أن يحدِّث أضيافه بما تميل إليه نفوسهم ، ولا ينام قبلهم ، ولا يشكو الزمان بحضورهم ، ويبش عند قدومهم ، ويتألم عند وداعهم ، وأن لا يحدث بما يروعهم به ، كما حكي بعضهم قال : استدعاني إسحاق بن إبراهيم الظاهري إلى أكل هريسة في بكرة نهار، فدخلت فأحضرت لنا الهريسة ، فأكلنا ، فإذا شعرة قد جاءت على لقمة غفل عنها طباخه ، فاستدعى خادمه فأسر إليه شيئًا لم نعلمه ، فعاد الخادم ومعه صينية مغطاة ، فكشف عن الصينية ؛ فإذا يد الطباخ مقطوعة تختلج(1) ، فتكدر علينا عيشنا ، وقمنا من عنده ، ونحن لا نعقل .
فيجب على المضيف : أن يراعي خواطر أضيافه كيفما أمكن ، ولا يغضب على أحد بحضورهم ، ولا ينغص عيشهم بما يكرهونه ، ولا يعبس بوجهه ، ولا يظهر نكدًا ، ولا ينهر أحدًا ، ولا يشتمه بحضرتهم ، بل يدخل على قلوبهم السرور بكل ما أمكن . كما حكي عن بعض الكرام أنه دعا جماعة من أصحابه إلى بستانه ، وعمل لهم سماطًا ، وكان له ولد جميل الطلعة ، فكان الولد في أول النهار يخدم القوم ، ويأنسون به ، ففي آخر النهار صعد إلى السطح فسقط فمات لوقته ، فحلف أبوه على أمه بالطلاق الثلاث أن لا تصرخ ، ولا تبكي إلى أن تصبح . فلما كان الليل سأله أضيافه عن ولده ، فقال : هو نائم ، فلما أصبحوا وأرادوا الخروج ، قال لهم : إنْ رأيتم أن تصلوا على ولدي فإنه بالأمس سقط من على السطح فمات لساعته . فقالوا له : لِمَ لا أخبرتنا حين سألناك ؟ فقال : ما ينبغي لعاقل أن ينغَّص على أضيافه في التذاذهم ، ولا يكدِّر عليهم في عيشهم ، فتعجَّبوا من صبره وتجلُّده ، ومكارم أخلاقه ، ثم صلوا على الغلام وحضروا دفنه ، وبكوا عليه وانصرفوا .
وعلى المضيف أن يأمر غلمانه بحفظ نعال أضيافه وتفقُّد غلمانهم بما يكفيهم ، ويسهل حجابه وقت الطعام ، ولا يمنع واردًا . وقيل لبعض الأمراء الكرام : لا بأس بالحجاب ، لئلا يدخل مَنْ لا يعرفه الأمير ، ويحترز(2) عن العدو . فقال : إن عدوا يأكل طعامنا ولا ينخدع لا يمكِّنه الله منا ، و الأليق بالكريم الرئيس أن يمنع حاجبه من الوقوف ببابه عند حضور الطعام ، فإن ذلك أول الشناعة(3) عليه ، وعليه أن يسهر مع أضيافه ويؤانسهم بلذيذ المحادثة وغريب الحكايات ، وأن يستميل قلوبهم بالبذل لهم من غرائب الطرف إن كان من أهل ذلك ، وأن يُري أضيافه مكان الخلاء . فقد قيل عن ملك الهند أنه قال : إذا ضافك أحد فأرِهِ الكنيفَ ؛ فإني ابتليت به مرة فوضعته في قلنسوتي . وقالوا : لا بأس أن يدخل الرجل دار أخيه يستطعم للصداقة الوكيدة(4) ، وقد قصد النبي صلى الله عليه و سلم والشيخان منزل الهيثم بن التيهان وأبي أيوب الأنصاري ، وكذلك كانت عادة السلف رضي الله تعالى عنهم . فقد كان لعون بن عبد الله المسعودي ثلاثمائة وستون صديقًا ، فكان يدور عليهم في السنة . ولا بأس أن يدخل الرجل بيت صديقه فيأكل وهو غائب ، فقد دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم دار بريرة رضي الله عنها فأكل طعامها وهي غائبة . وكان الحسن رضي الله عنه يومًا عند بقال فجعل يأخذ من هذه الجونة تينة ، ومن هذه فستقة فيأكلها . فقال له هشام : ما بدا لك يا أبا سعيد في الورع ؟ فقال له : يا لكع اتلُ عليَّ آية الأكل فتلا : {وَلاَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} إلى قوله : {أَوْ صَدِيقِكُمْ}(5) فقال : الصديق مَنِ استروحت إليه النفس ، واطمأن إليه القلب .
من كتاب " المستطرف في كل فن مستظرف " للكاتب شهاب الدين محمد الأبشيهى . تحقيق الدكتور مصطفى محمد الذهبي .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- تختلج : تتحرك ببقية روح . (2)- يحترز : يتحصن .
(3)- الشناعة : الفظاعة . (4)- الوكيدة : المتينة .
(5)- سورة النور : 61 .
فيجب على المضيف : أن يراعي خواطر أضيافه كيفما أمكن ، ولا يغضب على أحد بحضورهم ، ولا ينغص عيشهم بما يكرهونه ، ولا يعبس بوجهه ، ولا يظهر نكدًا ، ولا ينهر أحدًا ، ولا يشتمه بحضرتهم ، بل يدخل على قلوبهم السرور بكل ما أمكن . كما حكي عن بعض الكرام أنه دعا جماعة من أصحابه إلى بستانه ، وعمل لهم سماطًا ، وكان له ولد جميل الطلعة ، فكان الولد في أول النهار يخدم القوم ، ويأنسون به ، ففي آخر النهار صعد إلى السطح فسقط فمات لوقته ، فحلف أبوه على أمه بالطلاق الثلاث أن لا تصرخ ، ولا تبكي إلى أن تصبح . فلما كان الليل سأله أضيافه عن ولده ، فقال : هو نائم ، فلما أصبحوا وأرادوا الخروج ، قال لهم : إنْ رأيتم أن تصلوا على ولدي فإنه بالأمس سقط من على السطح فمات لساعته . فقالوا له : لِمَ لا أخبرتنا حين سألناك ؟ فقال : ما ينبغي لعاقل أن ينغَّص على أضيافه في التذاذهم ، ولا يكدِّر عليهم في عيشهم ، فتعجَّبوا من صبره وتجلُّده ، ومكارم أخلاقه ، ثم صلوا على الغلام وحضروا دفنه ، وبكوا عليه وانصرفوا .
وعلى المضيف أن يأمر غلمانه بحفظ نعال أضيافه وتفقُّد غلمانهم بما يكفيهم ، ويسهل حجابه وقت الطعام ، ولا يمنع واردًا . وقيل لبعض الأمراء الكرام : لا بأس بالحجاب ، لئلا يدخل مَنْ لا يعرفه الأمير ، ويحترز(2) عن العدو . فقال : إن عدوا يأكل طعامنا ولا ينخدع لا يمكِّنه الله منا ، و الأليق بالكريم الرئيس أن يمنع حاجبه من الوقوف ببابه عند حضور الطعام ، فإن ذلك أول الشناعة(3) عليه ، وعليه أن يسهر مع أضيافه ويؤانسهم بلذيذ المحادثة وغريب الحكايات ، وأن يستميل قلوبهم بالبذل لهم من غرائب الطرف إن كان من أهل ذلك ، وأن يُري أضيافه مكان الخلاء . فقد قيل عن ملك الهند أنه قال : إذا ضافك أحد فأرِهِ الكنيفَ ؛ فإني ابتليت به مرة فوضعته في قلنسوتي . وقالوا : لا بأس أن يدخل الرجل دار أخيه يستطعم للصداقة الوكيدة(4) ، وقد قصد النبي صلى الله عليه و سلم والشيخان منزل الهيثم بن التيهان وأبي أيوب الأنصاري ، وكذلك كانت عادة السلف رضي الله تعالى عنهم . فقد كان لعون بن عبد الله المسعودي ثلاثمائة وستون صديقًا ، فكان يدور عليهم في السنة . ولا بأس أن يدخل الرجل بيت صديقه فيأكل وهو غائب ، فقد دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم دار بريرة رضي الله عنها فأكل طعامها وهي غائبة . وكان الحسن رضي الله عنه يومًا عند بقال فجعل يأخذ من هذه الجونة تينة ، ومن هذه فستقة فيأكلها . فقال له هشام : ما بدا لك يا أبا سعيد في الورع ؟ فقال له : يا لكع اتلُ عليَّ آية الأكل فتلا : {وَلاَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} إلى قوله : {أَوْ صَدِيقِكُمْ}(5) فقال : الصديق مَنِ استروحت إليه النفس ، واطمأن إليه القلب .
من كتاب " المستطرف في كل فن مستظرف " للكاتب شهاب الدين محمد الأبشيهى . تحقيق الدكتور مصطفى محمد الذهبي .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- تختلج : تتحرك ببقية روح . (2)- يحترز : يتحصن .
(3)- الشناعة : الفظاعة . (4)- الوكيدة : المتينة .
(5)- سورة النور : 61 .