كانت غزوة ذات الرقاع في شهر ربيع الأول سنة 7هـ، أي فور رجوع المسلمين من فتح خيبر؛ فهي حركة دائبة من الجهاد في سبيل الله، وبعض كُتّاب السير يضعون غزوة ذات الرقاع في أحداث السنة الرابعة، وهذا لا يستقيم؛ لأن أبا موسى الأشعري t -كما ثبت في البخاري- شارك في غزوة ذات الرقاع، وأبو موسى t بالاتفاق لم يأتِ إلى المدينة المنورة إلا في العام السابع من الهجرة مع قدوم جعفر بن أبي طالب t إلى المدينة المنورة، أي جاء بعد فتح خيبر، ومن المؤكد أن غزوة ذات الرقاع وقعت في السنة السابعة من الهجرة، وهذه الغزوة كانت موجَّهة إلى قبائل غطفان، التي حاصرت المدينة المنورة في غزوة الأحزاب، وأرادوا أن يساعدوا اليهود في خيبر، وكانوا يُعِدُّون العُدَّة لغزو المدينة المنورة، ولكن الرسول r أرسل إليهم سرية وهو يفتح خيبر، فأرادوا إعادة غزو المدينة المنورة من جديد؛ ولذلك كان على الرسول r أن يقف وقفة جادة ومخوفة، ويخرج إليهم بنفسه r بدلاً من أن ينتظرهم في المدينة المنورة؛ حتى لا يؤخذ انطباعٌ دائم عن المسلمين أنهم يخافون من غطفان، ولا يجرءون على مواجهة مباشرة معهم، وهذا الانطباع السلبي أراد الرسول r أن يمحوه، ومن ثَمَّ خرج الرسول r وصحابته الكرام إلى ديار غطفان[2].
الجيش الإسلامي يصل إلى أرض غطفان
خرج الرسول r بنفسه إلى ديار غطفان، ولكن يبدو أن جيوش المسلمين في ذلك الوقت كانت موزعة في أماكن متفرقة؛ فهناك جيوش بداخل المدينة المنورة، وهناك جيوش في خيبر، وفي وادي القرى، وفي فدك، وفي تيماء، وفي غيرها من الأماكن الملتهبة في ذلك الوقت، والرسول r لا يأمن أن يترك المدينة المنورة بلا جيش ولا قاعدة، والرسول r لا يأمن غدر قريش، وقبائل غطفان قد تلف من هنا أو هناك حول الطرق لتدخل المدينة المنورة من أي مكان، أمور كثيرة جعلت من الضروري أن يترك المسلمون حامية في داخل المدينة المنورة؛ لذلك خرج الرسول r في جيش صغير نسبيًّا، وهذا الجيش تقريبًا كان أربعمائة من الصحابة y، وفي بعض الروايات أنهم سبعمائة من الصحابة y أجمعين، ولم يكن معهم من البعير إلا القليل، لدرجة أن ستة من الصحابة كانوا يتناوبون ركوب البعير الواحد، وسار الرسول r مسافة كبيرة بجيشه في عمق الصحراء، وتوغل حتى بلغ ديار غطفان، وهي إلى الشمال الشرقي من المدينة المنورة على مسافة عدة ليالٍ من المدينة المنورة، وهذه المسافة كبيرة جدًّا، والصحابة يسيرون على أقدامهم، وقد أثر ذلك فيهم y أجمعين، والبخاري -رحمه الله- يروي عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ r فِي غَزْوَةٍ، وَنَحْنُ سِتَّةُ نَفَرٍ، بَيْنَنَا بَعِيرٌ نَعْتَقِبُهُ، فَنَقِبَتْ أَقْدَامُنَا وَنَقِبَتْ قَدَمَايَ وَسَقَطَتْ أَظْفَارِي، وَكُنَّا نَلُفُّ عَلَى أَرْجُلِنَا الْخِرَقَ؛ فَسُمِّيَتْ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ لِمَا كُنَّا نَعْصِبُ مِنَ الْخِرَقِ عَلَى أَرْجُلِنَا"[3].
قال ابن حجر في الفتح: "نعتقبه أيْ نركبه عُقْبةً عُقْبة، وهو أن يركب هذا قليلاً ثم ينزل فيركب الآخر بالنوبة حتى يأتي على سائرهم"[4].
والحقيقة أننا نحتاج أن نقف وقفة مع هذا الموقف، فهذا الحديث وأمثاله يوضِّح لنا مدى التضحية والبذل والعطاء الذي تميز به هذا الجيل الصادق من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
صور من حرص الصحابة y على الجهاد
كان العام السابع من الهجرة حركة دائبة ومستمرة من الجهاد في سبيل الله، من الرسول r، وصحابته الكرام رضوان الله عليهم؛ وإذا نظرنا إلى الشهور الثلاثة الأخيرة من العام السابع الهجري، نجد أن الرسول r وصحابته الكرام قد توجهوا إلى مكة المكرمة لأداء عمرة القضاء مع التضحية التامة بالنفس، والذهاب إلى قريش في عقر دارها، استعداد تام للقتال حتى النهاية، وبعد عودة المسلمين إلى المدينة المنورة بعد صلح الحديبية، انطلقوا مباشرة إلى الحصون والقلاع في خيبر، ودار قتال شرس أكثر من شهر متصل بخيبر، وانتصار مهيب كما رأينا لا مثيل له، وعودة إلى المدينة لعدة أيام، ثم الخروج والسير في الصحراء مسافة طويل كما رأينا لقتال قبيلة غطفان، وهي من أقوى وأشرس قبائل العرب، وبذلك نرى حركة دائمة في سبيل الله، وبذل وتضحية في كل لحظة، ورأينا جعفر بن أبي طالب t وهو يعود من الحبشة فيجد أن الرسول r قد غادر المدينة إلى خيبر، فيترك المدينة مباشرة، ويذهب إلى خيبر؛ ليشترك في القتال، وهو قادم من الحبشة وهي مسافة طويلة جدًّا. ورأينا أبا موسى الأشعري t، وهو يأتي من اليمن في أيام خيبر فيخرج بعد قدومه بعدة أيام إلى هذه الغزوة الصعبة، غزوة ذات الرقاع، فلم يكن هناك لحظة ضائعة في حياة هذا الجيل، ولعل ذلك هو الذي يفسر لنا الكَمّ الهائل من الأحداث التي وقعت في زمن البعثة النبوية، وهي فترة محدودة وقصيرة، ولا يمكن أبدًا أن نستوعب هذه الأحداث إلا إذا نظرنا إلى هذا الجهد والبذل والعطاء المستمر من هذا الجيل y أجمعين. وإذا أضفنا إلى هذا الاستغلال الدقيق لكل لحظة من لحظات الحياة، البركة التي ينعم الله U بها على عباده المؤمنين، فعند ذلك نفهم كيف قاموا بالأحداث الضخمة الكثيرة في هذه الفترة المحدودة من الزمان! وكانت أعمالهم كلها خالصة لله U، لدرجة أن أبا موسى الأشعري t، لما حكى هذا الأمر بعد ذلك كما يذكر البخاري: وحدَّث أبو موسى بهذا ثم كره ذاك، قال: "ما كنت أصنع بأن أذكره"، كأنه كره أن يكون شيء من عمله أفشاه[5]. أي أنه يلوم نفسه لأنه أعلن هذا الأمر؛ لأنه كان يريد أن يكتم هذا الأمر ليصبح هذا العمل بينه وبين رب العالمين. والحمد لله أنه حَدَّث بذلك الأمر ليصل إلينا لنتعلمه ونعلمه لإخواننا وأبنائنا. ومع كل هذه الصعوبة وصل الجيش الإسلامي إلى ديار غطفان، وكنا نتوقع معركة طاحنة بين المسلمين الذين تعرضوا لأذى غطفان قبل ذلك أكثر من مرة، وبين غطفان القبيلة الكبيرة الشرسة، التي يغزوها المسلمون في عُقْر دارها، ولكن المفاجأة أنه لم يحدث قتال؛ فقد آثر أهل غطفان ألاّ يدخلوا في صراع مع المسلمين، مع أن المسلمين في أقصى تقدير لا يزيدون على سبعمائة وأعداد غطفان هائلة، والمعركة في عقر دارهم، وفي الطرق والدروب التي عرفوها قبل ذلك ألف مرة، والمسلمون قادمون من مسافة بعيدة، وقد نقبت أقدامهم من السير كما يقول أبو موسى الأشعري t، وأهل غطفان مستقرون في ديارهم. فهذا الأمر في عُرْف أهل الدنيا أمر عجيب حقًّا.
الله U يلقي الرعب في قلوب غطفان
كيف يهرب أهل غطفان وهم في هذه الظروف المستقرة، والجيش المواجه لهم ظروفه صعبة وهو قادم من سفر طويل وعدده قليل، فهذا الوضع لم يكن له إلا تفسير واحد، وهو أن هذا الجيش الإسلامي مؤيَّد بقوة خارقة فوق كل الحسابات المادية، وهو تأييد رب العالمين U لرسوله الكريم r، ولعامَّة المؤمنين، يقول الرسول r: "نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ"[6].
فقبْل أن يصل الرسول r إلى أرض المعركة، يقذف الله الرعب في قلوب أعدائه، وقد رآه المسلمون في بدر، وفي الأحزاب، وفي غزوات اليهود المختلفة، فقد رأوه مع بني قَيْنُقَاع وانتهاءً بخيبر، بل شاهدوه في النصف الأول من غزوة أُحد عندما كان المسلمون مرتبطين برسول الله r، قال تعالى تعليقًا على النصف الأول من غزوة أُحد: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 151].
أي أنه إذا ارتبط المسلمون بالله U، ألقى الله تعالى الرعب في قلوب الفريق الآخر، وهذا أمر معروف عند المسلمين في حروبهم، ولكن الجديد في غزوة ذات الرِّقَاع أن هذا الشعور قد دخل أيضًا عند أهل غطفان، ووجدوا أنفسهم ينسحبون أمام الجيش الإسلامي بشكل غير مبرر، ووجدوا أنفسهم للمرة الأولى في حياتهم في فزع ورعب شديد من غيرهم، فهم يعيشون على السلب والنهب وقطع الطريق، ومع ذلك وجدوا أنفسهم يخافون من الجيش الإسلامي الذي لا يتجاوز على أقصى تقدير سبعمائة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. وإذا كان هذا الرعب من فريق قليل من المسلمين، فهذا الأمر يحتاج إلى وقفة، ويحتاج إلى تفسير وتحليل! فغزوة ذات الرقاع قد هزت قبيلة غطفان من الأعماق، وقد يأتي النصر من حيث لا نحتسب؛ ليعترف الجميع أن النصر من عند الله سبحانه. وبدأت شعوب غطفان وزعماء غطفان يفكرون جميعًا بنظرة إيجابية لهذا الدين، نَعَمْ لم يأخذوا قرارًا سريعًا بالدخول في الإسلام، ولكنهم وقفوا وقفة جادة للتأمل، فهؤلاء المرتزقة الذين عاشوا حياتهم على السلب والنهب يرون أنفسهم أمام شيء لم يروه من قبل، والآن دخلت الرهبة في قلوبهم، وألقى الإسلام بجلاله وهيبته على غلاظ الأكباد وعتاة الإجرام، فهذا الدين المحكم الذي: {لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصِّلت: 42]. قد تسلل إلى هذه القلوب تسللاً، ورجع الرسول r وصحابته الكرام دون قتال، ولكن هذا قد ترك أثرًا لا يُمحى من قلوب غطفان.
الرسول ينام تحت الشجرة وينجو من الأعرابي
عاد الرسول r من غطفان إلى المدينة المنورة بعد أن عاقب المسلمون قبائل غطفان التي اعتدت على المسلمين مرات ومرات، وعندما كان الرسول r في الطريق إلى المدينة المنورة حدث له موقف غريب، والموقف جاء في صحيح البخاري عن جابر t، أن الجيش الإسلامي وهو عائد إلى المدينة تفرق الناس في العضاه لكي يستريحوا، وكما يصفون المنطقة فهي كثيرة الشجر، فجلسوا يستظلون بالشجر، ونزل الرسول r تحت شجرة، فعلق بها سيفه، ونام تحت الشجرة، ونام الرسول ونام كل الصحابة، فهو طريق طويل جدًّا، فجاء رجل من الأعراب وأخذ سيف رسول الله r ورفعه فوق رأس رسول الله r، واستيقظ الرسول r، وقال له الأعرابى المشرك: أتخافني؟
وكان من المتوقع من الرجل أن يقتل الرسول r، وبذلك ينال شرفًا كبيرًا عند أهل غطفان، ولكن الرجل لم يفعل ذلك لعصمة الله لنبيه، فلا يناله الأذى من الآخرين، يقول تعالى: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67].
وبدأ الحوار بين الرسول r والأعرابيّ، قال له: أتخافني؟
وردَّ الرسول r في ثقة: "لاَ".
وما اهتز له جفن، ولم يدخل في قلبه أي خوف، وتعجَّب الأعرابي؛ فالسيف في يده والرسول r أعزل ليس معه شيء يحمي به نفسه، ومع ذلك لا يخاف، فقال الأعرابي: مَن يمنعك مني؟
فردَّ الرسول r في ثبات وقال: "اللَّهُ".
وفي رواية أن الأعرابي كرر السؤال ثلاث مرات: من يمنعك مني؟ وفي كل مرة يقول الرسول r بثبات: "اللَّهُ"[7].
فوقع السيف من يدي الأعرابي، وفي رواية -وهي عند البخاري أيضًا- أن الأعرابي شام السيف أي أغمد السيف، ولم يقع منه رغمًا عن إرادته، ولكنه أغمده بإرادته تعجبًا من ثبات الرسول r[8]. وفي رواية للإمام أحمد بن حنبل وابن إسحاق رحمهما الله أنه عندما وقع السيف من الأعرابي، أمسك به الرسول r، وقال له: "مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟" وتبادل الرسول r والأعرابي المواقف:
"الآنَ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟"
والأعرابي كافرٌ ما استطاع أن يقول الله، وما استطاع أن يلجأ إلى آلهته المزعومة من الأصنام، ولكنه طمع في كرم الرسول r، فقال له: كن خير آخذ؟
فقال r: "تَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللِّهِ؟"
فقال الأعرابي: أعاهدك ألاَّ أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك.
فهذا الأعرابي لم يُسلِم، ولكنه وعد الرسول r ألا يقاتله ثانية. وعلى الرغم من هذا الموقف الصعب، فالأعرابي لم يستطع أن يأخذ قرار الإسلام، فأطلق رسول الله r سراحه، ولم يعاقبه، وثبت ذلك في مسند أحمد أن الرسول r لم يعاقب الأعرابي، وعاد إلى أهله سالمًا وقال لهم: جئتكم من عند خير الناس[9].
وفي رواية أن عددًا كبيرًا من أهله قد أسلم، وأن هذا الرجل كان اسمه غَوْرَث بن الحارث. وهذه القصة وإن كانت في ظاهرها عابرة إلا أنها تركت أثرًا كبيرًا في أعراب هذه المنطقة من غطفان بأن رسول الله r ليس رجلاً كريمًا فحسب، وليس قائدًا شجاعًا جريئًا فقط، وإنما هو أيضًا نبي مرسل؛ لأنه ليس من عادة الملوك والقادة أن يتركوا من وقف على رءوسهم بالسيف مهدِّدًا هكذا دون أن يقتلوه، وليس من عادتهم الرحمة والتسامح إلى هذا الحد. ولا شك أن هذه القصة -إضافةً إلى غزو الرسول r دون خوف ولا وجل- كان لها أبلغ الأثر في تفكير هؤلاء الأعراب جديًّا في قضية الإسلام.
عَبَّاد بن بِشْر t الخاشع لربه
القصة الأخرى العجيبة التي حدثت في أثناء رجوع هذا الجيش المبارك إلى المدينة المنورة، ورواها أبو داود عن جابر أن الجيش نزل في أحد الأماكن للراحة، فعيَّن الرسول r رجلين للحراسة، فالأول عباد بن بشر الأنصاري t، والثاني عمَّار بن ياسر المهاجري t، فقسَّما الليل بينهما، فكانت نوبة عباد بن بشر فأراد أن يقطع الليل بالصلاة، فوقف يصلي قيام الليل، فجاءه أحد المشركين من غطفان، ورماه بسهم فنزع عبَّاد السهم، وأكمل صلاته. وتخيلْ معي دخول سهم في كتف عباد بن بشر t، فينزع السهم ويكمل الصلاة، والدم يسيل منه ويتفجر، ومع ذلك يكمل الصلاة، فرماه المشرك بسهم آخر فنزعه عباد، وأكمل صلاته، فجاءه السهم الثالث فنزعه عباد، ثم ركع وسجد وأنهى صلاته، ولم يقطع الصلاة، ثم أيقظ عمَّار بن ياسر رضي الله عنهما، فلما وجد عمار بن ياسر الدماء في كل مكان، ورأى الأسهم الثلاثة، قال لعباد: أفلا أنبأتني عندما رميت؟ فيقول عباد بن بشر t: كنتُ في سورة أقرؤها، فلم أحب أن أقطعها[10].
وفي رواية ابن إسحاق، قال عباد: "وايم الله، لولا أن أضيِّع ثغرًا أمرني رسول الله r بحفظه، لقطع نفسي قبل أن أقطعها"[11]. ولك أن تتخيل مدى استمتاع عبَّاد بقراءته، ومدى حبِّه لقيام الليل، ومدى استغراقه في صلاته، ومدى خشوعه وتركيزه في الصلاة t.
وهرب هذا الرجل المشرك الذي أطلق السهام لما رأى عمار بن ياسر، وفرَّ إلى قومه، ولا ندري عنه شيئًا بعد ذلك، ولكنه -لا شك- انبهر برؤية أولئك الذين كانوا يغزونهم قبل قليل بهذه الشجاعة، ويحاربونهم بضراوة، يقفون في عبادتهم بهذا الخشوع. لا شك أن جَمْع الصحابة رضوان الله عليهم بين الجهاد والصلاة، وبين القتال والعبادة، وبين القوة والرحمة، وبين الكرامة والعفو عند المقدرة، لا شك أن كل ذلك كان لافتًا للنظر لكل الناس، ولا شك أيضًا أنه ترك انطباعًا إيجابيًّا عند عموم البشر بصرف النظر عن جنسيتهم وأعراقهم وقبائلهم. وكانت هذه غزوة ذات الرقاع، وهي غزوة بلا قتال، ولكنها غيَّرت كثيرًا في أفكار قبائل غطفان، وعدَّلت كثيرًا من سلوكهم.
الرسول r يوجِّه السرايا إلى أرض غطفان
عاد الرسول r بعد غزوة ذات الرقاع بعد أن وجَّه هذا الإنذار لقبائل غطفان، وبدأ r في إرسال ست سرايا متتالية، وكلها في العام السابع من الهجرة؛ فقد أرسل هذه السرايا إلى منطقة قُدَيْد، ومنطقة تُرَبَة، ومنطقة بني مُرَّة، ومنطقة مَيْفَعَة، ومنطقة يَمْن وجُبار، ومنطقة الغابة[12]، ست مناطق، وكان القاسم المشترك بين كل هذه المناطق هو أنها كلها أرض لغطفان، وبذلك نرى تركيزًا واضحًا على قضية غطفان في العام السابع من الهجرة. ومن الواضح أن الرسول r يسير في خطوات محكمة، وليس فيها بطء قَطُّ في الأداء، والرسول r وجَّه الجيش بكامل طاقته لردع بقية الأحزاب، ولصدِّ بقية أعداء الأمة؛ فلذلك رأينا حربًا ضد اليهود وحربًا ضد غطفان، والأمور كلها في غاية الترتيب، ونجح الرسول r في هذه الحملات المتكررة في ردع اليهود وغطفان، وبذلك أصبحت القوة الإسلامية في آخر العام السابع من الهجرة هي القوة الأولى في الجزيرة العربية. ومع نجاح هذا الجانب العسكري للدولة الإسلامية، إلا أن الرسول r لم يترك مهمته الأولى كرسول وهي مهمَّة البلاغ، بل انتشر الدعاة إلى الله U في كل أنحاء الجزيرة العربية وفي خارجها، ودعا المسلمون إلى الإسلام صراحةً، وبقوة وعزة حتى وصل الإسلام إلى معظم ممالك العالم. وبذلك نرى العام السابع للهجرة عامًا جهاديًّا عسكريًّا ودعويًّا، بدأ فيه المسلمون في جَنَى ثمرات صلح الحديبية، ووصلت في هذا العام دعوة الإسلام إلى كل مكان، وانتصر فيه المسلمون انتصارًا باهرًا على اليهود في خيبر ووادي القرى، وفَدَك وتيماء، وحُجِّمت قوة غطفان وتضاءلت، وعرفوا أن قوة المسلمين أعلى من قوتهم، حتى وإن كان المسلمون قليلي العدد، وزاد عدد المسلمين بشكل ملحوظ بعد قدوم المسلمين من كل مكان، فقد جاء مهاجرو الحبشة والأشعريون والدوسيون وغيرهم، بل أسلم الكثير والكثير، فكان العام السابع من الهجرة عامًا سعيدًا من أعوام الدعوة.
الجيش الإسلامي يصل إلى أرض غطفان
خرج الرسول r بنفسه إلى ديار غطفان، ولكن يبدو أن جيوش المسلمين في ذلك الوقت كانت موزعة في أماكن متفرقة؛ فهناك جيوش بداخل المدينة المنورة، وهناك جيوش في خيبر، وفي وادي القرى، وفي فدك، وفي تيماء، وفي غيرها من الأماكن الملتهبة في ذلك الوقت، والرسول r لا يأمن أن يترك المدينة المنورة بلا جيش ولا قاعدة، والرسول r لا يأمن غدر قريش، وقبائل غطفان قد تلف من هنا أو هناك حول الطرق لتدخل المدينة المنورة من أي مكان، أمور كثيرة جعلت من الضروري أن يترك المسلمون حامية في داخل المدينة المنورة؛ لذلك خرج الرسول r في جيش صغير نسبيًّا، وهذا الجيش تقريبًا كان أربعمائة من الصحابة y، وفي بعض الروايات أنهم سبعمائة من الصحابة y أجمعين، ولم يكن معهم من البعير إلا القليل، لدرجة أن ستة من الصحابة كانوا يتناوبون ركوب البعير الواحد، وسار الرسول r مسافة كبيرة بجيشه في عمق الصحراء، وتوغل حتى بلغ ديار غطفان، وهي إلى الشمال الشرقي من المدينة المنورة على مسافة عدة ليالٍ من المدينة المنورة، وهذه المسافة كبيرة جدًّا، والصحابة يسيرون على أقدامهم، وقد أثر ذلك فيهم y أجمعين، والبخاري -رحمه الله- يروي عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ r فِي غَزْوَةٍ، وَنَحْنُ سِتَّةُ نَفَرٍ، بَيْنَنَا بَعِيرٌ نَعْتَقِبُهُ، فَنَقِبَتْ أَقْدَامُنَا وَنَقِبَتْ قَدَمَايَ وَسَقَطَتْ أَظْفَارِي، وَكُنَّا نَلُفُّ عَلَى أَرْجُلِنَا الْخِرَقَ؛ فَسُمِّيَتْ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ لِمَا كُنَّا نَعْصِبُ مِنَ الْخِرَقِ عَلَى أَرْجُلِنَا"[3].
قال ابن حجر في الفتح: "نعتقبه أيْ نركبه عُقْبةً عُقْبة، وهو أن يركب هذا قليلاً ثم ينزل فيركب الآخر بالنوبة حتى يأتي على سائرهم"[4].
والحقيقة أننا نحتاج أن نقف وقفة مع هذا الموقف، فهذا الحديث وأمثاله يوضِّح لنا مدى التضحية والبذل والعطاء الذي تميز به هذا الجيل الصادق من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
صور من حرص الصحابة y على الجهاد
كان العام السابع من الهجرة حركة دائبة ومستمرة من الجهاد في سبيل الله، من الرسول r، وصحابته الكرام رضوان الله عليهم؛ وإذا نظرنا إلى الشهور الثلاثة الأخيرة من العام السابع الهجري، نجد أن الرسول r وصحابته الكرام قد توجهوا إلى مكة المكرمة لأداء عمرة القضاء مع التضحية التامة بالنفس، والذهاب إلى قريش في عقر دارها، استعداد تام للقتال حتى النهاية، وبعد عودة المسلمين إلى المدينة المنورة بعد صلح الحديبية، انطلقوا مباشرة إلى الحصون والقلاع في خيبر، ودار قتال شرس أكثر من شهر متصل بخيبر، وانتصار مهيب كما رأينا لا مثيل له، وعودة إلى المدينة لعدة أيام، ثم الخروج والسير في الصحراء مسافة طويل كما رأينا لقتال قبيلة غطفان، وهي من أقوى وأشرس قبائل العرب، وبذلك نرى حركة دائمة في سبيل الله، وبذل وتضحية في كل لحظة، ورأينا جعفر بن أبي طالب t وهو يعود من الحبشة فيجد أن الرسول r قد غادر المدينة إلى خيبر، فيترك المدينة مباشرة، ويذهب إلى خيبر؛ ليشترك في القتال، وهو قادم من الحبشة وهي مسافة طويلة جدًّا. ورأينا أبا موسى الأشعري t، وهو يأتي من اليمن في أيام خيبر فيخرج بعد قدومه بعدة أيام إلى هذه الغزوة الصعبة، غزوة ذات الرقاع، فلم يكن هناك لحظة ضائعة في حياة هذا الجيل، ولعل ذلك هو الذي يفسر لنا الكَمّ الهائل من الأحداث التي وقعت في زمن البعثة النبوية، وهي فترة محدودة وقصيرة، ولا يمكن أبدًا أن نستوعب هذه الأحداث إلا إذا نظرنا إلى هذا الجهد والبذل والعطاء المستمر من هذا الجيل y أجمعين. وإذا أضفنا إلى هذا الاستغلال الدقيق لكل لحظة من لحظات الحياة، البركة التي ينعم الله U بها على عباده المؤمنين، فعند ذلك نفهم كيف قاموا بالأحداث الضخمة الكثيرة في هذه الفترة المحدودة من الزمان! وكانت أعمالهم كلها خالصة لله U، لدرجة أن أبا موسى الأشعري t، لما حكى هذا الأمر بعد ذلك كما يذكر البخاري: وحدَّث أبو موسى بهذا ثم كره ذاك، قال: "ما كنت أصنع بأن أذكره"، كأنه كره أن يكون شيء من عمله أفشاه[5]. أي أنه يلوم نفسه لأنه أعلن هذا الأمر؛ لأنه كان يريد أن يكتم هذا الأمر ليصبح هذا العمل بينه وبين رب العالمين. والحمد لله أنه حَدَّث بذلك الأمر ليصل إلينا لنتعلمه ونعلمه لإخواننا وأبنائنا. ومع كل هذه الصعوبة وصل الجيش الإسلامي إلى ديار غطفان، وكنا نتوقع معركة طاحنة بين المسلمين الذين تعرضوا لأذى غطفان قبل ذلك أكثر من مرة، وبين غطفان القبيلة الكبيرة الشرسة، التي يغزوها المسلمون في عُقْر دارها، ولكن المفاجأة أنه لم يحدث قتال؛ فقد آثر أهل غطفان ألاّ يدخلوا في صراع مع المسلمين، مع أن المسلمين في أقصى تقدير لا يزيدون على سبعمائة وأعداد غطفان هائلة، والمعركة في عقر دارهم، وفي الطرق والدروب التي عرفوها قبل ذلك ألف مرة، والمسلمون قادمون من مسافة بعيدة، وقد نقبت أقدامهم من السير كما يقول أبو موسى الأشعري t، وأهل غطفان مستقرون في ديارهم. فهذا الأمر في عُرْف أهل الدنيا أمر عجيب حقًّا.
الله U يلقي الرعب في قلوب غطفان
كيف يهرب أهل غطفان وهم في هذه الظروف المستقرة، والجيش المواجه لهم ظروفه صعبة وهو قادم من سفر طويل وعدده قليل، فهذا الوضع لم يكن له إلا تفسير واحد، وهو أن هذا الجيش الإسلامي مؤيَّد بقوة خارقة فوق كل الحسابات المادية، وهو تأييد رب العالمين U لرسوله الكريم r، ولعامَّة المؤمنين، يقول الرسول r: "نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ"[6].
فقبْل أن يصل الرسول r إلى أرض المعركة، يقذف الله الرعب في قلوب أعدائه، وقد رآه المسلمون في بدر، وفي الأحزاب، وفي غزوات اليهود المختلفة، فقد رأوه مع بني قَيْنُقَاع وانتهاءً بخيبر، بل شاهدوه في النصف الأول من غزوة أُحد عندما كان المسلمون مرتبطين برسول الله r، قال تعالى تعليقًا على النصف الأول من غزوة أُحد: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 151].
أي أنه إذا ارتبط المسلمون بالله U، ألقى الله تعالى الرعب في قلوب الفريق الآخر، وهذا أمر معروف عند المسلمين في حروبهم، ولكن الجديد في غزوة ذات الرِّقَاع أن هذا الشعور قد دخل أيضًا عند أهل غطفان، ووجدوا أنفسهم ينسحبون أمام الجيش الإسلامي بشكل غير مبرر، ووجدوا أنفسهم للمرة الأولى في حياتهم في فزع ورعب شديد من غيرهم، فهم يعيشون على السلب والنهب وقطع الطريق، ومع ذلك وجدوا أنفسهم يخافون من الجيش الإسلامي الذي لا يتجاوز على أقصى تقدير سبعمائة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. وإذا كان هذا الرعب من فريق قليل من المسلمين، فهذا الأمر يحتاج إلى وقفة، ويحتاج إلى تفسير وتحليل! فغزوة ذات الرقاع قد هزت قبيلة غطفان من الأعماق، وقد يأتي النصر من حيث لا نحتسب؛ ليعترف الجميع أن النصر من عند الله سبحانه. وبدأت شعوب غطفان وزعماء غطفان يفكرون جميعًا بنظرة إيجابية لهذا الدين، نَعَمْ لم يأخذوا قرارًا سريعًا بالدخول في الإسلام، ولكنهم وقفوا وقفة جادة للتأمل، فهؤلاء المرتزقة الذين عاشوا حياتهم على السلب والنهب يرون أنفسهم أمام شيء لم يروه من قبل، والآن دخلت الرهبة في قلوبهم، وألقى الإسلام بجلاله وهيبته على غلاظ الأكباد وعتاة الإجرام، فهذا الدين المحكم الذي: {لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصِّلت: 42]. قد تسلل إلى هذه القلوب تسللاً، ورجع الرسول r وصحابته الكرام دون قتال، ولكن هذا قد ترك أثرًا لا يُمحى من قلوب غطفان.
الرسول ينام تحت الشجرة وينجو من الأعرابي
عاد الرسول r من غطفان إلى المدينة المنورة بعد أن عاقب المسلمون قبائل غطفان التي اعتدت على المسلمين مرات ومرات، وعندما كان الرسول r في الطريق إلى المدينة المنورة حدث له موقف غريب، والموقف جاء في صحيح البخاري عن جابر t، أن الجيش الإسلامي وهو عائد إلى المدينة تفرق الناس في العضاه لكي يستريحوا، وكما يصفون المنطقة فهي كثيرة الشجر، فجلسوا يستظلون بالشجر، ونزل الرسول r تحت شجرة، فعلق بها سيفه، ونام تحت الشجرة، ونام الرسول ونام كل الصحابة، فهو طريق طويل جدًّا، فجاء رجل من الأعراب وأخذ سيف رسول الله r ورفعه فوق رأس رسول الله r، واستيقظ الرسول r، وقال له الأعرابى المشرك: أتخافني؟
وكان من المتوقع من الرجل أن يقتل الرسول r، وبذلك ينال شرفًا كبيرًا عند أهل غطفان، ولكن الرجل لم يفعل ذلك لعصمة الله لنبيه، فلا يناله الأذى من الآخرين، يقول تعالى: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67].
وبدأ الحوار بين الرسول r والأعرابيّ، قال له: أتخافني؟
وردَّ الرسول r في ثقة: "لاَ".
وما اهتز له جفن، ولم يدخل في قلبه أي خوف، وتعجَّب الأعرابي؛ فالسيف في يده والرسول r أعزل ليس معه شيء يحمي به نفسه، ومع ذلك لا يخاف، فقال الأعرابي: مَن يمنعك مني؟
فردَّ الرسول r في ثبات وقال: "اللَّهُ".
وفي رواية أن الأعرابي كرر السؤال ثلاث مرات: من يمنعك مني؟ وفي كل مرة يقول الرسول r بثبات: "اللَّهُ"[7].
فوقع السيف من يدي الأعرابي، وفي رواية -وهي عند البخاري أيضًا- أن الأعرابي شام السيف أي أغمد السيف، ولم يقع منه رغمًا عن إرادته، ولكنه أغمده بإرادته تعجبًا من ثبات الرسول r[8]. وفي رواية للإمام أحمد بن حنبل وابن إسحاق رحمهما الله أنه عندما وقع السيف من الأعرابي، أمسك به الرسول r، وقال له: "مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟" وتبادل الرسول r والأعرابي المواقف:
"الآنَ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟"
والأعرابي كافرٌ ما استطاع أن يقول الله، وما استطاع أن يلجأ إلى آلهته المزعومة من الأصنام، ولكنه طمع في كرم الرسول r، فقال له: كن خير آخذ؟
فقال r: "تَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللِّهِ؟"
فقال الأعرابي: أعاهدك ألاَّ أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك.
فهذا الأعرابي لم يُسلِم، ولكنه وعد الرسول r ألا يقاتله ثانية. وعلى الرغم من هذا الموقف الصعب، فالأعرابي لم يستطع أن يأخذ قرار الإسلام، فأطلق رسول الله r سراحه، ولم يعاقبه، وثبت ذلك في مسند أحمد أن الرسول r لم يعاقب الأعرابي، وعاد إلى أهله سالمًا وقال لهم: جئتكم من عند خير الناس[9].
وفي رواية أن عددًا كبيرًا من أهله قد أسلم، وأن هذا الرجل كان اسمه غَوْرَث بن الحارث. وهذه القصة وإن كانت في ظاهرها عابرة إلا أنها تركت أثرًا كبيرًا في أعراب هذه المنطقة من غطفان بأن رسول الله r ليس رجلاً كريمًا فحسب، وليس قائدًا شجاعًا جريئًا فقط، وإنما هو أيضًا نبي مرسل؛ لأنه ليس من عادة الملوك والقادة أن يتركوا من وقف على رءوسهم بالسيف مهدِّدًا هكذا دون أن يقتلوه، وليس من عادتهم الرحمة والتسامح إلى هذا الحد. ولا شك أن هذه القصة -إضافةً إلى غزو الرسول r دون خوف ولا وجل- كان لها أبلغ الأثر في تفكير هؤلاء الأعراب جديًّا في قضية الإسلام.
عَبَّاد بن بِشْر t الخاشع لربه
القصة الأخرى العجيبة التي حدثت في أثناء رجوع هذا الجيش المبارك إلى المدينة المنورة، ورواها أبو داود عن جابر أن الجيش نزل في أحد الأماكن للراحة، فعيَّن الرسول r رجلين للحراسة، فالأول عباد بن بشر الأنصاري t، والثاني عمَّار بن ياسر المهاجري t، فقسَّما الليل بينهما، فكانت نوبة عباد بن بشر فأراد أن يقطع الليل بالصلاة، فوقف يصلي قيام الليل، فجاءه أحد المشركين من غطفان، ورماه بسهم فنزع عبَّاد السهم، وأكمل صلاته. وتخيلْ معي دخول سهم في كتف عباد بن بشر t، فينزع السهم ويكمل الصلاة، والدم يسيل منه ويتفجر، ومع ذلك يكمل الصلاة، فرماه المشرك بسهم آخر فنزعه عباد، وأكمل صلاته، فجاءه السهم الثالث فنزعه عباد، ثم ركع وسجد وأنهى صلاته، ولم يقطع الصلاة، ثم أيقظ عمَّار بن ياسر رضي الله عنهما، فلما وجد عمار بن ياسر الدماء في كل مكان، ورأى الأسهم الثلاثة، قال لعباد: أفلا أنبأتني عندما رميت؟ فيقول عباد بن بشر t: كنتُ في سورة أقرؤها، فلم أحب أن أقطعها[10].
وفي رواية ابن إسحاق، قال عباد: "وايم الله، لولا أن أضيِّع ثغرًا أمرني رسول الله r بحفظه، لقطع نفسي قبل أن أقطعها"[11]. ولك أن تتخيل مدى استمتاع عبَّاد بقراءته، ومدى حبِّه لقيام الليل، ومدى استغراقه في صلاته، ومدى خشوعه وتركيزه في الصلاة t.
وهرب هذا الرجل المشرك الذي أطلق السهام لما رأى عمار بن ياسر، وفرَّ إلى قومه، ولا ندري عنه شيئًا بعد ذلك، ولكنه -لا شك- انبهر برؤية أولئك الذين كانوا يغزونهم قبل قليل بهذه الشجاعة، ويحاربونهم بضراوة، يقفون في عبادتهم بهذا الخشوع. لا شك أن جَمْع الصحابة رضوان الله عليهم بين الجهاد والصلاة، وبين القتال والعبادة، وبين القوة والرحمة، وبين الكرامة والعفو عند المقدرة، لا شك أن كل ذلك كان لافتًا للنظر لكل الناس، ولا شك أيضًا أنه ترك انطباعًا إيجابيًّا عند عموم البشر بصرف النظر عن جنسيتهم وأعراقهم وقبائلهم. وكانت هذه غزوة ذات الرقاع، وهي غزوة بلا قتال، ولكنها غيَّرت كثيرًا في أفكار قبائل غطفان، وعدَّلت كثيرًا من سلوكهم.
الرسول r يوجِّه السرايا إلى أرض غطفان
عاد الرسول r بعد غزوة ذات الرقاع بعد أن وجَّه هذا الإنذار لقبائل غطفان، وبدأ r في إرسال ست سرايا متتالية، وكلها في العام السابع من الهجرة؛ فقد أرسل هذه السرايا إلى منطقة قُدَيْد، ومنطقة تُرَبَة، ومنطقة بني مُرَّة، ومنطقة مَيْفَعَة، ومنطقة يَمْن وجُبار، ومنطقة الغابة[12]، ست مناطق، وكان القاسم المشترك بين كل هذه المناطق هو أنها كلها أرض لغطفان، وبذلك نرى تركيزًا واضحًا على قضية غطفان في العام السابع من الهجرة. ومن الواضح أن الرسول r يسير في خطوات محكمة، وليس فيها بطء قَطُّ في الأداء، والرسول r وجَّه الجيش بكامل طاقته لردع بقية الأحزاب، ولصدِّ بقية أعداء الأمة؛ فلذلك رأينا حربًا ضد اليهود وحربًا ضد غطفان، والأمور كلها في غاية الترتيب، ونجح الرسول r في هذه الحملات المتكررة في ردع اليهود وغطفان، وبذلك أصبحت القوة الإسلامية في آخر العام السابع من الهجرة هي القوة الأولى في الجزيرة العربية. ومع نجاح هذا الجانب العسكري للدولة الإسلامية، إلا أن الرسول r لم يترك مهمته الأولى كرسول وهي مهمَّة البلاغ، بل انتشر الدعاة إلى الله U في كل أنحاء الجزيرة العربية وفي خارجها، ودعا المسلمون إلى الإسلام صراحةً، وبقوة وعزة حتى وصل الإسلام إلى معظم ممالك العالم. وبذلك نرى العام السابع للهجرة عامًا جهاديًّا عسكريًّا ودعويًّا، بدأ فيه المسلمون في جَنَى ثمرات صلح الحديبية، ووصلت في هذا العام دعوة الإسلام إلى كل مكان، وانتصر فيه المسلمون انتصارًا باهرًا على اليهود في خيبر ووادي القرى، وفَدَك وتيماء، وحُجِّمت قوة غطفان وتضاءلت، وعرفوا أن قوة المسلمين أعلى من قوتهم، حتى وإن كان المسلمون قليلي العدد، وزاد عدد المسلمين بشكل ملحوظ بعد قدوم المسلمين من كل مكان، فقد جاء مهاجرو الحبشة والأشعريون والدوسيون وغيرهم، بل أسلم الكثير والكثير، فكان العام السابع من الهجرة عامًا سعيدًا من أعوام الدعوة.