قال الله تعالى: { وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ } (1) ، وقال تعالى: { وَ عَلَى رَبِِهِِمْ يَتَوَكَّلُونَ } (2) ، وقال تعالى: { وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } (3) .
و عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: « يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير » (4) ، رواه مسلم. قيل: معناه يتوكلون، و قيل: قلوبهم رقيقة. و عن البراء بن عازب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: « لو توكلتم على الله حقَّ توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا (5) ، و تعود بطانًا » . و أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: « يا داود مَنْ دعاني أجَبْتُهُ، و مَنِ استغاثني أغَثْتُهُ، و مَنْ استنصرني نَصَرْتُهُ، و مَنْ توكَّلَ عليَّ كفَيْتُهُ، فأنا كافي المتوكلين، و ناصر المستنصرين، و غياث المستغثين، و مجيب الداعين » .
و حكي أنه كان في زمن هارون الرشيد، قد حصل غلاء سعر و ضيق حال، حتى اشتد الكرب (6)
على الناس اشتدادًا عظيمًا، فأمر الخليفة هارون الرشيد بكثرة الدعاء، و البكاء، و أمر بكسر آلات الطرب. ففي بعض الأيام رؤى عبد يصفق و يرقص و يغني، فحُمِلَ إلى الخليفة هارون الرشيد، فسأله عن فعله ذلك من دون الناس فقال: إن سيدي عنده خزانة بُرَّ (7) و أنا متوكل عليه أن يطعمني منها
، فلهذا أنا إذاً لا أبالي، فأنا أرقص و أفرح، فعند ذلك قال الخليفة: إذا كان هذا قد توكل على مخلوق مثله فالتوكل على الله أولى، فسلم الناس أحوالهم و أمرهم بالتوكل على الله تعالى.
و حكي أن حاتمًا الأصم كان رجلاً كثير العيال، و كان له أولاد ذكور و إناث، و لم يكن يملك حبة واحدة، و كان قدمه التوكل، فجلس ذات ليلة مع أصحابه يتحدث معهم فتعرضوا لذكر الحج، فداخل الشوق قلبه، ثم دخل على أولاده فجلس معهم يحدثهم، ثم قال لهم : لو أذنتم لأبيكم أن يذهب إلى بيت ربِّه في هذا العام حاجًّا، و يدعو لكم، ماذا عليكم لو فعلتم؟ فقالت زوجته و أولاده : أنت على هذه الحالة لا تملك شيئًا ، و نحن على ما ترى من الفاقة (8) فكيف تريد ذلك و نحن بهذه الحالة ؟ و كان له ابنة صغيرة فقالت: ماذا عليكم لو أذنتم لأبيكم له، و لا يهمكم ذلك، دعوه يذهب حيث شاء فإنه مناول الرزق، و ليس برازق، فذكرتهم ذلك. فقالوا صَدَقَتْ و الله هذه الصغيرة، يا أبانا انطلق حيث أحببتَ. فقام من وقته
و ساعته و أحرم بالحج، و خرج مسافرًا و أصبح أهل بيته يدخل عليهم جيرانهم يوبخونهم، كيف أذنوا له بالحج،و تأسف على فراقه أصحابه و جيرانه، فجعل أولاده يلومون تلك الصغيرة، و يقولون: لو سكت ما تكلمنا. فرفعت الصغيرة طرفها إلى السماء و قالت: إلهي و سيدي و مولاي عودت القوم بفضلك، و أنك لا تضيعهم، فلا تخيبهم، و لا تخجلني معهم.
فبينما هم على هذه الحالة إذ خرج أمير البلدة متصيدًا فانقطع عن عسكره و أصحابه، فحصل له عطش شديد فاجتاز بيت الرجل الصالح حاتم الأصم فاستسقى منهم ماء، و قرع الباب فقالوا: مَنْ أََنْتَ؟ قال: الأمير ببابكم يستسقيكم. فرفعت زوجة حاتم رأسها إلى السماء و قالت: إلهي و سيدي سبحانك
، البارحة بتنا جياعًا ، و اليوم يقف الأمير على بابنا يستسقينا، ثم إنها أخذت كوزًا (1) جديدًا و ملأته ماء، و قالت للمتناول منها: اعذرونا، فأخذ الأمير الكوز و شربنه فاستطاب الشرب من ذلك الماء
فقال: هذه الدار لأمير، فقال الوزير: لا و الله، بل لعبد من عباد الله الصالحين يُعْرَف بحاتم الأصم. فقال الأمير: لقد سمعت به. فقال الوزير: يا سيدي لقد سمعت أنه البارحة أحرم بالحج و سافر، و لم يخلف لعياله شيئًا، أُخْبرتُ أنهم البارحة باتوا جياعًا. فقال الأمير: و نحن أيضًا قد أثقلنا عليهم اليوم. و ليس من المروءة أن يُثقل مثلنا على مثلهم. ثم حلَّ الأمير منطقته من وسطه، و رمى بها في الدار، ثم قال لأصحابه: مَنْ أَحَبَنِي فَلْيُلْقِ منطقته، فحل جميع أصحابه مناطقهم و رموا بها إليهم ثم انصرفوا. فقال الوزير: السلام عليكم أهل البيت لآتينكم الساعة بثمن هذه المناطق، فلما نزل الأمير رجع إليهم الوزير
، و دفع إليهم ثمن المناطق مالاً جزيلاً، و استردّها منهم. فلما رأت الصبية الصغيرة ذلك بكت بكاءً شديدًا فقالوا لها: ما هذا البكاء غنما يجب أن تفرحي، فإن الله وسع علينا. فقالت: يا أم، و الله إنما بكائي كيف بتنا البارحة جياعًا، فنظر إلينا مخلوق نظرة واحدة، فأغنانا بعد فقرنا ، فالكريم الخالق إذا نظر إلينا لا يكلنا إلى طرفة عين، اللَّهم انظر إلى أبينا و دبره بأحسن تدبير.
هذا ما كان من أمرهم، و أما ما كان من أمر حاتم أبيهم فإنه لما خرج محرمًا، و لحق بالقوم توجع أمير الركب، فطلبوا له طبيبا فلم يجدوا، فقال: هل من عبد صالح؟ فدلّ على حاتم، فلما دخل عليه و كلمه دعا له فعوفي الأمير من وقته ، فأمر له بما يركب ، و ما يأكل ، و ما يشرب. فنام تلك الليلة مفكرًا في أمر عياله، فقيل له في منامه: يا حاتم من أصلح معاملته أصلحنا معاملتنا معه ، ثم أخبر بما كان من أمر عياله، فأكثر الثناء على الله تعالى ، فلما قضى حجه و رجع تلقَّاه أولاده، فعانق الصبية الصغيرة و بكى ثم قال: صغار قوم كبار قوم آخرين ، و إن الله لا ينظر إلى أكبركم و لكن ينظر إلى أعرفكم به فعليكم بمعرفته و الاتكال عليه ، فإنه من توكل على الله فهو حسبه.
من كتاب " المستطرف في كل فن مستظرف " للكاتب شهاب الدين محمد الأبهيشي . تحقيق الدكتور مصطفى محمد الذهبي .
________________________
و عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: « يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير » (4) ، رواه مسلم. قيل: معناه يتوكلون، و قيل: قلوبهم رقيقة. و عن البراء بن عازب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: « لو توكلتم على الله حقَّ توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا (5) ، و تعود بطانًا » . و أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: « يا داود مَنْ دعاني أجَبْتُهُ، و مَنِ استغاثني أغَثْتُهُ، و مَنْ استنصرني نَصَرْتُهُ، و مَنْ توكَّلَ عليَّ كفَيْتُهُ، فأنا كافي المتوكلين، و ناصر المستنصرين، و غياث المستغثين، و مجيب الداعين » .
و حكي أنه كان في زمن هارون الرشيد، قد حصل غلاء سعر و ضيق حال، حتى اشتد الكرب (6)
على الناس اشتدادًا عظيمًا، فأمر الخليفة هارون الرشيد بكثرة الدعاء، و البكاء، و أمر بكسر آلات الطرب. ففي بعض الأيام رؤى عبد يصفق و يرقص و يغني، فحُمِلَ إلى الخليفة هارون الرشيد، فسأله عن فعله ذلك من دون الناس فقال: إن سيدي عنده خزانة بُرَّ (7) و أنا متوكل عليه أن يطعمني منها
، فلهذا أنا إذاً لا أبالي، فأنا أرقص و أفرح، فعند ذلك قال الخليفة: إذا كان هذا قد توكل على مخلوق مثله فالتوكل على الله أولى، فسلم الناس أحوالهم و أمرهم بالتوكل على الله تعالى.
و حكي أن حاتمًا الأصم كان رجلاً كثير العيال، و كان له أولاد ذكور و إناث، و لم يكن يملك حبة واحدة، و كان قدمه التوكل، فجلس ذات ليلة مع أصحابه يتحدث معهم فتعرضوا لذكر الحج، فداخل الشوق قلبه، ثم دخل على أولاده فجلس معهم يحدثهم، ثم قال لهم : لو أذنتم لأبيكم أن يذهب إلى بيت ربِّه في هذا العام حاجًّا، و يدعو لكم، ماذا عليكم لو فعلتم؟ فقالت زوجته و أولاده : أنت على هذه الحالة لا تملك شيئًا ، و نحن على ما ترى من الفاقة (8) فكيف تريد ذلك و نحن بهذه الحالة ؟ و كان له ابنة صغيرة فقالت: ماذا عليكم لو أذنتم لأبيكم له، و لا يهمكم ذلك، دعوه يذهب حيث شاء فإنه مناول الرزق، و ليس برازق، فذكرتهم ذلك. فقالوا صَدَقَتْ و الله هذه الصغيرة، يا أبانا انطلق حيث أحببتَ. فقام من وقته
و ساعته و أحرم بالحج، و خرج مسافرًا و أصبح أهل بيته يدخل عليهم جيرانهم يوبخونهم، كيف أذنوا له بالحج،و تأسف على فراقه أصحابه و جيرانه، فجعل أولاده يلومون تلك الصغيرة، و يقولون: لو سكت ما تكلمنا. فرفعت الصغيرة طرفها إلى السماء و قالت: إلهي و سيدي و مولاي عودت القوم بفضلك، و أنك لا تضيعهم، فلا تخيبهم، و لا تخجلني معهم.
فبينما هم على هذه الحالة إذ خرج أمير البلدة متصيدًا فانقطع عن عسكره و أصحابه، فحصل له عطش شديد فاجتاز بيت الرجل الصالح حاتم الأصم فاستسقى منهم ماء، و قرع الباب فقالوا: مَنْ أََنْتَ؟ قال: الأمير ببابكم يستسقيكم. فرفعت زوجة حاتم رأسها إلى السماء و قالت: إلهي و سيدي سبحانك
، البارحة بتنا جياعًا ، و اليوم يقف الأمير على بابنا يستسقينا، ثم إنها أخذت كوزًا (1) جديدًا و ملأته ماء، و قالت للمتناول منها: اعذرونا، فأخذ الأمير الكوز و شربنه فاستطاب الشرب من ذلك الماء
فقال: هذه الدار لأمير، فقال الوزير: لا و الله، بل لعبد من عباد الله الصالحين يُعْرَف بحاتم الأصم. فقال الأمير: لقد سمعت به. فقال الوزير: يا سيدي لقد سمعت أنه البارحة أحرم بالحج و سافر، و لم يخلف لعياله شيئًا، أُخْبرتُ أنهم البارحة باتوا جياعًا. فقال الأمير: و نحن أيضًا قد أثقلنا عليهم اليوم. و ليس من المروءة أن يُثقل مثلنا على مثلهم. ثم حلَّ الأمير منطقته من وسطه، و رمى بها في الدار، ثم قال لأصحابه: مَنْ أَحَبَنِي فَلْيُلْقِ منطقته، فحل جميع أصحابه مناطقهم و رموا بها إليهم ثم انصرفوا. فقال الوزير: السلام عليكم أهل البيت لآتينكم الساعة بثمن هذه المناطق، فلما نزل الأمير رجع إليهم الوزير
، و دفع إليهم ثمن المناطق مالاً جزيلاً، و استردّها منهم. فلما رأت الصبية الصغيرة ذلك بكت بكاءً شديدًا فقالوا لها: ما هذا البكاء غنما يجب أن تفرحي، فإن الله وسع علينا. فقالت: يا أم، و الله إنما بكائي كيف بتنا البارحة جياعًا، فنظر إلينا مخلوق نظرة واحدة، فأغنانا بعد فقرنا ، فالكريم الخالق إذا نظر إلينا لا يكلنا إلى طرفة عين، اللَّهم انظر إلى أبينا و دبره بأحسن تدبير.
هذا ما كان من أمرهم، و أما ما كان من أمر حاتم أبيهم فإنه لما خرج محرمًا، و لحق بالقوم توجع أمير الركب، فطلبوا له طبيبا فلم يجدوا، فقال: هل من عبد صالح؟ فدلّ على حاتم، فلما دخل عليه و كلمه دعا له فعوفي الأمير من وقته ، فأمر له بما يركب ، و ما يأكل ، و ما يشرب. فنام تلك الليلة مفكرًا في أمر عياله، فقيل له في منامه: يا حاتم من أصلح معاملته أصلحنا معاملتنا معه ، ثم أخبر بما كان من أمر عياله، فأكثر الثناء على الله تعالى ، فلما قضى حجه و رجع تلقَّاه أولاده، فعانق الصبية الصغيرة و بكى ثم قال: صغار قوم كبار قوم آخرين ، و إن الله لا ينظر إلى أكبركم و لكن ينظر إلى أعرفكم به فعليكم بمعرفته و الاتكال عليه ، فإنه من توكل على الله فهو حسبه.
من كتاب " المستطرف في كل فن مستظرف " للكاتب شهاب الدين محمد الأبهيشي . تحقيق الدكتور مصطفى محمد الذهبي .
________________________
(1)- سورة الفرقان: 58. (5)- الخمص: ضمور البطن.
(2)- سورة الأنفال: 2. (6)- الكرب: الغم.
(3)- سورة الطلاق: 3. (7)- بُرًّ: قمح.
(4)- ابن ماجة في الزهد 4164. (8)- الفاقة: شدة الفقر و الحاجة
(9)- كوزًا: وعاء صغير للشرب.