أرجحُ دليلٍ يتمسَّك به الإنسان كتاب الله تعالى، الذي مَنْ تمسك به هَداه ، ومن استدلَّ به أرشده هُداه ، قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}(1) وقال جل ذكره وتقدس اسمه: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلاَ يَنْقُضُونِ الْمِيثَاقَ}(2) وقال جلّ وعلا: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}(3) وقال تعالى : {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً}(4) والآيات في ذلك كثيرة ومن أشدها قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ}(5) . وروى في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : « آية المنافق ثلاث ، إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان »(6). فالوفاء من شيم النفوس الشريفة، والأخلاق الكريمة ، والخلال الحميدة، يعظم صاحبه في العيون، وتصدق فيه خطرات الظنون. ويقال : الوعد وجه، والإنجاز محاسنه، والوعد سحابة، والإنجاز مطره. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لكل شيء رأس، ورأس المعروف تعجيله ، وأنشدوا:
إذا قلــتَ فـي شـيءٍ نَعَـمْ فأتـمَّـه .... فإنَّ نَعَـمْ دَيْـنٌ على الحُـرِّ واجــبُ
وإلا فقُــل لا تسـتَرِحْ وتُـرِحْ بهـا .... لئــلا يقــولَ النـــاسُ إنَّــكَ كــاذبُ
وإلا فقُــل لا تسـتَرِحْ وتُـرِحْ بهـا .... لئــلا يقــولَ النـــاسُ إنَّــكَ كــاذبُ
وقال آخر:
لا كلَّـف الله نفسًـا فـوق طاقَتِهَا .... ولا تـجـــودُ يــدٌ إلا بـمــا تـجـــدُ
فـلا تَـعِـدْ عِــدَةً إلا وفَيْـتَ بـهـا .... وَاحْـذَرْ خـلافَ مقــال للذي تعِـدُ
فـلا تَـعِـدْ عِــدَةً إلا وفَيْـتَ بـهـا .... وَاحْـذَرْ خـلافَ مقــال للذي تعِـدُ
وقال أعرابي : وعد الكريم نقد وتعجيل. ووعد اللئيم مطل وتعليل(7) . وقال أعرابي أيضًا: العذر الجميل خير من المطل الطويل . ومدح بشار خالد بن برمك فأمر له بعشرين ألفًا، فأبطأت عليه، فقال لقائده : أقمنى حيث يمر، فأقامه، فمرَّ فأخذ بلجام بغلته وأنشأ يقول:
أظلَّــت علينـا منــك يومًـا ســحابةٌ .... أضـاء لهـا بـرقٌ وأبطــأ رشاشُـهـا
فـلا غيمُـهـا يجلـى فييـأس طــامـعٌ .... ولا غيثُهــا يـأتي فـتُروى عِطاشُها
فـلا غيمُـهـا يجلـى فييـأس طــامـعٌ .... ولا غيثُهــا يـأتي فـتُروى عِطاشُها
فقال: لا تبرح حتى تؤتي بها. وقال صالح اللخمي :
لئـن جَمَـعَ الآفــات فـالبخل شــرُّها .... وشرٌّ مِــنَ البخــلِ المواعيـدُ والمطـلُ
ولا خــيرَ فـي وعـدٍ إذا كـان كاذبـًا .... ولا خـيـرَ فـي قـولٍ إذا لــم يكـن فعـلُ
وقيل: ماتت للَّهذلي أم ولد ، فأمر المنصور الربيع أن يعزيه ويقول له: إن أمير المؤمنين موجَّه إليك جارية نفيسة لها أدب وظرف، يسليك بها، وأمر لك معها بفرس، وكسوة، وصلة. فلم يزل الهذلي يتوقع وعد أمير المؤمنين. ونسيه المنصور فحج المنصور ومعه الهذلي، فقال المنصور وهو بالمدينة: إني أحبُّ أن أطوفَ الليلة المدينة، فأطلُبْ لي مَنْ يطوف بي. فقال الهذلي: أنا لها يا أمير المؤمنين. فطاف به حتى وصل بيت عاتكة فقال: يا أمير المؤمنين، وهذا بيت عاتكة الذي يقول فيه الأحوص:
يـا بيـتَ عاتكــةَ الـذي أتغــزلُ .... حـذَرَ العِـدا وبـه الفــؤادُ موكــلُ
إنـي لأمنحُــكَ الصـدودَ وإننـي .... قسـمًا إليــك مـع الصـدودِ لأميلُ
إنـي لأمنحُــكَ الصـدودَ وإننـي .... قسـمًا إليــك مـع الصـدودِ لأميلُ
فكره المنصور ذكر بيت عاتكة من غير أن يسأله عنه، فلما رجع المنصور أمر القصيدة على قلبه فإذا فيها:
وأراك تفعـلُ مــا تقــول وبعضُهــم .... مـذقُ اللسـان(8) يقـولُ مـا لا يفعـلُ
فذكر المنصور الوعد الذي كان وعد به الهذلي فأنجزه له واعتذر إليه، قال الشاعر:
تعجيــلُ وَعْــدَ المــرءِ أكرومــةٌ .... تنتشــرُ عنـه أطيــبَ الذكــرِ
والــحُــرُّ لا يـمـطــل مـعـروفــه .... ولا يـلـيـــق المـطـــلُ بالحـرِّ
والــحُــرُّ لا يـمـطــل مـعـروفــه .... ولا يـلـيـــق المـطـــلُ بالحـرِّ
من كتاب " المستطرف في كل فن مستظرف " للكاتب شهاب الدين محمد الأبهيشي . تحقيق الدكتور مصطفى محمد الذهبي .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- سورة المائدة : 1.
(2)- سورة الرعد : 20.
(3)- سورة النحل : 91.
(4)- سورة الإسراء : 34.
(5)- سورة الصف : 2 – 3.
(6)- أخرجه : البخاري في كتاب الإيمان 33.
(7)- مطل و تعليل : تأجيل و تسويف.
(8)- مذقُ : غير مخلص.