نقداً «ذاكرة الجسد»
يدشن موسم الهجرة إلى الأعماق في الدراما
حجم الخط |
صورة 1 من 1
من المصدر ©جمال سليمان وأمل بوشوشة في مشهد من المسلسل
تاريخ النشر: السبت 21 أغسطس 2010
علي العزير
أن تتحول رواية مكتوبة إلى عمل مرئي يقتحم الشاشات الكبيرة أو الصغيرة، أمر ينطوي على العديد من التحديات، في مقدمها سؤال مفاده: كيف سيتفاعل المتلقي مع فكرة التخلي عن الملامح الملغزة التي أبدعها في مخيلته لكائنات العمل الورقي، فيستعيض عنها بسمات واقعية لأشخاص اعتاد رؤيتهم بالعين المجردة من كل بعد تخيلي، والتعامل معهم بوصفهم عناصر متممة لمحيطه البشري، بل وامتداداً أميناً لنسقه الحياتي المألوف.
الرابط [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
من شأن التسليم بالتوصيف المذكور آنفاً أن يحسم القول إن كل نتاج درامي منبثق من رواية شائعة، ملزم بأن يخوض، ومنذ تجلياته المرئية الأولى، صراعاً، يصعب التقليل من شأنه، مع جذوره الورقية، ومع المتلقي الذي يحمي هذه الجذور أيضاً، صراعاً لا يملك أن يخرج منه الا منتصراً، أي أن عليه بأوضح أن يتكىء على الرواية نفسها، وما تتيحه من مناخات إيحائية، وطاقات تواصلية مع قرائها مستمدة من مصادر شتى، بينها، وربما في مقدمها، ضبابية الشخوص الحبرية، لتحطيم هذه العوامل، واستبدالها بعناصر راسخة، محاطة بالكثير من اليقين الضوئي. والبديهي استنتاجاً أن يتحمل هذا النوع من النتاجات المرئية أعباء تفوق مثيلتها للأعمال المماثلة والمنافسة التي ولدت في عالم الضوء، ولم تأت اليه وافدة من البرزخ الورقي.
هكذا مثلاً كان على العملاق الراحل انطوني كوين أن يدخل في منافسة مضنية مع شخصية بلغت من الثراء والغرابة حداً يجعلها أكثر جاذبية وفتنة وغرائبية من أن يجود بها الواقع المعاش، شخصية تمخضت عنها مخيلة عبقرية للروائي اليوناني نيكوس كازانتزاكي، وتركت لكوين مهمة تحاذي الاستحالة تتلخص بأن ينسى كل ما يعرفه عن نفسه ليتقمص هيئة وسلوكيات بالغة الغرابة للكائن الورقي زوربا الذي دفع به كازانتزاكي من منصة مخيلته الشاهقة، حاملاً القارىء بين مخالبه الإبداعية، نحو الحدود القصوى لمملكة الدهشة اللامتناهية الابعاد.
ثمة تحد آخر يطرح نفسه على هذه المقاربة، وهو يتمحور حول مخزون الحركة والأحداث الذي ينطوي عليه المنجز الروائي، والذي يمثل متكئاً صلباً يستند إليه العمل بصيغته السردية، وتبلغ الحاجة اليه ذروتها مع تحوله إلى مشروع مرئي يعتمد تقييمه على حيوية تفاصيله وارتفاع منسوب المفاجأة فيها. إيفاء النقاش حقه يقتضي القول إن رواية كازانتزاكي كانت زاخرة، والى حدود التخمة، بالعنصرين المشار إليهما، وفي اللحظات التي يمكن إدراجها ضمن صميم البناء التكويني للفيلم السينمائي المتمخض عنها، كان يكفي انطوني كوين أن يبدع أداء تمثيليا مكافئا للنص المكتوب حتى يغدو تعبيراً حياً عن زوربا.. لكن هذا المعطى الحيوي قد لا يتوافر في تجارب أخرى. ذلك أن الحديث عن رواية «ذاكرة الجسد» للكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي، التي حولها المخرج السوري نجدة أنزور إلى مسلسل تلفزيوني، تعرضه قناة أبوظبي حالياً، يستدعي الإشارة في مستهله إلى هيمنة بلغت حدود الاستيلاء الكلي للغة على الحدث، وليس اكتشافاً، أو افتآتاً القول أن كلَّ ما باحت به الرواية من تفاصيل ومجريات كان يمكن اختزاله في مقالة صحافية، أو ربما في قصة قصيرة، أما ما جعل «ذاكرة الجسد» تتمدد على ثلاثمئة صفحة مغرية بالمزيد فهو عامل اللغة البالغة الثراء، حتى ليمكن القول هنا إن أحلام قد استخدمت طاقاتها الأنثوية في إغواء الشعر، كما لو أنها استدرجته خلسة هامسة في أذنه، بغنج تصعب مقاومته، أن هلم بنا لنصنع رواية. ولعل هذا التحليل يسعه ادعاء تفسير الدوافع الحقيقية لخروج المسلسل باللغة الفصحى، متنكباً اعباء وأهوال السباحة عكس التيارات السائدة..
اذا صح ما سبق، فقد يبرر الاستنتاج ان قرار استيلاد العمل التلفزيوني من رحم الرواية كان ينطوي على قدر من المغامرة، بل ربما امكن السير في ركب الكلام المتداول، والاعتماد على التأويلات الإحصائية التي تشي بتواضع الإقبال الجماهيري النسبي على المسلسل، للجزم بكون المغامرة من النوع غير المحسوب. لكن تقليب المسألة على وجوها متعددة يفسح المجال أمام تكهنات من طبيعة مغايرة..
بين الوجوه المستحقة للتحديق بها واقعة أنه لا يمكن لمقاربة تتوخى الإنصاف ان تنكر أن بطل المسلسل لم يكن جمال سليمان وحده، بل هو مزيج هجين منه ومن خالد طوبال الذي تخيله قراء الرواية طويلا على هذه الهيئة: رجل ينضح بالخيبة والإحباط، ويفقد بوصلته الواثقة في متاهة الحب الصحراوية أمام فتاة تكاد لا تملك نصف عمره، لكنها تملك من القدرة على الإيقاع بفرائسها أضعاف ما منحته تجاربه المريرة من إمكانية الصمود في وجه أعاصير القلب، وقابلية الثبات في رمال المشاعر المتحركة.
أيضاً يمكن إدراج عملية اختيار أمل بوشوشة للبطولة النسائية، وهي الوجه الذي لم تستهلكه اللعبة الدرامية بعد، في خانة العوامل التي خدمت المسلسل، خاصة ان براعة تجسيدها لدور حياة، وهو من النوع المركب والمؤثر، لم تكن موضع نقاش، ولم تكن بالتالي ثمة حاجة للاحتماء خلف تواضع المراس وضآلة التجربة، كما يحصل في كثير من الحالات المشابهة. في هذا السياق يمكن الزعم، وبثقة مبررة، أن ثنائي البطولة في مسلسل «ذاكرة الجسد» تمكن من تقديم معادلة ضوئية متجددة للرواية، ولم يكتف بالخضوع لسطوتها الآسرة.
بالانتقال إلى مسار الأحداث يغدو الغياب هو العامل الأكثر حضوراً: نحن هنا أمام علاقة عاطفية تفتقد عناصر الإسناد ومشروعية الاستمرار، مما يحكم عليها بالفشل الذريع، هذا هو الجوهر الحدثي الذي يتمحور حوله المسلسل، مما يقلل بالتالي من مشروعية الزعم بأنَّ سنونوة الحب الأحادي الاتجاه يمكنها أن تصنع ربيع الإقبال الجماهيري على العمل التلفزيوني، وأن تمنحه فرصة المنافسة مع نتاجات تمكن بعضها من استلاب الجمهور على امتداد مواسم سابقة، وأثبتت التجربة أنها لا يزال يحتفظ بزخم يؤهله للمضي قدماً في الدرب نفسه، وإن شاب بريقه بعض الشحوب المشروع. «ذاكرة الجسد» في هذا السياق لا يسعه ادعاء القدرة على المنافسة، وإن كان يمكنه الزعم، وعن جدارة واستحقاق، أنه يشكل خروجاً واثقاً عن نمط المسلسلات التلفزيونية الرائجة، وأنه يصلح بالتالي كمساحة تأسيسية يبنى عليها نسق مغاير من النتاجات المرئية قد لا تكون تستهدف الشريحة الأوسع من جمهور المتلقين، لكنها بالتأكيد تجد قبولاً لدى فئة منهم، قد يصح نسبياً تصنيفها في خانة نخبوية.
ذلك أن المسلسل الذي عانى ضحالة مفرطة في سيرورة أحداثه، وبلاغة مفاجآته، انطوى بالمقابل على فيض نادر من الأسئلة الوجودية التي لم تجد قبله من يومىء اليها ولو من بعيد، بالرغم من كونها بين العناصر المشكلة للوعي الجمعي الخاص بالجمهور المستهدف، وإن كان عدم إدراكها من قبل الجميع لا ينفي وجودها، بل لعله يعزز أهمية هذا الوجود من حيث هو يشير إلى الغموض الذي يكتنفه.
حتى اللحظة تسير وقائع «ذاكرة الجسد» بقدر مبالغ به من الهدوء، لكن بعض التمعن يتيح الإصغاء للكثير من الصخب الداخلي الذي يغور سحيقاً في الأعماق، كما يسمح برصد الملامح التي تختزن الكثير من الحب والحزن والتساؤلات التائهة في مهب العمر، وأيضاً يبوح بتأويلات شتى لرسام يبدع لوحاته بيد واحدة بعد أن فقد الأخرى في حرب عبثية، أقسى ما فيها أنها تبدو بلا ضوابط أو حدود في المكان أو الزمان، هذه اليد المبتورة لعلها هي نفسها التي كانت تتيح لصاحبها إمكانية العبث في العادي من تفاصيل الحياة، وألزمه غيابها بالمراوحة في هامش العيش حيث السحنات اتعكس الكثير الكثير من خلاصات التجارب الخاسرة، وحيث الرغبات محكومة بضوابط الضرورة.. الأرجح أن حكاية مماثلة لن يصعب عليها تسويغ ذاتها إذا وجدت من يصغي إلى تفاصيلها الموحية.
يدشن موسم الهجرة إلى الأعماق في الدراما
حجم الخط |
صورة 1 من 1
من المصدر ©جمال سليمان وأمل بوشوشة في مشهد من المسلسل
تاريخ النشر: السبت 21 أغسطس 2010
علي العزير
أن تتحول رواية مكتوبة إلى عمل مرئي يقتحم الشاشات الكبيرة أو الصغيرة، أمر ينطوي على العديد من التحديات، في مقدمها سؤال مفاده: كيف سيتفاعل المتلقي مع فكرة التخلي عن الملامح الملغزة التي أبدعها في مخيلته لكائنات العمل الورقي، فيستعيض عنها بسمات واقعية لأشخاص اعتاد رؤيتهم بالعين المجردة من كل بعد تخيلي، والتعامل معهم بوصفهم عناصر متممة لمحيطه البشري، بل وامتداداً أميناً لنسقه الحياتي المألوف.
الرابط [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
من شأن التسليم بالتوصيف المذكور آنفاً أن يحسم القول إن كل نتاج درامي منبثق من رواية شائعة، ملزم بأن يخوض، ومنذ تجلياته المرئية الأولى، صراعاً، يصعب التقليل من شأنه، مع جذوره الورقية، ومع المتلقي الذي يحمي هذه الجذور أيضاً، صراعاً لا يملك أن يخرج منه الا منتصراً، أي أن عليه بأوضح أن يتكىء على الرواية نفسها، وما تتيحه من مناخات إيحائية، وطاقات تواصلية مع قرائها مستمدة من مصادر شتى، بينها، وربما في مقدمها، ضبابية الشخوص الحبرية، لتحطيم هذه العوامل، واستبدالها بعناصر راسخة، محاطة بالكثير من اليقين الضوئي. والبديهي استنتاجاً أن يتحمل هذا النوع من النتاجات المرئية أعباء تفوق مثيلتها للأعمال المماثلة والمنافسة التي ولدت في عالم الضوء، ولم تأت اليه وافدة من البرزخ الورقي.
هكذا مثلاً كان على العملاق الراحل انطوني كوين أن يدخل في منافسة مضنية مع شخصية بلغت من الثراء والغرابة حداً يجعلها أكثر جاذبية وفتنة وغرائبية من أن يجود بها الواقع المعاش، شخصية تمخضت عنها مخيلة عبقرية للروائي اليوناني نيكوس كازانتزاكي، وتركت لكوين مهمة تحاذي الاستحالة تتلخص بأن ينسى كل ما يعرفه عن نفسه ليتقمص هيئة وسلوكيات بالغة الغرابة للكائن الورقي زوربا الذي دفع به كازانتزاكي من منصة مخيلته الشاهقة، حاملاً القارىء بين مخالبه الإبداعية، نحو الحدود القصوى لمملكة الدهشة اللامتناهية الابعاد.
ثمة تحد آخر يطرح نفسه على هذه المقاربة، وهو يتمحور حول مخزون الحركة والأحداث الذي ينطوي عليه المنجز الروائي، والذي يمثل متكئاً صلباً يستند إليه العمل بصيغته السردية، وتبلغ الحاجة اليه ذروتها مع تحوله إلى مشروع مرئي يعتمد تقييمه على حيوية تفاصيله وارتفاع منسوب المفاجأة فيها. إيفاء النقاش حقه يقتضي القول إن رواية كازانتزاكي كانت زاخرة، والى حدود التخمة، بالعنصرين المشار إليهما، وفي اللحظات التي يمكن إدراجها ضمن صميم البناء التكويني للفيلم السينمائي المتمخض عنها، كان يكفي انطوني كوين أن يبدع أداء تمثيليا مكافئا للنص المكتوب حتى يغدو تعبيراً حياً عن زوربا.. لكن هذا المعطى الحيوي قد لا يتوافر في تجارب أخرى. ذلك أن الحديث عن رواية «ذاكرة الجسد» للكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي، التي حولها المخرج السوري نجدة أنزور إلى مسلسل تلفزيوني، تعرضه قناة أبوظبي حالياً، يستدعي الإشارة في مستهله إلى هيمنة بلغت حدود الاستيلاء الكلي للغة على الحدث، وليس اكتشافاً، أو افتآتاً القول أن كلَّ ما باحت به الرواية من تفاصيل ومجريات كان يمكن اختزاله في مقالة صحافية، أو ربما في قصة قصيرة، أما ما جعل «ذاكرة الجسد» تتمدد على ثلاثمئة صفحة مغرية بالمزيد فهو عامل اللغة البالغة الثراء، حتى ليمكن القول هنا إن أحلام قد استخدمت طاقاتها الأنثوية في إغواء الشعر، كما لو أنها استدرجته خلسة هامسة في أذنه، بغنج تصعب مقاومته، أن هلم بنا لنصنع رواية. ولعل هذا التحليل يسعه ادعاء تفسير الدوافع الحقيقية لخروج المسلسل باللغة الفصحى، متنكباً اعباء وأهوال السباحة عكس التيارات السائدة..
اذا صح ما سبق، فقد يبرر الاستنتاج ان قرار استيلاد العمل التلفزيوني من رحم الرواية كان ينطوي على قدر من المغامرة، بل ربما امكن السير في ركب الكلام المتداول، والاعتماد على التأويلات الإحصائية التي تشي بتواضع الإقبال الجماهيري النسبي على المسلسل، للجزم بكون المغامرة من النوع غير المحسوب. لكن تقليب المسألة على وجوها متعددة يفسح المجال أمام تكهنات من طبيعة مغايرة..
بين الوجوه المستحقة للتحديق بها واقعة أنه لا يمكن لمقاربة تتوخى الإنصاف ان تنكر أن بطل المسلسل لم يكن جمال سليمان وحده، بل هو مزيج هجين منه ومن خالد طوبال الذي تخيله قراء الرواية طويلا على هذه الهيئة: رجل ينضح بالخيبة والإحباط، ويفقد بوصلته الواثقة في متاهة الحب الصحراوية أمام فتاة تكاد لا تملك نصف عمره، لكنها تملك من القدرة على الإيقاع بفرائسها أضعاف ما منحته تجاربه المريرة من إمكانية الصمود في وجه أعاصير القلب، وقابلية الثبات في رمال المشاعر المتحركة.
أيضاً يمكن إدراج عملية اختيار أمل بوشوشة للبطولة النسائية، وهي الوجه الذي لم تستهلكه اللعبة الدرامية بعد، في خانة العوامل التي خدمت المسلسل، خاصة ان براعة تجسيدها لدور حياة، وهو من النوع المركب والمؤثر، لم تكن موضع نقاش، ولم تكن بالتالي ثمة حاجة للاحتماء خلف تواضع المراس وضآلة التجربة، كما يحصل في كثير من الحالات المشابهة. في هذا السياق يمكن الزعم، وبثقة مبررة، أن ثنائي البطولة في مسلسل «ذاكرة الجسد» تمكن من تقديم معادلة ضوئية متجددة للرواية، ولم يكتف بالخضوع لسطوتها الآسرة.
بالانتقال إلى مسار الأحداث يغدو الغياب هو العامل الأكثر حضوراً: نحن هنا أمام علاقة عاطفية تفتقد عناصر الإسناد ومشروعية الاستمرار، مما يحكم عليها بالفشل الذريع، هذا هو الجوهر الحدثي الذي يتمحور حوله المسلسل، مما يقلل بالتالي من مشروعية الزعم بأنَّ سنونوة الحب الأحادي الاتجاه يمكنها أن تصنع ربيع الإقبال الجماهيري على العمل التلفزيوني، وأن تمنحه فرصة المنافسة مع نتاجات تمكن بعضها من استلاب الجمهور على امتداد مواسم سابقة، وأثبتت التجربة أنها لا يزال يحتفظ بزخم يؤهله للمضي قدماً في الدرب نفسه، وإن شاب بريقه بعض الشحوب المشروع. «ذاكرة الجسد» في هذا السياق لا يسعه ادعاء القدرة على المنافسة، وإن كان يمكنه الزعم، وعن جدارة واستحقاق، أنه يشكل خروجاً واثقاً عن نمط المسلسلات التلفزيونية الرائجة، وأنه يصلح بالتالي كمساحة تأسيسية يبنى عليها نسق مغاير من النتاجات المرئية قد لا تكون تستهدف الشريحة الأوسع من جمهور المتلقين، لكنها بالتأكيد تجد قبولاً لدى فئة منهم، قد يصح نسبياً تصنيفها في خانة نخبوية.
ذلك أن المسلسل الذي عانى ضحالة مفرطة في سيرورة أحداثه، وبلاغة مفاجآته، انطوى بالمقابل على فيض نادر من الأسئلة الوجودية التي لم تجد قبله من يومىء اليها ولو من بعيد، بالرغم من كونها بين العناصر المشكلة للوعي الجمعي الخاص بالجمهور المستهدف، وإن كان عدم إدراكها من قبل الجميع لا ينفي وجودها، بل لعله يعزز أهمية هذا الوجود من حيث هو يشير إلى الغموض الذي يكتنفه.
حتى اللحظة تسير وقائع «ذاكرة الجسد» بقدر مبالغ به من الهدوء، لكن بعض التمعن يتيح الإصغاء للكثير من الصخب الداخلي الذي يغور سحيقاً في الأعماق، كما يسمح برصد الملامح التي تختزن الكثير من الحب والحزن والتساؤلات التائهة في مهب العمر، وأيضاً يبوح بتأويلات شتى لرسام يبدع لوحاته بيد واحدة بعد أن فقد الأخرى في حرب عبثية، أقسى ما فيها أنها تبدو بلا ضوابط أو حدود في المكان أو الزمان، هذه اليد المبتورة لعلها هي نفسها التي كانت تتيح لصاحبها إمكانية العبث في العادي من تفاصيل الحياة، وألزمه غيابها بالمراوحة في هامش العيش حيث السحنات اتعكس الكثير الكثير من خلاصات التجارب الخاسرة، وحيث الرغبات محكومة بضوابط الضرورة.. الأرجح أن حكاية مماثلة لن يصعب عليها تسويغ ذاتها إذا وجدت من يصغي إلى تفاصيلها الموحية.