أعلَمْ أن المودة والأخوة والزيارة سبب التآلف ، والتآلف سبب القوة ، والقوة سبب التقوى ، والتقوى حصن منيع ، وركن شديد ، بها يمنع الضيم (1) ، وتنال الرغائب ، وتنجح المقاصد . وقد منّ الله تعالى على قوم وذكرهم نعمته عليهم بأن جمع قلوبهم على الصفاء ، وردها بعد الفرقة إلى الألفة والإخاء فقال تعالى : {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}(2) ، ووصف نعيم الجنة وما أعد فيها لأوليائه من الكرامة إذا جعلهم إخوانًا على سرر متقابلين ، وقد سنَّ رسول الله صلى الله عليه و سلم الإخاء ، وندب (3) إليه ، وآخي بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين . وقد ذكر الله تعالى أهل جهنم وما يلقون فيها من الألم ، إذا يقولون: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} (4) ، وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : الرجل بلا أخ كشمال بلا يمين ، وأنشدوا في ذلك :
ومــا الــمـــرءُ إلاّ بـإخوانــهِ ... كـمــا يـقـبــضُ الـكــفُّ بــالـمعْصَم
ولا خـيرَ فـي الكفِّ مقطوعةٌ ... ولا خـيـر فـي الـسَّـاعِـدِ الأجْـذَمِ (5)
ولا خـيرَ فـي الكفِّ مقطوعةٌ ... ولا خـيـر فـي الـسَّـاعِـدِ الأجْـذَمِ (5)
وقال زياد : خير ما اكتسب المرء الإخوان ، فإنهم معونة على حوادث الزمان ، ونوائب الحدثان وعون في السراء والضراء (6) . ومن كلام علي كرم الله وجهه :
عليــكَ بـإخوان الصفــاءِ فــإنهـم ... عِمَــادٌ إذا اســتَنْجَدْتَهُـم وظهــورُ
وإنّ قليــلاً ألــفُ خــلِّ وصـاحـبٍ ... وإن عُــــدُّوا واحــــدًا لـكــثـــيـــرُ
وإنّ قليــلاً ألــفُ خــلِّ وصـاحـبٍ ... وإن عُــــدُّوا واحــــدًا لـكــثـــيـــرُ
وقال الأوزاعي : الصاحب للصاحب كالرقعة في الثوب ، إن لم تكن مثله شانته . وقال عبد الله بن طاهر: المال غاد ورائح ، والسلطان ظل زائل ، والإخوان كنوز وافرة.
وقال المأمون للحسن بن سهل : نظرت في اللذات فوجدتها كلها مملولة سوى سبعة. قال : وما السبعة يا أمير المؤمنين؟ قال: خبز الحنطة، ولحم الغنم ، والماء البارد ، والثوب الناعم ، والرائحة الطيبة ،والفراش الوطىء، والنظر إلى الحسن من كل شيء. قال: فأين أنت يا أمير المؤمنين من محادثة الرجال؟ قال : صدقت وهى أولاهن .
وقال سليمان بن عبد الملك: أكلت الطيب، ولبست اللين، وركبت الفاره، وافتضضت العذراء فلم يبق من لذاتي إلا صديق أطرح معه مؤنة التحفظ . وكذلك قال معاوية رضي الله عنه : نكحت النساء حتى ما أفرق بين امرأة وحائط، وأكلت الطعام حتى لا أجد ما استمرؤه (7) ، وشربت الأشربة حتى رجعت إلى الماء، وركبت المطايا، حتى اخترت نعلي ، ولبست الثياب حتى اخترت البياض ، فما بقي من اللذات ما تتوق إليه نفسي إلا محادثة أخ كريم . وأنشدوا في معنى ذلك :
ومَـا بقـيَــت مِـنَ اللـذَّاتِ إلا ... محادثــةُ الرجـــال ذَوُى العـقـــولِ
وقــد كـنَّـا نــعــدُّهـم قـلـيـلا ... فقــد صَـاروا أقـــلَّ مِــن الـقـلـيـل
وقــد كـنَّـا نــعــدُّهـم قـلـيـلا ... فقــد صَـاروا أقـــلَّ مِــن الـقـلـيـل
و قالوا : إذا رأيت من أخيك أمرًا تكرهه، أو خلة لا تحبها ، فلا تقطع حبله، و لا تصرم (8) وده، و لكن داوِ كلمته، و استر عورته، و ابقه و ابرأ من عمله. قال الله تعالى : { فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَريءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } (9) ، فلم يأمره بقطعهم، و إنما أمره بالبراءة من عملهم السيئ. قال صلى الله عليه و سلم: « الأرواح أجناد مجندة فما تعارف منها ائتلف، و ما تناكر منها اختلف » . و قال عليه الصلاة و السلام : « إن روحي المؤمنين ليلتقيان من مسيرة يوم و ما رأى أحدهما صاحبه » .
من كتاب " المستطرف في كل فن مستظرف " للكاتب شهاب الدين محمد الأبهيشي . تحقيق الدكتور مصطفى محمد الذهبي .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- الضيم : الظلم. (2)- سورة آل عمران : 103.
(3)- ندب : دعا له. (4)- سورة الشعراء : 100 – 101.
(5)- الأجذم : المقطوع جزء منه. (6)- الضراء : الضرر و الحاجة.
(7)- أستمرؤه : أستسيغه و يطيب لي أكله. (8)- صرم : قطع.
(9)- سورة الشعراء : 216.