قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي} (1) اختلف في سبب نزولها فقال مقاتل: إن عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه واقع امرأته بعدما صلى العشاء في رمضان فندم على ذلك وبكى وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبره بذلك ورجع مغتمًّا وكان ذلك قبل الرخصة فنزلت هذه الآية : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } .
وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: قالت اليهود: كيف يسمع ربنا دعاءنا وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء خمسمائة عام، وغلظ كل سماء مثل ذلك، فنزلت هذه الآية . وقال الحسن : إن قومًا قالوا للنبي صلى الله عليه و سلم : أقريب ربنا فنناجيه ، أم بعيد فنناديه ، فنزلت هذه الآية . قوله تعالى : {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي} أي أقبل عبادة من عبدني، فالدعاء بمعنى العبادة والإجابة بمعنى القبول. وقال قوم: إن الله تعالى يجيب كل الدعاء فإما أن يعجل الإجابة في الدنيا، وإما أن يكفر عن الداعي ، وإما أن يدخر له في الآخرة، لما رواه أبو سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : « ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ، ولا قطيعة رحم ؛ إلا أعطاه الله بها ثلاثًا : إما أن يعجل له دعوته ، وإما أن يدخر له ثوابها ، وإما أن يكف عنه من السوء بمثلها ».
وروي أنه إذا كان يوم القيامة واستقر أهل الجنة في الجنة، فبينما العبد المؤمن في قصره، وإذا ملائكة من عند ربه يأتونه بتحف من عند الله فيقول : ما هذا ؟ أليس الله قد أنعم عليّ وأكرمني ؟ فيقولون : ألست كنت تدعو الله في الدنيا ؟ هذا دعاؤك الذي كنت تدعوه قد أدخره (2) لك .
واعلم أن إجابة الدعاء لا بد لها من شروط ، فشرط الداعي أن يكون عالمًا بأن لا قادر إلا الله ، وأن الوسائط في قبضته ومسخرة بتسخيره، وأن يدعو بنية صادقة وحضور قلب. فإن الله تعالى لا يستجيب دعاء من قلب لاه، وأن يكون متجنبًا لأكل الحرام، ولا يمل من الدعاء.
ومن شروط المدعو فيه : أن يكون من الأمور الجائزة الطلب والفعل شرعًا كما قال عليه الصلاة والسلام: « ما لم يدع بإثم، أو قطيعة رحم » فيدخل في الإثم كل ما يأثم به من الذنوب، ويدخل في الرحم جميع حقوق المسلمين ومظالمهم . قال ابن عطاء الله: و إن للدعاء أركانا، وأجنحة ، وأسبابًا ، و أوقاتًا، فإن وافق أركانه قوي، وإن وافق أجنحته طار إلى السماء، وإن وافق أسبابه نجح ، فأركانه حضور القلب والخشوع، وأجنحته الصدق، وأسبابه الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم ، ومن شروط الدعاء أن يكون سليمًا من اللحن كما قال بعضهم:
ينــادي ربــه بـالـلـحـن لـيـثٌ ... كـــذاك إذ دعــاه لا يجــتاب
وقيل : إن الله تعالى لا يستجيب دعاء عريف ، ولا شرطي ، ولا جاب ، ولا عشار، ولا صاحب عرطبة - وهي الطنبور- ولا صاحب كوبة - وهي الطبل الكبير الضيق الوسط - ومن آداب الدعاء: أن يدعو الداعي مستقبلاً القبلة، ويرفع يديه لما روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: « إن الله ربكم حيىٌّ كريم ليستحي من عبده إذا رفع يديه أن يردهما صفرا »(3) و أن يمسح بهما وجهه بعد الدعاء لما روي عن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه و سلم: إذا مد يديه في الدعاء لم يردهما حتى يمسح بهما وجهه، وأن لا يرفع بصره إلى السماء لقوله صلى الله عليه و سلم: « لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم إلى السماء عند الدعاء، أو ليخطفن الله أبصارهم »(4) . وأن يخفض الداعي صوته
بالدعاء ؛ لقوله تعالى : {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}(5) . وعن أبي عبد الرحمن الهمداني قال : صليت مع أبي إسحاق الغداة فسمع رجلاً يجهر في الدعاء فقال : كن كزكريا : {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} (6)
وينبغي للداعي أن لا يتكلف، وأن يأتي بالكلام المطبوع غير المسجوع؛ لقوله صلى الله عليه و سلم : « إياكم والسجع في الدعاء؛ بحسب أحدكم أن يقول: اللَّهم إني أسألك الجنة، وما قرب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ». وقيل: ادعوا بلسان الذلة والاحتقار ولا تدعوا بلسان الفصاحة والانطلاق . وكانوا لا يزيدون في الدعاء على سبع كلمات فما دونها كما في آخر سورة البقرة.
من كتاب " المستطرف في كل فن مستظرف " للكاتب شهاب الدين محمد الأبهيشي . تحقيق الدكتور مصطفى محمد الذهبي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- سورة البقرة : 186.
(2)- أدخره : أحفضه.
(3)- صفرا : خِلوًا.
(4)- أخرجه : ابن ماجه في إقامة الصلاة 1044.
(5)- سورة الأعراف :55.
(6)- سورة مريم : 3.