لقد أصبحنا في زمنٍ يفهم النّاس فيه الحبَّ على أنّه ضعفٌ وفقر للعاطفة .. فعندما تحبّ شخصاً ما وتخاف عليه وتحاول حمايته برمش العيون يفهم تلك المحبّة أنّها ضعفٌ منك ويصبح يطلبها كأنّها واجبٌ عليك وكأنّك مأمورٌ بها .. وعندما تطالبه ببعض الحبّ الذي غمرته به يتنكّر لك ويشيح بوجهه عنك وكأنّه لا يعرفك .. وللأسف نحن في مجتمعٍ مريض يريد أن يأخذ ولا يُعطي .
لقد ضاع معنى الحبّ الحقيقي الذي قال فيه ربّ العزّة :" ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة "
* ضاع ذلك المعنى المميز للحبّ حين يقول أبو بكرٍ الصدّيق لقد شرب النبيّ عليه السلام حتى ارتويتْ
* ضاع ذلك المعنى العظيم للحبّ حين قام رجلٌ بإعطاء تمرة لفقير فقال ذلك المُعطي : "والله لقد شعرت بحلاوتها في فمي"
* ضاع ذلك المعنى الرائع للحب في المدينة الفاضلة حين يقول الرجل لصاحبه: يا أخي هاتين زوجتَيّ اختر واحدةً أطلقّها لك كي تتزوجها وهذا مالي خذ نصفه ودع نصفه لي .. وهذه داري اختر منها مكاناً واتخذّه مسكناً لك .
* ضاع ذلك المعنى الخيالي للحبّ حين يكون أولئك الثلاثة في الحرب وينزل بهم الموت جميعاً فينقلون الماء من أحدهم إلى الآخر حُباً أن يشرب قبله فيموت الثلاثة ولم يشرب منهم أحد .
* ضاع ذلك المعنى المقدّس للحب حين يقف ذلك الولد البارّ على رجليه حتى الصباح أمام والديه وهما نائمين ينتظرُ أن يستيقظا حتى يشربا اللبن .
* ضاع ذلك المعنى الأخلاقيّ للحبّ عندما يستأجر رجلٌ عُمّالاً فيعملون له ويغادر أحدهم من غير أجر فيقوم المُؤجِّر على تنمية مال العامل حتى أصبح جبلاً عظيماً من الغنم , فلمّا عاد ذلك الأجير طالبه بأجره فقال المؤجِّر : اذهب إلى ذلك الجبل من الغنم وخذه كلّه فهو لك !!! إنّه معنى المحبة للحق والمحبة للعامل والمحبة لربّ العامل الذي يخاف أن يعصيه ويطمع في عظيم أجره .
* ضاع ذلك المعنى المثالي للحب , حين يكون خُبيبٌ على خشبة الصلب والقوم يُمثِّلون به وهو حي ، فيقطعون من جسده القطعة تلو القطعة وهم يقولون له : ( أتحب لو أنّ محمداً مكانك وأنت ناج ؟ فيقول رضي الله عنه - والدماء تنزف منه - : والله ما أحب أن أكون آمناً وادعاً في أهلي وولدي ، وأنَّ محمداً يوخز بشوكة )
* ضاع ذلك المعنى المبهر للحب حين يسأل المريض طبيبه أن يستعجل في علاجه فهو لا يريد أن يتأخر عن زوجته المريضة بالزهايمر , فيقول الطبيب متعجباً : لكنّها لا تتذكرك فلماذا هذا الحرص على لقائها ؟ فيجيب الزوج : إنْ لم تكن تتذكرني فأنا أتذكرها .
* ضاع ذلك الحبّ الطاهر حين يسقي موسى عليه السلام لتلك المرأتين الغنمَ ثمّ يتولّى عنهما لا يريد من وراء ذلك مالاً أو طمعاً في شهوةٍ فيهما بل لأنّه محبٌّ للمروءة ولمكارم الأخلاق .
* ضاع ذلك الحب الشاكر للفضل حين يردّ الفاروق على رجل استعجب ارتفاع صوت زوج الفاروق عليه : "تحملتني..غسلت ثيابي وبسطت منامي وربَّت أولادي ونظفت بيتي , تفعل ذلك ولم يأمرها الله بذلك ،إنما تفعله طواعية وتحمَّلت كل ذلك ،أفلا أتحملها إن رفعت صوتها ؟"
* ضاع أعظم حبّ يحبّه رجلٌ لزوجته , حبّ الحبيب النبيّ لأمّ المؤمنين خديجة الطاهرة , تأتيه امرأةٌ فتجلس معه ويهتّم بها النبيّ الكريم فلمّا رحلت سألته عائشة رضي الله عنها : "مَنْ هذه يا رسول الله ؟؟ فيقول النبي الكريم : هذه صاحبة خديجة , فتردّ عائشة رضي الله عنها لقد أبدلك الله خيراً منها , فيقول الحبيب النبيّ الذي لا يُنكر فضل النّاس : "والله ما أبدلني من هي خيرٌ منها .. فقد واستني حين طردني الناس وصدقتني حين كذَّبني الناس "
* ضاع زمن الحبّ وأصبحنا في زمنٍ لا يحمل إلاّ قلوباً قاحلة ووجوهاً كالحة ونفوساً نافرة
وإنّك لتعجز كيف تريد أن تتعامل مع هكذا بشر في هكذا زمن .. ؟؟ هل تُغلق قلبك كما أغلقوا قلوبهم ؟؟ ولكن من سكن قلبه الحبّ لا يُمكنه أن يُسْكِنَ فيه الكره والبغض .
نسأل الله أن يعمر قلوبنا بالحبّ والإخلاص ...