[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
يعتبر الشاعر سميح القاسم
احد ابرز شعراء فلسطين ولد في عائلة فلسطينية في مدينة الزرقاء الأردنية
تعلم في مدارس الرّامة...والناصرة، ثم انصرف إلى نشاطه السياسي في الحزب
الشيوعي قبل أن يتركه ويتفرغ للكتابة والأدب...سجن مرات عديدة ووضع رهن
الإقامة الجبرية حسب أشعاره ومواقفه السياسية. وما أن بلغ الثلاثين حتى كان
قد نشر ستة مجموعات شعرية جازت على شهرة واسعة في الوطن العربي. ارتبطت
تجربته بتجارب اثنين من الشعراء الفلسطينيين هما محمود درويش وتوفيق زيا في
ما عرف بشعر المقاومة...ولكن ظل صوته مفردا وحملت قصيدته لونها الخاص وقد
اهتم بدواوينه وكتاباته النقاد المعاصرين فتناولوها بالتحليل والنقد
والدراسة كما ترجمت بعض قصائده إلى اللغات الأجنبية كالانقليزية والفرنسية
والألمانية والايطالية والروسية والاسبانية واليونانية لما تتمتع به من
نزعة إنسانية تحكى عذاب الشعب الفلسطيني، سميح القاسم هو طائر الرعد الذي
كان ينشد في المدرسة للوطن وللغد عندما اخترقت المدرعات الاسرائلية جسد
وطنه عام 1948.
ولقد نشأت
علاقة وطيدة بين تونس وسميح القاسم وهو في الحقيقة لم يختر الكتابة بحبر
الدم ولو وجد ماء الورد لكتب به أحلى القصائد
* أهلا بالشاعر الكبير سميح القاسم مجددا في
تونس؟
- أهلا بكم، إذاعة هذا البلد
الطيب، بك أخي الحبيب وصديقي القديم الجديد ورمضان كريم على تونس الخضراء
حقا وعلى شعبها الطيب وعلى قيادتها ومثقفيها ومبدعيها جميعا، يسعدني في هذا
الشهر الفضيل، في رمضان أن أكون معكم وبينكم لنتبادل هواجس الإنسان
والمشاعر التي اعرف أنكم تكنونها لي..
* أستاذ سميح عندما تأخذ
الطائرة باتجاه تونس من تشتاق أكثر في تونس؟
- حقيقة ليست هناك ملامح فردية
إنما هناك تقاطيع قطعة من وطني، أنا لا أتعامل مع تونس أو مع فلسطين أو مع
مصر أو مع العراق باعتبارها أماكن بعيدة وغريبة ورسمية، أنا أتعامل معها
باعتبارها جزء من وطني الكبير، لذلك أنا اشتاق لقطعة جميلة من وطني الكبير
والجميل وليس سرا أن اسم تونس ارتبط باسم أبي قاسم الشابي حقيقة لا تستطيع
أن تذكر اسم الشابي إلا وتحضر تونس على الفور ولا يذكر اسم تونس إلا وتحل
خيالات هذا الشاعر المبدع والظاهر الإنسانية الفريدة وهذا شرف للشابي وشرف
لتونس أيضا ولكل العرب.
* أستاذ سميح أنت مولود في
مدينة الزرقاء في المملكة الأردنية، بماذا تحس بعد أن فصلت هذه القطعة من
فلسطين وأصبحت تتبع الأردن؟
- حقيقة هي لم تكن في أي وقت جزء
من فلسطين الانتدابية، هي كانت على الضفة الشرقية لنهر الأردن عائلتي
موزعة بين فلسطين وسوريا ولبنان والأردن، أبناء العائلة المباشرون موزعون،
فلا يعقل أن أكون فلسطينيا وابن عمي سوريا وابن الآخر لبنانيا وابنة عمتي
أردنية، لا يعقل أن نقر هذه التجزئة، لكن والدي كان ضابطا في الجيش الأردني
في الحرب العالمية الثانية أقام هناك بضع سنوات وأنا ولدت في الزرقاء، بعض
أشقائي ولدوا في .....وفي عمان، لكن البلاد ككل هي بلاد الشام...أنا لا
أتعامل مع دويلات "سايسبيكو" بالنسبة لي هي بلاد الشام وهي سوريا ولبنان
وفلسطين والأردن هي قطر واحد من أقطار العرب.
* تحضرك الآن بعض ذكريات
الطفولة؟
- غادرت الأسرة وأنا في سن
مبكرة، اعتقد في الخامسة أو السادسة، لكن لم تفارقني أبدا صورة بناء غامض
اتضح لي لاحقا انه قصر شبيب مازال موجودا في الزرقاء وحين عدت إلى الزرقاء
بعد قرابة نصف قرن ذهبت إلى ذلك المكان كأنني لم ابرحه ولم أغادره وقدمت
أمسية شعرية في باحة قصر شبيب واحتفل بي الأهل في الزرقاء وكانت زيارتي كما
قال آنذاك رئيس البلدية المناسبة الوحيدة التي تجمع ابناء جميع الطوائف
والمذاهب والقوميات والأحزاب والتيارات السياسية، فهناك الأخوان المسلمون
والشيوعيون والبعثيون والناصريون وهنا السنّة والدروز والورتودولس
والكاتوليك والارمن وهناك العرب والشيشان والشركس...ملل وطوائف متعددة جدا
هي جوهر هذه المدينة الفسيفسائية التي تسمى الزرقاء.
* هذه المدينة هل أنجبت
شعراء؟
- أنجبت سميح القاسم، ماذا
تريدون؟ طبعا هناك شعراء وأدباء جميلون في مسقط راسي.
* كنت تحب أن تكون شاعرا؟
- في الحقيقة ليست مسالة خيار،
الذي حدث لي كان تطورا عفويا...طفولتي ضربت بنكبة الشعب العربي الفلسطيني
وكانت لدي كميات هائلة من الأسئلة لماذا؟ لماذا حدث ما حدث؟ لماذا جرح أبي؟
ولماذا فقد خالي عينه؟ ولماذا اختطف ابن عمي؟ ولماذا قاتل أخوالي؟ ولماذا
استشهد بعض أقاربي وأصدقائي؟ ولماذا ضاع هذا الوطن؟ لماذا ألزم بالانتقال
من الأناشيد العربية: موطني، بلاد العرب، أوطاني، وعلم العروبة، ونحن
الشباب لنا الغد...كل هذه الأناشيد الوطنية الجميلة لماذا فجأة امنع عنها
وأنا كنت عضو الجوقة الإنشاد في المدرسة ويفرض علي أن انشد بالعربية...في
فترة وجيزة...وكان لا بد لي من الرد الروحي الوجداني عن أسئلة لا اسمع لها
ردا من خارجي...من هناك بدأت القصيدة...أنا ارسم مثلا، كان ممكن أن اعبر
بالرسم أو الموسيقى واعزف على العود ارتجاليا، كان هذا ممكنا... كان علي
أما أن أكون مقاتلا محترفا أو شاعرا، لان ما حدث لهذا الشعب وما يحدث هو شئ
يكاد يكون مشهدا سرياليا ومن اللامعقول دون شك، لا يعقل أن شعبا يعذب طيلة
ستين عاما والعالم يتفرج ولا يفعل أكثر من الكلام وبعض وجبات الطعام
والأغذية الفاسدة والدواء الفاسد الذي انتهت صلاحيته والمجزرة مستمرة
والمأساة تتواصل بدون مبرر وبدون منطق...نحن كشعب لم نرفع في أي وقت من
الأوقات شعار ذبح اليهود وإلقاء اليهود في البحر...على العكس تماما عشنا مع
اليهود كما عاشوا في تونس... مثلا أنا لا يمكن آن اسمح لإسرائيلي من أصل
تونسي أن يتطاول على تونس لأنهم عاشوا هنا في تونس باحترام وبمحبة وبمساواة
تامة... وهكذا عاشوا معنا أيضا وأنا أقول لهم في حواراتي معهم وبلغة عبرية
متميزة .....لهم، أفران الغاز لم تكن في الوطن العربي أو الإسلامي وكوارث
اليهود هي إفراز أوروبي وأمريكي، نحن لا علاقة لنا بها فلماذا نعاقب على
خطيئة أوروبا؟ لماذا يعاقب العرب والمسلمون بجريمة أوروبا؟ أوروبا أبادت
وذبحت وأذلت واضطهدت وقمعت اليهود وال....وكما تفعل الآن بالعرب وبالمسلمين
وأنا أقول دائما خطر الهولولوست القادم قائم وضحاياه سيكونون العرب
والمسلمين وأنا أقول هذا الكلام في الر....بلدي وفي تونس أمامك الآن، وقلته
في بلجيكا وفي فرنسا وفي لندن وفي باريس وفي برلين وفي مسكو وفي كل مكان
أن أقول: أنا خائف على العرب والمسلمين في ارويا من هولوكوست قادم!
*كلامك هذا يجرنا إلى تحديد
دورك كشاعر في الحياة، ما هو دورك استاذ سميح القاسم، هل دورك القتال
بالشعر؟
- أخي، هنا ندخل في سؤال كوني
وقديم ويبدو انه سيظل مستمرا حول الشعر والفن والسياسة والواقع...هناك
منظرون يقولون أن الشعر يجب أن يظل بعيدا عن السياسة، يتحدث عن الهواجس
الذاتية الداخلية في أعماق الإنسان ....بنفسه عن .....السياسية والاقتصادية
والى آخره من هذا الكلام وأنا اعتبر هذا الكلام موقفا سياسيا خطيرا...لان
الفن هو وسيلة الإنسان للدفاع عن نفسه. فالإنسان المجرد من السلاح يدافع عن
نفسه بالغناء، بالبكاء، بالشعر، بالموسيقى، بالصراخ...الفن هو وسيلتنا
للدفاع عن أنفسنا وفي حينه سالوا فريديريك قارشيا لوركا: أنت شاعر...لماذا
تتورط في السياسة؟ قال: انا كل ما افعله هو انني ادافع عن ابتسامتي...
* أنت تدافع عن دمعتك لكي لا
تستمر في السيلان؟
- نعم...أدافع عن حقي في الغضب
في الألم، يريدونني أن أنسى الم الوطن والشعب وهذا طلب غير إنساني...أنا لا
اكتب سياسة...أنا اكتب وجعا إنسانيا...في هذا الوجع الإنساني تجد صورة
الاحتلال والعنصرية وسلب الأرض، المجازر، المذابح، الحصار، جدار الفصل
العنصري الذي يبنى الآن على لحمنا وعل ترابنا وعلى دمنا...أنا أجد كل هذه
الأمور في حياتي اليومية، اعبر عن غضبي عن حزني عن وجعي لذلك هم يقولون هذا
انحياز سياسي...هذا دفاع عن النفس...هذا دفاعي عن دمعتي وان ملزم بالدفاع
أيضا عن ابتسامة لوركا، لأكن واضحا أنا أرى أن الإنسان واحد والكون واحد
والبشرية واحدة، وليس صحيحا ما يقال ان السياسة تفسد الشعر وتفسد
الفن...هذا ليس صحيحا على الإطلاق...الذين يقولون هذا الكلام هم سياسيون
من الموقف الآخر...من الخندق المضاد...من خندق الظلم والطاعون
والاستعمار...
* لأنهم يخشون الشعر؟
- طبعا لأنهم يخشون الفن وأنا لا
أنسى أبدا في ندوة في تل أبيب شاركت فيها أنا وأخي الراحل محمود درويش مع
بعض الشعراء والكتاب الإسرائيليين، احد النقاد من اليمن قال: للأسف الشديد
قصيدتكم جيدة يصعب علي الدفاع عنها!...
* أستاذ سميح أنت بالإضافة
إلى كونك شاعرا، أنت مواطن ككل المواطنين تعيش في دولة الاحتلال، أسير هوية
مفروضة عليك، لكنك شاعر حر بالتأكيد، كيف ترى المسافة بين كونك شاعر
فلسطيني وشاعر تعيش داخل إسرائيل؟
- أنت هنا تقع في خطا بصري...أنا
لا أعيش في داخل إسرائيل...أنا أعيش في وطني...أنا لست ملحقا بإسرائيل
* أنا عندما طلبتك على
الجوال...الرد كان باللغة العبرية!؟
- طبعا...طبعا أنا اعرف كل هذه
الأمور، لكني أريد أن أكون واضحا تماما حتى لا يتكرر ما أراه خطا
بصريا...عمري اكبر من عمر إسرائيل الدولة...أنا تجاوزت السبعين...وهي تطفلت
على طفولتي وعلى حياتي وفرضت نفسها بقوة السلاح، ولا يستطيع احد أن يلوم
طفولتي وطفولتي لا تستطيع أن تتصدى للمشروع الصهيوني، والمفروض أن تتصدى
جامعة الدول العربية بملوكها ورؤسائها وجيوشها الجرارة آنذاك...إذا كان
أولياء الأمر بأغلبيتهم الساحقة .....مع المشروع الصهيوني وكانوا في خدمة
الاستعمار البريطاني والفرنسي والأمريكي وكل أشكال الاستعمار، ولا يجوز
لأحد أن يحتج على طفولتي...أنا ضحية لم اختر أن أكون مواطنا إسرائيليا، هذه
فرضت علي وخيرت إما أن تبقى في وطنك وتكون مقدمة تليفونك بالعبرية أو أن
ترحل...هذا الخيار أمامي إما أن أبقى في الوطن ببطاقة هوية شخصية إسرائيلية
وبمقدمة تليفون إسرائيلية أو أن أهاجر، أنا لا أترك هذا الوطن و لا أتخلى
عنه تحت أي ذريعة من الذرائع... الحياة صعبة و شاقّة موجعة مؤلمة و لها
ثمن. أنا مان بمقدوري أن أكون أوسع شهرة و أن أتمتّع بالرفاه و الحياة
الطيبة في الوطن العربي و في العالم كلّه، كان بمقدوري أن أكون سفيرا أو
وزيرا أو أيّ شيء آخر... الوطن العربي كبير، الإمكانيات كبيرة و لديّ
القدرة .
* هل ساوموك أستاذ سميح؟
-طبعا،
طبعا ساوموني، أنتم تذكرون اقتراح جائزة نوبل شريطة القبول بجائزة
إسرائيل، و قلت أنا لا أريد لا نوبل و لا إسرائيل و لا أريد الجوائز، لا
أريد مكافأة..
* و لكنّك أخذت جوائز و
مكافآت؟
- نعم أخذت جوائز لم أطلبها
قدّمت لي و قبلتها بشرف و اعتزاز..عندما عرضوا علي جائزة نجيب محفوظ من
كتاب مصر فأنا أعتز بذلك و كذلك جائزة البابطين من الكويت و جوائز أخرى من
الوطن العربي و من العالم، من فرنسا و ايطاليا و من أماكن أخرى، أنا لست
ضدّ مبدأ المكافأة ة الجائزة ..هذا حقّ للشاعر و للمبدع أن يكافأ و أن
تقدّم له الجوائز لكن حين تكون مشروطة فهي مرفوضة...حين تشترط على جائزة
نوبل بجائزة إسرائيل فأنا لا أريد لا هذه و لا تلك.
* أنت تشكك في جائزة نجيب
محفوظ؟..جائزة نوبل
- أولا أنا لا أشكك في نجيب
محفوظ و بالمناسبة نحن تحوّلنا إلى صديقين، و يقول إخواننا في مصر و يكتبون
كم كان يحبني و يجلّني و يحترموني و يعرفون كم أحببته وكم أحترمه،
لقاءاتنا كانت ممتعة و جميلة و هو كاتب عظيم و هو أكبر من نوبل
بالمناسبة... كثيرون ممن حصلوا على جائرة نوبل ليسوا بمستوى نجيب محفوظ لكن
دون شكّ كانت هناك اعتبارات سياسيّة..لماذا لم يعطي الجائزة قبل كامب
دافيد و قبل مشروع السلام مع إسرائيل. و قبل مشروع السلام كان نجيب محفوظ
موجودا و كان كبيرا و كان أعظم من كثيرين ممن حصلوا على نوبل
* من كان يستحقّها قبل نجيب
محفوظ؟ هل كان الحكيم يستحقّها؟ أو طه حسين؟
-أنا لا أقيم الأدباء.. لكن
بالنسبة لمن حصل عليها من الغرب و من آسيا و من إفريقيا... طبعا طه حسين
يستحقّها و كذلك توفيق الحكيم و عبّاس محمود العقّاد
* و أدونيس؟
- لا لا، نحن نتحدث عن الجيل
السابق... بشارة الخوري من لبنان يستحقّها، طبعا جبران خليل جبران و محمّد
مهدي الجواهري و من تونس الشابّي، فلدينا في الوسط العربي مجموعة من
الأسماء في الشعر و في القصّة و في البحث الأدبي و في الموسيقى من هم على
مستوى عالمي راق جدّا و لم يحصلوا على الجائزة لاعتبارات سياسيّة.
* وصلت بنا إلى الموسيقى و
الغناء و نستمع الآن إلى مرسال خليفة، لماذا مرسال خليفة؟ لأنه غنى من شعرك
و أشهر ما غنّى "منتصب القامة أمشي"، هل كنت راض عن اللحن الذي وضعه؟
- طبعا مارسيل خليفة فنّان حساس و
موهوب و لحّن قبل أن نلتقي، هو اختار الكلمات و هو لحنّها.
*دون مقابل؟
- طبعا، طبعا، بالمناسبة لا
بخياري و لا بخيار مارسال هذه الأغنية و هذه الأنشودة أصبحت أشبه بنشيد
وطني عربي يقدّمها في كلّ حفل و في كلّ مناسبة، و أعتقد أنها أشهر ما
يقدّم في المناسبات العربية: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب
القدر للشابّي و منتصب القامة أمشي...أعتقد ذلك
* هل بإمكان الشعر العربي أن
يحقق حداثته في تواصله مع تقاليد الوزن و الإيقاع؟
- أنا أصوغ السؤال بصورة أخرى
لكن الإجابة تعرف السؤال بصيغته الأخرى، لا يمكن أن تنشأ حداثة عربية بمعزل
عن مخزون الوزن، العروض و قواعد اللغة و الإيقاعات التاريخية التقليدية
العظيمة، لا يمكن أن تنشأ حداثة شعرية عربية بخصام أو بعداوة مع هذا
الموروث العظيم و لديّ هنا ملاحظة ضرورية، البعض يقولون أن الأوزان هي
قيود، و أنا أقول الأوزان و هي أجنحة حريّة، لكن لمن لا يتقنها هي دون شكّ
قيود، إذا أتقنت كما يجب فهي تتحوّل إلى أجنحة حرية تساعد على الانطلاق
أكثر مما يسمّنه قصيدة النقر، الوزن يعطيك طاقة و حريّة و فضاء أوسع
للانطلاق ممّا يسمى قصيدة النثر هذه واحدة...ثانيا إذا نحن تخلّينا عن
الأوزان و العروض و عن قواعد اللغة العربيّة، هذا يعني أننا نتخلى عن
الشنفري و امرؤ القيس و المتنبي و المصري و أبي تمّام و البحتري و أبي
القاسم الشابي و أحمد شوق و محمد مهدي الجواهري، و في هذا موقف خطير و مطبذ
خطير كأنّما هي محاولة لمحو ذاكرة ثقافيّة لإلغاء عمق حضاري تاريخي، يعني
كأنّك تريد محو شكسبير من الوعي البريطاني أو محو موليار من الوعي الفرنسي،
البعض يطلقون الكلام عن سذاجة و عن جهل و عن عدم معرفة و هم من أشباه
المثقفين، و أنا لا أسميهم بالمثقفين الحقيقيين، لا يكفي أن تدرس في
السوربون أو في كامبريدج حتى تصبح مثقفا كبيرا، هذا لا يكفي دون شكّ، و قد
يكون خريج صفّ رابع ابتدائي في الرّمة في بلدي أو في تونس أو في القاهرة
أوسع ثقافة من خريج السوربون، لنأخذ هذه المسألة بعين الاعتبار، التعلم شيئ
و الثقافة و التثقيف الذاتي شيء آخر، إذن هناك خطورة ثقافية حضاريّة
قوميّة تاريخية في نظريات إلغاء العروض و إلغاء قواعد اللغة العربية و
إلغاء قواعد اللغة العربية الفصحى، الآن يريدون العاميّة، هناك نشرات أخبار
بالعاميّة في بعض الدول العربية، إذن هناك مؤامرة و لست من المصابين
بهلوسات نظريات المؤامرة أنا واضح في هذه الأمور حيث تكون مؤامرة أو لا
توجد مؤامرة... ليست كلّ حياتنا مؤامرات لكن بهذا المعنى هناك مؤامرة على
الوعي العربي و على الذاكرة العربية و على صياغة الإنسان العربي الجديد..
كلمة أخيرة بالنسبة للعروض و الأوزان هؤلاء الإخوة الذين لم يتقنوها و لا
يستطيعون اتقانها و لا يريدون اتقانها يقولون هي عبد..أنا أقول هي ثروة،
بالمناسبة ليس لدى أي شعب من شعوب العالم هذا التراث من التعددية الإيقاعية
في الشعر العربي، الأوزان العربية أشبه بالنوتة الموسيقية هي دقيقة و
متطورة و راقية، أنت لا تستطيع أن تقول لبتهوفن دعك من النوتة، تحرر من
النوتة، أبدع دون نوتة و دون قواعد موسيقية، هذا لا يعقل، فهناك قواعد و
ضوابط في كلّ عملية إبداعية، لا تستطيع أن تكون بيكاسو دون أن تتعلم خلط و
مزج الألوان أسود و أخضر ينتج رصاصي ينتج لون ثالث...ما لم تتعلم هذه
القوانين لا يمكن أن تنتج إبداعا، لذلك أتقنوا العروض.
* نصل الآن الى شقيقك الذي
لم تلده أمك و هو الشاعر الكبير محمود درويش و لك كتاب مشترك معه يعتبر من
أفضل كتب فنّ التراسل ...كيف تصوّر علاقتك بمحمود درويش؟
- أريد قبل كلّ شيء تهشيم
رؤية خاطئة حول العلاقات بين الشعراء و الفنانين و يعتقد البعض أننا ملاكان
نحوم فوق الغيوم بأيد يشعّ منها النور و على رؤوسنا هالات من الضوء
الإلهي، نحن بشر و لسنا من الملائكة نختلف و نتصادم و نتصارع و نتفق و
نلتقي ككلّ البشر الصفة الرومانسية لهذه الثنائية التي أعتقد أنّها أشهر
ثنائية في تاريخ العرب الحديث..ثنائيتنا أنا و محمود درويش لكن تجريدنا من
الإنسانية غير مقبول نحن بشر صداقتنا كانت عفويّة و جميلة و بريئة و صادقة
استمرّت حتى يومنا الأخير بروح صادقة...و الصدق جوهر العلاقة بيننا و في
رسالته الأخيرة التي نشرت في الصحف يقول فيها:" يبدو أن صداقتنا أقوى من
الحبّ" و هو على حقّ، أحيانا يكون هناك نفور، أغضب منه على موقف سياسيّ أو
يغضب مني على موقف سياسي أحيانا قد لا أحب قصيدة نشرها أقول له: "هذا كلام
سخيف و فارغ".
* فيغضب؟
- لا هو يغضب من كلّ
الناس....إلا مني
* و أنت تغضب منه؟
- أنا أغضب من كلّ الناس إلا
منه...كان يأخذ كلامي بروح أخويّة صادقة و آخذ كلامه بروح أخويّة صادقة... و
لم يكن بيننا في أيّ وقت من الأوقات ما سمي تنافس، لم نكن نتنافس على
الإطلاق و شعرنا أننا نتكامل..لنا أمسيات شعريّة مشتركة أنا و هو فقط و هي
مسألة نادرة...شاعران يقرآن في أمسية واحدة.
* قرأتما معا حتى في تونس؟
- نعم في تونس وفي مصر و الأردن
و فلسطين و بريطانيا و موسكو و فرنسا و بولندا و في أماكن كثيرة من
العالم...نقرأ الاثنان نجلس نصمّم الأمسية، نختار القصائد تنتج ما يسمّى
حوارية و نقرأ.. ناقد مصري فنّي سمير فريد كتب مرّة بعد أمسية مشتركة لنا
قال: لم أسمع في حياتي سمفونية أرقى من هذه السمفونية...إذن علاقتنا هي
علاقة إنسانية بشرية أرضية و ليست مسألة ملائكةالبعض يقول كان يختلفان نعم
كناّ نختلف و أعتقد أن آخر مكالمة سمعها في حياته كانت مكالمتي معه و هو في
أمريكا نحو العملية الجراحية.
* لماذا لا تحبّ عبد الحليم
حافظ؟
- أنا لا اكره أحدا..أعتقد أنه
ظلم من بعض الملحنين بحيث يبدو كأنه دجاجة مخنوقة، يغنّي مثل دجاجة مخنوقة و
قد ظلموا صوته..
* عبد الحليم هذا الذي
أبدع"قارئة الفنجان" و بحلم بيك" و صاغ له الملحّنون أغاني جميلة و كتب له
الشعراء قصائد رائعة؟
- لو اقتصر على "بحلم بيك" و
على "أهواك" و على أغاني تشبه أغاني شارل أزنافور و فرانك سيناترا اكان عبد
الحليم شيئا آخر، الملحنون أرادوا أن ينافسوا بصوته المحدود أصوات عمالقة
مثل فريد الأطرش و محمد عبد الوهاب.
* و لكنّه اعتلى القمّة؟
- أيّة قمّة و الإعلام لا يعطي
قمما؟ الإعلام إعلام دعك من هذيان الإعلام في مصر أو في تونس أو في فلسطين
أو في المغرب...
* أستاذ سميح أنت وصلت إلينا
بالإعلام؟
- لا أنا لم أصل إليكم
بالإعلام، أنا وصلت إليكم بقصيدتي.. شكرا للإعلام و لكن لو لم تكن القصيدة
لما وجد الإعلام شيئا.. الإعلام لا يصنع شاعرا أو مغنيّا أو راقصة، الإعلام
يروّج، يعمّم يساعد دون شكّ لكنّه لا يبدع...جامعة الدول العربيّة لا
تستطيع أن تنتج شاعرا، هيئة الأمم المتحدة لا تستطيع أن تنتج رسّاما،
الإبداع ليس مسألة قرار و سلطة و نفوذ و مال، الإبداع مسألة إلاهيّة، نعمة
ربانيّة كما أراه خارجة عن أنظمة البشر.... لكن كلّ مال الدنيا لن يجعل
هيفاء وهبي بحجم أم كلثوم، و كلّ مال الدنيا لن يجعل عمرو ذياب بحجم ناظم
الغزالي في العراق..أخي شكرا للإعلام فهو ضروري و هام و أنا أحلّه و أحترمه
لكن دون فقدان البوصلة الأساسيّة...الإبداع أوّلا و الإبداع أوّلا و
الإبداع أوّلا.
*شكرا للشاعر الكبير سميح
القاسم
شكرا جزيلا و إذا أردت أن تختتم
هذا الّلقاء فأنا أقترح الاختتام بأغنية أهواك لعبد الحليم حافظ
حاوره الحبيب جغام
يعتبر الشاعر سميح القاسم
احد ابرز شعراء فلسطين ولد في عائلة فلسطينية في مدينة الزرقاء الأردنية
تعلم في مدارس الرّامة...والناصرة، ثم انصرف إلى نشاطه السياسي في الحزب
الشيوعي قبل أن يتركه ويتفرغ للكتابة والأدب...سجن مرات عديدة ووضع رهن
الإقامة الجبرية حسب أشعاره ومواقفه السياسية. وما أن بلغ الثلاثين حتى كان
قد نشر ستة مجموعات شعرية جازت على شهرة واسعة في الوطن العربي. ارتبطت
تجربته بتجارب اثنين من الشعراء الفلسطينيين هما محمود درويش وتوفيق زيا في
ما عرف بشعر المقاومة...ولكن ظل صوته مفردا وحملت قصيدته لونها الخاص وقد
اهتم بدواوينه وكتاباته النقاد المعاصرين فتناولوها بالتحليل والنقد
والدراسة كما ترجمت بعض قصائده إلى اللغات الأجنبية كالانقليزية والفرنسية
والألمانية والايطالية والروسية والاسبانية واليونانية لما تتمتع به من
نزعة إنسانية تحكى عذاب الشعب الفلسطيني، سميح القاسم هو طائر الرعد الذي
كان ينشد في المدرسة للوطن وللغد عندما اخترقت المدرعات الاسرائلية جسد
وطنه عام 1948.
ولقد نشأت
علاقة وطيدة بين تونس وسميح القاسم وهو في الحقيقة لم يختر الكتابة بحبر
الدم ولو وجد ماء الورد لكتب به أحلى القصائد
* أهلا بالشاعر الكبير سميح القاسم مجددا في
تونس؟
- أهلا بكم، إذاعة هذا البلد
الطيب، بك أخي الحبيب وصديقي القديم الجديد ورمضان كريم على تونس الخضراء
حقا وعلى شعبها الطيب وعلى قيادتها ومثقفيها ومبدعيها جميعا، يسعدني في هذا
الشهر الفضيل، في رمضان أن أكون معكم وبينكم لنتبادل هواجس الإنسان
والمشاعر التي اعرف أنكم تكنونها لي..
* أستاذ سميح عندما تأخذ
الطائرة باتجاه تونس من تشتاق أكثر في تونس؟
- حقيقة ليست هناك ملامح فردية
إنما هناك تقاطيع قطعة من وطني، أنا لا أتعامل مع تونس أو مع فلسطين أو مع
مصر أو مع العراق باعتبارها أماكن بعيدة وغريبة ورسمية، أنا أتعامل معها
باعتبارها جزء من وطني الكبير، لذلك أنا اشتاق لقطعة جميلة من وطني الكبير
والجميل وليس سرا أن اسم تونس ارتبط باسم أبي قاسم الشابي حقيقة لا تستطيع
أن تذكر اسم الشابي إلا وتحضر تونس على الفور ولا يذكر اسم تونس إلا وتحل
خيالات هذا الشاعر المبدع والظاهر الإنسانية الفريدة وهذا شرف للشابي وشرف
لتونس أيضا ولكل العرب.
* أستاذ سميح أنت مولود في
مدينة الزرقاء في المملكة الأردنية، بماذا تحس بعد أن فصلت هذه القطعة من
فلسطين وأصبحت تتبع الأردن؟
- حقيقة هي لم تكن في أي وقت جزء
من فلسطين الانتدابية، هي كانت على الضفة الشرقية لنهر الأردن عائلتي
موزعة بين فلسطين وسوريا ولبنان والأردن، أبناء العائلة المباشرون موزعون،
فلا يعقل أن أكون فلسطينيا وابن عمي سوريا وابن الآخر لبنانيا وابنة عمتي
أردنية، لا يعقل أن نقر هذه التجزئة، لكن والدي كان ضابطا في الجيش الأردني
في الحرب العالمية الثانية أقام هناك بضع سنوات وأنا ولدت في الزرقاء، بعض
أشقائي ولدوا في .....وفي عمان، لكن البلاد ككل هي بلاد الشام...أنا لا
أتعامل مع دويلات "سايسبيكو" بالنسبة لي هي بلاد الشام وهي سوريا ولبنان
وفلسطين والأردن هي قطر واحد من أقطار العرب.
* تحضرك الآن بعض ذكريات
الطفولة؟
- غادرت الأسرة وأنا في سن
مبكرة، اعتقد في الخامسة أو السادسة، لكن لم تفارقني أبدا صورة بناء غامض
اتضح لي لاحقا انه قصر شبيب مازال موجودا في الزرقاء وحين عدت إلى الزرقاء
بعد قرابة نصف قرن ذهبت إلى ذلك المكان كأنني لم ابرحه ولم أغادره وقدمت
أمسية شعرية في باحة قصر شبيب واحتفل بي الأهل في الزرقاء وكانت زيارتي كما
قال آنذاك رئيس البلدية المناسبة الوحيدة التي تجمع ابناء جميع الطوائف
والمذاهب والقوميات والأحزاب والتيارات السياسية، فهناك الأخوان المسلمون
والشيوعيون والبعثيون والناصريون وهنا السنّة والدروز والورتودولس
والكاتوليك والارمن وهناك العرب والشيشان والشركس...ملل وطوائف متعددة جدا
هي جوهر هذه المدينة الفسيفسائية التي تسمى الزرقاء.
* هذه المدينة هل أنجبت
شعراء؟
- أنجبت سميح القاسم، ماذا
تريدون؟ طبعا هناك شعراء وأدباء جميلون في مسقط راسي.
* كنت تحب أن تكون شاعرا؟
- في الحقيقة ليست مسالة خيار،
الذي حدث لي كان تطورا عفويا...طفولتي ضربت بنكبة الشعب العربي الفلسطيني
وكانت لدي كميات هائلة من الأسئلة لماذا؟ لماذا حدث ما حدث؟ لماذا جرح أبي؟
ولماذا فقد خالي عينه؟ ولماذا اختطف ابن عمي؟ ولماذا قاتل أخوالي؟ ولماذا
استشهد بعض أقاربي وأصدقائي؟ ولماذا ضاع هذا الوطن؟ لماذا ألزم بالانتقال
من الأناشيد العربية: موطني، بلاد العرب، أوطاني، وعلم العروبة، ونحن
الشباب لنا الغد...كل هذه الأناشيد الوطنية الجميلة لماذا فجأة امنع عنها
وأنا كنت عضو الجوقة الإنشاد في المدرسة ويفرض علي أن انشد بالعربية...في
فترة وجيزة...وكان لا بد لي من الرد الروحي الوجداني عن أسئلة لا اسمع لها
ردا من خارجي...من هناك بدأت القصيدة...أنا ارسم مثلا، كان ممكن أن اعبر
بالرسم أو الموسيقى واعزف على العود ارتجاليا، كان هذا ممكنا... كان علي
أما أن أكون مقاتلا محترفا أو شاعرا، لان ما حدث لهذا الشعب وما يحدث هو شئ
يكاد يكون مشهدا سرياليا ومن اللامعقول دون شك، لا يعقل أن شعبا يعذب طيلة
ستين عاما والعالم يتفرج ولا يفعل أكثر من الكلام وبعض وجبات الطعام
والأغذية الفاسدة والدواء الفاسد الذي انتهت صلاحيته والمجزرة مستمرة
والمأساة تتواصل بدون مبرر وبدون منطق...نحن كشعب لم نرفع في أي وقت من
الأوقات شعار ذبح اليهود وإلقاء اليهود في البحر...على العكس تماما عشنا مع
اليهود كما عاشوا في تونس... مثلا أنا لا يمكن آن اسمح لإسرائيلي من أصل
تونسي أن يتطاول على تونس لأنهم عاشوا هنا في تونس باحترام وبمحبة وبمساواة
تامة... وهكذا عاشوا معنا أيضا وأنا أقول لهم في حواراتي معهم وبلغة عبرية
متميزة .....لهم، أفران الغاز لم تكن في الوطن العربي أو الإسلامي وكوارث
اليهود هي إفراز أوروبي وأمريكي، نحن لا علاقة لنا بها فلماذا نعاقب على
خطيئة أوروبا؟ لماذا يعاقب العرب والمسلمون بجريمة أوروبا؟ أوروبا أبادت
وذبحت وأذلت واضطهدت وقمعت اليهود وال....وكما تفعل الآن بالعرب وبالمسلمين
وأنا أقول دائما خطر الهولولوست القادم قائم وضحاياه سيكونون العرب
والمسلمين وأنا أقول هذا الكلام في الر....بلدي وفي تونس أمامك الآن، وقلته
في بلجيكا وفي فرنسا وفي لندن وفي باريس وفي برلين وفي مسكو وفي كل مكان
أن أقول: أنا خائف على العرب والمسلمين في ارويا من هولوكوست قادم!
*كلامك هذا يجرنا إلى تحديد
دورك كشاعر في الحياة، ما هو دورك استاذ سميح القاسم، هل دورك القتال
بالشعر؟
- أخي، هنا ندخل في سؤال كوني
وقديم ويبدو انه سيظل مستمرا حول الشعر والفن والسياسة والواقع...هناك
منظرون يقولون أن الشعر يجب أن يظل بعيدا عن السياسة، يتحدث عن الهواجس
الذاتية الداخلية في أعماق الإنسان ....بنفسه عن .....السياسية والاقتصادية
والى آخره من هذا الكلام وأنا اعتبر هذا الكلام موقفا سياسيا خطيرا...لان
الفن هو وسيلة الإنسان للدفاع عن نفسه. فالإنسان المجرد من السلاح يدافع عن
نفسه بالغناء، بالبكاء، بالشعر، بالموسيقى، بالصراخ...الفن هو وسيلتنا
للدفاع عن أنفسنا وفي حينه سالوا فريديريك قارشيا لوركا: أنت شاعر...لماذا
تتورط في السياسة؟ قال: انا كل ما افعله هو انني ادافع عن ابتسامتي...
* أنت تدافع عن دمعتك لكي لا
تستمر في السيلان؟
- نعم...أدافع عن حقي في الغضب
في الألم، يريدونني أن أنسى الم الوطن والشعب وهذا طلب غير إنساني...أنا لا
اكتب سياسة...أنا اكتب وجعا إنسانيا...في هذا الوجع الإنساني تجد صورة
الاحتلال والعنصرية وسلب الأرض، المجازر، المذابح، الحصار، جدار الفصل
العنصري الذي يبنى الآن على لحمنا وعل ترابنا وعلى دمنا...أنا أجد كل هذه
الأمور في حياتي اليومية، اعبر عن غضبي عن حزني عن وجعي لذلك هم يقولون هذا
انحياز سياسي...هذا دفاع عن النفس...هذا دفاعي عن دمعتي وان ملزم بالدفاع
أيضا عن ابتسامة لوركا، لأكن واضحا أنا أرى أن الإنسان واحد والكون واحد
والبشرية واحدة، وليس صحيحا ما يقال ان السياسة تفسد الشعر وتفسد
الفن...هذا ليس صحيحا على الإطلاق...الذين يقولون هذا الكلام هم سياسيون
من الموقف الآخر...من الخندق المضاد...من خندق الظلم والطاعون
والاستعمار...
* لأنهم يخشون الشعر؟
- طبعا لأنهم يخشون الفن وأنا لا
أنسى أبدا في ندوة في تل أبيب شاركت فيها أنا وأخي الراحل محمود درويش مع
بعض الشعراء والكتاب الإسرائيليين، احد النقاد من اليمن قال: للأسف الشديد
قصيدتكم جيدة يصعب علي الدفاع عنها!...
* أستاذ سميح أنت بالإضافة
إلى كونك شاعرا، أنت مواطن ككل المواطنين تعيش في دولة الاحتلال، أسير هوية
مفروضة عليك، لكنك شاعر حر بالتأكيد، كيف ترى المسافة بين كونك شاعر
فلسطيني وشاعر تعيش داخل إسرائيل؟
- أنت هنا تقع في خطا بصري...أنا
لا أعيش في داخل إسرائيل...أنا أعيش في وطني...أنا لست ملحقا بإسرائيل
* أنا عندما طلبتك على
الجوال...الرد كان باللغة العبرية!؟
- طبعا...طبعا أنا اعرف كل هذه
الأمور، لكني أريد أن أكون واضحا تماما حتى لا يتكرر ما أراه خطا
بصريا...عمري اكبر من عمر إسرائيل الدولة...أنا تجاوزت السبعين...وهي تطفلت
على طفولتي وعلى حياتي وفرضت نفسها بقوة السلاح، ولا يستطيع احد أن يلوم
طفولتي وطفولتي لا تستطيع أن تتصدى للمشروع الصهيوني، والمفروض أن تتصدى
جامعة الدول العربية بملوكها ورؤسائها وجيوشها الجرارة آنذاك...إذا كان
أولياء الأمر بأغلبيتهم الساحقة .....مع المشروع الصهيوني وكانوا في خدمة
الاستعمار البريطاني والفرنسي والأمريكي وكل أشكال الاستعمار، ولا يجوز
لأحد أن يحتج على طفولتي...أنا ضحية لم اختر أن أكون مواطنا إسرائيليا، هذه
فرضت علي وخيرت إما أن تبقى في وطنك وتكون مقدمة تليفونك بالعبرية أو أن
ترحل...هذا الخيار أمامي إما أن أبقى في الوطن ببطاقة هوية شخصية إسرائيلية
وبمقدمة تليفون إسرائيلية أو أن أهاجر، أنا لا أترك هذا الوطن و لا أتخلى
عنه تحت أي ذريعة من الذرائع... الحياة صعبة و شاقّة موجعة مؤلمة و لها
ثمن. أنا مان بمقدوري أن أكون أوسع شهرة و أن أتمتّع بالرفاه و الحياة
الطيبة في الوطن العربي و في العالم كلّه، كان بمقدوري أن أكون سفيرا أو
وزيرا أو أيّ شيء آخر... الوطن العربي كبير، الإمكانيات كبيرة و لديّ
القدرة .
* هل ساوموك أستاذ سميح؟
-طبعا،
طبعا ساوموني، أنتم تذكرون اقتراح جائزة نوبل شريطة القبول بجائزة
إسرائيل، و قلت أنا لا أريد لا نوبل و لا إسرائيل و لا أريد الجوائز، لا
أريد مكافأة..
* و لكنّك أخذت جوائز و
مكافآت؟
- نعم أخذت جوائز لم أطلبها
قدّمت لي و قبلتها بشرف و اعتزاز..عندما عرضوا علي جائزة نجيب محفوظ من
كتاب مصر فأنا أعتز بذلك و كذلك جائزة البابطين من الكويت و جوائز أخرى من
الوطن العربي و من العالم، من فرنسا و ايطاليا و من أماكن أخرى، أنا لست
ضدّ مبدأ المكافأة ة الجائزة ..هذا حقّ للشاعر و للمبدع أن يكافأ و أن
تقدّم له الجوائز لكن حين تكون مشروطة فهي مرفوضة...حين تشترط على جائزة
نوبل بجائزة إسرائيل فأنا لا أريد لا هذه و لا تلك.
* أنت تشكك في جائزة نجيب
محفوظ؟..جائزة نوبل
- أولا أنا لا أشكك في نجيب
محفوظ و بالمناسبة نحن تحوّلنا إلى صديقين، و يقول إخواننا في مصر و يكتبون
كم كان يحبني و يجلّني و يحترموني و يعرفون كم أحببته وكم أحترمه،
لقاءاتنا كانت ممتعة و جميلة و هو كاتب عظيم و هو أكبر من نوبل
بالمناسبة... كثيرون ممن حصلوا على جائرة نوبل ليسوا بمستوى نجيب محفوظ لكن
دون شكّ كانت هناك اعتبارات سياسيّة..لماذا لم يعطي الجائزة قبل كامب
دافيد و قبل مشروع السلام مع إسرائيل. و قبل مشروع السلام كان نجيب محفوظ
موجودا و كان كبيرا و كان أعظم من كثيرين ممن حصلوا على نوبل
* من كان يستحقّها قبل نجيب
محفوظ؟ هل كان الحكيم يستحقّها؟ أو طه حسين؟
-أنا لا أقيم الأدباء.. لكن
بالنسبة لمن حصل عليها من الغرب و من آسيا و من إفريقيا... طبعا طه حسين
يستحقّها و كذلك توفيق الحكيم و عبّاس محمود العقّاد
* و أدونيس؟
- لا لا، نحن نتحدث عن الجيل
السابق... بشارة الخوري من لبنان يستحقّها، طبعا جبران خليل جبران و محمّد
مهدي الجواهري و من تونس الشابّي، فلدينا في الوسط العربي مجموعة من
الأسماء في الشعر و في القصّة و في البحث الأدبي و في الموسيقى من هم على
مستوى عالمي راق جدّا و لم يحصلوا على الجائزة لاعتبارات سياسيّة.
* وصلت بنا إلى الموسيقى و
الغناء و نستمع الآن إلى مرسال خليفة، لماذا مرسال خليفة؟ لأنه غنى من شعرك
و أشهر ما غنّى "منتصب القامة أمشي"، هل كنت راض عن اللحن الذي وضعه؟
- طبعا مارسيل خليفة فنّان حساس و
موهوب و لحّن قبل أن نلتقي، هو اختار الكلمات و هو لحنّها.
*دون مقابل؟
- طبعا، طبعا، بالمناسبة لا
بخياري و لا بخيار مارسال هذه الأغنية و هذه الأنشودة أصبحت أشبه بنشيد
وطني عربي يقدّمها في كلّ حفل و في كلّ مناسبة، و أعتقد أنها أشهر ما
يقدّم في المناسبات العربية: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب
القدر للشابّي و منتصب القامة أمشي...أعتقد ذلك
* هل بإمكان الشعر العربي أن
يحقق حداثته في تواصله مع تقاليد الوزن و الإيقاع؟
- أنا أصوغ السؤال بصورة أخرى
لكن الإجابة تعرف السؤال بصيغته الأخرى، لا يمكن أن تنشأ حداثة عربية بمعزل
عن مخزون الوزن، العروض و قواعد اللغة و الإيقاعات التاريخية التقليدية
العظيمة، لا يمكن أن تنشأ حداثة شعرية عربية بخصام أو بعداوة مع هذا
الموروث العظيم و لديّ هنا ملاحظة ضرورية، البعض يقولون أن الأوزان هي
قيود، و أنا أقول الأوزان و هي أجنحة حريّة، لكن لمن لا يتقنها هي دون شكّ
قيود، إذا أتقنت كما يجب فهي تتحوّل إلى أجنحة حرية تساعد على الانطلاق
أكثر مما يسمّنه قصيدة النقر، الوزن يعطيك طاقة و حريّة و فضاء أوسع
للانطلاق ممّا يسمى قصيدة النثر هذه واحدة...ثانيا إذا نحن تخلّينا عن
الأوزان و العروض و عن قواعد اللغة العربيّة، هذا يعني أننا نتخلى عن
الشنفري و امرؤ القيس و المتنبي و المصري و أبي تمّام و البحتري و أبي
القاسم الشابي و أحمد شوق و محمد مهدي الجواهري، و في هذا موقف خطير و مطبذ
خطير كأنّما هي محاولة لمحو ذاكرة ثقافيّة لإلغاء عمق حضاري تاريخي، يعني
كأنّك تريد محو شكسبير من الوعي البريطاني أو محو موليار من الوعي الفرنسي،
البعض يطلقون الكلام عن سذاجة و عن جهل و عن عدم معرفة و هم من أشباه
المثقفين، و أنا لا أسميهم بالمثقفين الحقيقيين، لا يكفي أن تدرس في
السوربون أو في كامبريدج حتى تصبح مثقفا كبيرا، هذا لا يكفي دون شكّ، و قد
يكون خريج صفّ رابع ابتدائي في الرّمة في بلدي أو في تونس أو في القاهرة
أوسع ثقافة من خريج السوربون، لنأخذ هذه المسألة بعين الاعتبار، التعلم شيئ
و الثقافة و التثقيف الذاتي شيء آخر، إذن هناك خطورة ثقافية حضاريّة
قوميّة تاريخية في نظريات إلغاء العروض و إلغاء قواعد اللغة العربية و
إلغاء قواعد اللغة العربية الفصحى، الآن يريدون العاميّة، هناك نشرات أخبار
بالعاميّة في بعض الدول العربية، إذن هناك مؤامرة و لست من المصابين
بهلوسات نظريات المؤامرة أنا واضح في هذه الأمور حيث تكون مؤامرة أو لا
توجد مؤامرة... ليست كلّ حياتنا مؤامرات لكن بهذا المعنى هناك مؤامرة على
الوعي العربي و على الذاكرة العربية و على صياغة الإنسان العربي الجديد..
كلمة أخيرة بالنسبة للعروض و الأوزان هؤلاء الإخوة الذين لم يتقنوها و لا
يستطيعون اتقانها و لا يريدون اتقانها يقولون هي عبد..أنا أقول هي ثروة،
بالمناسبة ليس لدى أي شعب من شعوب العالم هذا التراث من التعددية الإيقاعية
في الشعر العربي، الأوزان العربية أشبه بالنوتة الموسيقية هي دقيقة و
متطورة و راقية، أنت لا تستطيع أن تقول لبتهوفن دعك من النوتة، تحرر من
النوتة، أبدع دون نوتة و دون قواعد موسيقية، هذا لا يعقل، فهناك قواعد و
ضوابط في كلّ عملية إبداعية، لا تستطيع أن تكون بيكاسو دون أن تتعلم خلط و
مزج الألوان أسود و أخضر ينتج رصاصي ينتج لون ثالث...ما لم تتعلم هذه
القوانين لا يمكن أن تنتج إبداعا، لذلك أتقنوا العروض.
* نصل الآن الى شقيقك الذي
لم تلده أمك و هو الشاعر الكبير محمود درويش و لك كتاب مشترك معه يعتبر من
أفضل كتب فنّ التراسل ...كيف تصوّر علاقتك بمحمود درويش؟
- أريد قبل كلّ شيء تهشيم
رؤية خاطئة حول العلاقات بين الشعراء و الفنانين و يعتقد البعض أننا ملاكان
نحوم فوق الغيوم بأيد يشعّ منها النور و على رؤوسنا هالات من الضوء
الإلهي، نحن بشر و لسنا من الملائكة نختلف و نتصادم و نتصارع و نتفق و
نلتقي ككلّ البشر الصفة الرومانسية لهذه الثنائية التي أعتقد أنّها أشهر
ثنائية في تاريخ العرب الحديث..ثنائيتنا أنا و محمود درويش لكن تجريدنا من
الإنسانية غير مقبول نحن بشر صداقتنا كانت عفويّة و جميلة و بريئة و صادقة
استمرّت حتى يومنا الأخير بروح صادقة...و الصدق جوهر العلاقة بيننا و في
رسالته الأخيرة التي نشرت في الصحف يقول فيها:" يبدو أن صداقتنا أقوى من
الحبّ" و هو على حقّ، أحيانا يكون هناك نفور، أغضب منه على موقف سياسيّ أو
يغضب مني على موقف سياسي أحيانا قد لا أحب قصيدة نشرها أقول له: "هذا كلام
سخيف و فارغ".
* فيغضب؟
- لا هو يغضب من كلّ
الناس....إلا مني
* و أنت تغضب منه؟
- أنا أغضب من كلّ الناس إلا
منه...كان يأخذ كلامي بروح أخويّة صادقة و آخذ كلامه بروح أخويّة صادقة... و
لم يكن بيننا في أيّ وقت من الأوقات ما سمي تنافس، لم نكن نتنافس على
الإطلاق و شعرنا أننا نتكامل..لنا أمسيات شعريّة مشتركة أنا و هو فقط و هي
مسألة نادرة...شاعران يقرآن في أمسية واحدة.
* قرأتما معا حتى في تونس؟
- نعم في تونس وفي مصر و الأردن
و فلسطين و بريطانيا و موسكو و فرنسا و بولندا و في أماكن كثيرة من
العالم...نقرأ الاثنان نجلس نصمّم الأمسية، نختار القصائد تنتج ما يسمّى
حوارية و نقرأ.. ناقد مصري فنّي سمير فريد كتب مرّة بعد أمسية مشتركة لنا
قال: لم أسمع في حياتي سمفونية أرقى من هذه السمفونية...إذن علاقتنا هي
علاقة إنسانية بشرية أرضية و ليست مسألة ملائكةالبعض يقول كان يختلفان نعم
كناّ نختلف و أعتقد أن آخر مكالمة سمعها في حياته كانت مكالمتي معه و هو في
أمريكا نحو العملية الجراحية.
* لماذا لا تحبّ عبد الحليم
حافظ؟
- أنا لا اكره أحدا..أعتقد أنه
ظلم من بعض الملحنين بحيث يبدو كأنه دجاجة مخنوقة، يغنّي مثل دجاجة مخنوقة و
قد ظلموا صوته..
* عبد الحليم هذا الذي
أبدع"قارئة الفنجان" و بحلم بيك" و صاغ له الملحّنون أغاني جميلة و كتب له
الشعراء قصائد رائعة؟
- لو اقتصر على "بحلم بيك" و
على "أهواك" و على أغاني تشبه أغاني شارل أزنافور و فرانك سيناترا اكان عبد
الحليم شيئا آخر، الملحنون أرادوا أن ينافسوا بصوته المحدود أصوات عمالقة
مثل فريد الأطرش و محمد عبد الوهاب.
* و لكنّه اعتلى القمّة؟
- أيّة قمّة و الإعلام لا يعطي
قمما؟ الإعلام إعلام دعك من هذيان الإعلام في مصر أو في تونس أو في فلسطين
أو في المغرب...
* أستاذ سميح أنت وصلت إلينا
بالإعلام؟
- لا أنا لم أصل إليكم
بالإعلام، أنا وصلت إليكم بقصيدتي.. شكرا للإعلام و لكن لو لم تكن القصيدة
لما وجد الإعلام شيئا.. الإعلام لا يصنع شاعرا أو مغنيّا أو راقصة، الإعلام
يروّج، يعمّم يساعد دون شكّ لكنّه لا يبدع...جامعة الدول العربيّة لا
تستطيع أن تنتج شاعرا، هيئة الأمم المتحدة لا تستطيع أن تنتج رسّاما،
الإبداع ليس مسألة قرار و سلطة و نفوذ و مال، الإبداع مسألة إلاهيّة، نعمة
ربانيّة كما أراه خارجة عن أنظمة البشر.... لكن كلّ مال الدنيا لن يجعل
هيفاء وهبي بحجم أم كلثوم، و كلّ مال الدنيا لن يجعل عمرو ذياب بحجم ناظم
الغزالي في العراق..أخي شكرا للإعلام فهو ضروري و هام و أنا أحلّه و أحترمه
لكن دون فقدان البوصلة الأساسيّة...الإبداع أوّلا و الإبداع أوّلا و
الإبداع أوّلا.
*شكرا للشاعر الكبير سميح
القاسم
شكرا جزيلا و إذا أردت أن تختتم
هذا الّلقاء فأنا أقترح الاختتام بأغنية أهواك لعبد الحليم حافظ
حاوره الحبيب جغام