[size=21]لوحة من الماضي
منذ
أن إبتعدت عنها ، غزتني الذكريات ، ذكرى تلو الأخرى ، كل يوم ٍ أسقط في
الفخ ، أحلل ظلمته لأكتشف قمة ضعفي و عدم مبالاتها !
كم كنتُ
ساذجاً حينما بنيت أحلاماً سرابية على حب ٍ وهمي ، كم كنت ُ غبياً عندما
رميت ما تربيت عليه طيلة حياتي من أجل خفقان قلب.
كان لزاماً
علي أن أكتشف أن الحب ليس هو ذلك الشوق الدفاق ، و لا تلك الكلمات
المعنونة بالحنان و العطف،
و أن أفهم أن أرقى أنواع
الحب هو ذلك الذي يهديك حرية التحليق لا سجن التضييق وسط قضبان يعتقدونها
أحضاناً.
هأنا أجلس أمام بركة الزمن ، أحرك يداي مع
تيار الآهات. أمواجٌ الألم تعتقل تفكيري ، و شط الأحلام يبتعد عني
و تلك
السفينة المغادرة لقلبي ، تفتح آفاقاً جديدة لمرسى ، لحب ٍ دمّر آخر أملاً
لي في حياة تفتح أبوابها لأكون بين سماء آمالها من جديد.
إلتقينا ،
على ضفاف لحظة تيه ، لحظة ضعف ٍ منسية ، قلت ِ لي فيها : " علينا أن نكون
أصدقاء ، فنحن لا نصلح أن نكون أحباء " !
أشعلت ِ بذلك
فتيل الحب ، و أكل مني الهوى ، و أصبح العشق ملاذاً و رفيقاً لدروب سكوني
المظلمة.
قابلتك بنفس التخوّف ، و بذلك الترقّب لكل
إنسان لم يكن يعي حجم الشرك الذي سقط في جوفه : " حسناً ، و أنا أيضاً في
الحوجة لصديق ".
كانت تلك أولى سقطاتي ، بل كانت أولى
طرقاتي الهدامة لمبادئي في الصداقة ، دائماً ما أعتقدت أن الأنثى لا يمكن
أن تصبح صديقة ،
هي أمٌ نعم .. أختٌ نعم ، خالة ، عمة ، و
آخر ما يمكن أن أطاله حبيبة لتصبح زوجة !
لكن صديقة ، و
فاهات من الإستفهام فاغرة أمام وجهي ، كان نذيراً بأني أسير في غابة موحشة ،
كل حركة مني هي إثمٌ أرتكبه و أمحو به جزء من أمجاد الماضي ،
الذي
لطالما حافظت عليه نظيفاً .
لكن أنت ِ ، كنت ِ الهوة
الأولى ، يوم كان حديثنا يدور حول العالم ، لنكتشف بأنك تعيشين في أقصى
الشمال و أنا من أقصى الجنوب ،
لا تجمعنا عادة و لا
تقليد ، لا أمل في خطبة أو تقريب ، كل منا كان لديه طريقه الخاص.
حلمك ِ كان
الحب ، و حلمي كان الزوجة .
كانت هنا أولى صداماتنا
العشقية عندما قلت ِ : " أريد أن أقول لك َ شيئاً ، لكن الخوف يكبل فمي "
- كلي آذان
صاغية ، هل حدث يوماً أن قلت ِ شيئاً و لم أقم بسماعه.
" قلت ذلك
بإبتسامة أراها اليوم أبله إبتسامة أطلقتها من شفتي "
- إنسى
الأمر.
- لماذا ؟ .. لقد إعتدنا الصراحة.
- لتكتبي
لي على ورقة ، ليتها لم تتوفر في ذلك الزمن .. أحبكْ .
كان تلك
أول خفقة لقلبي اليتيم ، لم أعي حجم ذلك الشعور الذي فجّر دماء ضخت في كل
مكان ٍ من جسدي ،
بإرتباك ِ إنسان ٍ بسيط ، بأحلامه
الكبيرة ، و قلبه الضعيف ، إبتسمت ، فرّحت كطفل ٍ كان يبحث عن ذلك الشعور
المفقود ، تلك النظرات التي تدفئك بحنوها،
و الإبتسامات
الطفيفة التي تعني لك الكثير ، حركات الأيدي المتداخلة ، تعبيرات الوجه
المتراسمة ، و خلجات الفرح المعطاءة.
كل ذلك كان بالنسبة لي
كالحلم ، لم أفق منه إلا لحظة الحقيقة ، كانت أمي تقول لي : " إبتعد عن
القصيرة ، و لا تقترب من تكبرك عمراً "
لكنها نسيت أن تقول لي
إبتعد من تهديك حباً و لا تقبل بك َ زوجاً !!
في الماضي
كانت كل لحظة بالنسبة لي مجرد روتين ، لكن معها كان للحياة طعم آخر ، أصبح
لإشراقة الشمس ذلك الضياء المستنير ، و للهو القمر مع نجومه المحيطة
ذلك
الإنبهار المنير.
كنا نتحدث ليلاً عبر الأثير ، نضحك
ببراءة طفلين ، و نحلم بغد ٍ أفضل ، نبكي على سذاجة قدّرنا سراً ، ثم نلتقي
في الصباح لنضحك على نفس السذاجة لكن علناً.
هي تهوى
الإنبهار برومانسية آدم و عاطفته الجياشة ، كانت تقول لي : " أنت مختلف ،
تبكي كالطفل ، و تنهر كالأسد ، تصمت كعجوز هرم ".
كانت تملك ُ
تلك النظرة الثاقبة للأمور التي تعنيها ، و تتناسى تلك التي تعني واقعية
الحياة و قدّر الدنيا.
تحاول دوماً أن تقفز على
عتبة الزمن ، و تكتب على جداره أن حُبنا سيكون أسمى حُب ، و نسيت أننا بذلك
نفقد بريق مستقبلنا.
إلتقينا ذات يوم في جو ٍ ماطر ، كانت
تركض و تقفز كما الطائر الخارج من قفصه ، كانت كالطفلة.
قالت لي : "
هيا تعال ، ألا تحب المطر ".
- أخاف من البلل.
- أنت
مجنون .. لا يوجد أجمل من بلل المطر ، فيه ستولد من جديد.
- حسناً
سأجرب .
و ليتني لم أجرّب تجريد مبادئي أمام طغيان
انوثتها ، ليتني تمسكّت بآخر خيط ٍ كان يربطني بأحزاني ، و إستكنت في منزل
الدموع الذي بنيته بكفيّ الماضي.
كنت ضعيفاً ، لا أملك ذلك
الدرع الذي ترتديه القلوب لتحمي نفسها من عاطفة الأمل الكاذب.
يوم أتيتي
خالعة قناع الحب ، و أترديت ِ قناع الواقع.
- ما بك ِ اليوم
في قمة جمالك ! .. لم أرك ِ هكذا من قبل.
- ألم تسمع
بالخبر .. لقد تمت خطبتي.
علمت حينها كم كنت ساذجاً و
غبياً ، حينما سألتني : " هل ستظل تحبني ".
و ببراءة الطفل
الذي لا يعلم حجم كلمة قد تودي بحياته قلت : " نعم ستظلين الأولى دائماً ".
كانت هذه
أول طعنة وجهتها لنفسي بنفسي ، سكبت فيها دماء من الحبر ِ ، و ناضلت فيها
نضالاً مع البؤس.
الناس ينامون ليلاً و آمالهم بصباح متجدد
، و أنا كان حلمي ان أموت و أنت ِ في أحضان رجل ٍ غيري.
عدت مجدداً
إلى حياتي القديمة ، ذلك الرفيق الأبدي الذي فارقني لفترة كنت ِ فيها كل
شيء ، ليعود هو ، لكن بمذاق المُرّ الذي تجرّعته و أنا أثق تماماً أنك ِ
كنت ِ أكبر أخطائي.
- أحب أن أكون معك َ حتى تقابل من ستكمل
حياتها معك ، لا أريد أن أتركك وحيداً.
- لكنك ِ مخطوبة و هذا
عيب .. أتركيني ، اعلم كيف أجابه ظلماتي.
- لكنني ما
زلتُ أحبك !
آه كم تلاعبت ِ بي تلك الكلمة التي هي
بحجم أربعة أحرف ، لكنها تفوق حجم الجبال.
قاومتك ِ ،
لكنني كأي آدم لا يتحمل طغيان أنثى لا يعلم بأنها تتلاعب به ، قبلتك ِ
كصديقة ، لأكتشف ، بأنك ِ تلاعبين قلبي الضعيف مرة أخرى .
فأستسلم ، و
أصبح أسير حرب ٍ بين سيفين ، سيف قلبك الذي إعتقلنيِ ، و سيف ضميري الذي
لم يتوقف عن تأنيبي.
ليأتي اليومُ الذي خلعت ِ فيه جميع
أقنعتك ِ و تتجرّدي أمامي بكامل حقيقتك ِ.
- سأتزوج
قريباً.
- و ماذا تريدين مني إذاً ، إبتعدي عني.
- لكنني
أحبك.
- هل الحب هو كل ما يهمك ِ ، إحترمي أهلك ِ
أقله إن كنت ِ لا تريدين إحترام نفسك ِ.
- لكنني أحبك ..
ألا تفهم .. أحبك !
- إلى اللقاء .. إنتهى ما بيننا منذ
اليوم.
- لماذا تقول ذلك ، ما الفرق لديك إن كنا
معاً حتى موعد زواجي ؟!
إكتشفت حينها كم إستصغرت
أبسط حقوقي كآدم ، و علمت أنني كنت مجرد ألعوبة ، يركلها الناس متى أرادوا ،
و يتركوها لحظة مللهم منها.
تركتها و أقفلت جميع
سراديب ضعفي أمامها.
هأنا اليوم أرمم ما دمره شاطيء العشق ، و
أسافر بسفينة لن ترسوا إلإ في بر الأمان ، و قررت حينها بأنني لن أفتح
قلبي مجدداً لشطآنٍ من الوهم.
و لن أهب قلبي إلا لمن
ستكون رفيقة للزمن ، و بلسماً لجرح رسمته فرشاة الضعف و الندم .
هأنا أجلس
أمام ورقة بيضاء و أحمل فرشاتي منتظراً قدراً يلهمني بعشيقة تكون رفيقة
للزمن.
[/size]