أجمع الأساتذة محمد دراجي والهادي الحسني
وكذا عمار مطاطلة في الذكرى الـ 70 لرحيل العلامة الشيخ عبد الحميد بن
باديس رائد النهضة الفكرية الحديثة في الجزائر، على كونه يشكّل علامة مضيئة
ونموذجا فريدا في الإصلاح التربوي.
وفي ندوة فكرية بالمركز الثقافي الإسلامي تمحورت حول دور جمعية العلماء
المسلمين الجزائريين في ميدان التربية والتعليم، عاد الدكتور محمد دراجي،
إلى ظروف نشأة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في مرحلة عصيبة بحر
ثلاثينيات القرن الماضي، حيث اقترن نشوءها باحتفال فرنسا بمئوية
استعماريتها للبلاد، فوسط هذه النشوة الاستيطانية الاستيلابية، أبصرت
الجمعية النور بمدينة قسنطينة، لتنضج الفكرة وتأخذ أبعادا وطنية وتاريخية
وإقليمية وعالمية أيضا.
وأشار دراجي الأستاذ بكلية الشريعة بجامعة الخروبة إلى التحديات التي
واجهتها مدارس علماء المسلمين الجزائريين لإحباط المخططات الفرنسية التي
سعت بثقل قوتها وبكل الطرق الغير مشروعة لوأد العقل الجزائري وتجريده من
التفكير المستقل وكذا القيم والمراجع الأصيلة.
لكن فطنة جمعية العلماء – يضيف المحاضر – هزمت السياسة الاستدمارية وما
رافقها من محاولة بث روح الانهزامية، عبر حكمة مصابيح بشرية أضاءت مشكاة
ألوف مؤلفة من الجزائريين على مختلف توجهاتهم الفكرية، حيث كانت البداية من
دروس الشيخ ابن باديس وكوكبة من معاصريه بالجامع الأخضر في قسنطينة، هذا
الأخير أتمّ فيه الشيخ تفسير القرآن الكريم.
واعتنق شيوخ الجمعية عقيدة مفادها أنّ مكافحة الاستعمار يجب أن تستند إلى
ركيزتي التعليم والتربية وذلك بإحياء القيم اللغوية والتاريخية والإنسانية
والوطنية والأخلاقية والدينية ، وفق المنهج النبوي القائم على إعادة بناء
المجتمع الإنساني.
ويقول الدكتور دراجي أنّ بن باديس أسّس لعملية إصلاحية منطلقها القراءة
كقاعدة رئيسة، ولاحظ المحاضر أنّ الشيخ كان حقا ابن مجتمعه يعرف واقعه كما
يعرف مواطنيه، ويركّز دراجي على أنّه رغم ما كان ينتظر الشيخ من “النعيم
الفرنسي” بحكم علاقة والده كإداري لدى السلطات العسكرية الفرنسية، إلاّ أنّ
صاحب نشيد “شعب الجزائر مسلم” اختار القضية الوطنية، وتحمّل أوزار كل
الظروف.
وتجلى إصرار بن باديس وعزيمته في إحدى مقالاته، حين كان يفسر لطلبته إحدى
الآيات القرآنية، حيث خاطبهم بقوله:”الآن قد عرفت ما هي الحكمة التي من
أجلها ولد النبي صلى الله عليه وسلم يتيما ؟ فأجاب نفسه قائلا:”حتى لا يقف
في نفس الموقف الذي وقفت فيه أنا، كأن يضغط عليه أباه ليتخلى عن فكرته، فمن
كان يدري أن تضغط قريش على والد الرسول صلى الله عليه وسلم من اجل أن
يتخلى الرسول على ما انزل عليه الله ، كما فعلوا مع عمه أبي طالب لما
ساوموه”.
الإرهاق الشديد عجّل بموت ابن
باديس
ردّ د/ دراجي المحاضر على المُغالين في سبب موت ابن باديس بتأكيده على أنّ
كل من عاصر الشيخ، أدرك أنّ موته سببه الإرهاق الشديد جرّاء الجهود التي
بذلها في سبيل إنضاج القضية التعليمية الوطنية الأمّ التي تبناها حبا.
وبشأن ذلك يروي الشيخ عمار مطاطلة أحد تلاميذ بن باديس:”كان يبدأ الدرس
فجرا إلى ما وراء صلاة العشاء”، ولكل معلم اليوم أن يتصور ذلك”.
ويضيف مطاطلة في شهادته عن دور الشيخ في النهوض بالثورة التعليمية في
الجزائر:”كنا نبدأ الدرس بعد صلاة الصبح ونحن كذلك نطلب العلم من لسان
الشيخ الذي كان كنهر متدفق الى ما بعد صلاة العشاء فأصابني التعب فغفوت
لبرهة من الزمن، وانتبه ابن باديس للأمر فأيقظني من نعاسي، وزجرني زجرا
شديدا وأخذت أبرر له وأشكو له تعبي، فما كان من الشيخ إلا أن عاتبني عتابا
لم ألقه من احد وقال لي” إذا كان هذا هو شأنك مع النوم، فهذا شأني معه منذ
20 سنة”.
ويضيف مطاطلة ، بقيت هذه الصورة تغيض صدره حتى انطلق في تحويل الدرس مما
كان عليه، إلى محاضرة في السياسة وراح يلقي علينا قولا ثقيلا هذا ما أذكر
منه:”كيف تنامون وبلادكم مستعمرة؟، كيف تنامون ودينكم يهان؟، وظلّ الشيخ
ينبه من الغفلة والنوم على أمهات القضايا الوطنية، حتى ذرف الدمع وبكى بكاء
شديدا وأبكى من كان معه.
بن باديس زاوج العلم بالنكتة
فأنتج مدرسة في الفكر السياسي
مما رُوي عن الشيخ، أنه تعدى المفاهيم البسيطة في تلقين العلم بالطريقة
الكمية أو الكيفية الكلاسيكية المبنية على السرد والوصف، ليتجاوزها إلى
استنباط الحكم من كل ملمة تقع تحت لسان.
وفي ذلك، يورد الدكتور الهادي الحسني هذه المأثورة العلمية:”ولما كان الشيخ
يلقي أحد دروسه في مادة النحو العربي، وكان ذلك في باب الفاعل وصيغته
النحوية، استغل ذلك ليخوض في إحياء قضية الفاعلية في المجتمع وفي نفوس
طلبته.
كما وظف ابن باديس الأمثلة القرآنية بتفسيره الخاص باعتبارها مصدرا من
مصادر العلم والسياسة والاجتماع والتثقيف، حين خاطبت النملة مجتمع النمل في
الآية العظيمة كما وردت في النص القرآني، الشيخ ابن باديس عبر هذه الآية
عبورا متفردا في تأويلها يختلف عن باقي المفسرين، إذ تعرض الى اهتمام الفرد
بالجماعة، فقال إنّ هذه النملة رغم أنها انقضت، ولكنها أول ما فكّرت فيه
هو تفكيرها في مجتمع النمل (قومها)، حيث اتجهت إلى قومها، حتى يأخذوا حذرهم
واحتياطهم كي لا يحطمنهم سليمان وجنوده، وعليه خاطب بن باديس تلامذته
بقوله أنّ واجب الفرد تجاه مجتمعه، ينبغي أن يفكّر في مجتمعه وفي المصلحة
العامة لأمته، فكانت “حقا خير جمعية أخرجت للناس” على حد تعبير الدكتور
الهادي
الحسني .
ويرى د/دراجي أنّ بن باديس لم يفكر أن يبني بيتا، كما لم يفكر أن يجمع
ثروة، وكانت الثروة التي جمعها خلايا جمعية العلماء وما ترتّب عنها من بناء
بيوت العلم والمدارس الحرة وصناعة الرجال تحسبا لمعركة التحرير الكبرى
التي أطلّت الفاتح نوفمبر 1954.
ويصف د/دراجي أنّ أربعينيات القرن الماضي، وُصفت بكونها “سنوات الحمى” ،
ولكن أي حمى ؟ هي حمى المدارس طبعا ، ومثال ذلك في الثلث الأول من
الأربعينيات، لما أطلق سراح العلاّمة الراحل البشير الإبراهيمي من سجن
أفلو، فوجد أنّ الجمعية أطلقت 70 مدرسة سنة 1943.
وبقي دأب الجمعية كذلك طوال الأربعينيات، حيث أبرز الشيخ البشير الإبراهيمي
ذلك في تقريره الأدبي العام، أما الاجتماع العام للجمعية في 30 سبتمبر
1951، فأفيد فيه أنّ عدد المدارس الابتدائية بلغ 125 مدرسة بإسقاط تلك
المعدلة إداريا من لدن السلطة الاستعمارية، واشتملت هذه المدارس على أكثر
من مائة قسم بـ275 معلما.
وفي سنة 1953 وخلال رئاسة الشيخ الإبراهيمي للجمعية، قدّم مفكرة إلى وزارة
المعارف المصرية والأمانة العامة لجامعة الدول العربية، تضمنت تعداد
المدارس الحرة (140 مدرسة) كان يمل فيها نحو 400 معلما وبلغ عددها سنة 1955
ما يزيد عن 160 مدرسة معظمها ابتدائية، ولما كانت الحاجة أم الضرورة، ومن
أجل دمقرطة حق التربية، كانت هناك مدارس خاصة بالبنين وأخرى للبنات، وفي
المناطق التي تعذر إقامة هذا النموذج لجأت جمعية علماء المسلمين الجزائريين
إلى فتح مدارس مختلطة، ففي سنة 1951 كان عدد المتمدرسات في مدارس الجمعية
5696 تلميذة، وتلك إحصائيات وثقها الشيخ الإبراهيمي في مؤلف ” آثاره”، وذكر
فيها أنّ عدد البنات المتمدرسات آنذاك بلغ 13 ألف فتاة.
اتخاذ
القرار التربوي عند البشير الإبراهيمي وديمقراطية التعليم
وفي الكتاب المذكور، ذكر الشيخ الإبراهيمي أنّ أحد المحسنين من أهل المدية،
تبرع بدار للجمعية من أجل إقامتها مدرسة للبنين وجرى تهيئتها لهذا الغرض،
وبالمناسبة دعي الإبراهيمي للإشراف على افتتاحها، وهناك فاجأ الشيخ الجميع
بقوله” أعلن فتح مدرسة للبنات، وعلى أهل المدية أن ينشئوا مدرسة أخرى
للبنين” وتم ذلك فعلا، وكان الشيخ بحكمته ومعرفته اليقينية بذهنية
الجزائريين وقربه لنمط تفكيرهم آنذاك، يرى أنّه من العيب العظيم أن لا يتم
المساواة بين الذكور والإناث في التعليم، واضعا الجميع أمام الأمر الواقع.
ومن المدارس التي أقامتها الجمعية للبنات، مدرسة الصادقية بالمدنية، ومدرسة
الحياة للبنات بجيجل التي حولت الى مدرسة مختلطة سنة 1955 بعد أن استولى
عليها الجيش الفرنسي، وفي الغرب الجزائري مدرسة عائشة أم المؤمنين بتلمسان،
وفي الشرق الجزائري مدرسة خديجة أم المؤمنين بسكيكدة، كما كانت هناك
مشاريع لم يكتب لها النور بحكم الظروف القاسية التي عاشتها الجزائر آنذاك.
الجمعية في التقارير
الاستخباراتية الفرنسية
أمام هذا النظام التربوي الذي كان آخذا في الانتشار كان الجهاز
الاستخباراتي الفرنسي يراقب ما يستطيع مراقبته ويغلق ما أمكن إغلاقه، لأنّ
الثورة التي بدت تلوح بشائرها، كان الفرنسيون يدركون أنها ستبدأ بفكرة،
وإذا ما جرى وأد تلك الفكرة، سيُغلق الباب في وجه أي ثورة.
وهذه المعلومة نقلها إلينا الشيخ عبد الرحمان شيبان في تقديمه لجريدة
الشهاب، حيث أورد أنّ واحدا من أبناء الجمعية كان عاملا عند ضابط فرنسي
سامي في المخابرات الفرنسية في مكتبه، وأفاد أنّ ذاك الضابط كان له سجل سري
جدا يحرص عليه حرصا شديدا فهو لا ينساه البتة، ويُحكم إغلاقه في صندوق
سري، إلا أن طارئا ما دفع الضابط إياه إلى ترك الدفتر على مكتبه ، فقام
العامل الجزائري بالتجسس عليه من باب الفضول، فوجد معلومات عن شخصيات
وهيئات تعتبرها فرنسا خطيرة ، وتعجب الرجل لما وجد أنّ القائمة السوداء
التي وُضعت تحت مجهر الرقابة الاستخباراتية، تصدّرها الشيخ ابن باديس.
وجاء في تقرير استخباراتي فرنسي لسنة 1954 حمل مسمى “الجزائر في نصف قرن”،
إنّ مدارس (الجمعية) عبارة عن خلايا سياسية، والإسلام الذي يتم تدريسه هو
مدرسة حقيقة للوطنية”، وهذا التقرير رُفعت عليه السرية ويمكن الإطلاع عليه
حسب المحاضر .