الديمقراطية
من اليونان الى ديمقراطية الانترنت
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
لاشك ان عصرنا في كل عشر سنوات تطلق عليه صفة تسمه بسمة معينة فهو عصر الكهرباء وعصر النفط وعصر الذرة وعصر القلق وعصر الحروب العالمية وعصر غزو الفضاء وصولا الى عصر الجينوم البشري والهندسة الوراثية والاستنساخ وعصر العولمة واخيرا عصر الانترنت ، وكل يوم نجد اكتشافا خارقا يدعونا لان ندعو عصرنا به، واليوم فإن عصرنا لايمكن ان نهمل اهم صفة سياسية واجتماعية للنظام العالمي الجديد فيه الا وهي صفة الديمقراطية خاصة وان هناك من الباحثين من يعدّ النظام السياسي للديمقراطية الليبرالية هو نهاية التاريخ مثل فوكوياما وآخر يتحدث عن ان صراع حضارة الديمقراطية الغربية مع نظام الاسلام السياسي سيكون حتما صراعا تنتصر فيه الحضارة الغربية بنظامها الليبرالي الديمقراطي .
ان النظام الديكتاتوري الشمولي اخذ يغادر العالم خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وتوزع دوله الى ما نشاهده اليوم ، وخلال عقد التسعينات من القرن العشرين تحولت اكثر من خمسين دولة في العالم الى النظام الديمقراطي وتشمل دولا من مختلف القارات كاوربا الشرقية وآسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية بل ان الاتحاد السوفيتي نفسه لم يكتف بالتحول عن الشيوعية فقط، بل اخذ يمارس الديمقراطية في شكلها الجديد سواء على المستوى الاقتصادي او الاجتماعي مع وجود حزب شيوعي له اكثرية برلمانية معروفة .
ان الدعوة الى الديمقراطية بدأت تأخذ وجها آخر لم يكن لها من قبل؛ ألا وهو الفرض من الخارج على النظم الديكتاتورية وتغييرها بالقوة استنادا الى معطيات دولية معينة منها الدفاع عن حقوق الانسان واتفاقيات الامم المتحدة الخاصة بها ومنها محاربة الارهاب الدولي ومبررات واسباب بعضها حقيقي وبعضها مفتعل لأغراض أخرى غير المعلنة، ولكن شعار الديمقراطية هو المرفوع عليها أي على تلك السياسة، وبغض النظر عن المصداقيات فلا يمكن انكار حقيقة ان الديمقراطية شعار مرفوع ويطالب به كل من اراد ان ينظم الى بعض الاتفاقيات الدولية او الاتحادات كما هو الحاصل مثلا مع تركيا في محاولتها الانضمام الى الاتحاد الاوربي .
ان المجتمع الدولي وهو يتحول الى العالم الجديد الذي تتحكم فيه معطيات العولمة بكل معانيها اصبح يضع شروطا لقبول الدول في النادي الخاص به الذي يجب ان يشمل كل من يسكن على هذه الارض، ولذا فيجب على الدول ان تتكيف مع مواثيق ومعاهدات واتفاقيات الامم المتحدة والا فانها ستطرد من المجتمع الدولي وتعدّ غير شرعية وستحارب بمختلف الطرق الاقتصادية والسياسية وحتى العسكرية اذا ما حاولت مثلا ان تمتلك اسلحة دمار شامل او تصنع اسلحة ممنوعة في اتفاقيات الدول الكبرى او ما شابه ذلك.
لقد غزت أمريكا أفغانستان باسم محاربة الإرهاب ولاتهامها بإيواء منظمة القاعدة التي المتهمة باحداث 11سبتمبر –وها هي اليوم تغزو العراق محررة ثم تعلن عن احتلالها له لفرض نظام ديمقراطي ينسجم مع معطيات العصر وتقول انها ستبني عراقا جديدا يعدّ نموذجا لدول المنطقة كلها التي وضعت لها سياسة للتغيير على مراحل لكي تؤهلها ديمقراطيا للعصر الجديد ولكي تقضي على مكامن الارهاب الدولي التي تتهمها بها، فإيران على الخارطة الجديدة وسوريا على الخارطة وكل دول المنطقة، كما انها من جهة اخرى تحاول ان تدجن كوريا الشمالية من خلال نزع سلاحها النووي الذي يخيفها.
ان مجموعة معطيات اخذت مجالها في الفكر السياسي اليوم جعلت من العراق الساحة التي تريد امريكا ان تروجها كنموذج للديمقراطية في المنطقة فهل تراها ستنجح في ذلك بعد اقدامها ونجاحها في الخطوة الاولى الا وهي اسقاط النظام السابق الذي اتهمته بامتلاك وتصنيع اسلحة الدمار الشامل بل واستعماله لهذا السلاح حتى على ابناء شعبه…؟
ان العراق لم يمارس الديمقراطية في تاريخه السياسي الا لمدة قصيرة في ظل الحكم الملكي وكانت هذه التجربة عليها مؤاخذات كثيرة أفقدتها المعنى الديمقراطي الحقيقي، كما ان العراق لم يتحول الى الديمقراطية عبر تغيير ثوري او انقلاب داخلي على النظام السابق بل هو يتحول تحت إشراف قوة احتلال أمريكية مما يطرح تساؤلات حقيقية عن إمكانية الديمقراطية في ظل الاحتلال وإمكانيات ممارسة الحرية في ظل السلطة المقيدة وقد يستشهد لوجهة النظر الامريكية لمثل هذه الحالة بما فعلته باليابان بعد احتلالها وما فعلت بكوريا الجنوبية وحتى بألمانيا على انه على الرغم من التشابه الشكلي في الممارستين في الذهنية السياسية الأمريكية الا ان هناك ميزات واختلافات وخصوصيات للعراق شعبا وجغرافية وثروة يختلف بها عن هذه النماذج مع ملاحظة طابع العصر اليوم عنه في منتصف القرن الماضي .
ان شعب العراق شعب مسلم حيث يذكر ببعض الإحصاءات ان 97% منه على دين واحد والإسلام اليوم متهم بالإرهاب ومساحة المسلمين في العالم الذين يتعاطفون مع هذا الشعب مساحة كبيرة وموقع العراق الجغرافي في وسط حيوي جدا في السياسة الدولية فحوله دول مختلفة منها تناصب العداء لأمريكا ومنها متهمة بالإرهاب كما ان منها ما هو متعامل معها وعضو في بعض منتدياتها العسكرية وللدول الغربية الأخرى مصالح عديدة في العراق وما حوله مما قد يخلق وضعا متوترا فيه، وكذلك فان في العراق ثروة يسيل لها لعاب الدول الكبرى هي النفط والذي هو ليس ثروة اقتصادية فقط وانما أداة سيطرة وقوة تحكم أيضا واذا أضفنا الى هذا خصوصية العقلية السياسية في العراق التي تتميز بالخضوع لفترة طويلة لتثقيف أحادى الاتجاه وصلب التحيز حتى أصبحت عقلية مغلقة على آرائها التي تعتقد بها كما ان طبيعة الشخصية العراقية قد استلبت نفسيا وفكريا وثقافيا عبر أيديولوجيا دامغة للآخر وغير معترفة به مما يشكل صعوبة استثنائية على الممارسة الديمقراطية المرنة التي تقوم أساسا على الاعتراف بحق الاختلاف..
ان كل ما تقدم يجعل الممارسة الديمقراطية في العراق على المستوى الشعبي اقرب الى المستحيل منه الى الممكن فكيف ستكون الديمقراطية العراقية امام تحدي العلمانية لشعب مسلم؟ وكيف ستكون الديمقراطية الفدرالية عبر قوميتين واثنيات اخرى قامت بينهما حروب؟ مما يطرح مسألة خطورة التقسيم وهو ما تعارضه حتى الدول المجاورة لخوفها من انسحاب الموقف على شعبها كما ان هذه الفدرالية قد تقود الى قيام دولة شيعية في الجنوب لأكثرية هذه الطائفة فيها وهو من المستحيلات امريكيا رغم انف الديمقراطية ومبادئها، ترى فما هي مقومات الديمقراطية عراقيا اذا لم تكن علمانية ولا فدرالية؟ واي معنى لرأي الشعب في نظامه الذي سيدلي برأيه فيه عبر الدستور الجديد؟ وهل ستوافق القومية الكردية على التراجع عن المضمون الفدرالي الذي تعلنه في كل وسائلها الرسمية والإعلامية؟ وكيف ستتصرف اذا كان الاستفتاء فرضا جاء لغير صالح الفدرالية وهو رأي ديمقراطي لا ينازع؟
من كل ما تقدم نجد ان الديمقراطية كمفهوم وممارسة، كنظرية وتطبيق تحتاج إلى ابتكار صيغ جديدة تناسب الواقع العراقي الجديد ويجب على هذه الديمقراطية ان تناسب الجسد العراقي وهو ما رأيناه في كثير من شعوب دول العالم الثالث التي انطلقت الى الديمقراطية بخصوصياتها القومية والشعبية وحتى الفولكلورية حيث وظفت حتى المجتمعات القبائلية والعشائرية بهياكلها التنظيمية فجعلتها ضمن ديمقراطيتها كخصوصية وطنية لها وهو ما لم يعترض عليه حتى امريكيا فهناك تجارب يمكن الاستفادة منها في هذا المجال فما دامت الديمقراطية منهجا مفتوحا على المستجدات – وهذا سبب نجاحها تاريخيا – فانها تستوعب الإنسانية جمعاء على ان تكون بلا وصاية خارجية ولا احتلال أجنبي طويل الأمد فهل ترى سينجح العراق في تجربته هذه ام لا؟
ان هذا الكتيب يطرح احدث المعلومات عن الديمقراطية في عصر العولمة والإنترنت وما يسمى النتوقراطية او ديمقراطية الإنترنت ويتحدث عن تحديات الديمقراطية ليس في العالم الثالث فقط وانما في امريكا واوربا ايضا ويصف محاولات شحن الديمقراطية الامريكية بقوة دفع عن طريق احياء مؤسسات المجتمع المدني التي أخذت تتآكل وتفرغ من معناها بعد طول ممارسة كما ان البحث عن المعنى للحياة خارج المفهوم الديني ما زال يؤثر سلبا في المجتمع الأمريكي مما جعل بعض علماء الاجتماع يطالب بعودة جديدة الى القيم الدينية لخلق إسناد أخلاقي للمجتمع في القرن الحادي والعشرين، أما فوكوياما الذي ما زال يعتقد بصدق نظريته في نهاية التاريخ فقد ظهرت انتقادات للديمقراطية الليبرالية التي يؤمن بها وضعتها امام احتمال تجاوزها الى ديمقراطية الانترنت والتي هي الديمقراطية المباشرة لكل الشعب كذلك ظهرت تحديات امام الديمقراطية الاوربية جعلها تختار التركيز على الجانب الاقتصادي للديمقراطية حتى وصفت بالاشتراكية الديمقراطية كما هو الحال في فرنسا والمانيا وبريطانيا مما عزز فكرة الطريق الثالث للديمقراطية وهو بين الليبرالية والاشتراكية، وسيتبع هذا الكتيب كتيب آخر عن اشكالية العلاقة بين الاسلام والديمقراطية ثم يتبعه آخر عن العراق الديمقراطي اسلاميا وليبراليا وعسى ان تكون هذه الكتيبات مساعدة للقاريء العراقي خصوصا لكي يفهم حقيقة الديمقراطية نظريا قبل ان يمارسها تطبيقيا .
واخيرا فان مصادر هذه الدراسات الثلاث كان الانترنت في اكثر من 90% منه وخاصة عروض الكتب الجديدة الصادرة في العالم الغربي خاصة والمترجمة الى اللغة العربية والتي لم يحتفل بها السوق العراقي بعد وقد كانت طريقة العرض ذات طابع وصفي لا نقدي ولا تحليلي من باب اننا نعرض لما كتب كما هو سوى رأي المؤلفين والكتّاب انفسهم في ما يطرحونه من انتقادات.
شيء عن المصطلح والتعريف
لا شك أن كلمة الديمقراطية من اكثر الكلمات غموضا وشيوعا في التداول الثقافي والشعبي وكما قال عالم السياسة بيرنارد كريك (إن كلمة الديمقراطية هي اكثر الكلمات اضطرابا وغموضا فهي مصطلح قد يعني شيئا بالنسبة لكل شخص بحيث تكون هناك خطورة بأن تصبح الديمقراطية كلمة بدون معنى) وإذا كانت الديمقراطية لغة تعني حكم الشعب نفسه بنفسه وكانت هذه الكلمة قد ظهرت في العصر اليوناني لوصف نظام سياسي واستمرت اكثر من قرنين من الزمان ثم اختفت إلا أنها عادت وظهرت مع الثورة الفرنسية عام 1789ميلادية إلا أن مفهومها عبر هذه السنوات العديدة قد دخلت عليه إضافات تتناسب وتطور المجتمعات التي تطبقها مما ادخل الغموض والتنوع اللانهائي على معناها حتى نرى الدكتور سمير أمين يقول عنها ( ليس مفهوم الديمقراطية مفهوما علميا يمكن بالتالي تعريفه تعريفا وحيدا دقيقا لا يقبل المناقشة والشك، بل كلمة الديمقراطية هي مجرد تعبير لغوي مائع يتغير بتغير المتحدث والظروف ورغم ذلك فالإنسان – أي إنسان- يحس تماما إذا كان المجتمع المعين الذي يعيش فيه (ديمقراطيا) حسب رأيه أم غير ديمقراطي، وينطبق ذلك على الفلاح الأمي كما ينطبق على المثقف المتغرب ولكن مفهوم الفلاح لماهية الديمقراطية أو عدمها قد يختلف عن مفهوم المثقف – أزمة المجتمع العربي ص135)
لقد وصل الخلاف إلى الاختلاف حتى على الكلمة والمعنى في النقاشات التي تدور في العقل الأوربي ذاته حتى ادخلها الكاتب روبرت هـ ثاولس في باب التفكير الأعوج حيث قال (إن النزاع اللفظي قد يكون حول كلمة –الديمقراطية- في حين أن النزاع الحقيقي يكون حول الديمقراطية، أي حول نظم الحكم التي هي مدلول كلمة – الديمقراطية، وإذا كنا نظن أننا نتناقش عن الديمقراطية في حين أن موضع الخلاف في الحقيقة هو على كلمة الديمقراطية فإننا نكون في ذلك قد خلطنا في الأمر وحسبنا خطأ النزاع اللفظي بأنه نزاع واقعي – ص90 التفكير المستقيم والتفكير الأعوج).
وهكذا نرى أن الديمقراطية كما يقول علي المؤمن في بحث له عبر الإنترنت مفهوم- فضفاض ساهم في إثرائه عبر عقود طويلة من الزمن كثير من المفكرين السياسيين كل حسب نظرته لهذا المفهوم فجاء إطارا كبيرا يجمع في داخله العديد من التيارات الفكرية التي تتفق على بعض الخطوط العامة وتختلف في معظم التفاصيل بيد أن الديمقراطية تبلورت بمرور الزمن في الديمقراطيات الحديثة المطبقة –بشكل أو بآخر- في الغرب وعرفت بالديمقراطية التقليدية الغربية- .
لقد كان جان جاك روسو قد تحدث عن أن الديمقراطية مستحيل تطبيقها بدقة وقال إنها لم توجد ولن توجد أبدا بعد أن وصفها بالمثالية وانه لو كان هناك شعب من الآلهة لحكم نفسه بطريقة ديمقراطية لان هذا النوع من الحكم –كما يقول- بلغ حد الكمال لا يصلح للبشر ويقول ( إذا أخذنا عبارة الديمقراطية بكل معناها الدقيق نجد أن الديمقراطية لم توجد أبدا ولن توجد أبدا فمما يخالف النظام الطبيعي أن يحكم العدد الأكبر وان يكون العدد الأصغر هو المحكوم ولا يمكن أن نتصور بقاء الشعب مجتمعا على الدوام للنظر في الشؤون العامة ونستطيع أن نرى بسهولة انه لا يمكن إقامة لجان من اجل ذلك دون تغيير في شكل الإدارة ) أي أن الديمقراطية المباشرة كانت مستحيلة التصور حتى في عقل جان جاك روسو وهكذا تحولت الديمقراطية إلى ديمقراطية غير مباشرة عبر الأسلوب التمثيلي والبرلماني .
لاشك أن الديمقراطية كما يقول أحد الكتاب (عملية متعددة الأوجه ذات أبعاد متشابكة سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية جوهرها توسيع دائرة المشاركة الشعبية في اتخاذ القرارات والرقابة الفاعلة على تنفيذها وذلك على جميع المستويات وفي مختلف الميادين لكنها لن تتجسد حقوقيا ومؤسسيا إلا حين تجد فيها أوسع قطاعات الشعب مصلحتها فتطالب بها وتعمل على تحقيقها وصيانتها لذلك يكون من الوهم الاعتقاد بان الحريات والديمقراطية تأتي هبة من الحاكم أو تفرض فرضا من خارج المجتمع – ص6 الثقافة الجديدة ع303-2001), .
واليوم ونتيجة لكثرة المستجدات على الممارسة الديمقراطية عموما وفي العالم الثالث خصوصا وتركيزا لهذا المفهوم على خصائص معينة لتحديده وجدنا مكتب البيت الأبيض عام 1993يحدد خمس مبادئ أساسية يمكن من خلالها الحكم على الديمقراطية في أي مجتمع ، هذه الخصائص هي حرية الانتخابات ونزاهتها، حقوق المعارضين السياسيين في العمل بحرية كاملة، وضع قيود على السلطات التعسفية للدولة وبخاصة أعمال القبض والاحتجاز والتعذيب ضمن أشياء أخرى، وحقوق المواطنين في التنظيم في اقليات في العمل او حول اهتمامات اخرى وقضاء مستقل للرقابة على سلطة الدولة، واكد المكتب على انه فيما يتجاوز هذه النقاط فان هناك مجالا كبيرا لاختلاف التطبيقات الديمقراطية...
وعلى الرغم من أننا في الوطن العربي نكاد لا نجد حزبا يساريا أو محافظا أو قوميا أو اشتراكيا وحتى ماركسيا إلا ويستخدم في أهدافه لفظ الديمقراطية كشعار إلا أننا بالمقابل لا نكاد نجد نظاما واحدا يطبق مفاهيم الديمقراطية الحقيقية في مجتمعه وهذا ما ادخل كثيرا من التشوهات على مفهوم الديمقراطية ذلك الشعار الفضفاض غير المحدد حتى وصل القول إلى أن الديمقراطية غير صالحة لهذه البلدان لاسباب عديدة لعل أولها عدم فهم حقيقة الديمقراطية وآخرها عدم الإيمان بها حقيقة لأنها كما تقول بعض الأحزاب الدينية بضاعة غربية استعمارية فهي كفر على وفق قناعاتهم؛ فهل الديمقراطية حقا لا تصلح للمجتمعات الدينية وكيف تعاملت مع المسيحية التي كانت تحكم البلاد قبل وجودها وكيف تفهمت المسيحية الديمقراطية وتعاملت معها ؟
الديمقراطية والمسيحية:
حينما افتقد الغرب المفاهيم الميتافيزيقية الغيبية للدين نتيجة تعلقه بالعلوم الطبيعية وما توصلت إليه من حقائق علمية، وفي نفس الوقت مارس السلوك الديمقراطي حتى أصبحت حياته عبر السنين الماضية مطبوعة بالطابع الديمقراطي هذا، لم يكن يفتقد لمعالجة آلامه النفسية إلا البعد الديني الروحي العميق الذي كانت المسيحية قد استوعبت فيه كل آلام البشر ومعاناتهم، ولما كانت المسيحية قد تحولت بفعل الديمقراطية إلى أخلاقيات سلوكية فقط متناسية الجانب الروحي الغيبي حيث اصبح الطلاق واقعا بين الكنيسة والسياسة فقد أصبحت النفسية الغربية بحاجة إلى سلم جديد للقيم يكون مرجعا لتقويم السلوك الأخلاقي الديمقراطي في ضوئها، من هنا طرحت مفردات المواطنة والسلوك الحضاري للتعبير عن هذه المرجعية بما تعنيه من مضامين ديمقراطية تجعل الحقوق الفردية في حدودها المعينة، وهكذا وجدنا أن السلوك الحضاري بهذه المعاني يسمح للأخلاق الحميدة التي يعبر عنها بالمجاملة بحيث يمكن قيام تعاون بين أشخاص ذوي نزعات مختلفة ومتعادية على الأغلب فالمجاملة ضمن المفهوم الديمقراطي هي سلوك حضاري يسمح بعمل المتخاصمين في هيئات تشريعية تمارس سياسة مصلحة خاصة من دون حصول خلافات [تقاطعات سلبية] فالمجاملة تسمح هنا بتحقيق الأغراض الخاصة لبعض الأشخاص من دون أن يكون هناك اتفاق بين الجميع وبالرغم من عدم توافقهم يظل الأفراد المتنافسون على علاقات ودية بعضهم ببعض أي أن السلوك الحضاري وفق المنهج الديمقراطي يتكون قبل كل شيء من الأخلاق الحميدة حيث تقول القاعدة الأولى فيه : كل عمل تقوم به في الرفقة يجب أن يكون في نفس الاحترام لأولئك الآخرين وكان جورج واشنطن يؤكد على مفهوم الضمير وهو يثقف المجتمع الأمريكي على الديمقراطية حيث كان يقول ( اعمل على أن تبقي في صدرك تلك الشرارة الصغيرة من النار السماوية التي تدعى الضمير) كما كان يؤكد على أن يكون السلوك الحضاري (نوعا من الشرف أو الاهتمام بالشرف، والشرف من دون مبادئ سيكون عارا أما الشرف الحقيقي فيكمن في القيام بالأعمال العادلة النبيلة حبا بها لذاتها وليس من اجل أي مكافآت عرضية غير ذات قيمة –ص84-السلوك الحضاري والمواطنة).
لقد امتدت الممارسة الديمقراطية إلى مساحة كبيرة من العالم كما امتدت إلى مساحة كبيرة من الفكر حتى تحولت إلى أشبه ما يكون بديانة للعالم الغربي الذي حلت له الديمقراطية في عصر النهضة والتنوير مشكلة الطائفية المسيحية من بروتستانتية وكالفنية وكاثوليكية وغيرها، لقد وصف القرن العشرون من قبل كثير من الفلاسفة بانه قرن القلق بسبب غياب الروح الدينية التي تشفي النفوس وتملأ الروح بالمعاني الميتافيزيقية الغيبية حتى قال عنها بريتون يصفها في كتابه تشكيل العقل الحديث ( أن المعتقدات الجديدة يعوزها الثراء والعمق في إدراك حقيقة البشر الموجودان في الديانات القديمة ومن ثم نراها عاجزة عن حل مشكلة الإنسان حين تحدق به الشدائد فلا تمنحه السلوى والعزاء مثل الديانات القديمة حيث أن البشرية حتى في الغرب لم تقو على تبني النظرة المأساوية من دون عون عقيدة ذاتية غيبية، ولهذا يتعين على الديمقراطية أن تهتدي بصورة ما إلى سبيل لشفاء النفس إذا لم يكن لزاما عليها أن تعود إلى المسيحية وهذا ما يريده الكثيرون اليوم –ص387 تشكيل العقل الحديث).
وتظهر الروح المسيحية الدينية كحقيقة حينما نرجع إلى تأكيد العلماء أن ثمة شيئا لا يتغير أبدا ليس شيئا من التاريخ ولكنه لا يزال بعضا منا ولكن يبدو واضحا أننا معشر البشر نتشبث باليقين فأولئك الذين أضاعوا اليقين المسيحي حاولوا على الفور البحث عن يقين علمي أو يقين تاريخي أو أي يقين يكتشفونه في أي مكان، ونحن-كما يقول العلماء- نتشبث بالعلم الكامل الشامل الذي يحيط بكل شيء كصنو لليقين، ننشد قوة عليمة تحيط بكل شيء علما إن لم يكن الله ويؤكد البعض أيضا أن أهل الديمقراطية التشاؤمية إذا ارتابوا في النزعة النسبية الكاملة والمطلقة فيما يتعلق بالقيم فسوف يكون عسيرا اشد العسر إقامة مثل هذه الديمقراطية في عصرنا ، ويصلون إلى القول إذا كان لابد من دين جديد فان التاريخ الغربي كله يوحي بان هذا الدين لن يأتي على يد المفكرين بل عن طريق مصدر آخر أكثر تواضعا وانه سيكون ولو إلى حين على الأقل أمرا شديد العسر على نفوس المفكرين الرسميين ، ويصل العلماء إلى القول ( إن الديمقراطية المثالية أي ديمقراطية مؤمنة (بالمعنى السامي للعقيدة الدينية) قد تكون أمرا ممكنا على الرغم من أن ديمقراطية كهذه قد يكون عسيرا عليها أن تلائم إرثها الدنيوي والعلمي مع العقيدة الأخروية -ص387 ن م).
إن المفاهيم التي طرحت السلوك الحضاري للديمقراطية قد حاولت هضم المفاهيم المسيحية وتوظيفها لحسابها من دون البعد الغيبي والروحي لها وانما لضبط السلوك الإنساني المطلوب للديمقراطية، ونقطة الانطلاق في المفهوم الديمقراطي للسلوك الحضاري هذا يذهب إلى التبرير التالي (السلوك الحضاري المبني على فصل الكنيسة عن الدولة يعني بأن الوحي لا يطبق بالقوة ليبطل احتجاجات العقل البشري، كما يعني أن لا يجبر العقل على إصدار أحكام على ادعاءات الوحي، وهكذا تؤكد حدود الحكمة البشرية عدالة الحكومة المحدودة والمواطنة وسلوكها الحضاري –ص87 السلوك الحضاري والمواطنة).
إن المفهوم العلماني للديمقراطية والفصل بين الكنيسة والدولة في رأي الديمقراطيين ( لا يجب أن يعني فصل الأخلاق عن السياسة أو القيم عن الوقائع، بل يجب أن يعني انه يوحد الأخلاق المدينية والتعليم الأخلاقي للدين من خلال كلمة الضمير) بل ان المفهوم الديمقراطي للسلوك الحضاري يذهب إلى ان هناك حق اسمه حق الضمير حيث انه (لا يمكنه –حق الضمير- ان يأمر بأي أمر مناقض للقانون الطبيعي فحق الضمير نفسه هو أحد حقوق الإنسان الطبيعية ولابد ان يمارس على نحو يتناسق مع باقي الحقوق) لقد كان جورج واشنطن يذهب إلى ان الدين والأخلاق ليسا مجرد وسائل للازدهار السياسي فقط انهما العمودان العظيمان للسعادة البشرية والسعادة شرط او نشاط تستدعيهما الأخلاق والدين ومن دونهما لن يكون الإنسان سعيدا سعادة حقة مع انه يسلم بان تأثير التعليم المهذب على العقول بنية معينة قد يسمح للأخلاق وحدها في ان تكون كافية في حالات قليلة جدا، ويؤكد الدارسون ان السلوك الحضاري اصبح هو النقطة التي جرى عندها استمالة التقاليد الكلاسيكية المسيحية في السياسة الغربية والتي ظلت في حالة توتر لمدة طويلة حيث تم اللقاء في النهاية التقاء اعتمد على إجراء تعديلات أساسية على كل منهما والذي ظل اقل بكثير من الاتحاد التركيبي وبكلمات أخرى يمثل السلوك الحضاري التحويل الليبرالي المميز والمحبة المسيحية على حد سواء ووريثها الوحيد المتفق عليه.
ويعتقد الديمقراطيون اليوم ان السلوك الحضاري يظهر تغييرا هائلا عظيما في أمور السياسة والدين معا بحيث انه من الصعب الآن إدراك ما قبل العصرية لأي منهما فمسيحي معاصر هو بالضبط ذلك الذي يقبل صحة السلوك الحضاري كترجمة لمتطلبات المحبة وهو بكلمات أخرى يوافق على ان المحبة تتطلب ان تحجم عن القسر في أمور العقيدة وان كل قسر كهذا هو تصرف غير مسيحي بكل ما في الكلمة من معنى .لقد كان اكتشاف السلوك الحضاري أو التسامح كما اسموه هو الوسيلة للتوفيق بين متطلبات الاستقرار المدني ووجود الفرق المسيحية المتنافسة فقد هدف مكتشفوا هذا السلوك الى فك قبضة المسيحية السياسية من دون توجيه أية إساءة قاتلة للمسيحيين المعتدلين او القابلين للإقناع ،لذلك قدموا السلوك الحضاري لا على انه رفض بل على انه تحويل للمسيحية وحملوه على انه التفسير الصحيح للكتاب المقدس الذي استغلق فهمه على الطوائف المتعصبة ولهذا السبب اخذ السلوك الحضاري الكلاسي شكل تعليق على الكتاب المقدس –ص 108 ن.م-.
لقد تحول جوهر المحبة المسيحية الحقيقي إلى التسامح الليبرالي بين الطوائف المسيحية وحتى في وجود الطوائف غير المسيحية طالما كانت هذه الطوائف نفسها متسامحة ،وبالنتيجة فان ممارسة التسامح نفسه –رفض مفهوم السياسة المسيحية –ضمن وجود الإيمان المسيحي .
لقد كان السلوك الحضاري الفضيلة الجديدة أيضا وهو الذي كان عليه ان يأخذ وعلى مدى واسع مكان المواطنة في مجتمع ما بعد المسيحية الجديد فالمواطنة في المعنى القوي الكلاسي ماتت منذ زمن طويل ، وقد عبر عن هذا المعنى بالقول (ان علينا في المجتمع الديمقراطي ان نكون متسامحين وان الناس في المجتمع الديمقراطي لهم حقوق طبيعية وان من بين هذه الحقوق حرية العبادة وحرية الكلام وحرية النشر والصحافة وحرية الاجتماع ، وعلى المؤسسات ان تعمل والى آخر مدى لكي تكفل عمليات كل ما تمجده وتسعى إلى تأمينه وليس هذا كل شيء فان ركيزة الديمقراطية وجوهرها ان علينا جميعا ان نتسامح حقا وفعلا مع أولئك الذين يختلفون معنا بشأن القضايا العميقة المتعلقة بمصير الإنسان –ص22 تشكيل العقل الحديث).
الديمقراطية والعولمة
في بحث نشره عبر الإنترنت بعنوان –كيف نتفاعل مع العولمة –يقول الدكتور محمد حسن رسمي عميد كلية الحاسبات والمعلومات في جامعة القاهرة ( لو أدرك فاقد معنى ومغزى العولمة ما تحمله العولمة لمات هربا وفزعا من ويلاتها ، إنها فيضان النيل في وقت غدره لمن هو غير مستعد له …وخيره لمن بنى السدود واستعد لملاقاته بالعقل والعلم والإخلاص والإصرار على تحقيق الذات ) علما انه كان قد بدأ مقاله بوصف العولمة بأنها ( طوفان كاسح لمن يقف في طريقها رافضا ان يتفهم فكرها وفلسفتها وآلياتها ، اذا كان يملك سدا منيعا يهزم ويلاتها ويسخر لنفسه ، ونظام العولمة في حد ذاته يدعم الأقوياء ويطحن الضعفاء ويضحك الأصحاب ويبكي الضعفاء بل يمكن صانعها من التحكم والسيطرة وامتلاك مقررات ومستقبل المتفرجين المذهولين الصامتين المنتظرين لمعجزات السماء ) .
أما تأثير العولمة على الديمقراطية فيقول عنه بان من سمات العولمة ونظامها انه ( يتسم بتحرير الحرية والديمقراطية من قيودهما سواء كان الحديث عن السياسة او الاجتماع او المعلومات او الاقتصاد او التعليم ،انهما اصبحا مطلبا أساسيا لكل شعوب العالم المتطلع للتقدم ) وفي إطار كيفية التفاعل مع هذه العولمة في الإطار الديمقراطي للمجتمع يطالب الدكتور محمد حسن بتعميم فكر الانتماء والولاء للامة ويعده أمرا لازما ومعرفة تاريخ وجذور الأمة أمر ضروري والإيمان بالعطاء والتضحية من اجل قيمة العمل أمر واضح حتميا وكل هذه المفاهيم لن تحدث الا لو شعر واقتنع الفرد انه جزء من الكل وله حق ودور مثله مثل من يقود المركب ، إن ذلك هو جوهر الديمقراطية شمس هذا العالم الجديد .
وزيادة في إيضاح معنى العولمة وخطورتها نعرض لبحث آخر أعده مركز الائتلاف للبحوث والدراسات بعنوان ( العولمة تجلياتها الثقافية والنفسية ومؤشرات التعامل معها عربيا) نشر على الإنترنت جاء فيه ان أول من تبنى مفهوم العولمة في أمريكا هو بريجنسكي الذي كان مستشارا للرئيس الأمريكي في 1977-1980الذي أراد من العولمة ان تطرح النموذج الأمريكي للحداثة والقيم الأمريكية للحرية وحقوق الإنسان أي ان طرح العولمة كان لخلق توجهات( لتجانس سياسي واقامة الديمقراطية وتجانس اجتماعي وحرية التنقل وتأمين حقوق الإنسان وتجانس ثقافي أي المعلومة لمن يريدها ، وهي تجانسات سترتكز في بعض جوانبها على فن الإقناع (نفسيا) بالوسائل والأدوات المتاحة وبينها استخدام القوة ( الردع النفسي ) عند الضرورة بهدف فرض قناعات بديلة لعموم المجتمعات البشرية التي باتت قريبة من بعضها بحكم وسائل الاتصال عالية الجودة كما حصل للعراق عام 1991 ويوغسلافيا عام 1999)
ويستشهد البحث بنص من كتاب ديناميكية العولمة للمؤلف –جيمس روزنار-الذي يتحدث عن تأثير العولمة قائلا ( وتأسيسا على ذلك كان للمجال الثقافي ذو الصلة بالجوانب النفسية للعولمة أسبقية تزامنت مع بعض مجالاتها الاقتصادية وتداخلت مع أخرى او تقدمت عليها –السياسية والاجتماعية-بقصد التهيئة لتقبلها جميعا وفي ضوئها تم تكييف الثقافة وهي المنتج الاجتماعي سلعة مثل السلع المادية تتداول في سوق يسودها الأقوى ثقافيا وبوسائل إيصال للمستهلكين ميسورة –القنوات الفضائية والإلكترونيات والحواسيب والإنترنت وغيرها بقصد نقل الأفكار والمبادئ ونشر المعلومات لمستوى الشيوع بين جميع الناس ومن ثم صياغة ثقافة عالمية لها قيمها ومعاييرها لزيادة معدلات التشابه او التجانس بين الجماعات والمجتمعات والمؤسسات في محصلة تبرز في إطارها وعلى مستوى النفسي إمكانية تشكيل وعي وإدراك ومفاهيم وقناعات عالمية الطابع )
ومن هنا نرى ان وسائل العولمة وادواتها لم تترك المجال واسعا للاختيار بين الرفض والقبول كما كان سائدا في زمن الأيديولوجيات او عصر ما قبل العولمة لان الآراء والتوجهات وأساليب الحياة يمكن إيصالها إلى الجميع في كل الظروف والأوقات ودونما اية تحديدات ، وبمعنى آخر بالإمكان إبقائها ماثلة في وعي المستهدفين بصورة شبه مستمرة .
لقد أصبحت العلاقة بين العولمة والديمقراطية مسألة أكيدة بل مسالة مسلم بها عند جميع الباحثين والعلماء ولعل من اكثر الذين ركزوا على طابع المجتمع في القرن الحادي والعشرين في ظل العولمة هما المؤلفان –جون ميكلويت و ادريان وودريج- في كتابهما (تحدي العولمة ووعدها الخفي) وسنعرض لبعض أفكارهما فيه من خلال ما جاء على صفحة عروض الكتب على الإنترنت .
يؤكد العالمان على ان العولمة المتسارعة بعد نهاية الحرب الباردة قد تقود العالم إلى الازدهار او الدمار ويؤكدان ان العالم اليوم أمام منعطف تاريخي سوف تحدد فيه العولمة في السنوات القليلة القادمة مسار البشرية في القرن الحادي والعشرين إما الدمار وإما الازدهار ،
وفيما يخص الديمقراطية والعولمة يقولان بان العولمة تساعد على انتشار الديمقراطية في العالم وان ثمة تلازما بين الاثنتين سيما ان الظاهرتين اكتسبتا زخما متزامنا في العقد الأخير وبعد نهاية الحرب الباردة لأن العولمة اليوم حطمت –استبداد المكان-أي أتاحت المجال للناس لمزيد من التنقل والتواصل وتجاوز الحدود التي حشرتهم لعشرات السنين وأجبرتهم على نمط واحد من المعيشة وطريقة واحدة للاستثمار وفي مكان واحد وحدت آفاق قراءاتهم ورؤيتهم للعالم ،وأبعد من ذلك فان العولمة –كما يقول المؤلفان-وفرت للناس إمكانية إعادة تشكيل هوياتهم بشكل مستقل عن الآخر وهي الهويات التقليدية التي توارثوها عن أجدادهم ، على ان العولمة حدت من خيارات البشر اقتصاديا وسياسيا وثقافيا فالنموذج المعولم هي الليبرالية والديمقراطية الغربية والثقافة الغربية وهي النموذج السائد الآن والمروج له في الدول والمجتمعات .
على ان العولمة الإعلامية هي التي لها تأثير كبير مباشر جدا لان فيها تأثير إيجابي في الانفتاح السياسي وتعزيز التحول البطيء نحو الديمقراطية في الدول الدكتاتورية والمقصود هنا بالعولمة الإعلامية هو الانفتاح المذهل على المعلومات وكسر الاحتكار الرسمي لها إم عن طريق البث التلفزيوني العابر للحدود او شبكة الإنترنت التي اخذ تنتشر بسرعة .
ان العالم اليوم يسعى إلى توسيع مفهوم الديمقراطية وتأصيله بما يتفق ومطالب عصر المعلومات ووسائله وأخذت رايات الديمقراطية تتسع لتشمل أفريقيا وجنوب شرق آسيا وأوربا الشرقية كل ذلك يعكس حقيقة التفاعل بين المعلوماتية والديمقراطية هو تفاعل حقيقي حيث ان وفرة المعلومات تسهل ممارسة الديمقراطية على كافة الأصعدة وتروج لها على مستوى الكرة الأرضية .ويعبر دكتور نبيل علي عن العلاقة بين المعلوماتية والديمقراطية بقوله (من ابرز ملامح العلاقة المعلوماتية –السياسية هو ما يتعلق بالديمقراطية مفهوما وممارسة حيث يزعم الكثيرون ان الإنترنت ستفضي إلى إعادة النظر في مفهوم الديمقراطية من أساسه لقد وفرت الإنترنت ساحة جديدة للرأي العام تسمح بظهور أشكال جديدة للممارسات الديمقراطية سواء في عمليات اتخاذ القرارات او متابعة ما ينجم عنها من نتائج إيجابية او سلبية وعلى مستوى السياسة العالمية فمن المتوقع ان تناصر القوى السياسية الكبرى مؤسساتها الاقتصادية بممارسة ضغوط هائلة على منافسيها على مستوى المحافل الدولية –87 الثقافة العربية وعصر المعلومات)
ويؤكد الباحث على القول ( هل لنا ان نتفاءل مع من يزعمون ان الإنترنت سوف تسقط الحلقات الوسيطة ومواطنيهم محققة بذلك نوعا جديدا من الديمقراطية المباشرة التي يشارك فيها الجميع في عملية اتخاذ القرار من دون حاجة الى تمثيل نيابي يوكل اليه هذه المهمة ؟ أم هل لنا ان نقلق اشد القلق مع من يرى في ديمقراطية الإنترنت هذه ضربا من الفوضى سيؤدي الى مزيد من تدخل الحكومة من اجل السيطرة على جماهيرنا خاصة ان الإنترنت توفر الوسائل العملية الفعالة لاحكام هذه السيطرة حيث تسجل للمواطنين مواقعهم وافعالهم لتكشف –بالتالي- عن أهوائهم السياسية والفكرية مما يجعلهم اكثر عرضة لهذه الرقابة الإلكترونية التي لا تغفو لها عين –ن م ).
من جهة أخرى نرى ان هناك استلابا لاختيار الإنسان عبر إغراقه بسيل جارف من المعلومات عبر وسائل الاتصال الحديثة وشبكة الإنترنت وكل ما يدعى بالعولمة الإعلامية حتى انه لا يستطيع ان يفرز ما يجب ان يختاره لمصلحته وما يوهمه به، هذه الحقيقة جعلت الرئيس الإيراني خاتمي يتحدث في كتابه عن الإسلام والعالم عن اثر قنوات الإعلام بحقوق الشعب وسلامة ممارستها فيكتب قائلا –نقلا عن الإنترنت-(لقد باتت هجمات المعلوماتية تسلب الإنسان إمكانية الاختيار الواعي فهو يقف اليوم مثل كائن متأثر سلبي عاجز حيال موجات المعلوماتية وأعاصيرها التي تلتف حوله من كل حدب وصوب، ان الحصول على مقدرة الاختيار الواعي في ظروف كهذه يتطلب إعدادا وسرعة في استلاب الهوية لا في مجتمعاتنا وحسب بل في العالم بأسره) ويؤكد خاتمي ان هذه المسألة ليست على مستوى محلي فقط بل في العالم الغربي أيضا (ان عولمة المعلوماتية تسبب قي قلق البلدان الغربية أيضا ولذلك نلمح في الساحة الدولية مساعي للحصول على حقوق في الفضاء الخارجي وفيما يتصل بأمواج الإرسال والبث والاتصالات في سبيل الدفاع عن حقوق الأشخاص والشعوب أمام هجمات المعلوماتية التي تركب موجة التكنولوجيا اهتماما بأزمة الهوية لدى الشعوب ) وهو يؤكد أيضا انه ( لا يريد طبعا بالتمسك بالهوية ان تعمد الأمم الى إغلاق حدودها في وجه الآخرين وتضع حدا لصلتها بالعالم بل ينبغي للمرء ان يتمكن من الاقتباس من الآخرين وهو ما لا يتحقق بشكل صحيح الا بعد ان يمتلك المرء وعيا بهويته ) .
ان خطورة المعلوماتية الإعلامية على الديمقراطية تظهر اكثر حينما نعلم ان السبب يعود (( نتيجة لتخلخل في الحدود التي تميز بين المعلوماتية وموجات الدعاية والإعلانات ، فالعديد من قنوات الإعلام التي تمتلك قدرة كبيرة على الهيمنة تتجاوز الجو الحقيقي للمعلوماتية وتأخذ بنحو مباشر او غير مباشر بالترويج لما يحقق مصالحها ) وهكذا نرى ان ( الدعاية الخفية من خلال مهارات في التكتيك وصناعة الخبر والجانب المعلوماتي تسلب المرء فرصة الموقف الواعي فيقع دونما وعي تحت تأثير أفكار يتلقاها بوصفها أخبارا ومعلومات ، وبالطبع فان من يمتلك تقنيات متقدمة في الإعلام والتكنولوجيا سيهيمن على الرأي العام أكثر من الآخرين ، ان من يحمل فكرة او يعتنق تصوراً ما سيعمل ولا شك على ترويجها ، قصارى ما هنالك ان امتزاج المعلوماتية بأنشطة الدعاية واختلاطها جعلا الإنسانية في مواجهة تعقيدات جادة ولا بد من فرز تلك الحدود والتمييز بين المعلوماتية والنشاط الدعائي)
وخلاصة القول هنا ان ممارسة الديمقراطية ستتأثر سلباً وفي محاولات الترويج الدعائي على حساب صدق المعلوماتية :.
على ان من احدث النظريات في إطار المعلوماتية والديمقراطية ومستقبل العالم هي النظرية التي طرحها الكاتبان السويديان الكساندر بيرد المحاضر الجامعي والخبير في مجال الاتصالات الصوتية بواسطة الإنترنت وجان سودير الكاتب والمنتج والمذيع التلفزيوني حيث يتحدثان عما يسمى النتوقراطية منطلقين من رفض نظرية ان الإنترنت سيعزز موقف الرأسمالية والديمقراطية عبر إشاعة المزيد من الحرية للتجارة والاقتصاد والأفراد عموماً في مختلف نواحي الحياة ومن رفض نظرية ان بالإمكان السيطرة على الإنترنت من قبل الدول وانه سيتحول لأداة كبت وسيطرة طارحين بدل هاتين النظريتين نظريتهما الجديدة عن النتوقراطية في كتابهما بالعنوان ذاته– النتوقراطية : نخبة القوة الجديدة وحياة ما بعد الرأسمالية . وكلمة النتوقراطية هي نحت لغوي من قبل المؤلفين حيث يعني الجزء الأول من الكلمة نت أي الشبكة والثاني قراطية ليخرج مصطلح جديد يعبر في رأيهما عن حقبة جديدة في تاريخ الإنسانية تأتي فوق حطام الرأسمالية والديمقراطية ، ويربطان كلمة النتوقراطية بعبارة عصر المعلوماتية الذي يأخذونه منطلقا لنظريتهم المستقبلية للعالم . وبمقدار ما يخص موضوعنا في علاقة الديمقراطية بالمعلوماتية وعولمتها عبر العولمة الاقتصادية للمعلومات نرى انهما يركزان على القول من ان المعلومة ومن يسيطر عليها يمتلك قوة هائلة وان الاقتصاد يعتمد على بيع المعلومة وأصبحت تكنولوجيا المعلومات هي التسلية والإعلام والسلعة الجديدة وباتت شيئاً فشيئاً تحل محل كثير من مؤسسات المجتمع الرأسمالي السياسية والتعليمية وبات الحديث عن حرية التجارة وانتقال رؤوس الأموال لا معنى له مع تزايد التجارة الإلكترونية الواقعة تحت سيطرة النخب المتحكمة بشبكات الاتصال والمعلومات . ويرى الكاتبان ان أهم مزايا اقتصاد المعلومة أنه لا يقوم على بيع المعلومة او حتى تحويلها لمورد دخل مالي بل ان النتوقراطية – كما يقولان – ستمتاز بنوع من الاستثمار او الاستهلاك غير الاستغلالي بمعنى ان النتوقراط قد يقررون الاستفادة من معلومة خاصة لمصلحتهم ومصلحة شبكتهم او حتى متعتهم الشخصية حصرياً وتبادلها في إطار نخبة ضيقة من النتوقراط في شبكتهم الخاصة دون ان يبيعوها او يستثمروها على نحو يدر ربحاً مالياً كما هي القاعدة في الرأسمالية ، اما انعكاس هذا الاقتصاد النتوقراطي على النظام الديمقراطي فيتحدث المؤلفان بالقول بأن هناك عدة عوامل تقود النظام الديمقراطي وسيطرة البرجوازية الاقتصادية الى نهايتهما ، فمن جهة يلعب انتشار وشبكات الاتصال الراهنة لصالح جماعات المصالح او ما يسمى المجتمع المدني ، وهذه الجماعات في الواقع تلعب دوراً يفقد الديمقراطية معناها الشائع بصفتها حكم الأغلبية ، فبفضل القوة والتنظيم – كما يقول المؤلفان – الذي تستطيع جماعة صغيرة منظمة ان تمتلكها عبر وسائل الاتصال وتكنولوجيا المعلومات الحديثة مما يمكنها ان تدفع بمصالحها الى الأمام وتجبر السياسيين على تبني وجهات نظرهم وتقييمها للبرلمانات بغض النظر عن مواقف قطاعات اجتماعية أخرى مما يجعل الحكم حكم أقليات وجماعات مصالح لا حكم الأغلبية ، ولعل من نتائج هذا الوضع انه بينما تنتعش هذه الجماعات المنظمة يتراجع اهتمام الجماهير بالمشاركة في الانتخابات العامة ، فتتناقص هذه المشاركة تدريجياً في علامة على فقدان الاهتمام بالنظام برمته . كما ان الإعلام الجماهيري الرأسمالي قد يسهم في إضعاف النظام الديمقراطي ، فالسياسة والسياسيون يوشكون على التحول الى نوع من التسلية ، فأخبارهم الشخصية وفضائحهم باتت مادة الإعلام المثيرة التي تشبع نهم القارئ لا تفاصيل القوانين والتشريعات وهذا أعطى جماعات المصالح – لا سيما ان تعاملت مع الإعلام على نحو معين –الفرصة لبلورة مشاريعها الخاصة التي تلبي مصالحها وتمررها عبر السياسيين الذي اصبح يقيس تصرفاته بصداها الإعلامي المتوقع ويتوصل المؤلفان إلى القول انه اذا كانت الديمقراطية تقوم في جوهرها على تباين الآراء والدخول في عملية حوار للوصول الى رأي من تلك الآراء ، فان الإنترنت اصبح يسمح بإعادة التجمع بين أصحاب الرأي الواحد داخل الدولة وخارجها وتسيير أمورهم بأنفسهم دون الحاجة للالتقاء بأصحاب الرأي الآخر ، وهذا يتبعه تساقط العديد من أساطير الدولة القومية من مثل احترام شرعية الدولة والقيادة والموت لأجلها ولأجل سيادتها ، كما حلت شبكات إتصالية محل الروابط القائمة على النسب والعائلة والألقاب ، بل ان الإعلام الجماهيري ذاته يتشظى الآن وبدل الشبكات التلفزيونية والراديو الخاص بكل شعب أصبحت تتراجع امام شبكات تبيع برامجها بالاشتراك وتقدم ما تريده شرائح معينة من المستهلكين كل حسب اهتمامه ودون الالتزام بحدود الدول مما يلغي تلك الأطر الإعلامية القومية وكل هذا يعني تراجع قدرات مؤسسات الدولة لصالح شبكات الاتصال والمسيطرين عليها ، وإذا كانت الشركات المتعددة الجنسية السابقة ترفع عادة أعلام دولها وتحتاج لرعايتها والتحالف معها حيث كانت رأ س حربة دولها لاستعمار دول أخرى فان الشبكات لا تحتاج ذلك وتجاوزت حاجتها للدولة وبات من مصلحتها الظهور بمظهر عالمي –غير وطني-غير محلي.
ان مجتمع النتوقراطية هذا وفي هذا السياق ستكون المعلومة فيه هي عنصر القوة والحراك الاجتماعي داخل الهرم وستكون المعلومة الأهم تلك التي لا تباع بل يستفاد منها فهم سيستثمرون معلوماتهم مباشرة وما سيبيعونه المعرفة الناتجة عنها ، أما المعلومة التي تباع ويشتريها الرأسماليون فهي غالبا ما تكون مستعملة تم الانتهاء من استثمارها .ان المعلوماتية –كما يقول المؤلفان-او مجتمع النتوقراطية ستكون زلزالا تاريخيا لا يقل حدة عن قدوم الرأسمالية في أعقاب الإقطاع ويصلان إلى الاستنتاج بان هناك حقبة عالمية جديدة ستقوم تكنولوجيا المعلومات فيها بتغيير طرق ومبادئ التفكير وسلوك البشر وسنكون أمام اقتصاد وسياسة واسرة وتعليم وحتى أفراد من أنواع مختلفة كليا عما عرفه التاريخ ،ومن جانب أيدلوجي فإذا كانت الفلسفة الشمولية قد غطت مساحة كبيرة من تاريخ الفكر الإنساني منذ سقراط وآدم سمث فان فلسفة الحركية ستغطي المساحة عبر مجتمع النتوقراطية هذا .
ديمقراطية الغد طموحات نظرية وتحديات واقعية
أولا : مستقبل الديمقراطية الليبرالية – نهاية التأريخ
قبل عشر سنوات كان الكاتب الأمريكي من اصل يوناني فرنسيس فوكوياما قد تحدث عن نهاية التأريخ بالنسبة للأنظمة السياسية ما دامت قد وصلت إلى مرحلة الديمقراطية الليبرالية – وقد خضعت هذه النظرية الى انتقادات كبيرة خلال هذه العشر سنوات ولكن المؤلف بقي على إصراره بان نهاية التاريخ هي الديمقراطية الليبرالية فالشيوعية قد سقطت وستسقط الأنظمة الدكتاتورية الأخرى ،
واليوم يعود فوكومايا ليكتب مقالا بعنوان ( عشر سنوات بعد نهاية التأريخ ) ليؤكد الحقائق السابقة ويرد على نقاده ومما قاله في هذا المجال .( طوال السنوات العشر الماضية لم يحدث أي شيء على صعيد السياسة العالمية او الاقتصاد الكوكبي يتحدى الاستنتاج الذي توصلت إليه ، وهو ان الديمقراطية الليبرالية والنظام الاقتصادي المتوجه نحو السوق هما الخياران الحقيقيان والوحيدان المتاحان للمجتمعات المعاصرة ) . ويؤكد انه خلال هذه السنوات العشر لم يحدث ما يجعله يتراجع عن رأيه ويقول بان ( البراهين التي طرحتها لإثبات ان التاريخ أحادى الاتجاه وتقدمي ، وانه يصل لمنتهاه مع الدولة الحديثة الليبرالية ما زالت سابقة سارية ونافذة ، واحد فقط من بين مئات النقاد الذي علقوا على نهاية التأريخ حدد نقطة ضعف حقيقية في الفرضية : لا يمكن ان يصل التأريخ لنهايته ما لم تنته العلوم الطبيعية ، ونحن الآن على حافة تطور مذهل في العلوم الحيوية ، سيؤدي في جوهره الى تغيير صورة الجنس البشري في ذاته ) ويرد على جميع منتقديه أنهم كانوا ينتقدونه بمحاولات لغوية ودلالية سمجة وأنهم لم يستوعبوا انه إنما استخدم التأريخ بمعناه الهيجلي الماركسي أي النشوء التطوري للمؤسسات السياسية والاقتصادية والبشرية ، وانه في ضوء ذلك فثمة قاعدتان أساسيتان لتحريك التأريخ : التكنولوجيا واستمرار الاكتشافات العلمية مما يمهد الطريق للتحديث الاقتصادي والكفاح من أجل الحصول على الاعتراف من قبل مختلف القوى الموجودة في المجتمع مما يؤدي في النهاية الى نسق سياسي يعترف بحقوق الإنسان الأساسية ، وعلى عكس الرأي الماركسي – يقول فوكوياما –افترضت ان عملية التطور التاريخي تلك قد وصلت لذروتها في الديمقراطية واقتصاد السوق والواقع انه من الصعب ان نتخيل وجود نقطة لم يتم نقد ( نهاية التأريخ ) من خلالها .
ويشير إلى التحديات التي تعرضت لها هذه النظرية وطرح البدائل عنها في السياسة الدولية مثل الحكم الديني الإسلامي والتسلطية الآسيوية .
وهو يؤكد في رده هذا على أنه لم يقل قط ان كل الدول ستصير إلى ديمقراطية في المدى القريب وان كل ما افترضته هو ان ثمة منطقاً تطورياً يخضع له التاريخ الإنساني وأنه سيؤدي الى وصول الدول الأكثر نمواً إلى السوق كاقتصاد والديمقراطية الليبرالية كنظام سياسي ومن ثم فلا ينبغي الاعتداد بواقعة وجود دول فرادى خارج هذا النسق مثل صربيا وايران .
ويؤكد فوكوياما من جديد على أنه ليس ثمة أي أزمة للرأسمالية الكوكبية لان العولمة أتت لتبقى وذلك لسببين
1
من اليونان الى ديمقراطية الانترنت
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
لاشك ان عصرنا في كل عشر سنوات تطلق عليه صفة تسمه بسمة معينة فهو عصر الكهرباء وعصر النفط وعصر الذرة وعصر القلق وعصر الحروب العالمية وعصر غزو الفضاء وصولا الى عصر الجينوم البشري والهندسة الوراثية والاستنساخ وعصر العولمة واخيرا عصر الانترنت ، وكل يوم نجد اكتشافا خارقا يدعونا لان ندعو عصرنا به، واليوم فإن عصرنا لايمكن ان نهمل اهم صفة سياسية واجتماعية للنظام العالمي الجديد فيه الا وهي صفة الديمقراطية خاصة وان هناك من الباحثين من يعدّ النظام السياسي للديمقراطية الليبرالية هو نهاية التاريخ مثل فوكوياما وآخر يتحدث عن ان صراع حضارة الديمقراطية الغربية مع نظام الاسلام السياسي سيكون حتما صراعا تنتصر فيه الحضارة الغربية بنظامها الليبرالي الديمقراطي .
ان النظام الديكتاتوري الشمولي اخذ يغادر العالم خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وتوزع دوله الى ما نشاهده اليوم ، وخلال عقد التسعينات من القرن العشرين تحولت اكثر من خمسين دولة في العالم الى النظام الديمقراطي وتشمل دولا من مختلف القارات كاوربا الشرقية وآسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية بل ان الاتحاد السوفيتي نفسه لم يكتف بالتحول عن الشيوعية فقط، بل اخذ يمارس الديمقراطية في شكلها الجديد سواء على المستوى الاقتصادي او الاجتماعي مع وجود حزب شيوعي له اكثرية برلمانية معروفة .
ان الدعوة الى الديمقراطية بدأت تأخذ وجها آخر لم يكن لها من قبل؛ ألا وهو الفرض من الخارج على النظم الديكتاتورية وتغييرها بالقوة استنادا الى معطيات دولية معينة منها الدفاع عن حقوق الانسان واتفاقيات الامم المتحدة الخاصة بها ومنها محاربة الارهاب الدولي ومبررات واسباب بعضها حقيقي وبعضها مفتعل لأغراض أخرى غير المعلنة، ولكن شعار الديمقراطية هو المرفوع عليها أي على تلك السياسة، وبغض النظر عن المصداقيات فلا يمكن انكار حقيقة ان الديمقراطية شعار مرفوع ويطالب به كل من اراد ان ينظم الى بعض الاتفاقيات الدولية او الاتحادات كما هو الحاصل مثلا مع تركيا في محاولتها الانضمام الى الاتحاد الاوربي .
ان المجتمع الدولي وهو يتحول الى العالم الجديد الذي تتحكم فيه معطيات العولمة بكل معانيها اصبح يضع شروطا لقبول الدول في النادي الخاص به الذي يجب ان يشمل كل من يسكن على هذه الارض، ولذا فيجب على الدول ان تتكيف مع مواثيق ومعاهدات واتفاقيات الامم المتحدة والا فانها ستطرد من المجتمع الدولي وتعدّ غير شرعية وستحارب بمختلف الطرق الاقتصادية والسياسية وحتى العسكرية اذا ما حاولت مثلا ان تمتلك اسلحة دمار شامل او تصنع اسلحة ممنوعة في اتفاقيات الدول الكبرى او ما شابه ذلك.
لقد غزت أمريكا أفغانستان باسم محاربة الإرهاب ولاتهامها بإيواء منظمة القاعدة التي المتهمة باحداث 11سبتمبر –وها هي اليوم تغزو العراق محررة ثم تعلن عن احتلالها له لفرض نظام ديمقراطي ينسجم مع معطيات العصر وتقول انها ستبني عراقا جديدا يعدّ نموذجا لدول المنطقة كلها التي وضعت لها سياسة للتغيير على مراحل لكي تؤهلها ديمقراطيا للعصر الجديد ولكي تقضي على مكامن الارهاب الدولي التي تتهمها بها، فإيران على الخارطة الجديدة وسوريا على الخارطة وكل دول المنطقة، كما انها من جهة اخرى تحاول ان تدجن كوريا الشمالية من خلال نزع سلاحها النووي الذي يخيفها.
ان مجموعة معطيات اخذت مجالها في الفكر السياسي اليوم جعلت من العراق الساحة التي تريد امريكا ان تروجها كنموذج للديمقراطية في المنطقة فهل تراها ستنجح في ذلك بعد اقدامها ونجاحها في الخطوة الاولى الا وهي اسقاط النظام السابق الذي اتهمته بامتلاك وتصنيع اسلحة الدمار الشامل بل واستعماله لهذا السلاح حتى على ابناء شعبه…؟
ان العراق لم يمارس الديمقراطية في تاريخه السياسي الا لمدة قصيرة في ظل الحكم الملكي وكانت هذه التجربة عليها مؤاخذات كثيرة أفقدتها المعنى الديمقراطي الحقيقي، كما ان العراق لم يتحول الى الديمقراطية عبر تغيير ثوري او انقلاب داخلي على النظام السابق بل هو يتحول تحت إشراف قوة احتلال أمريكية مما يطرح تساؤلات حقيقية عن إمكانية الديمقراطية في ظل الاحتلال وإمكانيات ممارسة الحرية في ظل السلطة المقيدة وقد يستشهد لوجهة النظر الامريكية لمثل هذه الحالة بما فعلته باليابان بعد احتلالها وما فعلت بكوريا الجنوبية وحتى بألمانيا على انه على الرغم من التشابه الشكلي في الممارستين في الذهنية السياسية الأمريكية الا ان هناك ميزات واختلافات وخصوصيات للعراق شعبا وجغرافية وثروة يختلف بها عن هذه النماذج مع ملاحظة طابع العصر اليوم عنه في منتصف القرن الماضي .
ان شعب العراق شعب مسلم حيث يذكر ببعض الإحصاءات ان 97% منه على دين واحد والإسلام اليوم متهم بالإرهاب ومساحة المسلمين في العالم الذين يتعاطفون مع هذا الشعب مساحة كبيرة وموقع العراق الجغرافي في وسط حيوي جدا في السياسة الدولية فحوله دول مختلفة منها تناصب العداء لأمريكا ومنها متهمة بالإرهاب كما ان منها ما هو متعامل معها وعضو في بعض منتدياتها العسكرية وللدول الغربية الأخرى مصالح عديدة في العراق وما حوله مما قد يخلق وضعا متوترا فيه، وكذلك فان في العراق ثروة يسيل لها لعاب الدول الكبرى هي النفط والذي هو ليس ثروة اقتصادية فقط وانما أداة سيطرة وقوة تحكم أيضا واذا أضفنا الى هذا خصوصية العقلية السياسية في العراق التي تتميز بالخضوع لفترة طويلة لتثقيف أحادى الاتجاه وصلب التحيز حتى أصبحت عقلية مغلقة على آرائها التي تعتقد بها كما ان طبيعة الشخصية العراقية قد استلبت نفسيا وفكريا وثقافيا عبر أيديولوجيا دامغة للآخر وغير معترفة به مما يشكل صعوبة استثنائية على الممارسة الديمقراطية المرنة التي تقوم أساسا على الاعتراف بحق الاختلاف..
ان كل ما تقدم يجعل الممارسة الديمقراطية في العراق على المستوى الشعبي اقرب الى المستحيل منه الى الممكن فكيف ستكون الديمقراطية العراقية امام تحدي العلمانية لشعب مسلم؟ وكيف ستكون الديمقراطية الفدرالية عبر قوميتين واثنيات اخرى قامت بينهما حروب؟ مما يطرح مسألة خطورة التقسيم وهو ما تعارضه حتى الدول المجاورة لخوفها من انسحاب الموقف على شعبها كما ان هذه الفدرالية قد تقود الى قيام دولة شيعية في الجنوب لأكثرية هذه الطائفة فيها وهو من المستحيلات امريكيا رغم انف الديمقراطية ومبادئها، ترى فما هي مقومات الديمقراطية عراقيا اذا لم تكن علمانية ولا فدرالية؟ واي معنى لرأي الشعب في نظامه الذي سيدلي برأيه فيه عبر الدستور الجديد؟ وهل ستوافق القومية الكردية على التراجع عن المضمون الفدرالي الذي تعلنه في كل وسائلها الرسمية والإعلامية؟ وكيف ستتصرف اذا كان الاستفتاء فرضا جاء لغير صالح الفدرالية وهو رأي ديمقراطي لا ينازع؟
من كل ما تقدم نجد ان الديمقراطية كمفهوم وممارسة، كنظرية وتطبيق تحتاج إلى ابتكار صيغ جديدة تناسب الواقع العراقي الجديد ويجب على هذه الديمقراطية ان تناسب الجسد العراقي وهو ما رأيناه في كثير من شعوب دول العالم الثالث التي انطلقت الى الديمقراطية بخصوصياتها القومية والشعبية وحتى الفولكلورية حيث وظفت حتى المجتمعات القبائلية والعشائرية بهياكلها التنظيمية فجعلتها ضمن ديمقراطيتها كخصوصية وطنية لها وهو ما لم يعترض عليه حتى امريكيا فهناك تجارب يمكن الاستفادة منها في هذا المجال فما دامت الديمقراطية منهجا مفتوحا على المستجدات – وهذا سبب نجاحها تاريخيا – فانها تستوعب الإنسانية جمعاء على ان تكون بلا وصاية خارجية ولا احتلال أجنبي طويل الأمد فهل ترى سينجح العراق في تجربته هذه ام لا؟
ان هذا الكتيب يطرح احدث المعلومات عن الديمقراطية في عصر العولمة والإنترنت وما يسمى النتوقراطية او ديمقراطية الإنترنت ويتحدث عن تحديات الديمقراطية ليس في العالم الثالث فقط وانما في امريكا واوربا ايضا ويصف محاولات شحن الديمقراطية الامريكية بقوة دفع عن طريق احياء مؤسسات المجتمع المدني التي أخذت تتآكل وتفرغ من معناها بعد طول ممارسة كما ان البحث عن المعنى للحياة خارج المفهوم الديني ما زال يؤثر سلبا في المجتمع الأمريكي مما جعل بعض علماء الاجتماع يطالب بعودة جديدة الى القيم الدينية لخلق إسناد أخلاقي للمجتمع في القرن الحادي والعشرين، أما فوكوياما الذي ما زال يعتقد بصدق نظريته في نهاية التاريخ فقد ظهرت انتقادات للديمقراطية الليبرالية التي يؤمن بها وضعتها امام احتمال تجاوزها الى ديمقراطية الانترنت والتي هي الديمقراطية المباشرة لكل الشعب كذلك ظهرت تحديات امام الديمقراطية الاوربية جعلها تختار التركيز على الجانب الاقتصادي للديمقراطية حتى وصفت بالاشتراكية الديمقراطية كما هو الحال في فرنسا والمانيا وبريطانيا مما عزز فكرة الطريق الثالث للديمقراطية وهو بين الليبرالية والاشتراكية، وسيتبع هذا الكتيب كتيب آخر عن اشكالية العلاقة بين الاسلام والديمقراطية ثم يتبعه آخر عن العراق الديمقراطي اسلاميا وليبراليا وعسى ان تكون هذه الكتيبات مساعدة للقاريء العراقي خصوصا لكي يفهم حقيقة الديمقراطية نظريا قبل ان يمارسها تطبيقيا .
واخيرا فان مصادر هذه الدراسات الثلاث كان الانترنت في اكثر من 90% منه وخاصة عروض الكتب الجديدة الصادرة في العالم الغربي خاصة والمترجمة الى اللغة العربية والتي لم يحتفل بها السوق العراقي بعد وقد كانت طريقة العرض ذات طابع وصفي لا نقدي ولا تحليلي من باب اننا نعرض لما كتب كما هو سوى رأي المؤلفين والكتّاب انفسهم في ما يطرحونه من انتقادات.
شيء عن المصطلح والتعريف
لا شك أن كلمة الديمقراطية من اكثر الكلمات غموضا وشيوعا في التداول الثقافي والشعبي وكما قال عالم السياسة بيرنارد كريك (إن كلمة الديمقراطية هي اكثر الكلمات اضطرابا وغموضا فهي مصطلح قد يعني شيئا بالنسبة لكل شخص بحيث تكون هناك خطورة بأن تصبح الديمقراطية كلمة بدون معنى) وإذا كانت الديمقراطية لغة تعني حكم الشعب نفسه بنفسه وكانت هذه الكلمة قد ظهرت في العصر اليوناني لوصف نظام سياسي واستمرت اكثر من قرنين من الزمان ثم اختفت إلا أنها عادت وظهرت مع الثورة الفرنسية عام 1789ميلادية إلا أن مفهومها عبر هذه السنوات العديدة قد دخلت عليه إضافات تتناسب وتطور المجتمعات التي تطبقها مما ادخل الغموض والتنوع اللانهائي على معناها حتى نرى الدكتور سمير أمين يقول عنها ( ليس مفهوم الديمقراطية مفهوما علميا يمكن بالتالي تعريفه تعريفا وحيدا دقيقا لا يقبل المناقشة والشك، بل كلمة الديمقراطية هي مجرد تعبير لغوي مائع يتغير بتغير المتحدث والظروف ورغم ذلك فالإنسان – أي إنسان- يحس تماما إذا كان المجتمع المعين الذي يعيش فيه (ديمقراطيا) حسب رأيه أم غير ديمقراطي، وينطبق ذلك على الفلاح الأمي كما ينطبق على المثقف المتغرب ولكن مفهوم الفلاح لماهية الديمقراطية أو عدمها قد يختلف عن مفهوم المثقف – أزمة المجتمع العربي ص135)
لقد وصل الخلاف إلى الاختلاف حتى على الكلمة والمعنى في النقاشات التي تدور في العقل الأوربي ذاته حتى ادخلها الكاتب روبرت هـ ثاولس في باب التفكير الأعوج حيث قال (إن النزاع اللفظي قد يكون حول كلمة –الديمقراطية- في حين أن النزاع الحقيقي يكون حول الديمقراطية، أي حول نظم الحكم التي هي مدلول كلمة – الديمقراطية، وإذا كنا نظن أننا نتناقش عن الديمقراطية في حين أن موضع الخلاف في الحقيقة هو على كلمة الديمقراطية فإننا نكون في ذلك قد خلطنا في الأمر وحسبنا خطأ النزاع اللفظي بأنه نزاع واقعي – ص90 التفكير المستقيم والتفكير الأعوج).
وهكذا نرى أن الديمقراطية كما يقول علي المؤمن في بحث له عبر الإنترنت مفهوم- فضفاض ساهم في إثرائه عبر عقود طويلة من الزمن كثير من المفكرين السياسيين كل حسب نظرته لهذا المفهوم فجاء إطارا كبيرا يجمع في داخله العديد من التيارات الفكرية التي تتفق على بعض الخطوط العامة وتختلف في معظم التفاصيل بيد أن الديمقراطية تبلورت بمرور الزمن في الديمقراطيات الحديثة المطبقة –بشكل أو بآخر- في الغرب وعرفت بالديمقراطية التقليدية الغربية- .
لقد كان جان جاك روسو قد تحدث عن أن الديمقراطية مستحيل تطبيقها بدقة وقال إنها لم توجد ولن توجد أبدا بعد أن وصفها بالمثالية وانه لو كان هناك شعب من الآلهة لحكم نفسه بطريقة ديمقراطية لان هذا النوع من الحكم –كما يقول- بلغ حد الكمال لا يصلح للبشر ويقول ( إذا أخذنا عبارة الديمقراطية بكل معناها الدقيق نجد أن الديمقراطية لم توجد أبدا ولن توجد أبدا فمما يخالف النظام الطبيعي أن يحكم العدد الأكبر وان يكون العدد الأصغر هو المحكوم ولا يمكن أن نتصور بقاء الشعب مجتمعا على الدوام للنظر في الشؤون العامة ونستطيع أن نرى بسهولة انه لا يمكن إقامة لجان من اجل ذلك دون تغيير في شكل الإدارة ) أي أن الديمقراطية المباشرة كانت مستحيلة التصور حتى في عقل جان جاك روسو وهكذا تحولت الديمقراطية إلى ديمقراطية غير مباشرة عبر الأسلوب التمثيلي والبرلماني .
لاشك أن الديمقراطية كما يقول أحد الكتاب (عملية متعددة الأوجه ذات أبعاد متشابكة سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية جوهرها توسيع دائرة المشاركة الشعبية في اتخاذ القرارات والرقابة الفاعلة على تنفيذها وذلك على جميع المستويات وفي مختلف الميادين لكنها لن تتجسد حقوقيا ومؤسسيا إلا حين تجد فيها أوسع قطاعات الشعب مصلحتها فتطالب بها وتعمل على تحقيقها وصيانتها لذلك يكون من الوهم الاعتقاد بان الحريات والديمقراطية تأتي هبة من الحاكم أو تفرض فرضا من خارج المجتمع – ص6 الثقافة الجديدة ع303-2001), .
واليوم ونتيجة لكثرة المستجدات على الممارسة الديمقراطية عموما وفي العالم الثالث خصوصا وتركيزا لهذا المفهوم على خصائص معينة لتحديده وجدنا مكتب البيت الأبيض عام 1993يحدد خمس مبادئ أساسية يمكن من خلالها الحكم على الديمقراطية في أي مجتمع ، هذه الخصائص هي حرية الانتخابات ونزاهتها، حقوق المعارضين السياسيين في العمل بحرية كاملة، وضع قيود على السلطات التعسفية للدولة وبخاصة أعمال القبض والاحتجاز والتعذيب ضمن أشياء أخرى، وحقوق المواطنين في التنظيم في اقليات في العمل او حول اهتمامات اخرى وقضاء مستقل للرقابة على سلطة الدولة، واكد المكتب على انه فيما يتجاوز هذه النقاط فان هناك مجالا كبيرا لاختلاف التطبيقات الديمقراطية...
وعلى الرغم من أننا في الوطن العربي نكاد لا نجد حزبا يساريا أو محافظا أو قوميا أو اشتراكيا وحتى ماركسيا إلا ويستخدم في أهدافه لفظ الديمقراطية كشعار إلا أننا بالمقابل لا نكاد نجد نظاما واحدا يطبق مفاهيم الديمقراطية الحقيقية في مجتمعه وهذا ما ادخل كثيرا من التشوهات على مفهوم الديمقراطية ذلك الشعار الفضفاض غير المحدد حتى وصل القول إلى أن الديمقراطية غير صالحة لهذه البلدان لاسباب عديدة لعل أولها عدم فهم حقيقة الديمقراطية وآخرها عدم الإيمان بها حقيقة لأنها كما تقول بعض الأحزاب الدينية بضاعة غربية استعمارية فهي كفر على وفق قناعاتهم؛ فهل الديمقراطية حقا لا تصلح للمجتمعات الدينية وكيف تعاملت مع المسيحية التي كانت تحكم البلاد قبل وجودها وكيف تفهمت المسيحية الديمقراطية وتعاملت معها ؟
الديمقراطية والمسيحية:
حينما افتقد الغرب المفاهيم الميتافيزيقية الغيبية للدين نتيجة تعلقه بالعلوم الطبيعية وما توصلت إليه من حقائق علمية، وفي نفس الوقت مارس السلوك الديمقراطي حتى أصبحت حياته عبر السنين الماضية مطبوعة بالطابع الديمقراطي هذا، لم يكن يفتقد لمعالجة آلامه النفسية إلا البعد الديني الروحي العميق الذي كانت المسيحية قد استوعبت فيه كل آلام البشر ومعاناتهم، ولما كانت المسيحية قد تحولت بفعل الديمقراطية إلى أخلاقيات سلوكية فقط متناسية الجانب الروحي الغيبي حيث اصبح الطلاق واقعا بين الكنيسة والسياسة فقد أصبحت النفسية الغربية بحاجة إلى سلم جديد للقيم يكون مرجعا لتقويم السلوك الأخلاقي الديمقراطي في ضوئها، من هنا طرحت مفردات المواطنة والسلوك الحضاري للتعبير عن هذه المرجعية بما تعنيه من مضامين ديمقراطية تجعل الحقوق الفردية في حدودها المعينة، وهكذا وجدنا أن السلوك الحضاري بهذه المعاني يسمح للأخلاق الحميدة التي يعبر عنها بالمجاملة بحيث يمكن قيام تعاون بين أشخاص ذوي نزعات مختلفة ومتعادية على الأغلب فالمجاملة ضمن المفهوم الديمقراطي هي سلوك حضاري يسمح بعمل المتخاصمين في هيئات تشريعية تمارس سياسة مصلحة خاصة من دون حصول خلافات [تقاطعات سلبية] فالمجاملة تسمح هنا بتحقيق الأغراض الخاصة لبعض الأشخاص من دون أن يكون هناك اتفاق بين الجميع وبالرغم من عدم توافقهم يظل الأفراد المتنافسون على علاقات ودية بعضهم ببعض أي أن السلوك الحضاري وفق المنهج الديمقراطي يتكون قبل كل شيء من الأخلاق الحميدة حيث تقول القاعدة الأولى فيه : كل عمل تقوم به في الرفقة يجب أن يكون في نفس الاحترام لأولئك الآخرين وكان جورج واشنطن يؤكد على مفهوم الضمير وهو يثقف المجتمع الأمريكي على الديمقراطية حيث كان يقول ( اعمل على أن تبقي في صدرك تلك الشرارة الصغيرة من النار السماوية التي تدعى الضمير) كما كان يؤكد على أن يكون السلوك الحضاري (نوعا من الشرف أو الاهتمام بالشرف، والشرف من دون مبادئ سيكون عارا أما الشرف الحقيقي فيكمن في القيام بالأعمال العادلة النبيلة حبا بها لذاتها وليس من اجل أي مكافآت عرضية غير ذات قيمة –ص84-السلوك الحضاري والمواطنة).
لقد امتدت الممارسة الديمقراطية إلى مساحة كبيرة من العالم كما امتدت إلى مساحة كبيرة من الفكر حتى تحولت إلى أشبه ما يكون بديانة للعالم الغربي الذي حلت له الديمقراطية في عصر النهضة والتنوير مشكلة الطائفية المسيحية من بروتستانتية وكالفنية وكاثوليكية وغيرها، لقد وصف القرن العشرون من قبل كثير من الفلاسفة بانه قرن القلق بسبب غياب الروح الدينية التي تشفي النفوس وتملأ الروح بالمعاني الميتافيزيقية الغيبية حتى قال عنها بريتون يصفها في كتابه تشكيل العقل الحديث ( أن المعتقدات الجديدة يعوزها الثراء والعمق في إدراك حقيقة البشر الموجودان في الديانات القديمة ومن ثم نراها عاجزة عن حل مشكلة الإنسان حين تحدق به الشدائد فلا تمنحه السلوى والعزاء مثل الديانات القديمة حيث أن البشرية حتى في الغرب لم تقو على تبني النظرة المأساوية من دون عون عقيدة ذاتية غيبية، ولهذا يتعين على الديمقراطية أن تهتدي بصورة ما إلى سبيل لشفاء النفس إذا لم يكن لزاما عليها أن تعود إلى المسيحية وهذا ما يريده الكثيرون اليوم –ص387 تشكيل العقل الحديث).
وتظهر الروح المسيحية الدينية كحقيقة حينما نرجع إلى تأكيد العلماء أن ثمة شيئا لا يتغير أبدا ليس شيئا من التاريخ ولكنه لا يزال بعضا منا ولكن يبدو واضحا أننا معشر البشر نتشبث باليقين فأولئك الذين أضاعوا اليقين المسيحي حاولوا على الفور البحث عن يقين علمي أو يقين تاريخي أو أي يقين يكتشفونه في أي مكان، ونحن-كما يقول العلماء- نتشبث بالعلم الكامل الشامل الذي يحيط بكل شيء كصنو لليقين، ننشد قوة عليمة تحيط بكل شيء علما إن لم يكن الله ويؤكد البعض أيضا أن أهل الديمقراطية التشاؤمية إذا ارتابوا في النزعة النسبية الكاملة والمطلقة فيما يتعلق بالقيم فسوف يكون عسيرا اشد العسر إقامة مثل هذه الديمقراطية في عصرنا ، ويصلون إلى القول إذا كان لابد من دين جديد فان التاريخ الغربي كله يوحي بان هذا الدين لن يأتي على يد المفكرين بل عن طريق مصدر آخر أكثر تواضعا وانه سيكون ولو إلى حين على الأقل أمرا شديد العسر على نفوس المفكرين الرسميين ، ويصل العلماء إلى القول ( إن الديمقراطية المثالية أي ديمقراطية مؤمنة (بالمعنى السامي للعقيدة الدينية) قد تكون أمرا ممكنا على الرغم من أن ديمقراطية كهذه قد يكون عسيرا عليها أن تلائم إرثها الدنيوي والعلمي مع العقيدة الأخروية -ص387 ن م).
إن المفاهيم التي طرحت السلوك الحضاري للديمقراطية قد حاولت هضم المفاهيم المسيحية وتوظيفها لحسابها من دون البعد الغيبي والروحي لها وانما لضبط السلوك الإنساني المطلوب للديمقراطية، ونقطة الانطلاق في المفهوم الديمقراطي للسلوك الحضاري هذا يذهب إلى التبرير التالي (السلوك الحضاري المبني على فصل الكنيسة عن الدولة يعني بأن الوحي لا يطبق بالقوة ليبطل احتجاجات العقل البشري، كما يعني أن لا يجبر العقل على إصدار أحكام على ادعاءات الوحي، وهكذا تؤكد حدود الحكمة البشرية عدالة الحكومة المحدودة والمواطنة وسلوكها الحضاري –ص87 السلوك الحضاري والمواطنة).
إن المفهوم العلماني للديمقراطية والفصل بين الكنيسة والدولة في رأي الديمقراطيين ( لا يجب أن يعني فصل الأخلاق عن السياسة أو القيم عن الوقائع، بل يجب أن يعني انه يوحد الأخلاق المدينية والتعليم الأخلاقي للدين من خلال كلمة الضمير) بل ان المفهوم الديمقراطي للسلوك الحضاري يذهب إلى ان هناك حق اسمه حق الضمير حيث انه (لا يمكنه –حق الضمير- ان يأمر بأي أمر مناقض للقانون الطبيعي فحق الضمير نفسه هو أحد حقوق الإنسان الطبيعية ولابد ان يمارس على نحو يتناسق مع باقي الحقوق) لقد كان جورج واشنطن يذهب إلى ان الدين والأخلاق ليسا مجرد وسائل للازدهار السياسي فقط انهما العمودان العظيمان للسعادة البشرية والسعادة شرط او نشاط تستدعيهما الأخلاق والدين ومن دونهما لن يكون الإنسان سعيدا سعادة حقة مع انه يسلم بان تأثير التعليم المهذب على العقول بنية معينة قد يسمح للأخلاق وحدها في ان تكون كافية في حالات قليلة جدا، ويؤكد الدارسون ان السلوك الحضاري اصبح هو النقطة التي جرى عندها استمالة التقاليد الكلاسيكية المسيحية في السياسة الغربية والتي ظلت في حالة توتر لمدة طويلة حيث تم اللقاء في النهاية التقاء اعتمد على إجراء تعديلات أساسية على كل منهما والذي ظل اقل بكثير من الاتحاد التركيبي وبكلمات أخرى يمثل السلوك الحضاري التحويل الليبرالي المميز والمحبة المسيحية على حد سواء ووريثها الوحيد المتفق عليه.
ويعتقد الديمقراطيون اليوم ان السلوك الحضاري يظهر تغييرا هائلا عظيما في أمور السياسة والدين معا بحيث انه من الصعب الآن إدراك ما قبل العصرية لأي منهما فمسيحي معاصر هو بالضبط ذلك الذي يقبل صحة السلوك الحضاري كترجمة لمتطلبات المحبة وهو بكلمات أخرى يوافق على ان المحبة تتطلب ان تحجم عن القسر في أمور العقيدة وان كل قسر كهذا هو تصرف غير مسيحي بكل ما في الكلمة من معنى .لقد كان اكتشاف السلوك الحضاري أو التسامح كما اسموه هو الوسيلة للتوفيق بين متطلبات الاستقرار المدني ووجود الفرق المسيحية المتنافسة فقد هدف مكتشفوا هذا السلوك الى فك قبضة المسيحية السياسية من دون توجيه أية إساءة قاتلة للمسيحيين المعتدلين او القابلين للإقناع ،لذلك قدموا السلوك الحضاري لا على انه رفض بل على انه تحويل للمسيحية وحملوه على انه التفسير الصحيح للكتاب المقدس الذي استغلق فهمه على الطوائف المتعصبة ولهذا السبب اخذ السلوك الحضاري الكلاسي شكل تعليق على الكتاب المقدس –ص 108 ن.م-.
لقد تحول جوهر المحبة المسيحية الحقيقي إلى التسامح الليبرالي بين الطوائف المسيحية وحتى في وجود الطوائف غير المسيحية طالما كانت هذه الطوائف نفسها متسامحة ،وبالنتيجة فان ممارسة التسامح نفسه –رفض مفهوم السياسة المسيحية –ضمن وجود الإيمان المسيحي .
لقد كان السلوك الحضاري الفضيلة الجديدة أيضا وهو الذي كان عليه ان يأخذ وعلى مدى واسع مكان المواطنة في مجتمع ما بعد المسيحية الجديد فالمواطنة في المعنى القوي الكلاسي ماتت منذ زمن طويل ، وقد عبر عن هذا المعنى بالقول (ان علينا في المجتمع الديمقراطي ان نكون متسامحين وان الناس في المجتمع الديمقراطي لهم حقوق طبيعية وان من بين هذه الحقوق حرية العبادة وحرية الكلام وحرية النشر والصحافة وحرية الاجتماع ، وعلى المؤسسات ان تعمل والى آخر مدى لكي تكفل عمليات كل ما تمجده وتسعى إلى تأمينه وليس هذا كل شيء فان ركيزة الديمقراطية وجوهرها ان علينا جميعا ان نتسامح حقا وفعلا مع أولئك الذين يختلفون معنا بشأن القضايا العميقة المتعلقة بمصير الإنسان –ص22 تشكيل العقل الحديث).
الديمقراطية والعولمة
في بحث نشره عبر الإنترنت بعنوان –كيف نتفاعل مع العولمة –يقول الدكتور محمد حسن رسمي عميد كلية الحاسبات والمعلومات في جامعة القاهرة ( لو أدرك فاقد معنى ومغزى العولمة ما تحمله العولمة لمات هربا وفزعا من ويلاتها ، إنها فيضان النيل في وقت غدره لمن هو غير مستعد له …وخيره لمن بنى السدود واستعد لملاقاته بالعقل والعلم والإخلاص والإصرار على تحقيق الذات ) علما انه كان قد بدأ مقاله بوصف العولمة بأنها ( طوفان كاسح لمن يقف في طريقها رافضا ان يتفهم فكرها وفلسفتها وآلياتها ، اذا كان يملك سدا منيعا يهزم ويلاتها ويسخر لنفسه ، ونظام العولمة في حد ذاته يدعم الأقوياء ويطحن الضعفاء ويضحك الأصحاب ويبكي الضعفاء بل يمكن صانعها من التحكم والسيطرة وامتلاك مقررات ومستقبل المتفرجين المذهولين الصامتين المنتظرين لمعجزات السماء ) .
أما تأثير العولمة على الديمقراطية فيقول عنه بان من سمات العولمة ونظامها انه ( يتسم بتحرير الحرية والديمقراطية من قيودهما سواء كان الحديث عن السياسة او الاجتماع او المعلومات او الاقتصاد او التعليم ،انهما اصبحا مطلبا أساسيا لكل شعوب العالم المتطلع للتقدم ) وفي إطار كيفية التفاعل مع هذه العولمة في الإطار الديمقراطي للمجتمع يطالب الدكتور محمد حسن بتعميم فكر الانتماء والولاء للامة ويعده أمرا لازما ومعرفة تاريخ وجذور الأمة أمر ضروري والإيمان بالعطاء والتضحية من اجل قيمة العمل أمر واضح حتميا وكل هذه المفاهيم لن تحدث الا لو شعر واقتنع الفرد انه جزء من الكل وله حق ودور مثله مثل من يقود المركب ، إن ذلك هو جوهر الديمقراطية شمس هذا العالم الجديد .
وزيادة في إيضاح معنى العولمة وخطورتها نعرض لبحث آخر أعده مركز الائتلاف للبحوث والدراسات بعنوان ( العولمة تجلياتها الثقافية والنفسية ومؤشرات التعامل معها عربيا) نشر على الإنترنت جاء فيه ان أول من تبنى مفهوم العولمة في أمريكا هو بريجنسكي الذي كان مستشارا للرئيس الأمريكي في 1977-1980الذي أراد من العولمة ان تطرح النموذج الأمريكي للحداثة والقيم الأمريكية للحرية وحقوق الإنسان أي ان طرح العولمة كان لخلق توجهات( لتجانس سياسي واقامة الديمقراطية وتجانس اجتماعي وحرية التنقل وتأمين حقوق الإنسان وتجانس ثقافي أي المعلومة لمن يريدها ، وهي تجانسات سترتكز في بعض جوانبها على فن الإقناع (نفسيا) بالوسائل والأدوات المتاحة وبينها استخدام القوة ( الردع النفسي ) عند الضرورة بهدف فرض قناعات بديلة لعموم المجتمعات البشرية التي باتت قريبة من بعضها بحكم وسائل الاتصال عالية الجودة كما حصل للعراق عام 1991 ويوغسلافيا عام 1999)
ويستشهد البحث بنص من كتاب ديناميكية العولمة للمؤلف –جيمس روزنار-الذي يتحدث عن تأثير العولمة قائلا ( وتأسيسا على ذلك كان للمجال الثقافي ذو الصلة بالجوانب النفسية للعولمة أسبقية تزامنت مع بعض مجالاتها الاقتصادية وتداخلت مع أخرى او تقدمت عليها –السياسية والاجتماعية-بقصد التهيئة لتقبلها جميعا وفي ضوئها تم تكييف الثقافة وهي المنتج الاجتماعي سلعة مثل السلع المادية تتداول في سوق يسودها الأقوى ثقافيا وبوسائل إيصال للمستهلكين ميسورة –القنوات الفضائية والإلكترونيات والحواسيب والإنترنت وغيرها بقصد نقل الأفكار والمبادئ ونشر المعلومات لمستوى الشيوع بين جميع الناس ومن ثم صياغة ثقافة عالمية لها قيمها ومعاييرها لزيادة معدلات التشابه او التجانس بين الجماعات والمجتمعات والمؤسسات في محصلة تبرز في إطارها وعلى مستوى النفسي إمكانية تشكيل وعي وإدراك ومفاهيم وقناعات عالمية الطابع )
ومن هنا نرى ان وسائل العولمة وادواتها لم تترك المجال واسعا للاختيار بين الرفض والقبول كما كان سائدا في زمن الأيديولوجيات او عصر ما قبل العولمة لان الآراء والتوجهات وأساليب الحياة يمكن إيصالها إلى الجميع في كل الظروف والأوقات ودونما اية تحديدات ، وبمعنى آخر بالإمكان إبقائها ماثلة في وعي المستهدفين بصورة شبه مستمرة .
لقد أصبحت العلاقة بين العولمة والديمقراطية مسألة أكيدة بل مسالة مسلم بها عند جميع الباحثين والعلماء ولعل من اكثر الذين ركزوا على طابع المجتمع في القرن الحادي والعشرين في ظل العولمة هما المؤلفان –جون ميكلويت و ادريان وودريج- في كتابهما (تحدي العولمة ووعدها الخفي) وسنعرض لبعض أفكارهما فيه من خلال ما جاء على صفحة عروض الكتب على الإنترنت .
يؤكد العالمان على ان العولمة المتسارعة بعد نهاية الحرب الباردة قد تقود العالم إلى الازدهار او الدمار ويؤكدان ان العالم اليوم أمام منعطف تاريخي سوف تحدد فيه العولمة في السنوات القليلة القادمة مسار البشرية في القرن الحادي والعشرين إما الدمار وإما الازدهار ،
وفيما يخص الديمقراطية والعولمة يقولان بان العولمة تساعد على انتشار الديمقراطية في العالم وان ثمة تلازما بين الاثنتين سيما ان الظاهرتين اكتسبتا زخما متزامنا في العقد الأخير وبعد نهاية الحرب الباردة لأن العولمة اليوم حطمت –استبداد المكان-أي أتاحت المجال للناس لمزيد من التنقل والتواصل وتجاوز الحدود التي حشرتهم لعشرات السنين وأجبرتهم على نمط واحد من المعيشة وطريقة واحدة للاستثمار وفي مكان واحد وحدت آفاق قراءاتهم ورؤيتهم للعالم ،وأبعد من ذلك فان العولمة –كما يقول المؤلفان-وفرت للناس إمكانية إعادة تشكيل هوياتهم بشكل مستقل عن الآخر وهي الهويات التقليدية التي توارثوها عن أجدادهم ، على ان العولمة حدت من خيارات البشر اقتصاديا وسياسيا وثقافيا فالنموذج المعولم هي الليبرالية والديمقراطية الغربية والثقافة الغربية وهي النموذج السائد الآن والمروج له في الدول والمجتمعات .
على ان العولمة الإعلامية هي التي لها تأثير كبير مباشر جدا لان فيها تأثير إيجابي في الانفتاح السياسي وتعزيز التحول البطيء نحو الديمقراطية في الدول الدكتاتورية والمقصود هنا بالعولمة الإعلامية هو الانفتاح المذهل على المعلومات وكسر الاحتكار الرسمي لها إم عن طريق البث التلفزيوني العابر للحدود او شبكة الإنترنت التي اخذ تنتشر بسرعة .
ان العالم اليوم يسعى إلى توسيع مفهوم الديمقراطية وتأصيله بما يتفق ومطالب عصر المعلومات ووسائله وأخذت رايات الديمقراطية تتسع لتشمل أفريقيا وجنوب شرق آسيا وأوربا الشرقية كل ذلك يعكس حقيقة التفاعل بين المعلوماتية والديمقراطية هو تفاعل حقيقي حيث ان وفرة المعلومات تسهل ممارسة الديمقراطية على كافة الأصعدة وتروج لها على مستوى الكرة الأرضية .ويعبر دكتور نبيل علي عن العلاقة بين المعلوماتية والديمقراطية بقوله (من ابرز ملامح العلاقة المعلوماتية –السياسية هو ما يتعلق بالديمقراطية مفهوما وممارسة حيث يزعم الكثيرون ان الإنترنت ستفضي إلى إعادة النظر في مفهوم الديمقراطية من أساسه لقد وفرت الإنترنت ساحة جديدة للرأي العام تسمح بظهور أشكال جديدة للممارسات الديمقراطية سواء في عمليات اتخاذ القرارات او متابعة ما ينجم عنها من نتائج إيجابية او سلبية وعلى مستوى السياسة العالمية فمن المتوقع ان تناصر القوى السياسية الكبرى مؤسساتها الاقتصادية بممارسة ضغوط هائلة على منافسيها على مستوى المحافل الدولية –87 الثقافة العربية وعصر المعلومات)
ويؤكد الباحث على القول ( هل لنا ان نتفاءل مع من يزعمون ان الإنترنت سوف تسقط الحلقات الوسيطة ومواطنيهم محققة بذلك نوعا جديدا من الديمقراطية المباشرة التي يشارك فيها الجميع في عملية اتخاذ القرار من دون حاجة الى تمثيل نيابي يوكل اليه هذه المهمة ؟ أم هل لنا ان نقلق اشد القلق مع من يرى في ديمقراطية الإنترنت هذه ضربا من الفوضى سيؤدي الى مزيد من تدخل الحكومة من اجل السيطرة على جماهيرنا خاصة ان الإنترنت توفر الوسائل العملية الفعالة لاحكام هذه السيطرة حيث تسجل للمواطنين مواقعهم وافعالهم لتكشف –بالتالي- عن أهوائهم السياسية والفكرية مما يجعلهم اكثر عرضة لهذه الرقابة الإلكترونية التي لا تغفو لها عين –ن م ).
من جهة أخرى نرى ان هناك استلابا لاختيار الإنسان عبر إغراقه بسيل جارف من المعلومات عبر وسائل الاتصال الحديثة وشبكة الإنترنت وكل ما يدعى بالعولمة الإعلامية حتى انه لا يستطيع ان يفرز ما يجب ان يختاره لمصلحته وما يوهمه به، هذه الحقيقة جعلت الرئيس الإيراني خاتمي يتحدث في كتابه عن الإسلام والعالم عن اثر قنوات الإعلام بحقوق الشعب وسلامة ممارستها فيكتب قائلا –نقلا عن الإنترنت-(لقد باتت هجمات المعلوماتية تسلب الإنسان إمكانية الاختيار الواعي فهو يقف اليوم مثل كائن متأثر سلبي عاجز حيال موجات المعلوماتية وأعاصيرها التي تلتف حوله من كل حدب وصوب، ان الحصول على مقدرة الاختيار الواعي في ظروف كهذه يتطلب إعدادا وسرعة في استلاب الهوية لا في مجتمعاتنا وحسب بل في العالم بأسره) ويؤكد خاتمي ان هذه المسألة ليست على مستوى محلي فقط بل في العالم الغربي أيضا (ان عولمة المعلوماتية تسبب قي قلق البلدان الغربية أيضا ولذلك نلمح في الساحة الدولية مساعي للحصول على حقوق في الفضاء الخارجي وفيما يتصل بأمواج الإرسال والبث والاتصالات في سبيل الدفاع عن حقوق الأشخاص والشعوب أمام هجمات المعلوماتية التي تركب موجة التكنولوجيا اهتماما بأزمة الهوية لدى الشعوب ) وهو يؤكد أيضا انه ( لا يريد طبعا بالتمسك بالهوية ان تعمد الأمم الى إغلاق حدودها في وجه الآخرين وتضع حدا لصلتها بالعالم بل ينبغي للمرء ان يتمكن من الاقتباس من الآخرين وهو ما لا يتحقق بشكل صحيح الا بعد ان يمتلك المرء وعيا بهويته ) .
ان خطورة المعلوماتية الإعلامية على الديمقراطية تظهر اكثر حينما نعلم ان السبب يعود (( نتيجة لتخلخل في الحدود التي تميز بين المعلوماتية وموجات الدعاية والإعلانات ، فالعديد من قنوات الإعلام التي تمتلك قدرة كبيرة على الهيمنة تتجاوز الجو الحقيقي للمعلوماتية وتأخذ بنحو مباشر او غير مباشر بالترويج لما يحقق مصالحها ) وهكذا نرى ان ( الدعاية الخفية من خلال مهارات في التكتيك وصناعة الخبر والجانب المعلوماتي تسلب المرء فرصة الموقف الواعي فيقع دونما وعي تحت تأثير أفكار يتلقاها بوصفها أخبارا ومعلومات ، وبالطبع فان من يمتلك تقنيات متقدمة في الإعلام والتكنولوجيا سيهيمن على الرأي العام أكثر من الآخرين ، ان من يحمل فكرة او يعتنق تصوراً ما سيعمل ولا شك على ترويجها ، قصارى ما هنالك ان امتزاج المعلوماتية بأنشطة الدعاية واختلاطها جعلا الإنسانية في مواجهة تعقيدات جادة ولا بد من فرز تلك الحدود والتمييز بين المعلوماتية والنشاط الدعائي)
وخلاصة القول هنا ان ممارسة الديمقراطية ستتأثر سلباً وفي محاولات الترويج الدعائي على حساب صدق المعلوماتية :.
على ان من احدث النظريات في إطار المعلوماتية والديمقراطية ومستقبل العالم هي النظرية التي طرحها الكاتبان السويديان الكساندر بيرد المحاضر الجامعي والخبير في مجال الاتصالات الصوتية بواسطة الإنترنت وجان سودير الكاتب والمنتج والمذيع التلفزيوني حيث يتحدثان عما يسمى النتوقراطية منطلقين من رفض نظرية ان الإنترنت سيعزز موقف الرأسمالية والديمقراطية عبر إشاعة المزيد من الحرية للتجارة والاقتصاد والأفراد عموماً في مختلف نواحي الحياة ومن رفض نظرية ان بالإمكان السيطرة على الإنترنت من قبل الدول وانه سيتحول لأداة كبت وسيطرة طارحين بدل هاتين النظريتين نظريتهما الجديدة عن النتوقراطية في كتابهما بالعنوان ذاته– النتوقراطية : نخبة القوة الجديدة وحياة ما بعد الرأسمالية . وكلمة النتوقراطية هي نحت لغوي من قبل المؤلفين حيث يعني الجزء الأول من الكلمة نت أي الشبكة والثاني قراطية ليخرج مصطلح جديد يعبر في رأيهما عن حقبة جديدة في تاريخ الإنسانية تأتي فوق حطام الرأسمالية والديمقراطية ، ويربطان كلمة النتوقراطية بعبارة عصر المعلوماتية الذي يأخذونه منطلقا لنظريتهم المستقبلية للعالم . وبمقدار ما يخص موضوعنا في علاقة الديمقراطية بالمعلوماتية وعولمتها عبر العولمة الاقتصادية للمعلومات نرى انهما يركزان على القول من ان المعلومة ومن يسيطر عليها يمتلك قوة هائلة وان الاقتصاد يعتمد على بيع المعلومة وأصبحت تكنولوجيا المعلومات هي التسلية والإعلام والسلعة الجديدة وباتت شيئاً فشيئاً تحل محل كثير من مؤسسات المجتمع الرأسمالي السياسية والتعليمية وبات الحديث عن حرية التجارة وانتقال رؤوس الأموال لا معنى له مع تزايد التجارة الإلكترونية الواقعة تحت سيطرة النخب المتحكمة بشبكات الاتصال والمعلومات . ويرى الكاتبان ان أهم مزايا اقتصاد المعلومة أنه لا يقوم على بيع المعلومة او حتى تحويلها لمورد دخل مالي بل ان النتوقراطية – كما يقولان – ستمتاز بنوع من الاستثمار او الاستهلاك غير الاستغلالي بمعنى ان النتوقراط قد يقررون الاستفادة من معلومة خاصة لمصلحتهم ومصلحة شبكتهم او حتى متعتهم الشخصية حصرياً وتبادلها في إطار نخبة ضيقة من النتوقراط في شبكتهم الخاصة دون ان يبيعوها او يستثمروها على نحو يدر ربحاً مالياً كما هي القاعدة في الرأسمالية ، اما انعكاس هذا الاقتصاد النتوقراطي على النظام الديمقراطي فيتحدث المؤلفان بالقول بأن هناك عدة عوامل تقود النظام الديمقراطي وسيطرة البرجوازية الاقتصادية الى نهايتهما ، فمن جهة يلعب انتشار وشبكات الاتصال الراهنة لصالح جماعات المصالح او ما يسمى المجتمع المدني ، وهذه الجماعات في الواقع تلعب دوراً يفقد الديمقراطية معناها الشائع بصفتها حكم الأغلبية ، فبفضل القوة والتنظيم – كما يقول المؤلفان – الذي تستطيع جماعة صغيرة منظمة ان تمتلكها عبر وسائل الاتصال وتكنولوجيا المعلومات الحديثة مما يمكنها ان تدفع بمصالحها الى الأمام وتجبر السياسيين على تبني وجهات نظرهم وتقييمها للبرلمانات بغض النظر عن مواقف قطاعات اجتماعية أخرى مما يجعل الحكم حكم أقليات وجماعات مصالح لا حكم الأغلبية ، ولعل من نتائج هذا الوضع انه بينما تنتعش هذه الجماعات المنظمة يتراجع اهتمام الجماهير بالمشاركة في الانتخابات العامة ، فتتناقص هذه المشاركة تدريجياً في علامة على فقدان الاهتمام بالنظام برمته . كما ان الإعلام الجماهيري الرأسمالي قد يسهم في إضعاف النظام الديمقراطي ، فالسياسة والسياسيون يوشكون على التحول الى نوع من التسلية ، فأخبارهم الشخصية وفضائحهم باتت مادة الإعلام المثيرة التي تشبع نهم القارئ لا تفاصيل القوانين والتشريعات وهذا أعطى جماعات المصالح – لا سيما ان تعاملت مع الإعلام على نحو معين –الفرصة لبلورة مشاريعها الخاصة التي تلبي مصالحها وتمررها عبر السياسيين الذي اصبح يقيس تصرفاته بصداها الإعلامي المتوقع ويتوصل المؤلفان إلى القول انه اذا كانت الديمقراطية تقوم في جوهرها على تباين الآراء والدخول في عملية حوار للوصول الى رأي من تلك الآراء ، فان الإنترنت اصبح يسمح بإعادة التجمع بين أصحاب الرأي الواحد داخل الدولة وخارجها وتسيير أمورهم بأنفسهم دون الحاجة للالتقاء بأصحاب الرأي الآخر ، وهذا يتبعه تساقط العديد من أساطير الدولة القومية من مثل احترام شرعية الدولة والقيادة والموت لأجلها ولأجل سيادتها ، كما حلت شبكات إتصالية محل الروابط القائمة على النسب والعائلة والألقاب ، بل ان الإعلام الجماهيري ذاته يتشظى الآن وبدل الشبكات التلفزيونية والراديو الخاص بكل شعب أصبحت تتراجع امام شبكات تبيع برامجها بالاشتراك وتقدم ما تريده شرائح معينة من المستهلكين كل حسب اهتمامه ودون الالتزام بحدود الدول مما يلغي تلك الأطر الإعلامية القومية وكل هذا يعني تراجع قدرات مؤسسات الدولة لصالح شبكات الاتصال والمسيطرين عليها ، وإذا كانت الشركات المتعددة الجنسية السابقة ترفع عادة أعلام دولها وتحتاج لرعايتها والتحالف معها حيث كانت رأ س حربة دولها لاستعمار دول أخرى فان الشبكات لا تحتاج ذلك وتجاوزت حاجتها للدولة وبات من مصلحتها الظهور بمظهر عالمي –غير وطني-غير محلي.
ان مجتمع النتوقراطية هذا وفي هذا السياق ستكون المعلومة فيه هي عنصر القوة والحراك الاجتماعي داخل الهرم وستكون المعلومة الأهم تلك التي لا تباع بل يستفاد منها فهم سيستثمرون معلوماتهم مباشرة وما سيبيعونه المعرفة الناتجة عنها ، أما المعلومة التي تباع ويشتريها الرأسماليون فهي غالبا ما تكون مستعملة تم الانتهاء من استثمارها .ان المعلوماتية –كما يقول المؤلفان-او مجتمع النتوقراطية ستكون زلزالا تاريخيا لا يقل حدة عن قدوم الرأسمالية في أعقاب الإقطاع ويصلان إلى الاستنتاج بان هناك حقبة عالمية جديدة ستقوم تكنولوجيا المعلومات فيها بتغيير طرق ومبادئ التفكير وسلوك البشر وسنكون أمام اقتصاد وسياسة واسرة وتعليم وحتى أفراد من أنواع مختلفة كليا عما عرفه التاريخ ،ومن جانب أيدلوجي فإذا كانت الفلسفة الشمولية قد غطت مساحة كبيرة من تاريخ الفكر الإنساني منذ سقراط وآدم سمث فان فلسفة الحركية ستغطي المساحة عبر مجتمع النتوقراطية هذا .
ديمقراطية الغد طموحات نظرية وتحديات واقعية
أولا : مستقبل الديمقراطية الليبرالية – نهاية التأريخ
قبل عشر سنوات كان الكاتب الأمريكي من اصل يوناني فرنسيس فوكوياما قد تحدث عن نهاية التأريخ بالنسبة للأنظمة السياسية ما دامت قد وصلت إلى مرحلة الديمقراطية الليبرالية – وقد خضعت هذه النظرية الى انتقادات كبيرة خلال هذه العشر سنوات ولكن المؤلف بقي على إصراره بان نهاية التاريخ هي الديمقراطية الليبرالية فالشيوعية قد سقطت وستسقط الأنظمة الدكتاتورية الأخرى ،
واليوم يعود فوكومايا ليكتب مقالا بعنوان ( عشر سنوات بعد نهاية التأريخ ) ليؤكد الحقائق السابقة ويرد على نقاده ومما قاله في هذا المجال .( طوال السنوات العشر الماضية لم يحدث أي شيء على صعيد السياسة العالمية او الاقتصاد الكوكبي يتحدى الاستنتاج الذي توصلت إليه ، وهو ان الديمقراطية الليبرالية والنظام الاقتصادي المتوجه نحو السوق هما الخياران الحقيقيان والوحيدان المتاحان للمجتمعات المعاصرة ) . ويؤكد انه خلال هذه السنوات العشر لم يحدث ما يجعله يتراجع عن رأيه ويقول بان ( البراهين التي طرحتها لإثبات ان التاريخ أحادى الاتجاه وتقدمي ، وانه يصل لمنتهاه مع الدولة الحديثة الليبرالية ما زالت سابقة سارية ونافذة ، واحد فقط من بين مئات النقاد الذي علقوا على نهاية التأريخ حدد نقطة ضعف حقيقية في الفرضية : لا يمكن ان يصل التأريخ لنهايته ما لم تنته العلوم الطبيعية ، ونحن الآن على حافة تطور مذهل في العلوم الحيوية ، سيؤدي في جوهره الى تغيير صورة الجنس البشري في ذاته ) ويرد على جميع منتقديه أنهم كانوا ينتقدونه بمحاولات لغوية ودلالية سمجة وأنهم لم يستوعبوا انه إنما استخدم التأريخ بمعناه الهيجلي الماركسي أي النشوء التطوري للمؤسسات السياسية والاقتصادية والبشرية ، وانه في ضوء ذلك فثمة قاعدتان أساسيتان لتحريك التأريخ : التكنولوجيا واستمرار الاكتشافات العلمية مما يمهد الطريق للتحديث الاقتصادي والكفاح من أجل الحصول على الاعتراف من قبل مختلف القوى الموجودة في المجتمع مما يؤدي في النهاية الى نسق سياسي يعترف بحقوق الإنسان الأساسية ، وعلى عكس الرأي الماركسي – يقول فوكوياما –افترضت ان عملية التطور التاريخي تلك قد وصلت لذروتها في الديمقراطية واقتصاد السوق والواقع انه من الصعب ان نتخيل وجود نقطة لم يتم نقد ( نهاية التأريخ ) من خلالها .
ويشير إلى التحديات التي تعرضت لها هذه النظرية وطرح البدائل عنها في السياسة الدولية مثل الحكم الديني الإسلامي والتسلطية الآسيوية .
وهو يؤكد في رده هذا على أنه لم يقل قط ان كل الدول ستصير إلى ديمقراطية في المدى القريب وان كل ما افترضته هو ان ثمة منطقاً تطورياً يخضع له التاريخ الإنساني وأنه سيؤدي الى وصول الدول الأكثر نمواً إلى السوق كاقتصاد والديمقراطية الليبرالية كنظام سياسي ومن ثم فلا ينبغي الاعتداد بواقعة وجود دول فرادى خارج هذا النسق مثل صربيا وايران .
ويؤكد فوكوياما من جديد على أنه ليس ثمة أي أزمة للرأسمالية الكوكبية لان العولمة أتت لتبقى وذلك لسببين
1