إن كان لا بدّ للحركة الثقافية في الداخل الفلسطيني أن تدأب على الإتيان بمبادرات فيها من الجِدّة والكفاءة ما يغنينا، فقد يكون مهرجان "مساحات" للرقص المعاصر مثالا على ذلك.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
هذا المهرجان الذي ستكون فيه حيفا شاهدًا على حدث فني عالمي أسوة بلبنان وسوريا والأردن، ومستكشفًا، عن كثب، تجارب جديدة ذات مزيّة خاصة في الرقص المعاصر من أنحاء مختلفة في العالم. مهرجان "مساحات"، الذي شكّل منذ انطلاقته قبل سنوات في رام الله إضافة نوعية؛ على المستويين الفني والمهني، إلى المشهد الثقافي الفلسطيني، يصل في نيسان الجاري إلى مدينة حيفا التي تستضيف في إطاره ست فرق رقص عالمية، على اختلاف وتعدد ما تقدّمه من عروض. كما ويصل على شاكلة فنية مغايرة لم تشهدها مدينة حيفا، وعلى تنوّع يجعل منه حقلا يجد فيه كل منا، وبمعزل عن المعرفة والاطلاع، متعته الخاصة في نوع الرقص الذي يصب اهتمامه وذوقه فيه. فمثلا، يتشابك الرقص والهيب هوب والألعاب الرياضية في عرض فرقة بوتيجا الإيطالية، والتي ستفتتح المهرجان. بينما يصلنا من فرقة Irish Modern Dance Theater الإيرلندية ما هو حديث في الرقص الإيرلندي. وتتماوج أشكال التعابير في العروض بين المجازي والمباشر، بين الإيمائي الجسدي وبين التقنيات العصرية، بين الحديث والفلكلوري. وبذلك، يوفر لنا "مساحات" مساحات متنوعة، آتية من حضارات وتجارب حياتية وفنية مختلفة، في عالم الرقص المعاصر.
ما في المساحات من ندرة
ما في المساحات من ندرة
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
إن المهرجان يسعى إلى استقطاب فرق راقصة من جميع أنحاء العالم، الأمر الذي يمكننا كجمهور من الانفتاح على الحركة الفنية العالمية والاطلاع بشكل مباشر على تطورها" يقول عامر حليحل، المدير الفني للمهرجان، والذي قام إلى جانب المنتجين؛ مؤسسة "شبر حر" وشركة "Roots" للتسويق والإعلان والمدير الإداري جوزيف أطرش، بالمبادرة إلى تنظيم المهرجان في حيفا. ولعلّ مهرجانًا على شاكلة "مساحات"، لا تكمن أهميته في كونه جسرًا حقيقيًا بين الجمهور الفلسطيني في الداخل وبين ما تحمله الفرق الراقصة من تجارب متباينة من أنحاء العالم فحسب، ولا في كونه أرضية للتفاعل الثقافي بين هذه التجارب فقط، بل في ندرة المبادرات المشابهة، أيضًا. فيضيف حليحل: "إن هذا الحدث على قدر من الأهمية سيّما وأن الرقص هو فن مغيّب وسط الحراك الثقافي في الداخل. نحن نرى تجارب محلية هنا وهناك، ولها كل التقدير، ولكن انفتاحنا على أعمال مختلفة في العالم من خلال مهرجانات عالمية كـ"مساحات" يكاد يكون معدومًا".
قد نعزو ندرة هذه النوعيات من المهرجانات إلى الظروف الاستثنائية المفروضة علينا في الداخل، وعنها يقول حليحل: "لا شك بأننا مهمشون من قبل المؤسسة الإسرائيلية من جهة، ومن قبل العالم أجمع كفلسطينيين. ولذلك، فقد تبدو إمكانية الحصول على دعم مادي لإقامة مهرجانات بهذا الحجم ضئيلة أو شبه مستحيلة. فبالتالي، ما يتم تنظيمه عن طريق رام الله يكون أقرب إلى التطبيق إذا ما اعتبرناها بابًا أكثر شروعًا على العالم بعامة والعالم العربي بخاصة. ولعلّنا أكثر قربًا من التفاعل المباشر بالحركة الثقافية العالمية في أعقاب التغيير الإيجابي الذي طرأ على علاقة فلسطينيي الداخل بفلسطينيي الضفة الغربية؛ وهو التعامل مع الفلسطينيين في الداخل كجزء عضوي لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني. من الملاحظ أن استيعابنا كفلسطينيين لدى الفلسطينيين في الضفة اختلف عن الصورة التي كان عليها قبل عشرة سنوات وما يزيد". ويردف عامر حليحل: "آن الأوان، وبعد 60 عامًا على النكبة، أن يأخذ التفكير في دمجنا الحقيقي بالمجتمع الفلسطيني على كافة الأصعدة حيز التنفيذ. الفلسطيني في أي مكان في العالم هو فلسطيني، لا شيء يجعله مختلفًا سوى الظروف التي فرضت عليه، وظروفنا في الداخل ليست وحدها المختلفة كوننا "مواطنين" في هذه الدولة، بل تختلف أيضًا ظروف اللاجئ في لبنان عن اللاجئ في سوريا. ولذلك، فإنني أرى أهمية بالغة في أن هذا الوعي الفلسطيني والعربي، لاعتبارنا جزء طبيعي من الشعب الفلسطيني، يتجسّد في حدث ثقافي ملموس كالذي نقف أمامه الآن، والذي يضع حيفا في موضعها الطبيعي وإلى جانب امتداداتها العربية الطبيعية".
في ظل الظروف السياسية الخانقة، يقف الفلسطيني في الداخل، بحسب تعبير حليحل، على مفترق طرق يخيره بين أن يطّلع على النشاطات الثقافية الإسرائيلية؛ والتي بلا شك باهضة الثمن، عدا عن أنها ليست معنية بأن تصلنا قط، بل وتعمل مؤسساتها الحكومية الداعمة على هدم ثقافتنا الفلسطينية. وبين أن يصل إلى الضفة؛ إلى حركة ثقافية تخصّه، فيجد السلطات الإسرائيلية واقفة بالمرصاد، تمنعه من ممارسة هذا التواصل.
ما لنصب أعيننا من مساحات
لا يشكّل مهرجان "مساحات" إضافة اعتيادية إلى المشهد الثقافي الفني الفلسطيني في الداخل، بل ربما إضافة نوعية إليه بما يحمله المهرجان من أبعاد فنية وجغرافية وحضارية. فعن ما يضعه المهرجان والقائمون عليه نصب أعينهم من طموحات، يقول المدير الفني عامر حليحل: "إننا نسعى إلى تعريف الجمهور على ما يجري اليوم في العالم في عالم الرقص؛ فالمهرجان يتيح الفرصة للمشاهدين للإطلاع على الحركة الفنية الراقصة ويشكل رئة ومتنفسًا حقيقيًا للمهتمين في الرقص بخاصة، وللذين يعنوا بالشأن الثقافي بعامة". ويضيف حليحل: "من الجدير بالذكر أن المهرجان سيسجل أسعار تذاكر زهيدة نسبيًا، نحن نتحدث عن مبلغ 180 شاقلا لست بطاقات، أي لستة عروض. ولا ننسى هنا أن سعر التذكرة الواحدة لحضور عرض عالمي مشابه عند المجتمع الإسرائيلي يعادل هذه البطاقات الست.
إن القائمين على مهرجان "مساحات" يطمحون إلى أن يصبح تقليدًا سنويًا يجري العمل على توسيعه بالتواتر، بما في ذلك من تنوع ومزّية ثقافية خاصة في عالم الرقص المعاصر. ويقول حليحل إن إدماج حيفا هذه السنة ضمن مهرجان "مساحات" هو بادرة وخطوة أولى نحو توسيع دائرة المشاركة والتفاعل في السنين القادمة، من حيث عدد الفرق المشاركة وعدد العروض وغيرها. ولا شك بأن هذه الاستمرارية ستخلق حالة فنية مكثفة إلى المشهد الثقافي والتي لا بد لها أن تقوم على التطوير والبحث والتجديد، وليس على تطوير نفسها فحسب، إنما على تطوير شبكة علاقات مع الفرق والمؤسسات العربية والأجنبية مع مؤسساتنا في الداخل وخاصة المؤسسات الثقافية والفنية. ويضيف: "ثمة ضرورة بالغة في كون المهرجان تثبيتًا وتشديدًا على هويتنا الفلسطينية الثقافية، شاءت المؤسسة الإسرائيلية أم أبت، ولا سيما في ظل الهجمات والتضييقات الممارسة ضدنا. وكوننا فلسطينيين نمارس حياتنا الثقافية بطبيعية ليس شرفًا أو تهمة، إنها حقيقة يجب إشهارها في وجه السلطات الإسرائيلية"[/b][/right][/size]