضر فتوحات كتاب الشيخ الأكبر ، ورسالة عقبة المستوفز ، وكتاب
المواقف للمترجم المرحوم وهو كتاب كبير في الواردات التي وردت عليه أو
نسبت إليه ، وكنا لايرد علينا إشكال في آية أو حديث أو غير ذلك إلا وأجاب
عليه بأحسن الجواب من فتح الملك الوهاب وله نظم بديع ونثر فائق رفيع ، غير
أن بعضها في الرقائق وأكثرها في الحقائق تدل على سموه معارفه وعلو عوارفه .
اختارت وانتقت كلماتها الطيبة لأمير بكل مواصفات ” الأمير النبيل” الذي
يبلى تحت رؤيته النافذة مؤلف ” جمهورية أفلاطون” الحاكمة من بعده ، نعم هو
الأمير الذي جمع بين الفكر السلطوي وأخلاق السلطة والقدرة على الابتكار
وابتداع طريقة حكم فريدة من نوعها تستهل دراسات معمقة بل وتستحق جائزة
نوبل للسلام ، بل وتحتاج جائزة اكبر شخصيات القرنين الماضيين لفسلفة الحكم
الرشيد حتى في زمن الحرب ، انه وبلا منازع ، فقه قيمة الإنسان، وعلم أن
الحرب في المقام الأول والأخير مسرحها “جسد الإنسان” وذلك ما ستتعرفون
عليه في مراسلاته مستقبلا ، وكذلك ما كان المتنبي ليقول في شخصه بيته
الشهير ” الخيل والليل والبيداء تعرفني والرمح والقرطاس والقلم ” ولو
عاصره لأهداه حبا وتواضعا وانحناء لهذا الجزائري من المغرب الأوسط الذي
انحنى له كثير من أسياد قرنه إجلالا وتعظيما في مشارق الأرض ومغاربها وفي
الأجيال المتقدمة والمتأخرة .
ليلى خليفة : أثر الأبعاد الروحانية في شخصية الأمير عبد القادر
ألقت الدكتورة ليلى خليفة عن مجمع اللغة العربية عمان الأردن محاضرة في
الملتقى الدولي حول رمزية مبايعة الأميرعبد القادر يوم الثلاثاء في محاضرة
تحت عنوان ” الجوانب العرفانية والفلسفية لمفهوم البيعة والعهد والميثاق
عند الشيخ الأكبر أين وجدت نفسها أمام اكبر من أمير رزق نعمة الحب
والاحترام حيا وميتا في مشارق الأرض ومغاربها فتدنت من ذاكرته وشخصيته
التي يحسبها بعض ضعاف العقول أنها من عداد الموتى فنادت الكلمات جميعها
وكتبت هذه الكلمات- في شخص عبد القادر الذي وبإيمان ما وحب ما وعطاء ما
وإخلاص ما لهذه الأمة المسلمة وحارس بوابة البحر المتوسط الإفريقي والعربي
والإسلامي قديما وحديثا – تقول مستعملة إسقاطا تأويليا لابن عربي على شخص
الأمير عبد القادر وعلى بيعته التي كان لها هذا الصيت والشيوع الهادئ لما
كان من طينة المصطفين في آخر الزمان علما وحكما وشرفا وقدرة على القيادة
في زمن عموم البلوى على الأمة الإسلامية بل والبشرية جمعاء.
” إن البيعة ومعانيها من عقد وعهد وميثاق
عند الشيخ الأكبر الشيخ الأمير عبد القادر تأخذ أبعادا ومفاهيما تخضع
للتأويل وتستحق التأمل مليا ، تأملها وعقلها وعمل بها أميرنا وذهب بها
أحسن مذهب ليبقى عبرة لمن يعتبر .
فدورهذه البيعة أساسي في كل من يريد طريق الله بالرغم من المصاعب ذلك لان
الطريق خطر مستشهدة بحكمة ابن عربي حين ينصح من عمق الماضي ” قطاع الطرق
كثيرون وعقباتها كثيرة ….. إلا أن الفتى عبد القادر الأمير لم يستكن لهذه
النوائب ولم يتراجع بل اقبل قدما ” كما قال موسى عليه السلام ” أو امضي
حقبا ” إذن، فالبيعة شاهدة ولا بد للمريب أن يجاهد نفسه التي تنازعه حتى
ترضى وتسلم عندها تصبح بيعته عينه ومبتغى رضاه وتصبح بيعة العقبة بيعة ”
رضوان ” .
حضرة البيعة وحاضرة أسرارها
إن من أسرار البيعة عند ابن عربي – حسب الدكتورة ليلى خليفة – هو من حضرة
أسمائه الحسنى “حضة الحياء” وهي في القول السليم ” خادم مفتاح البيعة ”
وتزيد ليلى نقلا عن ابن العربي ، ولما كان الخليفة لابد له عند شيخنا أن
يظهر بكل صورة يجب أن يظهر بها من استخلفه كان لابد من التخلق بجميع
الصفات والأسماء الالاهية .
ومعلوم أن هذا التخلق لايكون إلا من
“حضرة الحياء” فان العبد إذا قامت به هذه الصفات الالاهية ، فمن هذه
“الحضرة ” تأتيه و منها يقبلها ، فانه لكونه على الصورة الالاهية يقبل من
كل حضرة الالاهية ما تعطيه ، لان لها وجه الى الحق ووجه الى العبد ،”فوافق
شن طبقة” فضمه وعانقه ووافقه حسب ابن العربي نقلا دائما .
ومعلوم أن العهد شرطه انتظام الحضرتين ،
وهذا الانتظام شرطه الصورة الالاهية التي خلق عليها آدم والذي يسمح بان
يقبل ما ستعطيه له “الحضرات الالاهية ” والتي بها استحق الخلافة والبيعة
ويبقى السؤال هنا لما أدرج هذا عند ابن العربي من حضة الحياء؟ .
وللجواب على هذا الارتباط فهو مرتبط – حسب ابن عربي – بمفهوم الصورة الالاهية ” أن الله خلق آدم على صورته ّ.
وبإيجاز نجد أن كون الإنسان الخليفة على
الصورة الالاهية عند ابن عربي يأخذ معنى مثال “الرداء ” يكون على صورة
المرتدي فيتميز الرداء من المرتدي فيكون على نفس الصورة أو الهيئة . ويقول
الشيخ عن تجلي الحق برداء الكبرياء ” الكبرياء ردا الحق وليس سواه، فان
الحق تردى بك إذ كنت صورته، ولهذا ما يتجلى إلا بك “.
ولذلك من عرف الرداء عرف المرتدي. ويوثق
الشيخ الأكبر اللحمة بين مفهوم البيعة والرداء على هذا السياق والمفهوم ”
ما ارتديت بشيئ إلا بك فاعرف قدرك ولا عجب شيئ لايعرف قدره ”
ولما كان الله سبحانه وتعالى ” حييى ” ويحب الستر ، ولما كان الرداء مثل
الصورة الالاهية والستر والحجاب الذي يظهر للرؤيا ، وماهو الإنسان إلا
صاحب الخليفة والبيعة ” ليس عهده إلا صورته ” ، فيكون بذلك عهده هو ستره
وردائه .
وتتضح إشارة ابن عربي حين يفصل ذلك يقول ” إن الحياء لباب الله مفتاح “.
وهو في الفهم الثابت المستخلص لقول الشيخ ب ” لما ليس عهده سوى صورته ”
بمعنى أن التخلق بالصفات الالاهية وقيامها بالإنسان هي”عملية لباس وتعهد “.
وان كانت معاني العهود والمواثيق حاضرة
في معنى البيعة فان معنى البيع والشراء والسوق يبقى حاضرا فما حقيقة هذا
البيع؟ تتساءل الدكتورة ليلى.
ينبه ابن العربي لما جاء في الآية
الكريمة من القرآن العظيم ” لنبلونكم حتى نعلم ” شارحا هذه الآية كالتالي
” حتى .. كلف وابتلى ليعلم ما يكون منه فيما آتاه به ” ، فجاء زمان ” حتى
” وهو ” زمان عمر الدنيا ” من ابتلاء ودعوة وغفلة ، ومن جهة أخرى جاء
العفو والتذكير والجبر والسلم والبيع والشراء .فان الدنيا عند شيخنا
مربوطة بآخرتها ، وان زمان عمرها هو زمان للصلح واستدراك للفائت بالعمل
بما جاءت به الرسل والشرائع الأخبار الالاهية .
إلا انه تغيرت وتوانت على الإنسان أحوال، والمراد من كل ذلك -عند ابن
العربي – هو ” تمام العلم الذي يزداد بتنوع الأحوال “. والعلوم عنده لابد
لها من ميزان وموازين ترد بها الى الله ، وتضيف الدكتورة ليلى مستأنفة
الفكرة و ” يدخلنا الحديث عن الوزن والموازين عالم التسوق من تثمين وبيع
وشراء ومساومة وتجارة وصكوك ، فيأخذ العبد صفة البيع والشراء من الاسم
الالاهي ” المسعر ” من ” حضرة التسعير . ويعتمد الشيخ أن قول الرسول صلى
الله عليه وسلم حين طلب منه المسلمون أن يثمن ويسعر لهم إثبات لهذه الحضرة
” أن الله هو المسعر وارجوا من الله أن ألقاه وليس لكم من احد على طوبة ” .
فمعرفة مقادير الأثمان والتي هي عوض من
الأشياء يقول ابن العربي ” انه لايعلم قدرها إلا الله سبحانه وتعالى “،
وان حقيقة الوزن بين الشيئين بالقيمة يبقى مجهولا ، وان ما نراه من بيع
وشراء وسوق هو في الحقيقة مراضاة بين البائع والمشتري ويتحكم في الأسعار
الوقت والزمان وأحوال الناس ، ولكن حقيقة قيمة الأشياء لا يعرفها إلا الله
عز وجل .
وأما فيما يخص البيع والشراء في ما بين
المؤمنين فيشرح ” إن الله يشتري من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ” فيقع البيع
والشراء بين الله والمؤمن ، تبيع النفس الناطقة ما لها من نعيم في هذه
الدنيا عوض نعيم الجنة وتستشهد في سبيل الله وهو الثمن ، فيأخذ المشتري ”
الله ” الى منزله الى أن يقبض ثمنها والذي هو الجنة ، ثم يتصدق بها عليه
فيردها له ، فيفرح الشهداء ببيعتهم أنهم انتقلوا الى الآخرة دون موت ، هم
أحياء عند ربهم يرزقون ويتنعمون بالنعيم الحسي بما رده الله عليهم من
أنفسهم بالنعيم المعنوي والمعارف الالاهية .
ولما كانت صفة البيعة عند ابن عربي هي ” واطيعوا الله واطيعوا الرسول ” يقول دائما فمن أطاع الرسول فقد أطاع الله .
والتساؤل هنا يقول : هل كانت هنا البيعة والمبايعة بالوكالة والحقيقة أن
حضرة الوكالة باسم الوكيل هي الحضرة الحاكمة على البيعة ، لان الأجرة
البالغة لله سبحانه وتعالى تكون له من حيث انه هو الله الوكيل . فتحقق
الإنسان بالعلم وتيقنه بكمال علم الله فيه على علم في نفسه يرجؤه الى
توكيل الله في أموره تلك والتصرف بها .
كما تلتقي عند ابن عربي رتبة الوكالة
الالاهية ورتبة الحياة تساوي رتبة الوكالة الالاهية سرت في الكون سريان
الحياة ، فتأمى انه ما في الكون إلا حي ، فما في الكون إلا وكيل موكل ،
فيسري حكم البيعة في العالم سريان الحياة والوكالة كأنها ختم اللطيفة
الإنسانية .
ومنه يفهم أن كل خلق مسبح حي هو في
الحقيقة مبايع وان لم يتلفظ – يخبرنا ابن عربي – فمن لم يوكل الحق بلفظ
وكله الحال منه. فحكم البيعة ملازم لحكم الاستواء الرحماني على العرش حكم
الوجود . فان سورة البيعة عند ابن العربي
يستند الى سورة الاستواء الرحماني على العرش وان كل ما في الوجود عنده
يسبح له ويبايعه سواء تلفظ بها أولم يتلفظ صافح أو لم يصافح ، فالأسباب
كلها عند ابن العربي ” يد الحق ” .
ومن هنا اعتبر ابن العربي ” المبايعة
العامة ” للقطب جاء بسورة النبات يبايع القطب مبايعة عامة لان النبات له
سر برزخي بين الحيوان والمعدن.
تصوف الأمير عبد القادر في مراسلاته وسجنه وحربه
تحدث الدكتور سالم فهد الراشد ممثل دولة الكويت في الاليسكو المنظمة
العربية للثقافة والفنون الكويتي المحاضر في مقدمة محاضرته عن مستويات
اللغة وهذه نجدها في نصب وجزم ورفع الفعل المضارع من الأفعال الخمسة لقد
كتب الأمير عبد القادر في زمن المفاوضات حول معاهدة التافنة إلى الأميرة ”
أميلي” يقول لها / بدل
أن ترسلي لي أبناءك الأمجاد ليحاربوني ، فليأتوا لمساعدتي على أن ابني أسس
حضارة تكونين قد ساهمت فيها ، وبهذا تكونين قد قمت بالهدف المضاعف ،
المتمثل في تهدئة قلبك كأم ، وجعل رعاياك ورعاياي سعداء ، فليحفظ الله
ماهو قال إليك ).
يبدأ الأمير بمفعول فيه ظرف ” بدل أن
ترسلي ” بهذه البداية أراد أن يضع البديل الذي يراه مناسبا للتعامل بين
البشر وهو ” احترام الآخر ” .
ولعل استخدام الجملة الفعلية الطويلة هنا
تمنح القارئ ليفكر مليا في الأمر قبل أن يقدم عليه. فقد استخدم الأمير
القائد فعلا مضارعا من الأفعال الخمسة منصوبا بأن
” أن ترسلي ” ، ثم قدم الجار والمجرور ” أرسلي لي ” ، ولم يقل ” ترسلي لنا
” ويفهم منها أنها رسالة شخصية تحمل قدرا من الخصوصية ، على اعتبار انه هو
“المسؤول عن الجزائر” . وكذلك معنى ” لا تحمليني ” ويقصد به في نص هذه
الرسالة ” لا تحمليني مسؤولية حرب ضروس لاتبقي ولا تذر وتريقين دماء شباب
لاذنب لهم .
ومن أهم الملاحظات التي سجلها الدكتور في
نص هذه الرسالة هي أن الأمير لم يستخدم كلمة ” جنود ّأو جيش ” ، بل آثر أن
يستخدم كلمة ” ابناءك ” ويزيد على ذلك بوصفهم بالأمجاد “. وهذا هو البعد
الصوفي في انتقاء الألفاظ وتعد سابقة في إدارة الحرب وشؤون الرعية وخطابات
الدولة بلم يسبقه إليها أحد.
كما يؤكد الأمير صفة الخصوصية لما استعمل
” لام التعليل” في نصب الفعل المضارع من الأفعال الخمسة ” ليحاربوني ” ثم
بقدرة فائقة يستعمل ” لام الأمر ”
ليجزم الفعل المضارع لان” المقام قد اختلف ” فليأتوا لمساعدتي ” ، وأخيرا
الفعل المضارع المرفوع بثبوت النون تكونين . والملاحظ هنا كيف يلتف الأمير
عبد القادر على الخصم ويقيده وتقييده بأخلاقيات سامية قلما نجدها في
خطابات وقتنا الحاضر.
أما في عبارة “في تهدئة قلبك كأم ”
نستشعر قدرا من التحنان إذا كان هو الرجل قد حن على هذه الجند وناداهم
بالأبناء ونعتهم بالأمجاد وناداهم فما بالك أنت كأم ؟
ومنه نستخلص أربع مستويات في الخطاب لدى الأمير عبد القادر ، المستوى
الأول توكيدي ، والثاني تعليلي ، والمستوى الثالث بصغة الأمر المتأدب ،
والرابع تغريري ” تكونين ” .
وأما المنادى المضاف وهو واجب النصب في قصيدة بعنوان ” يا سواد العين ”
ياسواد العين يا روح الجسد يا ربيع القلب يا نعم السند
والمعلوم أن ملفوظة السواد مدلوله الحزن والعين هي موضع البكاء والدمع وهي
من النعم التي لاتقدر بثمن ، فسواد العين أثمن وأقلى من العين ، فإذا كانت
العين هي ذلك الوعاء الذي يحفظ السواد فالكلمات هي وعاء الحروف والجمل هي
وعاء
الكلمات. فالغرض هنا من المناداة
الاهتمام بالا قلى من الغالي ثم يمسك في هذا البيت ب “ياروح الجسد ”
والسؤال هنا ما فائدة الجسد بدون روح ، إذن النداء هنا لمحرك القيمة ألا
وهو الروح والإشباع الروحي في الفكر هو خاصية الفكر الصوفي كما هو معروض .
كما لو وضعنا – يضيف المصدر ذاته – ”
ياربيع القلب ” مع مانقله الأستاذ عبد الباقي مفتاح حيث قال ” وجعل الأمير
من سجنه في فرنسا خلوة للذكر والتفكير والتدبر فأشرقت عليه مطالع الفتح
النوراني وحصلت له وقائع روحانية ومشاهد ومرائي للرسول صلى الله عليه وسلم
وللخليل إبراهيم عليه السلام وهوما أومأ إليه في الموقفين ” و يقصد به
كتاب المواقف.
ثم إذا نظرنا في الشطر الثاني من البيت
الثاني حين يقول ” يانعم السند ” ينقل لنا الأستاذ خالد بن تونس عن هذه
القولة الشعرية يقول كتب لنا الأميرعبد القادر قال الله تعالى لأحد عباده
( أتزعم انك تبحث عن التقرب مني وتفنى فيه ، لكنني ابحث عنك أكثر مما أنت
تبحث عني ، نعم السند ، نعم السند ، لقد بحثت عنك لتصبح في حضرتي بلا
واسطة وذلك يوم قلت ” ألست بربكم ” ).
كما نلحظ في هذا البيت في الشطر الأول حسن التقسيم وهو من علم البديع.
كما انشد الأمير يقول:
شاقني حب الحسين شاقني مالي حكم الله في الخلق مرد
ويعتقد الباحث هنا أن الأمير قدم شبه الجملة الجار والمجرور لتسليط الضوء
على علاقة الاعتقاد بحكم الله النافذ في مخلوقاته ، وهذا هو الفرق بين
الخطاب الصوفي الذي ينشد المعنى العميق وبين الخطاب اللغوي الذي يتقيد
بالجملة .
وعن الدواخل النفسية للأمير وفلسفته في
إدارة الحروب والمعارك ينضح وعائه في نفس القصيدة من خلال هذا البيت حين
يرفع إلينا حال معنوياته كاشفا عنها من قلب الوغى :
إذا تشتكي خيلي الجراح تحمحما أقول لها صبرا كصبري وإجمالي
ومن الملاحظات التي تسجل هنا نبل الأمير
ورأفته حتى بالخيل وذلك من كرم أخلاقه العالية حين يطلب الاعتذار من فرسه
ويوصيها بالصبر معه لما لها من دور في حمل أعباء الثورة لا يتنكر له إلا
جاحد نعمة ، فهو لاينظر في هذا المخلوق المسخر كوسيلة بل يستوفيها حقها
حتى في شاعريته خشية ظلمها وهذه المشاعر لاتنبع إلا من قائد عظيم تفجرت
على فاهه ينابيع الحكمة وحزنت لفراقه النجم والشجر وكثير من الدواب
والأنعام .
الأمير يتسلل من الوثائق العثمانية عبر الباب العالي إلى الجزائر
انه من المعلوم أن الأمير عبد القادر زار اسطنبول ” تركيا
حاليا ” قادما إليها من فرنسا والذي كان استجابة لدعوة الأمير العثماني
عبد المجيد عنباك ، كما كانت تلك الزيارة موافقة على شروط الدولة
العثمانية من قبل فرنسا – ولم يوضح هذه الشروط – ثم انتقل منها إلى مدينة
بورسا ماكثا بها ثلاث سنوات ، وبعد ذلك سافر إلى دمشق السورية إلى أن أتاه
اجله .
أحصى الدكتور دي قالار من جامعة سنجوق
بقونيا التركية وجود أكثر من 100 وثيقة أرشيفية في خزانة الأرشيف العثماني
تخص حياة ومراسلات الأمير عبد القادر وأولاده وأقربائه
ومضمون هذه الوثائق جملة معاشات الأمير وأسرته ويردف المصدر ذاته قائلا
«إن بين يدي ما يزيد عن 120 وثيقة وما هو موجود في الحقيقة أكثر من ذلك
بكثير”، وتنقسم تلك الوثائق التي بحوزته إلى أربعة أقسام وعي كالتالي:
- 1 – الوثائق الخاصة بمجيئ الشيخ إلى الأستانة (اسطنبول ) من فرنسا
وهما ترجمة – خاصة للباحث – للخبرين اللذان نشرا في جريدتين فرنسيتين المتعلقين بالمعاهدة بين الأمير وفرنسا.
-2 – الوثيقة الثانية الخاصة بمجيئ الأمير إلى اسطنبول من فرنسا .
-3- وثيقة بخصوص طلبه لزيارة الخليفة
-4 – الوثائق المتعلقة بذهابه إلى مدينة بورسا وحياته فيها ووصوله واستقباله من طرف الوالي ورجالات الدولة .
وهناك وثائق أخرى كشراء قصر أو استئجار
بيت. وكذلك وثائق تتعلق بطلبه بعودته لزيارة الخليفة وكذا وثائق تتعلق
بالبحث عن الأشياء الضائعة لقاضي أفندي من أقرباء الشيخ، وكذلك وثائق أخرى
تتعلق بأقربائه..
وثائق تتعلق بذهابه إلى دمشق وحياته
فيها: ومنها وصوله إلى سوريا واستقباله من رجال الدولة ، وثانيا حصوله على
500 قرش شهريا ، وثالثا تقدمه بطلب لمنحه قرية كفريت من قرى دمشق . رابعا
دوره في حادثة الشام التي وقعت في سنة 1276 هجري ، الخامسة تهنئة عيد من
قبل الشيخ ، والسادس أن يعطى له نيشان ( وسام ) من الدرجة العليا من قبل
الدولة العثمانية ، السابع توسطه لبعض الأشخاص لدى الخليفة ، والثامن
عودته من جزيرة كليت ، والتاسعة هي طلبه من الخليفة هي طلبه من الخليفة
تعيين راتب شهري لأبنائه ، وعاشرا تراجعه عن نية ذهابه إلى الحرمين
الشريفين ، والحادية عشر هي إنشاء قبره بعد وفاته
الوثائق المتعلقة بأولاده وأقربائه
أولا : مطالب أولاده من الدولة العثمانية وثانيا تعيين راتب شهري لابنيه
مير علي ومحمد باشا وكذا رغبة ابنه مير هاشم في العودة من الجزائر ومطلب
ابنته زينب ، وكذلك هناك وثيقة فرنسية متعلقة بابنه عمر .
وطرح الأمير عبد القادر كذلك استرداد بعض
الأراضي التي قبض عليها بعض الفلاحين، ومهمة تعيين راتب شهري ابن أخيه
محمد وكذا ابن أخيه عبد القادر…..الخ .
وللعلم هذه الوثائق الأصلية كلها مدونة
باللغة العثمانية ولا تكمن الصعوبة في الوصول والحصول عليها وإنما مكمن
المشكل في قلة المترجمين بهذه اللغة ويتعدى هذا المشكل ليشمل حتى الباحثين
الأتراك في حد ذاتهم حسب ما صرح لنا به المصدر ذاته على هامش الملتقى
الدولي .
كتاب “الفتوحات المكية ” طبعه الأمير على نفقته الخاصة
دافع احد المحاضرين دفاعا فكريا مستميتا
عن شخص الأمير عبد القادر إذ رد على أولئك المشككين في صحة نسبة مواقف
الأمير بل وحتى تصوفه وطالت تلك التشكيكات حتى أسرته وأباه وجده التي كانت
من مشاهير الطريقة القادرية في الجزائر والشام- إلا انه عاد بتذكير حماة
هذه المدرسة بدون ذكرها – قائلا والعجيب أن هذا التشكيك الفاقد لكل سند
ابتدع من طرف أشخاص يحبون الأمير ويدافعون عنه لكن تكوينهم العقائدي
والثقافي جعلهم ينكرون عليه التصوف لاسيما التصوف العرفاني السامي .
وبعدها حاول دحض هذا الإنكار بقوة مالا
يوافقه واقعيا ذلك قائلا ” لان حججهم وبعد تأمل عميق نجدها فارغة لا تستند
إلا على تساؤلات وهمية التي لاتغني من الحق في شيئ” .
وأول هذه الحقائق -يشرح ذات المصدر-
والتي يقر بها حتى أولئك المنكرون هو أن الأمير بإجماع كل من عرفه وأرخ له
هو أشهر مدافع عن المذهب الصوفي العرفاني للشيخ محي الدين ابن العربي ،
وكان في وقته أشهر متكلم بهذا المشرف في الشام وهو الذي بعث من أصحابه
عالمين إلى قونيا بأوسع موسوعة صوفية للشيخ محي الدين ابن العربي وهو أول
من طبعه على نفقته أي “كتاب الفتوحات المكية ” . وكان يدرس كتبه وفي
مقدمتها ” الفتوحات “و ” فصص الحكم ” في مجالس علمية كان يحضرها ثلة من
أكابر علماء دمشق وهاؤلاء أنفسهم هم الذين أكدوا أن كتاب ” المواقف ” بكل
ما فيه هو ح للأمير عبد القادر وما هو إلا امتداد وشروح وتأكيد المفاهيم
المبثوثة في فكر الشيخ محي الدين ، ولذلك فنسبة المواقف للأمير طبيعية جدا
، إذ لم يفعل فيها سوى تدوين وكتابة وإملاء ما كان يدرسه من تعاليم الشيخ
محي الدين .
…. ونقحه العلامة محمد الطنطاوي بأمر من الأمير قبل وفاته
وأشد هؤلاء العلماء التزاما بملازمته هم أربعة وهم الشيخ محمد الطنطاوي
الذي أرسله الأمير قبل وفاته ب 12 سنة مع الشيخ محمد بلمبارك الجزائري
لتحقيق كتاب الفتوحات قبل طبعه ، والثاني هو علامة الشيخ عبد الرزاق
البيطار مؤلف كتاب ” حلة البشر في القرن الثالث عشر ” وخصص فيه تراجم
مستفيضة للأمير خصوصا ولأبيه ولابنيه محمد باشا ومحي الدين ولأخيه محمد ،
وقد أطنب في مدح الأمير فخصص له 32 صفحة . وفيها يقول عنه ” وحضرت عليه
على من حضر فتوحات كتاب الشيخ الأكبر ، ورسالة عقبة المستوفز ، وكتاب
المواقف للمترجم المرحوم وهو كتاب كبير في الواردات التي وردت عليه أو
نسبت إليه ، وكنا لايرد علينا إشكال في آية أو حديث أو غير ذلك إلا وأجاب
عليه بأحسن الجواب من فتح الملك الوهاب وله نظم بديع ونثر فائق رفيع ، غير
أن بعضها في الرقائق وأكثرها في الحقائق تدل على سموه معارفه وعلو عوارفه .