ترك مكتبه ليجلس أمامي بكل تواضع .. وكان الدوام يقارب الانتهاء وبدأ مديري يحدثني بنبرة أبوية حانية ويقول لي: أراك مشغول البال .. عقلك ليس حاضراً في عملك .. !
حاولت أن أوهمه أنني على ما يرام برغم المشاكل التي لم ترحم رأسي .. وتزاحم الصداع والتفكير الموغل بعمق لكنه صدمني بقوله:
إن مشكلة ما تسيطر على تفكيرك !
ذهلت من فهمه لمشكلتي أكثر من فهمي لها .. ولما أعدت أنظر إليه أهداني ابتسامته وبادرني سائلاً:
هل تعرف قصة العالم البولندي الذي دخل سجون هتلر؟
قلت له: لا !
قال المدير:
في الحرب العالمية الثانية زج بعالم النفس (البولندي) إلى داخل سجون هتلر الرهيبة .. التي لا يخرجك منها إلا الموت الرحيم .. كان السجن يضم الجرحى وأسرى الحرب من الأعداء .. يقذف بهم خلف القضبان بداخل زنازين رهيبة .. لا تسمع إلا أنات الجرحى .. وأنفاس المحتضرين .. وكل ما حولك يجبر تفكيرك في الموت .. إذ لا مناص ومنه ولا مهرب !
ظل هذا العالم محتاراً بين فكرتين تسيطر على خاطره .. إما أن يهتم ويغتم لحاله ويستسلم للإ حباط واليأس القاتل .. ويعمل التفكير ليل نهار في المشكلة ..
أو أن يفكر في الحل وإن كان ضرباً من الجنون .. رسم في مخيلته دائرتين:
الأولى أعلى لليمين .. والثانية أعلى لليسار !
وكتب في الأولى: المشكلة .. وكتب في الثانية الحل ..!
وبدأ يعطي لنفسه أفضلية الاختيار ..إن الحال يجبره البقاء في دائرة المشكلة .. لكن ماذا سيجني من ذلك غير ازدياد آلامه وهيمنة العذاب والقلق والخوف من المصير المجهول .. وما دام أن النهاية شبه حتمية إلا أنه فضل دوام التفكير في دائرة الحل وإن كان مستحيلاً ..
إنه يعلم بحكم أنه عالم نفساني أن عقل الإنسان يعمل بأداء رائع حينما نكون بنفسية متفاءلة .. وينعدم التفكير السليم والمنطقي والبحث عن الحلول حينما نكون بنفسيات محبطة مكتئبة لا ترى فيما حولها إلا البؤس والشقاء وخيبة الأمل ..
وهنا أطلق لنفسه التفكير في دائرة الحل .. وتخيل نفسه وقد خرج من السجن .. وعاد محاضراً أمام طلابه .. وتمادى في تفاءله ليتخيل نفسه يروي لهم تفاصيل مأساته في السجن .. وتخيل نفسه يمشي في مدينته حراً طليقاً ..
كان المسجونون من حوله أسراء للقضبان وا لأفكار والآلام .. بينما هو أطلق لنفسه عنان الأمل .. وبنى لخيالاته عوالم أخرى بعيدة عن أقبية السجن وسجانيه ..
وفي غمرة هذا التفكير الرائع لاحظ أن عربات الجنود تدخل كل يوم لتحمل من قضوا نحبهم وترميهم بعيداً في الصحراء .. هنا واتته فكرة جنونية .. وقرر أن يجربها .. فما دام أن الموت هو نهاية حتمية فلتكن لأجل النجاة ..
***
تظاهر بالموت صبيحة اليوم التالي .. وأتى الجنود وحملوه بين كومة الأموات .. وفي الصحراء تركوا الجثث نهباً للكلاب والطيور كالعادة .. دون أن يكلفوا أنفسهم عناء دفنها !
وبعد أن ابتعدت عربات الجنود قام العالم البولندي يقطع مئات الأميال مشياً على قدمين حافيتين .. وكتبت له النجاة .. وتحققت نبوءة خيالاته .. فقد عاد لمدينته .. ووقف محاضراً أمام طلابه .. وروى لهم قصته ..
***
كنت لحظتها استمع لمديري بشغف وولع ..فلقد استحوذ على عقلي بدماثة أخلاقه وحسن أدبه في الدخول إلى عالمي الخاص ( ذاتي ) ليقدم لي حلولا لمشكلاتي .. استطرد قائلا: شوف يا ابني ! لا تظل حبيس مشكلتك .. دعها وانتقل مباشرة إلى دائرة الحل ..
***
لا أخفيكم أن كلماته هذه نقلتني نقلة بعيدة في نظرتي لمشكلاتي الخاصة .. وزادتني حباً لهذا المدير وأنساً به .. ومن حينها رسمت في خيالي هذه الصورة:
إن السعادة مطلب حياتي .. لكن الحياة لا تخلو من مشكلات ينغصها .. وأكثر ما يكدر صفو الحياة ليس وجود المشكلة بحد ذاتها فهذا حال الدنيا .. ولكن ما ..طريقة تعاملنا معها .. فمعظم الناس إذا واجهتهم مشكلة .. يظلون في دائرة المشكلة
أب يرسل ابنه للسوق .. فتضيع منه الفلوس ولما يعود تثور ثائرة الأب ويصيح: ألم قل لك كن حريصاً .. أنت لا فائدة منك .. وربما ضربه .. وأنّبه وعيره بها زمانا ..
بينما المنطق يقول: الخطا وارد من الكبير والصغير .. فدعنا نتجاوز المشكلة التي خلاص قدر الله وصارت .. ونبدأ نبحث عن الحلول والبدائل .. هذا مجرد مثال بسيط ..
***
أصعب من هذا هي المشكلات النفسية التي تجبرنا على الركوع والاستسلام لها .. بمعنى واضح البقاء في دائرة المشكلة .. هنا نحتاج إلى ترويض للنفس .. أن نتحايل على مشاعر اليأس .. أن نبتسم للألم ..أن نسخر من الهزيمة ..أن نفقد المشكلة لذة استمتاعها بتفكيرنا..
حاولت أن أوهمه أنني على ما يرام برغم المشاكل التي لم ترحم رأسي .. وتزاحم الصداع والتفكير الموغل بعمق لكنه صدمني بقوله:
إن مشكلة ما تسيطر على تفكيرك !
ذهلت من فهمه لمشكلتي أكثر من فهمي لها .. ولما أعدت أنظر إليه أهداني ابتسامته وبادرني سائلاً:
هل تعرف قصة العالم البولندي الذي دخل سجون هتلر؟
قلت له: لا !
قال المدير:
في الحرب العالمية الثانية زج بعالم النفس (البولندي) إلى داخل سجون هتلر الرهيبة .. التي لا يخرجك منها إلا الموت الرحيم .. كان السجن يضم الجرحى وأسرى الحرب من الأعداء .. يقذف بهم خلف القضبان بداخل زنازين رهيبة .. لا تسمع إلا أنات الجرحى .. وأنفاس المحتضرين .. وكل ما حولك يجبر تفكيرك في الموت .. إذ لا مناص ومنه ولا مهرب !
ظل هذا العالم محتاراً بين فكرتين تسيطر على خاطره .. إما أن يهتم ويغتم لحاله ويستسلم للإ حباط واليأس القاتل .. ويعمل التفكير ليل نهار في المشكلة ..
أو أن يفكر في الحل وإن كان ضرباً من الجنون .. رسم في مخيلته دائرتين:
الأولى أعلى لليمين .. والثانية أعلى لليسار !
وكتب في الأولى: المشكلة .. وكتب في الثانية الحل ..!
وبدأ يعطي لنفسه أفضلية الاختيار ..إن الحال يجبره البقاء في دائرة المشكلة .. لكن ماذا سيجني من ذلك غير ازدياد آلامه وهيمنة العذاب والقلق والخوف من المصير المجهول .. وما دام أن النهاية شبه حتمية إلا أنه فضل دوام التفكير في دائرة الحل وإن كان مستحيلاً ..
إنه يعلم بحكم أنه عالم نفساني أن عقل الإنسان يعمل بأداء رائع حينما نكون بنفسية متفاءلة .. وينعدم التفكير السليم والمنطقي والبحث عن الحلول حينما نكون بنفسيات محبطة مكتئبة لا ترى فيما حولها إلا البؤس والشقاء وخيبة الأمل ..
وهنا أطلق لنفسه التفكير في دائرة الحل .. وتخيل نفسه وقد خرج من السجن .. وعاد محاضراً أمام طلابه .. وتمادى في تفاءله ليتخيل نفسه يروي لهم تفاصيل مأساته في السجن .. وتخيل نفسه يمشي في مدينته حراً طليقاً ..
كان المسجونون من حوله أسراء للقضبان وا لأفكار والآلام .. بينما هو أطلق لنفسه عنان الأمل .. وبنى لخيالاته عوالم أخرى بعيدة عن أقبية السجن وسجانيه ..
وفي غمرة هذا التفكير الرائع لاحظ أن عربات الجنود تدخل كل يوم لتحمل من قضوا نحبهم وترميهم بعيداً في الصحراء .. هنا واتته فكرة جنونية .. وقرر أن يجربها .. فما دام أن الموت هو نهاية حتمية فلتكن لأجل النجاة ..
***
تظاهر بالموت صبيحة اليوم التالي .. وأتى الجنود وحملوه بين كومة الأموات .. وفي الصحراء تركوا الجثث نهباً للكلاب والطيور كالعادة .. دون أن يكلفوا أنفسهم عناء دفنها !
وبعد أن ابتعدت عربات الجنود قام العالم البولندي يقطع مئات الأميال مشياً على قدمين حافيتين .. وكتبت له النجاة .. وتحققت نبوءة خيالاته .. فقد عاد لمدينته .. ووقف محاضراً أمام طلابه .. وروى لهم قصته ..
***
كنت لحظتها استمع لمديري بشغف وولع ..فلقد استحوذ على عقلي بدماثة أخلاقه وحسن أدبه في الدخول إلى عالمي الخاص ( ذاتي ) ليقدم لي حلولا لمشكلاتي .. استطرد قائلا: شوف يا ابني ! لا تظل حبيس مشكلتك .. دعها وانتقل مباشرة إلى دائرة الحل ..
***
لا أخفيكم أن كلماته هذه نقلتني نقلة بعيدة في نظرتي لمشكلاتي الخاصة .. وزادتني حباً لهذا المدير وأنساً به .. ومن حينها رسمت في خيالي هذه الصورة:
إن السعادة مطلب حياتي .. لكن الحياة لا تخلو من مشكلات ينغصها .. وأكثر ما يكدر صفو الحياة ليس وجود المشكلة بحد ذاتها فهذا حال الدنيا .. ولكن ما ..طريقة تعاملنا معها .. فمعظم الناس إذا واجهتهم مشكلة .. يظلون في دائرة المشكلة
أب يرسل ابنه للسوق .. فتضيع منه الفلوس ولما يعود تثور ثائرة الأب ويصيح: ألم قل لك كن حريصاً .. أنت لا فائدة منك .. وربما ضربه .. وأنّبه وعيره بها زمانا ..
بينما المنطق يقول: الخطا وارد من الكبير والصغير .. فدعنا نتجاوز المشكلة التي خلاص قدر الله وصارت .. ونبدأ نبحث عن الحلول والبدائل .. هذا مجرد مثال بسيط ..
***
أصعب من هذا هي المشكلات النفسية التي تجبرنا على الركوع والاستسلام لها .. بمعنى واضح البقاء في دائرة المشكلة .. هنا نحتاج إلى ترويض للنفس .. أن نتحايل على مشاعر اليأس .. أن نبتسم للألم ..أن نسخر من الهزيمة ..أن نفقد المشكلة لذة استمتاعها بتفكيرنا..