من آداب الضيف أن يبادر إلى موافقة المضيف في أمور ، منها أكلُ الطعام ، ولا يعتذر بشبع ، بل يأكل كيف أمكن ؛ فقد حكي أنه ورد على بعض الأعراب ضيف فدخل به إلى بيته وقدم له الطعام ، فقال الضيف : لستُ بجائع ، وإنما أحتاجُ إلى مكان أبيت فيه . فقال الأعرابي : إذا كان هذا عزمك فكن ضيف غيري ؛ فإني لا أرى أن تمدحني في البلاد ، وتهجوني فيما بيني وبينك .
وحكي عن بعض التجار قال : استدعاني أبو حفص محمد بن القاسم الكرخي لأعرض عليه قماشًا من تجارتي ، فبينما أنا بين يديه ، وإذا بأطباق الفاكهة قد حضرت فقمت من مجلسه ، فقال : يا فلان ، ما هذا الخلق العامي ؟ اجلس فجلست وتحقَّقتُ كرمه ،وجعَلْتُ آكل الكمثراة في لقمة ، والتفاحة في لقمة ، ثم قدم الطعام وكنتُ جائعًا ، فأكلت أكلاً جيدًا ثم انصرفت . فلم أشعر في اليوم الثاني إلا وقد جاءني غلامه ببغلته فاستدعاني إليه فقال لي : يا فلان ، إني قليل الأكل ، بطيء الهضم ، ولقد طابت لي مؤاكلتك بالأمس فأريد أن لا تنقطع بعدها عني . قال : فكنت متى انقطعت حضر غلامه في طلبي ، فحصل لي بقربي منه مال كثير، وجاه عريض .
ومن آداب الضيف : أيضًا أن لا يسأل صاحب المنزل عن شيء من داره سوى القبلة ، وموضع قضاء الحاجة ، وأن لا يتطلع إلى ناحية الحريم ، وأن لا يخالفه إذا أجلسه في مكان وأكرمه به ، وأن لا يمتنع من غَسْلِ يَدَيْهِ ، وإذا رأى صاحب المنزل قد تحرَّك بحركة فلا يمنعه منها . فقد نقل في بعض المجاميع أن بعض الكرماء كان عربيدًا(1) على أضيافه سيِّئ الخلق بهم ، فبلغ ذلك بعض الأذكياء فقال : الذي يظهر لي من هذا الرجل أنه كريم الأخلاق ، وما أظن سوء أخلاقه إلا لسوء أدب الأضياف ، ولا بد أن أتطفَّل عليه لأرى حقيقة أمره ، قال : فقصدته وسلمت عليه ، فقال : هل لك أن تكون ضيفي؟ قلت : نعم . فسار بين يديّ إلى أن جاء إلى باب داره فأذن لي ، فدخلت ، فأجلسني في صدر مجلسه ، فجلست حيث أجلسني ، وأعطاني مسندًا فاستندت إليه ، فأخرج لي شطرنجًا ، وقال : أتتقن شيئًا ؟ قلت : نعم . فلعبت معه ، فلما حضر الطعام جعل يقدم لي ما استطابه وأنا آكل ، فلما فرغنا قدم طستًا وإبريقًا وأراد أن يسكب الماء على يديّ ، فلم أمنعه من ذلك ، وأراد الخروج من بين يديّ بعد أن قدم نعلي ، فلم أرده عن ذلك . فلما أراد الرجوع قلت : يا سيدي أنشدك الله ألا فرجت عني كربة . قال : وما هي ؟ فأخبرته الخبر، فقال : والله ما يحوجني لذلك إلا سوء أدبهم ، يصل الضيف إلى داري فأجلسه في الصدر فيأبى ذلك ، ثم أقدم إليه الطعام فلا أتحفه بشيء مستظرف إلا ردّه عليَ . ثم أريد أن أصب الماء على يديه عند الغسل فيحلف بالطلاق الثلاث ما تفعل ، ثم أريد أن أشيعه فلا يمكنني من ذلك ، فأقول في نفسي : لا يحكم الإنسان على نفسه حتى في بيته ، فعند ذلك أشتمه وألعنه ، بل وأضربه . وفي معنى ذلك يقول بعضهم :
لا ينبغــي للضَّيْــفِ أن يـعـتـــرض .... إن كــان ذا حــزم وطـبـــع لطيــــفْ
فــالأمــرُ للإنــســانِ فـي بـيـتــــه .... إن شـاءَ أن ينصف أو أن يُحيــف(2)
فــالأمــرُ للإنــســانِ فـي بـيـتــــه .... إن شـاءَ أن ينصف أو أن يُحيــف(2)
من كتاب " المستطرف في كل فن مستظرف " للكاتب شهاب الدين محمد الأبشيهى . تحقيق الدكتور مصطفى محمد الذهبي .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- عربيدًا : سيئ الخلق .
(2)- يحيف : يجور .