الباب السابع
من أحب صفة
لم يستحسن بعدها غيرها مما يخالفها
واعلم أعزك الله أن للحب حكماً على النفوس ماضياً، وسلطاناً قاضياً، وأمراً لا يخالف، وحداً لا يعصى، وملكاً لا يتعدى، وطاعة لا تصرف، ونفاذاً لا يرد؛ وأنه ينقض المرر، ويحل المبرم، ويحلل الجامد، ويخل الثابت، ويحل الشغاف، ويحل الممنوع، ولقد شاهدت كثيراً من الناس لا يتهمون في تمييزهم، ولا يخاف عليهم سقوط في معرفتهم، ولا اختلال بحسن اختيارهم، ولا تقصير في حدسهم، قد وصفوا أحباباً لهم في بعض صفاتهم بما ليس بمستحسن عند الناس ولا يرضى في الجمال، فصارت هجيراهم،وعرضة لأهوائهم، ومنتهى استحسانهم ثم مضى أولئك إما بسلو أو بين أو هجر أو بعض عوارض الحب، وما فارقهم استحسان تلك الصفات ولا بان عنهم تفضيلها، على ما هو أفضل منها في الخليقة، ولا مالوا إلى سواها؛ بل صارت تلك الصفات المستحبة عند الناس مهجورة عندهم وساقطة لديهم إلى أن فارقوا الدنيا وانقضت أعمارهم، حنينا منهم إلى من فقدوه، وألفة لمن صحبوه. وما أقول إن ذلك كان تصنعاً لكن طبعاً حقيقياً واختياراً لا دخل فيه، ولا يرون سواه، ولا يقولون في طي عقدهم بغيره. وإني لأعرف من كان في جيد حبيبه بعض الوقص فما استحسن أغيد ولا غيداء بعد ذلك. وأعرف من كان أول علاقته بجارة مائلة إلى القصر فما أحب طويلة بعد هذا. وأعرف أيضاً من هوى جارية في فمها فوه لطيف فلقد كان يتقذر كل فم صغير ويذمه ويكرهه الكراهية الصحيحة. وما أصف عن منقوصي الحظوظ في العلم والأدب لكن عن أوفر الناس قسطاً في الإدراك، وأحقهم باسم الفهم والدراية.
وعني أخبرك أني أحببت في صباي جارية لي شقراء الشعر فما استحسنت من ذلك الوقت سوداء الشعر، ولو أنه على الشمس أو على صورة الحسن نفسه وإني لأجد هذا في أصل تركيبي من ذلك الوقت، لا تؤاتيني نفسي على سواه ولا تحب غيره البتة، وهذا العارض بعينه عرض لأبي رضي الله عنه وعلى ذلك جرى إلى أن وافاه أجله.
وأما جماعة خلفاء بني مروان - رحمهم الله - ولا سيم ولد الناصر منهم، فكلهم مجبولون على تفضيل الشقرة، لا يختلف في ذلك منهم مختلف. وقد رأيناهم ورأينا من رآهم من لدن دولة الناصر إلى الآن فما منهم إلا أشقر نزاعاً إلى أمهاتهم، حتى قد صار ذلك فيهم خلقة، حاشى سليمان الظافر رحمه الله، فإني رأيته أسود اللمة واللحية.
وأما الناصر والحكم والمستنصر رضي الله عنهما فحدثني الوزير أبي رحمه الله وغيره أنهما كانا أشقرين أشهلين، وكذلك هشام المؤيد ومحمد المهدي وعبد الرحمن المرتضى رحمهم الله، فإني قد رأيتهم مراراً ودخلت عليهم فرأيتهم شقراً شهلاً، وهكذا أولادهم وأخوتهم وجميع أقاربهم، فلا أدري أذلك استحسان مركب في جميعهم أم لرواية كانت عند أسلافهم في ذلك فجروا عليها. وهذا ظاهر في شعر عبد الملك بن مروان بن عبد الرحمن بن مروان بن أمير المؤمنين الناصر وهو المعروف بالطليق، وكان أشعر أهل الأندلس في زمانهم وأكثر تغزله فبالشقر، وقد رايته وجالسته.
وليس العجب فيمن أحب قبيحاً ثم لم يصحبه ذلك في سواه فقد وقع من ذلك، ولا فيمن طلع مذ كان على تفضيل الأدنى، ولكن فيمن كان ينظر بعين الحقيقة ثم غلب عليه هوى عارض بعد طول بقائه في الجماعة فأحاله عما عهدته نفسه حوالة صارت له طبعاً: وذهب طبعه الأول وهو يعرف فضل ما كان عليه أولاً. فإذا رجع إلى نفسه وجدها تأبى إلى الأدنى فأعجب لهذا التغلب الشديد والتسلط العظيم، وهو أصدق المحبة حقاً، لا من يتحلى بشيم قوم ليس منه، ويدعي غريزة لا تقبله فيزعم أنه يتخير من يحب، أما لو شغل الحب بصيرته، وأطاح فكرته، وأجحف بتمييزه، لحال بينه وبين التخيل والإرتياد. وفي ذلك أقول شعراً، منه:
منهم فتى كان في محبوبه وقص كأنما الغيد في عينـيه جـنـان
وكان منبسطاً في فضل خبرتـه بحجة حقها في القول تـبـيان
إن المها وبها الأمثـال سـائرة لا ينكر الحسن فيه الدهر إنسان
وقص فليس بها عنقـاء واحـدة وهل تزان بطول الجيد بعـران
وآخر كان في محبـوبـه قـوة يقول حسي في الأفواه غزلان
وثالث كان في محبوبه قـصـر يقول إن ذوات الطول غـيلان
وأقول أيضاً:
يعيبونها عندي بشقـرة شـعـرهـا فقلت لهم هذا الذي زانها عـنـدي
يعيبون لون النور والـتـبـر ضـلة لرأى جهول في الغواية مـمـتـد
وهل عاب لون النرجس الغض عائب ولون النجوم الزاهرات على البعـد
وأبعد خلق الله مـن كـل حـكـمة مفضل جرم فاحم اللـون مـسـود
به وصفت ألـوان أهـل جـهـنـم ولبسة باك مثكل الأهـل مـحـتـد
ومذ لاحت الرايات سواد تـيقـنـت نفوس الورى أن لاسبيل إلى الرشـد
من أحب صفة
لم يستحسن بعدها غيرها مما يخالفها
واعلم أعزك الله أن للحب حكماً على النفوس ماضياً، وسلطاناً قاضياً، وأمراً لا يخالف، وحداً لا يعصى، وملكاً لا يتعدى، وطاعة لا تصرف، ونفاذاً لا يرد؛ وأنه ينقض المرر، ويحل المبرم، ويحلل الجامد، ويخل الثابت، ويحل الشغاف، ويحل الممنوع، ولقد شاهدت كثيراً من الناس لا يتهمون في تمييزهم، ولا يخاف عليهم سقوط في معرفتهم، ولا اختلال بحسن اختيارهم، ولا تقصير في حدسهم، قد وصفوا أحباباً لهم في بعض صفاتهم بما ليس بمستحسن عند الناس ولا يرضى في الجمال، فصارت هجيراهم،وعرضة لأهوائهم، ومنتهى استحسانهم ثم مضى أولئك إما بسلو أو بين أو هجر أو بعض عوارض الحب، وما فارقهم استحسان تلك الصفات ولا بان عنهم تفضيلها، على ما هو أفضل منها في الخليقة، ولا مالوا إلى سواها؛ بل صارت تلك الصفات المستحبة عند الناس مهجورة عندهم وساقطة لديهم إلى أن فارقوا الدنيا وانقضت أعمارهم، حنينا منهم إلى من فقدوه، وألفة لمن صحبوه. وما أقول إن ذلك كان تصنعاً لكن طبعاً حقيقياً واختياراً لا دخل فيه، ولا يرون سواه، ولا يقولون في طي عقدهم بغيره. وإني لأعرف من كان في جيد حبيبه بعض الوقص فما استحسن أغيد ولا غيداء بعد ذلك. وأعرف من كان أول علاقته بجارة مائلة إلى القصر فما أحب طويلة بعد هذا. وأعرف أيضاً من هوى جارية في فمها فوه لطيف فلقد كان يتقذر كل فم صغير ويذمه ويكرهه الكراهية الصحيحة. وما أصف عن منقوصي الحظوظ في العلم والأدب لكن عن أوفر الناس قسطاً في الإدراك، وأحقهم باسم الفهم والدراية.
وعني أخبرك أني أحببت في صباي جارية لي شقراء الشعر فما استحسنت من ذلك الوقت سوداء الشعر، ولو أنه على الشمس أو على صورة الحسن نفسه وإني لأجد هذا في أصل تركيبي من ذلك الوقت، لا تؤاتيني نفسي على سواه ولا تحب غيره البتة، وهذا العارض بعينه عرض لأبي رضي الله عنه وعلى ذلك جرى إلى أن وافاه أجله.
وأما جماعة خلفاء بني مروان - رحمهم الله - ولا سيم ولد الناصر منهم، فكلهم مجبولون على تفضيل الشقرة، لا يختلف في ذلك منهم مختلف. وقد رأيناهم ورأينا من رآهم من لدن دولة الناصر إلى الآن فما منهم إلا أشقر نزاعاً إلى أمهاتهم، حتى قد صار ذلك فيهم خلقة، حاشى سليمان الظافر رحمه الله، فإني رأيته أسود اللمة واللحية.
وأما الناصر والحكم والمستنصر رضي الله عنهما فحدثني الوزير أبي رحمه الله وغيره أنهما كانا أشقرين أشهلين، وكذلك هشام المؤيد ومحمد المهدي وعبد الرحمن المرتضى رحمهم الله، فإني قد رأيتهم مراراً ودخلت عليهم فرأيتهم شقراً شهلاً، وهكذا أولادهم وأخوتهم وجميع أقاربهم، فلا أدري أذلك استحسان مركب في جميعهم أم لرواية كانت عند أسلافهم في ذلك فجروا عليها. وهذا ظاهر في شعر عبد الملك بن مروان بن عبد الرحمن بن مروان بن أمير المؤمنين الناصر وهو المعروف بالطليق، وكان أشعر أهل الأندلس في زمانهم وأكثر تغزله فبالشقر، وقد رايته وجالسته.
وليس العجب فيمن أحب قبيحاً ثم لم يصحبه ذلك في سواه فقد وقع من ذلك، ولا فيمن طلع مذ كان على تفضيل الأدنى، ولكن فيمن كان ينظر بعين الحقيقة ثم غلب عليه هوى عارض بعد طول بقائه في الجماعة فأحاله عما عهدته نفسه حوالة صارت له طبعاً: وذهب طبعه الأول وهو يعرف فضل ما كان عليه أولاً. فإذا رجع إلى نفسه وجدها تأبى إلى الأدنى فأعجب لهذا التغلب الشديد والتسلط العظيم، وهو أصدق المحبة حقاً، لا من يتحلى بشيم قوم ليس منه، ويدعي غريزة لا تقبله فيزعم أنه يتخير من يحب، أما لو شغل الحب بصيرته، وأطاح فكرته، وأجحف بتمييزه، لحال بينه وبين التخيل والإرتياد. وفي ذلك أقول شعراً، منه:
منهم فتى كان في محبوبه وقص كأنما الغيد في عينـيه جـنـان
وكان منبسطاً في فضل خبرتـه بحجة حقها في القول تـبـيان
إن المها وبها الأمثـال سـائرة لا ينكر الحسن فيه الدهر إنسان
وقص فليس بها عنقـاء واحـدة وهل تزان بطول الجيد بعـران
وآخر كان في محبـوبـه قـوة يقول حسي في الأفواه غزلان
وثالث كان في محبوبه قـصـر يقول إن ذوات الطول غـيلان
وأقول أيضاً:
يعيبونها عندي بشقـرة شـعـرهـا فقلت لهم هذا الذي زانها عـنـدي
يعيبون لون النور والـتـبـر ضـلة لرأى جهول في الغواية مـمـتـد
وهل عاب لون النرجس الغض عائب ولون النجوم الزاهرات على البعـد
وأبعد خلق الله مـن كـل حـكـمة مفضل جرم فاحم اللـون مـسـود
به وصفت ألـوان أهـل جـهـنـم ولبسة باك مثكل الأهـل مـحـتـد
ومذ لاحت الرايات سواد تـيقـنـت نفوس الورى أن لاسبيل إلى الرشـد