عالج نفسك بفاتحة الكتاب
الحمد لله واهب الصحة والشفاء، والصلاة السلام على خاتم الأنبياء، وعلى آله وصحبه إلى يوم الموعد واللقاء ، أما بعد:
فقد كثرت الأمراض وتنوعت الأدواء، وانتشرت العلل في هذا العصر، وتهافت
الناس على الأطباء، وازدحمت المشافي والعيادات بالمراجعين، كل يريد الشفاء
العاجل، والتخلص من المرض الذي يصاحبه.
وانقسمت الأمراض إلى قسمين:
-أمراض نفسية قلبية.
- وأمراض بدنية.
وكلا القسمين يشتركان في إعلال البدن وتوهين القوى والخروج بالجسم عن حد الصحة والقوة والاعتدال إلى المرض والضعف.
ولقد جهل أكث الناس علاجا نافعا أكيدا مضمونا مأمونا ليس له آثار جانبية
ضارة كالباقي الأدوية الكيميائية والمستحضرات الطبية. وكذلك فإنه نافع في
شفاء جميع الأمراض القلبية والنفسية والبدنية، وليس نفعه قاصرا على مرض دون
مرض. وكذلك فغن هذا الدواء سهل يسير على كل أحد ولا هو مما يكلف المبالغ
الضخمة التي لا يستطيع كثير من الناس تأمينها.
إن هذا الدواء الشافي هو القرآن الكريم، فالقرآن الكريم شفاء من كل داء حسي، ونجاة من كل مرض نفسي ودواء لكل علة قلبية أو بدنية.
وقد جمعت لك في هذه السطور -أخي الحبيب- كلاما نفيسا للإمام ابن القيم حول
اشتمال القرآن الكريم بخاصة فاتحة الكتاب على الشفاءين: شفاء القلوب، وشفاء
الأبدان، فكان مما قال -رحمه الله- :-
القرآن شفاء:
وقد أخبر سبحانه عن القرآن أنه شفاء، فقال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ
آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [سورة فصلت: 44]، وقال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ
الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [سورة الإسراء:
82]، ومن هنا لبيان الجنس لا للتبعيض، فإن القرآن كله شفاء، كما قال في
الآية المتقدمة؛ فهو شفاء للقلوب من داء الجهل والشك والريب.
فلم ينزل الله سبحانه من السماء شفاء قط أعم ولا أنفع ولا أعظم ولا أنجع في إزالة الداء من القرآن.
الرقية بفاتحة الكتاب:
وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد قال: «انطلق نفر من أصحاب النبي [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
في سفرة سافروها، حتى نزلوا على حي من أحياء العرب، فاستضافوهم فأبوا أن
يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحي فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فقال بعضهم:
"لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا، لعله أن يكون عند بعضهم شيء"، فأتوهم
فقالوا: "يا أيها الرهط، إن سيدنا لدغ، وسعينا له بكل شيء لا ينفعه، فهل
عند أحد منكم من شيء؟"، فقال بعضهم: "نعم، والله إني لأرقي، ولكن والله لقد
استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلا"، فصالحوهم
على قطيع من الغنم، فانطلق يتفل عليه ويقرأ: {الْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ}، فكأنما نشط من عقال، فانطلق يمشي وما به قلبة (1). قال:
فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم: "اقسموا"، فقال الذي رقي: لا
تفعلوا حتى نأتي النبي [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
فنذكر له الذي كان فننظر ما يأمرنا"، فقدموا على رسول الله فذكروا له،
فقال: "وما يدريك أنها رقية"، ثم قال: "قد أصبتم ، اقسموا، واضربوا لي معكم
سهما"» [رواه البخاري].
فقد أثر هذا الدواء في هذا الداء وأزاله، حتى كأنه لم يكن، وهو أسهل دواء
وأيسره ولو أحسن العبد التداوي بالفاتحة لرأى لها تأثيرا عجيبا في الشفاء.
ابن القيم يحكي عن نفسه:
ومكثت بمكة مدة تعتريني أدواء، ولا أجد طبيبا ولا دواء فكنت أعالج نفسي
بالفاتحة، فأرى لها تأثيرا عجيبا، فكنت أصف ذلك لمن يشتكي ألما، وكان كثير
منهم يبرأ سريعا.
لابد من اليقين والإيمان:
ولكن ها هنا أمر ينبغي التفطن له، وهو أن الأذكار والآيات والأدعية التي
ستشفى بها ويرقى بها، هي في نفها نافعة شافية، ولكن تستدعي قبول المحل وقوة
همة الفاعل وتأثيره، فمتى تخلف الشفاء كان لضعف تأثير الفاعل، أو لعدم
قبول المنفعل، أو لمانع قوي فيه، يمنع أن ينجع فيه الدواء، كما يكون ذلك في
الأدوية والأدواء الحسية، فإن عدم تأثيرها قد يكون لعدم قبول الطبيعة لذلك
الدواء وقد يكون لمانع قوي يمنع من اقتضائه أثره، فإن الطبيعة إذا أخذت
الدواء بقبول تام كان انتفاع البدن به بحسب ذلك القبول. فكذلك القلب إذا
أخذ الرقي والتعاويذ بقبول تام، وكان للرقي نفس فعالة وهمه مؤثرة أثر في
إزالة الداء (2).
الأدواء لا تقاوم كلام الله:
وقال رحمه الله أيضا: فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية
والبدنية وأدواء الدنيا والآخرة، وما كل أحد يؤهل ولا يوفق للاستشفاء به،
وإذا أحسن العليل التداوي به، ووضعه على دائه بصدق وإيمان وقبول تام،
واعتقاد جازم، واستيفاء شروط لم يقاومه الداء أبدا.
وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء الذي لو نزل على الجبال لصدعها،
أو على الأرض لقطعها؟!؛ فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان، إلا وفي
القرآن سبيل الدلالة على دوائه سببه، والحمية منه لمن رزقه الله فهما في
كتابه (3).
وأما الأدوية القلبية، فإنه يذكرها مفصلة، ويذكر أسباب أدوائها وعلاجها،
قال: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ
عَلَيْهِمْ} [سورة العنكبوت: 51]، فمن لم يشفه القرآن فلا شفاه الله، ومن
لم يكفه فلا كفاه الله (4).
شأن فاتحة الكتاب:
وقال رحمه الله أيضا: "ومن المعلوم أن بعض الكلام له خواص ومنافع مجربة،
فما الظن بكلام ربا لعالمين الذي فضله على كل كلام كفضل الله على خلقه،
الذي هو الشفاء التام، والعصمة النافعة، النور الهادي، والرحمة العامة، لو
أنزل على جبل لتصدع من عظمته وجلالته، وما الظن بفاتحة الكتاب التي لم ينزل
في القرآن، ولا في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور مثلا المتضمنة
لجميع معاني كتاب الله، المشتملة على ذكر أصول أسماء الرب -تعالى-
ومجامعها، وهي: الله والرب، والرحمن وإثبات المعاد، وذكر توحيديين: توحيد
الربوبية وتوحيد الإلوهية، وذكر الافتقار إلى الرب سبحانه في طلب الإ أنه
وطلب الهداية، وتخصيصه سبحانه بذلك وذكر أفضل الدعاء على الإطلاق وأنفعه
وأفرضه وما العباد أحوج شيء إليه وهو الهداية غلى صراط المستقيم، المتضمن
كمال معرفته وتوحيده وعبادته، بفعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه،
والاستقامة عليه إلى الممات.
وتتضمن ذكر أوصاف الخلائق وأقسامهم إلى منعم عليه بمعرفة الحق والعمل به
ومحبته وإيثاره، ومغضوب عليه بعدوله عن الحق بعد معرفته له، وضال بعدم
معرفته له، وهؤلاء أقسام الخليقة.
مع تضمنها لإثبات القدر و الشرع والأسماء والصفات والمعاد والنبوات وتزكية
النفوس وإصلاح القلوب، وذكر عدل الله وإحسانه، والرد على جميع أهل البدع
والباطل.
وحقيق بسورة هذا بعض شأنها أن يستشفى بها من الأدواء ويرقى بها من اللديغ.
وبالجملة فما تضمنته الفاتحة من إخلاص العبودية والثناء على الله، وتفويض
الأمر كله إليه، والاستعانة به والتوكل عليه، وسؤال مجامع النعم كلها، وهي
الهداية التي تجلب النعم وتدفع النقم، من أعظم الأدوية الشافية الكافية.
وقد قيل: إن موضع الرقية منها: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}
ولا ريب أن هاتين الكلمتين من أقوى أجزاء هذا الدواء فإن فيهما من عموم
التفويض والتوكل والالتجاء والاستعانة، والافتقار والطلب، والجمع بين أعلى
الغايات وهي عبادة الرب وحده وأشرف الوسائل وهي الاستعانة به على عبادته ما
ليس في غيرها.
قراءة الفاتحة على ماء زمزم:
ولقد مر بي وقت بمكة سقمت فيه وفقدت الطبيب والدواء فكنت أتعالج بها آخذ
شربة من ماء زمزم، وأقرؤها عليها مرارا ثم أشربه، فوجدت بذلك البرء التام،
ثم صرت أعتمد ذلك عند كثير من الأوجاع، فأنتفع بها غاية الانتفاع (5).
في اشتمال الفاتحة على الشفاءين:
شفاء القلوب وشفاء الأبدان..
أولا: تضمنها لشفاء القلوب:
قال رحمه الله: فأما اشتمالها على شفاء القلوب فإنها اشتملت عليه أتم
اشتمال، فإن مدار اعتلال القلوب وأسقامها على أصلين؛ فساد العلم وفساد
القصد. ويترتب عليهما داءان قاتلان: وهما الضلال والغضب فالضلال نتيجة فساد
العلم، والغضب نتيجة فساد القصد وهذان المرضان هما ملاك أمراض القلوب
جميعها.
فهداية الصراط المستقيم: تتضمن الشفاء عن مرض الضلال، ولذلك كان سؤال هذه
الهداية: أفرض دعاء على كل عبد، وأوجبه عليه كل يوم وليلة في كل صلاة ،
لشدة ضرورته وفاقته إلى الهداية المطلوبة ولا يقوم غير هذا السؤال مقامه.
والتحقق بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} علما ومعرفة، وعملا وحالا:
يتضمن الشفاء من مرض فساد القلب والقصد، فإن هذا الدواء مركب من ستة أجزاء:
1- عبودية الله لا غيره.
2- بأمره وشرعه.
3- لا بالهوى.
4- ولا بآراء الرجال وأوضاعهم ورسومهم وأفكارهم.
5- بالاستعانة على عبوديته به.
6- لا بنفس العبد وقوته وحوله ولا بغيره.
فهذه هي أجزاء {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فإذا ركبها
الطبيب اللطيف العالم بالمرض، واستعملها المريض حصل بها الشفاء التام، وما
نقص من الشفاء فهو لفوات جزء من أجزائها.
مرض الرياء والكبر:
ثم إن القلب يعرض له مرضان عظيمان، إن لم يتداركهما العبد تراميا به إلى التلف ولابد وهما : الرياء والكبر.
فدواء الرياء بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ودواء الكبر بـ {إِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ}، فإذا عوفي من مرض الرياء بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ومن مرض
الكبرياء والعجب بـ {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، ومن مرض الضلال والجهل بـ
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} عوفي من أمراضه وأسقامه، ورفل في
أثواب العافية، وتمت عليه النعمة، وكان من المنعم عليه {غَيْرِ
الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} وهم أهل فساد القصد الذين عرفوا الحق وعدلوا عنه
{وَلَا الضَّالِّينَ} وهم أهل فساد العلم الذين جهلوا الحق ولم يعرفوه.
وحق لسورة تشتمل على هذين الشفاءين: أن يستشفى بها من كل مرض ولهذا لما
اشتملت على هذا الشفاء -شفاء القلوب- الذي هو أعظم الشفاءين، كان حصول
الشفاء الأدنى بها أولى كما سنبينه.
ثانيا: تضمنها لشفاء الأبدان:
فأما تضمنها لشفاء الأبدان، فنذكر منها ما جاءت به السنة، وما شهدته به قواعد الطب، وما دلت عليه التجربة.
أولا: ما دلت عليه السنة على الانتفاع بالفاتحة:
فأما ما دلت عليه السنة: ففي الصحيح من حديث أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري «أن ناسا من أصحاب النبي [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] أتوا على حي من أحياء العرب فلم يقروهم، فبينما هم كذلك، إذ لدغ سيد أولئك...» [رواه البخاري].
فقد تضمن هذا الحديث حصول شفاء هذا اللديغ بقراءة الفاتحة عليه ، فأغنته عن
الدواء، وربما بلغت في شفائه ما لم يبلغه الدواء هذا مع كون المحل غير
قابل؛ إما لكون هؤلاء الحي غير مسلمين، أو أهل بخل ولؤم، فكيف إذا كان
المحل قابلا؟!
ثانيا: شهادة قواعد الطب على الانتفاع بالفاتحة:
وأما شهادة قواعد الطب بذلك: فاعلم أن اللدغة تكون من ذوات الحمات والسموم،
وهي ذوات الأنفس الخبيثة التي تتكيف بكيفية غضبية، تثير فيها سمية نارية
يحصل بها اللدغ، وهي متفاوتة بحسب تفاوت خبث تلك النفوس وقوتها وكيفيتها،
فإذا تكيفت أنفسها الخبيثة بتلك الكيفية الغضبية أحدث لها ذلك طبيعة سمية،
تجد راحة ولذة في إلقائها إلى المحل القابل. كما يجد الشرير من الناس راحة
ولذة في إيصال شره إلى من يوصله إليه.
وكثير من الناس لا يهنأ له عيش في يوم لا يؤذي فيه أحد من بني جنسه، ويجد
في نفسه تأذيا يحمل تلك السمية والشر الذي فيه حتى يفرغه في غيره، فيبرد
عند ذلك أنينه وتسكن نفسه ويصيبه في ذلك نظير ما يصيب من اشتدت شهوته إلى
الجماع، فيسوء خلقه، وتثقل نفسه حتى يقضي وطره، هذا قوة الشهوة، وذاك في
قوة الغضب، والمقصود أن هذه النفوس الغضية إذا اتصلت بالمحل القابل أثرت
فيه ، ومنها ما يؤثر في المحل لمجرد مقابلته له وإن لم يمسه، ومنها ما يطمس
البصر ويسقط الحبل.
كيفية إصابة العين:
ومن هذا نظر العائن ، فإنه إذا وقع بصره على المعين، حدثت في نفسه كيفية
سمية أثرت في المعين بحسب عدم استعداده، وكونه أعزل من السلاح، ويحسب قوة
تلك النفس.
وكثير من هذه النفوس يؤثر في المعين إذا وصف له فتتكيف نفسه وتقابله على
بالبعد،ت فيتأثر به، ومنكر هذا ليس معدودا من بني آدم غلا بالصورة والشكل.
كيفية تأثير الفاتحة في النفوس الخبيثة:
فإذا قابلت النفس الزكية العلوية الشريفة التي فيها غضب وحمية للحق هذا
النفوس الخبيث السمية، وتكيفت بحقائق الفاتحة وأسرارها ومعانيها، وما
تضمنته من التوحيد والتوكل والثناء على الله وذكر أصول أسماءه الحسنى، وذكر
اسمه الذي ما ذكر على شر إلا أزاله ومحقه ولا على خير إلا نماه وزاده،
دفعت هذه النفس بما تكيفت به من ذلك أثر تلك النفس الخبيثة الشيطانية فحصل
البرء. فإن مبنى الشفاء والبرء على دفع الضد بضده، وحفظ الشيء بمثله فالصحة
تحفظ بالمثل، والمرض يدفع بالضد؛ أسبابٌ ربطها بمسبباتها الحكيم العليم
خلقا وأمرا ولا يتم هذا إلا بقوة من النفس الفاعلة وقبول من الطبيعة
المنفعلة، فلو لم تنفع نفس الملدوغ لقبول الرقية، ولم تقو نفس الراقي على
التأثير لم يحصل البرء؛ فهناك أمور ثلاثة:
1- موافقة الدواء للداء.
2- وبذل الطبيب له.
3- وقبول طبيعة العليل.
فمتى تخلف واحد منها لم يحصل الشفاء، وإذا اجتمعت حصل الشفاء ولابد بإذن الله تعالى.
ومن عرف هذا كما ينبغي تبين له أسرار الرقي، وميز بين النافع منها وغيره
ورقي الداء بما يناسبه من الرقي، وتبين له أن الرقية براقيها وقبول المحل،
كما أن السيف بضاربة مع قبول المحل للقطع، وهذه إشارة مصلعة على ما وراءها
لمن دق نظرة وحسن تأمله، والله أعلم.
ثالثا: دلالة التجارب على الانتفاع بالفاتحة:
وأما شهادة التجارب بذلك فهي أكثر من أن تذكر وذلك في كل زمان وقد جربت أن
من ذلك في نفسي وفي غيري أمورا عجيبة، ولا سيما مدة المقام بمكة، فإنه كان
بعرض لي آلام مزعجة، بحيث تكاد تقطع الحركة مني، وذلك في أثناء الطواف
وغيره. فأبادر إلى قراءة الفاتحة، وأمسح بها على محل الألم، فكأنه حصاة
تسقط، جربت ذلك مرارا عديدة، وكانت أخذ قدحا من ماء زمزم، فأقرأ عليه
الفاتحة مرارا فأشربه، فأجد به من النفع والقوة ما لم أعهد مثله في الدواء،
والأمر أعظم من ذلك ولكن بحسب قوة الإيمان وصحة اليقين، والله المستعان.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(1) ما به من قلبه : أي من داء.
(2) الداء والدواء ص (6-8).
(3) وهذا رد على كثير من الأطباء لنفسيين المنتشرين اليوم، والذين يرون أن
القرآن وحده لا يكفي وإنما لابد من الأدوية الأخرى. والصواب في ذلك أن
القرآن كاف في شفاء جميع الأدواء بالشروط التي ذكرها الإمام ابن القيم
-رحمه الله- ولا يمنع ذلك من استخدام الأدوية المباحة الأخرى والذهاب إلى
الأطباء والعمل بنصائحهم.
(4) زاد المعاد ( 4/352).
(5) زاد المعاد (4/176،177).
(6) زاد المعاد ( 1/ 76-80) بشيء من الاختصار.
الحمد لله واهب الصحة والشفاء، والصلاة السلام على خاتم الأنبياء، وعلى آله وصحبه إلى يوم الموعد واللقاء ، أما بعد:
فقد كثرت الأمراض وتنوعت الأدواء، وانتشرت العلل في هذا العصر، وتهافت
الناس على الأطباء، وازدحمت المشافي والعيادات بالمراجعين، كل يريد الشفاء
العاجل، والتخلص من المرض الذي يصاحبه.
وانقسمت الأمراض إلى قسمين:
-أمراض نفسية قلبية.
- وأمراض بدنية.
وكلا القسمين يشتركان في إعلال البدن وتوهين القوى والخروج بالجسم عن حد الصحة والقوة والاعتدال إلى المرض والضعف.
ولقد جهل أكث الناس علاجا نافعا أكيدا مضمونا مأمونا ليس له آثار جانبية
ضارة كالباقي الأدوية الكيميائية والمستحضرات الطبية. وكذلك فإنه نافع في
شفاء جميع الأمراض القلبية والنفسية والبدنية، وليس نفعه قاصرا على مرض دون
مرض. وكذلك فغن هذا الدواء سهل يسير على كل أحد ولا هو مما يكلف المبالغ
الضخمة التي لا يستطيع كثير من الناس تأمينها.
إن هذا الدواء الشافي هو القرآن الكريم، فالقرآن الكريم شفاء من كل داء حسي، ونجاة من كل مرض نفسي ودواء لكل علة قلبية أو بدنية.
وقد جمعت لك في هذه السطور -أخي الحبيب- كلاما نفيسا للإمام ابن القيم حول
اشتمال القرآن الكريم بخاصة فاتحة الكتاب على الشفاءين: شفاء القلوب، وشفاء
الأبدان، فكان مما قال -رحمه الله- :-
القرآن شفاء:
وقد أخبر سبحانه عن القرآن أنه شفاء، فقال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ
آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [سورة فصلت: 44]، وقال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ
الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [سورة الإسراء:
82]، ومن هنا لبيان الجنس لا للتبعيض، فإن القرآن كله شفاء، كما قال في
الآية المتقدمة؛ فهو شفاء للقلوب من داء الجهل والشك والريب.
فلم ينزل الله سبحانه من السماء شفاء قط أعم ولا أنفع ولا أعظم ولا أنجع في إزالة الداء من القرآن.
الرقية بفاتحة الكتاب:
وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد قال: «انطلق نفر من أصحاب النبي [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
في سفرة سافروها، حتى نزلوا على حي من أحياء العرب، فاستضافوهم فأبوا أن
يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحي فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فقال بعضهم:
"لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا، لعله أن يكون عند بعضهم شيء"، فأتوهم
فقالوا: "يا أيها الرهط، إن سيدنا لدغ، وسعينا له بكل شيء لا ينفعه، فهل
عند أحد منكم من شيء؟"، فقال بعضهم: "نعم، والله إني لأرقي، ولكن والله لقد
استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلا"، فصالحوهم
على قطيع من الغنم، فانطلق يتفل عليه ويقرأ: {الْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ}، فكأنما نشط من عقال، فانطلق يمشي وما به قلبة (1). قال:
فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم: "اقسموا"، فقال الذي رقي: لا
تفعلوا حتى نأتي النبي [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
فنذكر له الذي كان فننظر ما يأمرنا"، فقدموا على رسول الله فذكروا له،
فقال: "وما يدريك أنها رقية"، ثم قال: "قد أصبتم ، اقسموا، واضربوا لي معكم
سهما"» [رواه البخاري].
فقد أثر هذا الدواء في هذا الداء وأزاله، حتى كأنه لم يكن، وهو أسهل دواء
وأيسره ولو أحسن العبد التداوي بالفاتحة لرأى لها تأثيرا عجيبا في الشفاء.
ابن القيم يحكي عن نفسه:
ومكثت بمكة مدة تعتريني أدواء، ولا أجد طبيبا ولا دواء فكنت أعالج نفسي
بالفاتحة، فأرى لها تأثيرا عجيبا، فكنت أصف ذلك لمن يشتكي ألما، وكان كثير
منهم يبرأ سريعا.
لابد من اليقين والإيمان:
ولكن ها هنا أمر ينبغي التفطن له، وهو أن الأذكار والآيات والأدعية التي
ستشفى بها ويرقى بها، هي في نفها نافعة شافية، ولكن تستدعي قبول المحل وقوة
همة الفاعل وتأثيره، فمتى تخلف الشفاء كان لضعف تأثير الفاعل، أو لعدم
قبول المنفعل، أو لمانع قوي فيه، يمنع أن ينجع فيه الدواء، كما يكون ذلك في
الأدوية والأدواء الحسية، فإن عدم تأثيرها قد يكون لعدم قبول الطبيعة لذلك
الدواء وقد يكون لمانع قوي يمنع من اقتضائه أثره، فإن الطبيعة إذا أخذت
الدواء بقبول تام كان انتفاع البدن به بحسب ذلك القبول. فكذلك القلب إذا
أخذ الرقي والتعاويذ بقبول تام، وكان للرقي نفس فعالة وهمه مؤثرة أثر في
إزالة الداء (2).
الأدواء لا تقاوم كلام الله:
وقال رحمه الله أيضا: فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية
والبدنية وأدواء الدنيا والآخرة، وما كل أحد يؤهل ولا يوفق للاستشفاء به،
وإذا أحسن العليل التداوي به، ووضعه على دائه بصدق وإيمان وقبول تام،
واعتقاد جازم، واستيفاء شروط لم يقاومه الداء أبدا.
وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء الذي لو نزل على الجبال لصدعها،
أو على الأرض لقطعها؟!؛ فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان، إلا وفي
القرآن سبيل الدلالة على دوائه سببه، والحمية منه لمن رزقه الله فهما في
كتابه (3).
وأما الأدوية القلبية، فإنه يذكرها مفصلة، ويذكر أسباب أدوائها وعلاجها،
قال: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ
عَلَيْهِمْ} [سورة العنكبوت: 51]، فمن لم يشفه القرآن فلا شفاه الله، ومن
لم يكفه فلا كفاه الله (4).
شأن فاتحة الكتاب:
وقال رحمه الله أيضا: "ومن المعلوم أن بعض الكلام له خواص ومنافع مجربة،
فما الظن بكلام ربا لعالمين الذي فضله على كل كلام كفضل الله على خلقه،
الذي هو الشفاء التام، والعصمة النافعة، النور الهادي، والرحمة العامة، لو
أنزل على جبل لتصدع من عظمته وجلالته، وما الظن بفاتحة الكتاب التي لم ينزل
في القرآن، ولا في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور مثلا المتضمنة
لجميع معاني كتاب الله، المشتملة على ذكر أصول أسماء الرب -تعالى-
ومجامعها، وهي: الله والرب، والرحمن وإثبات المعاد، وذكر توحيديين: توحيد
الربوبية وتوحيد الإلوهية، وذكر الافتقار إلى الرب سبحانه في طلب الإ أنه
وطلب الهداية، وتخصيصه سبحانه بذلك وذكر أفضل الدعاء على الإطلاق وأنفعه
وأفرضه وما العباد أحوج شيء إليه وهو الهداية غلى صراط المستقيم، المتضمن
كمال معرفته وتوحيده وعبادته، بفعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه،
والاستقامة عليه إلى الممات.
وتتضمن ذكر أوصاف الخلائق وأقسامهم إلى منعم عليه بمعرفة الحق والعمل به
ومحبته وإيثاره، ومغضوب عليه بعدوله عن الحق بعد معرفته له، وضال بعدم
معرفته له، وهؤلاء أقسام الخليقة.
مع تضمنها لإثبات القدر و الشرع والأسماء والصفات والمعاد والنبوات وتزكية
النفوس وإصلاح القلوب، وذكر عدل الله وإحسانه، والرد على جميع أهل البدع
والباطل.
وحقيق بسورة هذا بعض شأنها أن يستشفى بها من الأدواء ويرقى بها من اللديغ.
وبالجملة فما تضمنته الفاتحة من إخلاص العبودية والثناء على الله، وتفويض
الأمر كله إليه، والاستعانة به والتوكل عليه، وسؤال مجامع النعم كلها، وهي
الهداية التي تجلب النعم وتدفع النقم، من أعظم الأدوية الشافية الكافية.
وقد قيل: إن موضع الرقية منها: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}
ولا ريب أن هاتين الكلمتين من أقوى أجزاء هذا الدواء فإن فيهما من عموم
التفويض والتوكل والالتجاء والاستعانة، والافتقار والطلب، والجمع بين أعلى
الغايات وهي عبادة الرب وحده وأشرف الوسائل وهي الاستعانة به على عبادته ما
ليس في غيرها.
قراءة الفاتحة على ماء زمزم:
ولقد مر بي وقت بمكة سقمت فيه وفقدت الطبيب والدواء فكنت أتعالج بها آخذ
شربة من ماء زمزم، وأقرؤها عليها مرارا ثم أشربه، فوجدت بذلك البرء التام،
ثم صرت أعتمد ذلك عند كثير من الأوجاع، فأنتفع بها غاية الانتفاع (5).
في اشتمال الفاتحة على الشفاءين:
شفاء القلوب وشفاء الأبدان..
أولا: تضمنها لشفاء القلوب:
قال رحمه الله: فأما اشتمالها على شفاء القلوب فإنها اشتملت عليه أتم
اشتمال، فإن مدار اعتلال القلوب وأسقامها على أصلين؛ فساد العلم وفساد
القصد. ويترتب عليهما داءان قاتلان: وهما الضلال والغضب فالضلال نتيجة فساد
العلم، والغضب نتيجة فساد القصد وهذان المرضان هما ملاك أمراض القلوب
جميعها.
فهداية الصراط المستقيم: تتضمن الشفاء عن مرض الضلال، ولذلك كان سؤال هذه
الهداية: أفرض دعاء على كل عبد، وأوجبه عليه كل يوم وليلة في كل صلاة ،
لشدة ضرورته وفاقته إلى الهداية المطلوبة ولا يقوم غير هذا السؤال مقامه.
والتحقق بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} علما ومعرفة، وعملا وحالا:
يتضمن الشفاء من مرض فساد القلب والقصد، فإن هذا الدواء مركب من ستة أجزاء:
1- عبودية الله لا غيره.
2- بأمره وشرعه.
3- لا بالهوى.
4- ولا بآراء الرجال وأوضاعهم ورسومهم وأفكارهم.
5- بالاستعانة على عبوديته به.
6- لا بنفس العبد وقوته وحوله ولا بغيره.
فهذه هي أجزاء {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فإذا ركبها
الطبيب اللطيف العالم بالمرض، واستعملها المريض حصل بها الشفاء التام، وما
نقص من الشفاء فهو لفوات جزء من أجزائها.
مرض الرياء والكبر:
ثم إن القلب يعرض له مرضان عظيمان، إن لم يتداركهما العبد تراميا به إلى التلف ولابد وهما : الرياء والكبر.
فدواء الرياء بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ودواء الكبر بـ {إِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ}، فإذا عوفي من مرض الرياء بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ومن مرض
الكبرياء والعجب بـ {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، ومن مرض الضلال والجهل بـ
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} عوفي من أمراضه وأسقامه، ورفل في
أثواب العافية، وتمت عليه النعمة، وكان من المنعم عليه {غَيْرِ
الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} وهم أهل فساد القصد الذين عرفوا الحق وعدلوا عنه
{وَلَا الضَّالِّينَ} وهم أهل فساد العلم الذين جهلوا الحق ولم يعرفوه.
وحق لسورة تشتمل على هذين الشفاءين: أن يستشفى بها من كل مرض ولهذا لما
اشتملت على هذا الشفاء -شفاء القلوب- الذي هو أعظم الشفاءين، كان حصول
الشفاء الأدنى بها أولى كما سنبينه.
ثانيا: تضمنها لشفاء الأبدان:
فأما تضمنها لشفاء الأبدان، فنذكر منها ما جاءت به السنة، وما شهدته به قواعد الطب، وما دلت عليه التجربة.
أولا: ما دلت عليه السنة على الانتفاع بالفاتحة:
فأما ما دلت عليه السنة: ففي الصحيح من حديث أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري «أن ناسا من أصحاب النبي [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] أتوا على حي من أحياء العرب فلم يقروهم، فبينما هم كذلك، إذ لدغ سيد أولئك...» [رواه البخاري].
فقد تضمن هذا الحديث حصول شفاء هذا اللديغ بقراءة الفاتحة عليه ، فأغنته عن
الدواء، وربما بلغت في شفائه ما لم يبلغه الدواء هذا مع كون المحل غير
قابل؛ إما لكون هؤلاء الحي غير مسلمين، أو أهل بخل ولؤم، فكيف إذا كان
المحل قابلا؟!
ثانيا: شهادة قواعد الطب على الانتفاع بالفاتحة:
وأما شهادة قواعد الطب بذلك: فاعلم أن اللدغة تكون من ذوات الحمات والسموم،
وهي ذوات الأنفس الخبيثة التي تتكيف بكيفية غضبية، تثير فيها سمية نارية
يحصل بها اللدغ، وهي متفاوتة بحسب تفاوت خبث تلك النفوس وقوتها وكيفيتها،
فإذا تكيفت أنفسها الخبيثة بتلك الكيفية الغضبية أحدث لها ذلك طبيعة سمية،
تجد راحة ولذة في إلقائها إلى المحل القابل. كما يجد الشرير من الناس راحة
ولذة في إيصال شره إلى من يوصله إليه.
وكثير من الناس لا يهنأ له عيش في يوم لا يؤذي فيه أحد من بني جنسه، ويجد
في نفسه تأذيا يحمل تلك السمية والشر الذي فيه حتى يفرغه في غيره، فيبرد
عند ذلك أنينه وتسكن نفسه ويصيبه في ذلك نظير ما يصيب من اشتدت شهوته إلى
الجماع، فيسوء خلقه، وتثقل نفسه حتى يقضي وطره، هذا قوة الشهوة، وذاك في
قوة الغضب، والمقصود أن هذه النفوس الغضية إذا اتصلت بالمحل القابل أثرت
فيه ، ومنها ما يؤثر في المحل لمجرد مقابلته له وإن لم يمسه، ومنها ما يطمس
البصر ويسقط الحبل.
كيفية إصابة العين:
ومن هذا نظر العائن ، فإنه إذا وقع بصره على المعين، حدثت في نفسه كيفية
سمية أثرت في المعين بحسب عدم استعداده، وكونه أعزل من السلاح، ويحسب قوة
تلك النفس.
وكثير من هذه النفوس يؤثر في المعين إذا وصف له فتتكيف نفسه وتقابله على
بالبعد،ت فيتأثر به، ومنكر هذا ليس معدودا من بني آدم غلا بالصورة والشكل.
كيفية تأثير الفاتحة في النفوس الخبيثة:
فإذا قابلت النفس الزكية العلوية الشريفة التي فيها غضب وحمية للحق هذا
النفوس الخبيث السمية، وتكيفت بحقائق الفاتحة وأسرارها ومعانيها، وما
تضمنته من التوحيد والتوكل والثناء على الله وذكر أصول أسماءه الحسنى، وذكر
اسمه الذي ما ذكر على شر إلا أزاله ومحقه ولا على خير إلا نماه وزاده،
دفعت هذه النفس بما تكيفت به من ذلك أثر تلك النفس الخبيثة الشيطانية فحصل
البرء. فإن مبنى الشفاء والبرء على دفع الضد بضده، وحفظ الشيء بمثله فالصحة
تحفظ بالمثل، والمرض يدفع بالضد؛ أسبابٌ ربطها بمسبباتها الحكيم العليم
خلقا وأمرا ولا يتم هذا إلا بقوة من النفس الفاعلة وقبول من الطبيعة
المنفعلة، فلو لم تنفع نفس الملدوغ لقبول الرقية، ولم تقو نفس الراقي على
التأثير لم يحصل البرء؛ فهناك أمور ثلاثة:
1- موافقة الدواء للداء.
2- وبذل الطبيب له.
3- وقبول طبيعة العليل.
فمتى تخلف واحد منها لم يحصل الشفاء، وإذا اجتمعت حصل الشفاء ولابد بإذن الله تعالى.
ومن عرف هذا كما ينبغي تبين له أسرار الرقي، وميز بين النافع منها وغيره
ورقي الداء بما يناسبه من الرقي، وتبين له أن الرقية براقيها وقبول المحل،
كما أن السيف بضاربة مع قبول المحل للقطع، وهذه إشارة مصلعة على ما وراءها
لمن دق نظرة وحسن تأمله، والله أعلم.
ثالثا: دلالة التجارب على الانتفاع بالفاتحة:
وأما شهادة التجارب بذلك فهي أكثر من أن تذكر وذلك في كل زمان وقد جربت أن
من ذلك في نفسي وفي غيري أمورا عجيبة، ولا سيما مدة المقام بمكة، فإنه كان
بعرض لي آلام مزعجة، بحيث تكاد تقطع الحركة مني، وذلك في أثناء الطواف
وغيره. فأبادر إلى قراءة الفاتحة، وأمسح بها على محل الألم، فكأنه حصاة
تسقط، جربت ذلك مرارا عديدة، وكانت أخذ قدحا من ماء زمزم، فأقرأ عليه
الفاتحة مرارا فأشربه، فأجد به من النفع والقوة ما لم أعهد مثله في الدواء،
والأمر أعظم من ذلك ولكن بحسب قوة الإيمان وصحة اليقين، والله المستعان.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(1) ما به من قلبه : أي من داء.
(2) الداء والدواء ص (6-8).
(3) وهذا رد على كثير من الأطباء لنفسيين المنتشرين اليوم، والذين يرون أن
القرآن وحده لا يكفي وإنما لابد من الأدوية الأخرى. والصواب في ذلك أن
القرآن كاف في شفاء جميع الأدواء بالشروط التي ذكرها الإمام ابن القيم
-رحمه الله- ولا يمنع ذلك من استخدام الأدوية المباحة الأخرى والذهاب إلى
الأطباء والعمل بنصائحهم.
(4) زاد المعاد ( 4/352).
(5) زاد المعاد (4/176،177).
(6) زاد المعاد ( 1/ 76-80) بشيء من الاختصار.