اعلم: أرشدك الله ، إن الله تعالى أمر بالعدل ، ثم علم سبحانه وتعالى أنه ليس كل النفوس تصلح على العدل، بل تطلب الإحسان ، وهو فوق العدل. فقال تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى}(1) الآية، فلو وسع الخلائق العدل ما قرن الله به الإحسان، والعدل ميزان الله تعالى في الأرض الذي يؤخذ به للضعيف من القوي، والمحق من المبطل. واعلم أن عدل الملك يوجب محبته ، وجوره يوجب الافتراق عنه . وأفضل الأزمنة ثوابًا أيام العدل .
وروينا من طريق أبي نعيم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: « لَعَمَلُ الإمام العادل في رعيته يومًا واحدًا ، أفضلُ من عمل العابد في أهله مائة عام أو خمسين عامًا » . وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : « عدل ساعة خيرٌ من عبادة سبعين سنة ». وروينا في سنن أبي داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: « ثلاثة لا تردُّ دعوتهم : الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم تحمل على الغمام ، وتفتح لها أبواب السماء »(2) . وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لكعب الأحبار: أخبرني عن جنة عدن. قال: يا أمير المؤمنين، لا يسكنها إلا نبي ، أو صديق ، أو شهيد ، أو إمام عادل . فقال عمر: والله ما أنا نبي وقد صدقت رسول الله صلى الله عليه و سلم ، وأما الإمام العادل فإني أرجو أن لا أجور، وأما الشهادة فأنّى لي بها. قال الحسن : فجعله الله صديقًا ، شهيدًا، حكمًا ، عدلاً.
وسأل الإسكندر حكماء أهل بابل أيما أبلغ عندكم الشجاعة ، أو العدل؟ قالوا : إذا استطعنا العدل ،استغنينا به عن الشجاعة.
ويقال : عدل السلطان أنفع من خصب الزمان . وقيل : إذا رغب السلطان(3) عن العدل رغبت الرعية عن طاعته. وكتب بعض عمال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يشكو إليه من خراب مدينته ، ويسأله مالاً يرممها به. فكتب إليه عمر؛ قد فهمت كتابك ، فإذا قرأت كتابي فَحَصِّنْ مدينتك بالعدل ، ونقِّ طرقها من الظلم فإنه مرممها ، والسلام.
ويقال : إن الحاصل من خراج سواد العراق في زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان مائة ألف ألف وسبعة وثلاثين ألف ألف فلم يزل يتناقص حتى صار في زمن الحجاج ثمانية عشر ألف ألف ، فلما ولي عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ارتفع في السنة الأولى إلى ثلاثين ألف ألف ، وفي الثانية إلى ستين ألف ألف وقيل أكثر. وقال: إن عشتُ لأبلغَنَّه إلى ما كان في أيام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فمات في تلك السنة.
ومن كلام كسرى : لا ملك إلا بالجند ، ولا جند إلا بالمال ، ولا مال إلا بالبلا د، ولا بلاد إلا بالرعايا ، ولا رعايا إلا بالعدل .
ولما مات سلمة بن سعيد كان عليه ديون للناس، ولأمير المؤمنين المنصور. فكتب المنصور لعامله : استوف لأمير المؤمنين حقه ، وفرق ما بقي بين الغرماء ، فلم يلتفت إلى كتاب ه، وضرب للمنصور بسهم من المال، كما ضرب لأحد الغرماء . ثم كتب للمنصور: إني رأيت أمير المؤمنين كأحد الغرماء . فكتب إليه المنصور: مُلئت الأرض بك عدلاً.
وكان أحمد بن طولون والي مصر متحليًا بالعدل مع تجبره ، وسفكه للدماء ، وكان يجلس للمظالم ، وينصف المظلوم من الظالم .
و حكي أن ولده العباس استدعى بمغنية ، وهو يصطبح(4) يومًا فلقيها بعض صالحي مصر ومعها غلام يحمل عوده فكسره فدخل العباس إليه ، وأخبره بذلك . فأمر بإحضار ذلك الرجل الصالح فلما أحضر إليه قال : أنت الذي كسرت العود؟ قال : نعم . قال : أفعلمت لمن هو؟ قال: نعم هو لابنك العباس ، قال: أفما أكرمته لي؟ قال : أكرمه لك بمعصية الله عز وجل ، والله تعالى يقول: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ}(5) ، ورسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : « لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق ». فأطرق أحمد بن طالون عند ذلك ثم قال : كل منكر رأيته فغيّره وأنا من ورائك .
ووقف يهودي لعبد الملك بن مروان فقال : يا أمير المؤمنين إن بعض خاصتك ظلمني فأنصفني منه ، و أذقني حلاوة العدل، فأعرض عنه. فوقف له ثانيًا فلم يلتفت إليه ، فوقف له مرة ثالثة وقال : يا أمير المؤمنين إنَّا نجد في التوراة المنزَّلة على كليم الله موسى صلوات الله وسلامه عليه : أن الإمام لا يكون شريكًا في ظلم أحد حتى يرفع إليه فإذا رفع إليه ذلك ولم يُزِلْهُ فقد شاركه في الظلم والجور. فلما سمع عبد الملك كلامه فزع وبعث في الحال إلى مَنْ ظلمه ، فعزله وأخذ لليهودي حقه منه.
من كتاب " المستطرف في كل فن مستظرف " للكاتب شهاب الدين محمد الأبهيشي . تحقيق الدكتور مصطفى محمد الذهبي .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- سورة النحل : 90. (2)- أخرجه : الترمذي في صفة الجنة 2525.
(3)- رغب السلطان : أي زهد فيه و مال عنه. (4)- يصطبح : يشرب خمرة الصباح.
(5)- سورة التوبة : 71.