قد ندب الله عز و جل نبيه صلى الله عليه و سلم إلى الصفح و العفو بقوله تعالى :
{ فَأصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } (1) قيل : هو الرضا بلا عتاب ، و قال تعالى : { خُذْ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينِ } (2) ، و قال تعالى : { وَ الْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَ الْعَافِينَ عَنْ الْنَّاسِ وَ الله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } (3) ، و قال تعالى : { وَ لَمَنْ صَبَرَ وَ غَفَرَ } (4)
و قال تعالى : { فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } (5) ، و عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : « رأيت قصورًا مشرفة على الجنة ، فقلت : يا جبريل ، لمن هذه ؟ قال : للكاظمين الغيظ و العافين عن الناس » . و قال معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه : لما بعثني رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى اليمن قال : « ما زال جبريل يوصيني بالعفو ، فلولا علمي بالله لظننت أنه يوصيني بترك الحدود » . و قال الحسن بن أبي الحسن : ‘ذا يوم كان القيامة نادى منادٍ : مَنْ كان له على الله أجر فليقم ، فلا يقم إلا العافون عن الناس ، و تلا قوله تعالى : { فَمَنْ عَفَا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ } (6) .
و قال علي كرم الله وجهه : أولى الناس حبي للعفو لما تقربوا إليّ إلاّ بالجنايات. و قال علي كرم الله وجهه : إذا قدرت على عدوك ، فاجعل العفو عنه شكرًا للقدرة عليه. قال المنتصر : لذة العفو يلحقها حمد العاقبة. و لذة التشفي يلحقها ذم الندم ، و قال ابن المعتز : لا تَشِنْ (7) وجه العفو بالتقريع به. و قيل : ما عفا عن الذنب مَنْ قرع به ، و قال رجل لرجل سبَّه : إياك أعنى. فقال له : و عنك أعرض . و كان الأحنف رحمه الله تعالى كثير العفو و الحلم ، و كان يقول : ما آذاني أحد إلا أخذت في أمره بإحدى ثلاث : إن كان فوقي عرفت له فضله ، و إن كان مثلي تفضلت عليه ، و إن كان دوني أكرمت نفسي عنه. و كان مشهورًا بين الناس بالحلم ، و بذلك ساد عشيرته و كان يقول : وجدت الاحتمال أنصرَ لي من الرجال. و قيل له : ممن تعلمت الحلُم ؟ فقال : من قيس بن عاصم ، كنا نختلف إليه في الحلم ، كما يُختلف إلى الفقهاء في الفقه ، و لقد حضرت عنده يومًا و قد أتوه بأخ له قد قتل ابنه ، فجاؤوا به مكتوفًا فقال : ذعرتم أخي أطلقوه ، و احملوا إلى أم ولدي ديته ، فإنها ليست من قومنا ، ثم أنشأ يقول :
أقولُ للنفسِ تصبيرًا و تعزيةَ .... إحدى يديَّ أصابتني و لم تردِ
كلاهما خَلفٌ مِن فقْدِ صاحِبهِ .... هذا أخي حين أدعوهُ و ذا ولدي
كلاهما خَلفٌ مِن فقْدِ صاحِبهِ .... هذا أخي حين أدعوهُ و ذا ولدي
من كتاب " المستطرف في كل فن مستظرف " للكاتب شهاب الدين محمد الأبهيشي . تحقيق الدكتور مصطفى محمد الذهبي .
________________________________________________-
(1) -- سورة الحجر : 85 (6) - سورة الشورى : 40
(2) – سورة الأعراف : 199
(3) – سورة آل عمران : 134 (7) – تَشِن : تقبح
(4) – سورة الشورى : 43
(5) – سورة آل عمران : 186