عادت المكتبة الوطنية الجزائرية بمناسبة
إحياء شهر التراث، لتبرز مخطوطات ثمينة نادرة للعلامة الجزائري الشهير محمد
بن عبد الرحمان الديسي (1270 ـ 1339 هـ/ 1854 ـ 1921م)، هذا العلاَّمـة
المفسِّر المحدِّث المتكلِّم الأُصولي الفقيه الصُّوفي اللُّغوي النَّحوي
الأَديب الشَّاعر النَّاثر المجتهِد الكبير المؤلِّف الشَّهير خاتمة
المحقِّقين بِشَمال إِفريقيا بِلا مُنازع، الذي لقبّه علماء عصره
بـ”الشمس”، وله مجموعة من المؤلفات النافعة في مختلف العلوم والفنون.
وتبعا لدورها الرائد في خدمة طلبة العلم وجمهور القراء، وحرصها على توفير
الكتاب وضمان الفضاء الواسع للقراءة والمطالعة، فتحت المكتبة الوطنية إرث
الشَّيخ محمَّد بن عبد الرَّحمن المنحدر مِن سُلالة الوليِّ الصَّالح
والشَّريف الحسني سيِّدي إِبراهيم من (قرية الدِّيس)، قرب (مدينة بوسعادة)
بالجنوب الشَّرقي بالجزائر.
اليتم
والفقر سمة الأنبياء والعلماء
وُلد الديسي سنة 1270 هـ بـ (قرية
الدِّيس)، وتوفي يوم 22 ذي الحِجَّة عام 1339 هـ.
ذاق مَرارةَ اليُتم مُنذ صِباه، إِذ توفيَّ والده وتركه صغيرا، فتربَّى في
حِجر والدته وجدَّته.
وفي السَّنة الرَّابعة مِن عُمره أُدخِلَ الكتَّاب لحفظِ القُرآن الكريم،
ولمَّا وصلَ إِلى (سورة الجن) أُصيبَ بِمَرضِ الجدري
فأَفقده عَينَيه، واستمرَّ على الرَّغم مِن ذلك على قِراءة القرآن إِلى أَن
حفِظه وأَتقن أَحكامَه على أَيدي علماء القَرية.
وشَرع بَعد ذلك في تلقِّي المبادئ العِلمية على يدِ عالم (الدِّيس)
وصالحها الشَّيخ سيِّدي أَبي القاسم بن سيِّدي إِبراهيم والد الشَّيخ
الحفناوي (مُفتي المالكية) بـ (الجزائر)
في بداية القَرن العشرين.
ثمَّ انتقلَ الديسي بعدَ ذلك إلى (زاوية الشَّيخ السَّعيد بن أَبي
داود) بـ (جبل زواوة) في عصر سيِّدي محمَّد
الطَّيب بن أَبي داود، أَخذَ عن رجالها الفِقه والنَّحو
والتَّوحيد والفلك.
ثمَّ قصد (قسنطينة) وحضرَ دروسَ الشَّيخ حمدان الونِّيسي،
ولم تَطل إِقامته بها.
وعاد إلى قريته (الدِّيس) ولازمَ حِفظَ المتون، فَحفِظ
نحو الخمسين مَتنا ذكرَها الشَّيخُ محمَّد بن الحاج محمَّد في تَرجمتِه له
في كتاب: (الزَّهر الباسم).
ومنها قَصد (زاوية الشَّيخ سيدي محمَّد بن أَبي القاسم)
بـ (الهامل)، وذلك سنة 1296هـ/1878م، وكان له مِنَ العمر
خَمس وعشرون عاما، فأَخذَ عن شَيخها علومَ التَّفسير والحديثِ والتَّصوُّف
وبعض علوم العربية.
ولماَّ رأى فيه شيخُ الزَّاوية علامات النُّبوغ، طلبَ من الديسي المجاورة
بـ (الزَّاوية) لإفادة الطَّلبة بِمعلوماته، وللاستفادة
مِن العلماء الوافدين على (الزَّاوية) في ذلك العهد
الزَّاهر.
وقد صدقت فراسة الشَّيخ محمَّد بن أَبي القاسم فيما ارتآه للأُستاذ
المترجَم له، إِذ ازدادت بهذه المجاورة معلومات الديسي اتِّساعا بِواسطة
الإِدمان على الدَّرس والمطالعة، وتوفُّر الكتُب اللَّازمة بـ (الزَّاوية)،
ومُراجعة بعض الأَعلام الوافدين عليها، منهم: الشَّيخ محمَّد
المكِّي بن عزوز، والشَّيخ عبد الحي الكتَّاني.
ليتخرَّج على يدَيه المئات مِن الطَّلبة والأُساتذة والفقهاء.
الدِّيسي
نابغة زمانه
عُرِفَ الشَّيخُ بن عبد الرَّحمن بِقوَّة
حفظه، فقد كان يحفظ ما يزيدُ عن المائة بَيت في اليوم الواحد، وكان يحفظ
معظم المتون المتداولة والمعروفة آنذاك، مثل: (مختصر الخليل)،
(جمع الجوامع)، (الألفية)، (الآجرُّومية)، (الدُّرَّة البَيضاء)،
وغيرها.
كما عُرف الديسي بِسُرعة فَهمِه وإِدراكه، إِذ كان يَستوعِبُ جميع ما في
الكتُب التي درَسها وطالعها، حتَّى أنَّه كان لا يحتاج إِلى إِعادة النَّظر
فيها مرَّة ثانية.
كان (رحمه الله) شَغوفا بالمجالس العِلمية والبحوث، فكانت مجالسُه كلّها
عِبارة عن مُناقشاتٍ ومُباحثات ومُدارسات لا تخلو من الفائدة.
وكانت درُوس الديسي عبارة عَن مُناظرات عِلمية بَحتة، ممَّا حبَّب ذلك إلى
نفوس الطَّلبة، واكتسبَت دروسُه بذلك شُهرة ًواسعةً لدى الأَوساطِ العلمية.
اتَّصل به الشَّيخ محمَّد بن الحاج محمَّد والشَّيخ المختار بن الحاج
محمَّد، فكانا لا يُفارقانِه إِلاَّ عند الضَّروريَّات، دائبَينِ معه على
الدِّراسة والمطالعة، حتَّى منحتهما هذه الملازمة قدرا ومنزلةً صارا بها في
أَعلى طبقات العلماء.
وشاركهما في الأَخذِ عن الديسي مجموعة من
المشايخ والعلماء تولَّوا التَّدريسَ بِحَضرته، ونَشروا العلم في (الزَّاوية)
المذكورة وخارجها في حياته وبعد وفاته، فساهموا في الحفاظ على
الدِّين واللُّغة والمبادئ الإِسلامية والتَّصدِّي لكلِّ أَشكال الغَزو
الثَّقافي والفِكري الذي كانت (فرنسا) تمارسه ضِدَّ
أَبناء هذا الشَّعب الأَبي.
كان الديسي علَما ومَرجعاً لأبناء عصره، أقرَّ له بِالرُّسوخ في العلم كلّ
مَن عاصره مِن أَفاضل العلماء، كالشَّيخ محمَّد المكِّي بن عزُّوز،
الشَّيخ أحمد الأمين، الشَّيخ عبد الحي
الكتَّاني، وكانوا يلقِّبونه بـ“الشَّمس”،
الشَّيخ الحفناوي الدِّيسي، وغيرهم كثيرون.
وكانت للديسي عناية كبيرة بِمُطالعة أمهات الكتب، منها: (فتح
الباري)، (عمدة القاري)، (إرشاد
السَّاري)، (الزَّرقاني على المواهب)، ومُلازمٌ
في الِفقه على مُطالعة كتاب: (المجموع) للمحقِّق الأَمير.
وكان للديسي مع الشَّيخ محمَّد المكِّي بن عزُّوز مُحاضرات
أَدبيَّة، ومُعارضات شِعرية، ومُساجلات عِلميَّة، أَيام إِقامتِه بـ (الزَّاوية
الهاملية) التي كان يُقيمُ بها قَبل انتِقال هذا الأخير إلى (القُسطَنطينية).
داومَ الديسي على التَّدريس في كلِّ وقت، وكانت له محبَّة فيمن يقرأُ عليه،
ويحرِّض طلبتَه على اغتِنام الأوقات فيما ينفع، ويُواسيهِم بِقَصد
الاِستعانة على التَّعلُّم، لاسيما في شهر رمضان.
وكان له في آخر عمره مَيلٌ إلى التَّصوُّف المعتدِل، فكان كثير البكاء
خصوصا عند ذكر تلميذَيه وأَنيسَيه الشَّيخ محمَّد
والشَّيخ الحاج المختار.
قال عنه الشَّيخ عبد الحي
الكتَّاني في كتابه (فهرس الفهارس):”فخرُ القُطر
الجزائري ونادرته، الشَّيخ محمَّد بن عبد الرَّحمن الدِّيسي،
وكان هذا الرَّجل الباقِعة النَّادرة حجَّة في الأَدبِ والتَّصوف والمعقول
والمنقول، مع ذهابِ بصره وبلوغه في السِّنِّ عتيّا، مجلسُه لا يُملّ،
حافظٌ واعية، ونَفسٌ أَبَّية، كنتُ أَجِدُ نفسي معه في (زاوية
الهامل) عام 1339هـ كأنِّي في المدرسة
النِّظامية، بَحثٌ شائِقٌ مُستمِّر، وعِلمٌ صافٍ مُغدق، ومُصافاة ومودَّة
لا تملُّ ولا تُنسى”.
ووصفه الشَّيخ محمَّد بن الحاج
محمَّد في كتابه (تعطير الأكوان)، فقال:”كان
أَوحد زمانه، وفريد عصره وأَوانه، يحبُّ الخمولَ ويكره المحمدةَ والظُّهور،
ليِّن الجانِب، صبورا غَيورا على الدِّين، صاحب حزم واجتهاد، ومنذُ خُلِقَ
ما نَطق بِفُحش، ولا ضَبطنا عنه ساعةً هو غافلٌ فيها عن دينه”.
ترجمَه الشَّيخُ أَبو القاسم
الحفناوي في كِتابه:(تعريف الخلف برجال السَّلف)،
والأُستاذ محمَّد علي دبُّوز في كتابه: (نهضة
الجزائر وثورتها المباركة).
توفي الديسي في (قرية الدِّيس) يوم 22 ذي الحجَّة 1339هـ
وعمره تسع وستُّون سنة، ودفن بـ (زاوية الهامل) داخل
القبَّة التي في المسجد بَين تِلميذَيه وحبيبَيه الشَّيخ محمَّد والشَّيخ
الحاج المختار.
مؤلفات
غزار
ترك الديسي مؤلَّفات غزار لكثرتها، بينها:
(فوز الغانم شرح ورد الشَّيخ محمَّد بن أَبي القاسم)، (الزَّهرة
المقتطفة)، وهو نظم في اللُّغة، شَرحَه بمسمى: (القهوة
المرتشفة)، وجعلَ على الشَّرح حاشية سماها: (الحديقة
المزخرفة)، (عِقد الجيد) مَنظومة في العقائد،
وشرَحها بشرح آخر سمَّاه: (الموجز المفيد)، (المشروب
الرَّاوي على منظومة الشَّبراوي) في النَّحو، (سلَّم
الوصول) وهو نظم على (الورقات في الأصول)
للجوَيني، وشرحه بشرح سمَّاه: (النُّصح المبذول)، (توهين القول
المتين) في الرَّدِّ على الشَّماخي، مطبوع
بالجزائر، (مقامة المفاخرة بين العلم والجهل) وشرحها بشرح
سماه: (بذل الكرامة لقراء المقامة)، (رفع
النِّقاب عن شبهة بعض المعاصرين من الطُّلاب) في الدِّفاع عن الشَّيخ
محمَّد بن أَبي القاسم، (إبراز الدَّقائق على كنوز
الحقائق) وهو شرح على (كنوز الحقائق) في الحديث للمناوي،
(تنوير الألباب بشرح أحاديث الشِّهاب)، (إفحام
الطَّاعن برد المطاعن)، و(الكلمات الشَّافية)
وهو شرح على العقيدة الشُّعيبية من نظم القاضي شعيب التِّلمساني،
وغيرها من المؤلَّفات النَّافعة في مختلف العلوم والفون.
وللديسي ديوان شعر مشهور بعنوان: (مِنَّة الحنَّان المنَّان)،
وهو ديوان يحتوي على أكثر من أربعة آلاف بيت، في أغراض مختلفة: المدائح
النَّبوية، المنظومات الفقهية والنَّحوية، والتَّهاني، والمراثي،
والإجازات…وغيرها.