استوقفتني كلمة جسر، وتذكّرت تلك اللوحة، وكأنني تذكرت الفصل الأهم من قصة، كنت أرويها لك وربما أرويها لنفسي أيضاً، عساني أصدّق غرابتها. وقفت وقلت:
- تعالي سأريك شيئاً.
تبعتني دون سؤال.
وقفت أمام تلك اللوحة. قلت لك وأنت تنتظرين مدهوشة ما سأقوله:
- أتدرين.. يوم رأيتك تقفين أمام هذه اللوحة، في ذلك اليوم الأول، سرت قشعريرة في جسدي. شعرت أن بينك وبين هذه اللوحة قرابة ما أجهلها. ولكنني كنت متأكداً منها، ولذا أتيت لأسلّم عليك عساني أكتشف خطأ حدسي.. أو صوابه.
قلت متعجبة:
- وهل كنت مصيباً في حدسك؟
قلت:
- ألم تلاحظي التاريخ المكتوب على هذه اللوحة؟
أجبت وأنت تبحثين عنه أسفلها..
- لا..
قلت:
_ إنه قريب من تاريخ ميلادك الرسمي. أنت تكبرين هذه اللوحة بأسبوعين فقط. إنها توأمك إذا شئتِ!
قلت مدهوشة:
- عجيب.. عجيب كل هذا!
نظرت إلى اللوحة وكأنك تبحثين فيها عن نفسك، فقلت:
- أليست هذه قنطرة الحبال؟
أجبتك:
- إنها أكثر من قنطرة.. إنها قسنطينة. وهذه هي القرابة الأخرى التي تربطك بهذه اللوحة.
- يوم دخلت هذه القاعة، دخلت قسنطينة معك..
- دَخَلَت في طلّتك.. في مشيتك.. في لهجتك.. وفي سوار كنت تلبسينه.
- فكرت قليلاً ثم قلت:
- - آ.. تعني "المقياس".. يحدث أحياناً أن ألبسه في بعض المناسبات.. ولكنه ثقيل يوجع معصمي.
قلت:
- لأن الذاكرة ثقيلة دائماً. لقد لبسته "أمّا" عدة سنوات متتالية،ولم تشك من ثقله. ماتت وهو في معصمها.. إنها العادة فقط!
لم أعتب عليك. كان في صوتي حسرة، ولكن لم أقل لك شيئاً. كنت تنتمين لجيل يثقل عليه حمل أي شيء. ولذا اختصر الأثواب العربية القديمة بأثواب عصرية من قطعة أو قطعتين. واختصر الصيغة والحليّ القديمة، بحلي خفيفة تلبس وتخلع على عجل. واختصر التاريخ والذاكرة كلها بصفحة أو صفحتين في كتب مدرسيّة، واسم أو اسمين في الشعر العربي..
لن أعتب عليك، نحن ننتمي لأوطان لا تلبس ذاكرتها إلا في المناسبات، بين نشرة أخبار وأخرى. وسرعان ما تخلعها عندما تطفأ الأضواء، وينسحب المصوّرون، كما تخلع امرأة أثواب زينتها.
قلت وكأنك تعتذرين عن خطأ لم تتعمديه:
- إذا شئت سألبس ذلك السوار من أجلك.. أيسعدك هذا؟
فاجأني كلامك. كان الموقف جزيناً شيئاً ما، رغم تلقائيته، وربما كان مضحكاً بحزن.
كنت هنا أعرض عليك أبوتي، وكنت تعرضين عليّ أمومتك. أنت الفتاة التي كان يمكن أن تكون ابنتي، والتي أصبحت دون أن تدري.. أمّي!
وكان يمكن أن أجيبك لحظتها بكلمة واحدة، أختصر فيها كل تناقضات موقفنا ذلك، وأختصر فيها كل ما أشعر به تجاهك من عواطف متطرفة.. وجامحة. ولكنني قلت شيئاً آخر.
قلت:
- يسعدني ذلك، ويسعدني أيضاً أن تلبسيه من أجلك أنت.
لا بد أن تعي أنك لن تفهمي شيئاً من الماضي الذي تبحثين عنه، ولا من ذاكرة أب لم تعرفيه، إذا لم تفهمي قسنطينة بعاداتها وتلتحمي بها. إننا لا نكتشف ذاكرتنا ونحن نتفرج على بطاقة بريدية.. أو لوحة زيتية كهذه.
نحن نكتشفها عندما نلمسها، عندما نلبسها ونعيش بها.
هذا السوار مثلاً، لقد أصبحت علاقتي به فجأة علاقة عاطفية. لقد كان في ذاكرتي رمزاً للأمومة دون أن أدري. اكتشفت هذا يوم رأيتك تلبسينه، وكان يمكن ألا تلبسيه. وتظل كل تلك الأحاسيس التي فجرها داخلي نائمة في دهاليز النسيان. هل تفهمين الآن.. أن الذاكرة أيضاً في حاجة إلى أن نوقظها أحياناً؟
كم كنت أحمق.. كنت دون أن أدري، أوقظ داخلي مارداً كان نائماً منذ سنين. وكنت أحوّلك في حمّى جنوني من فتاة إلى مدينة. وكنت تستمعين لي بانبهار تلميذة، وتتلقّين كلماتي كما يتلقّى شخص في جلسة تنويم مغنطيسي، تعاليمه وأوامره من منوم يفعل به ما يشاء.
اكتشفت يومها قدرتي على ترويضك، وعلى السيطرة على نارك المحرقة.
وقرَّرت في سرّي أن أحولك إلى مدينة شاهقة.. شامخة، عريقة.. عميقة، لن يطأها الأقزام ولا القراصنة.
حكمت عليك أن تكوني قسنطينة ما..
وكنت أحكم على نفسي بالجنون.
قضينا معاً وقتاً أطول ذلك اليوم.. وافترقنا مثقلين بالهزّات النفسية، مشحونين بالانفعالات المتطرّفة، التي عشناها خلال أربع ساعات من الحديث المستمرّ. قلنا الكثير، وسط دموعنا المكابرة أحياناً، ووسط صمتنا المخيف أحياناً أخرى.
كنت سعيداً ربما لأنني رأيتك تبكين لأول مرة. كنت أحتقر الناس الذين لا دموع لهم، فهم إما جبابرة.. أو منافقون. وفي الحالتين هم لا يستحقون الاحترام.
كنت المرأة التي كنت أريد أن أضحك وأبكي معها.
وكان هذا أروع ما اكتشفته ذلك اليوم.
تذكّرت لقاءنا الأول، الذي بدأناه دون تخطيط بالتعليقات الساخرة. يومها تذكّرت مثلاً فرنسياً يقوم: "أقصر طريق لأن تربح امرأة هو أن تضحكها"، وقلت ها أنذا ربحتها دون جهد..
اليوم اكتشفت حماقة ذلك المثل الذي يشجّع على الربح السريع، وعلى المغامرات العابرة التي لا يهمّ أن تبكي بعدها المرأة التي قد ضحكت في البداية.
لم أربحك بعد نوبة ضحك..
ربحتك يوم بكيت أمامي وأنت تستمعين إلى قصّتك التي كانت قصّتي أيضاً. ثمَّ في تلك اللحظة التي تأملت فيها تلك اللوحة بتأثر واضح. وكنت ربّما على وشك أن تضعي قبلة على خدّي، أو تحضنيني في لحظة حنان مفاجئ.. ولكنَّك لم تفعلي.
وافترقنا مثل العادة، ونحن نتصافح، وكأننا نخاف أن تتحول تلك القبلة العابرة على الخدّ، إلى فتيلة تشعل البراكين النائمة.
كنّا نفهم بعضنا بصمت متواطئ. كان حضورك يوقظ رجولتي. كان عطرك يستفزّني ويستدرجني إلى الجنون. وعيناك كانت تجرّدانني من سلاحي حتى عندما تمطران حزناً.
وصوتك.. آه صوتك كم كنت أحبه.. من أين جئت به؟ أيّ لغة كانت لغتك؟ أيّ موسيقى كانت موسيقاك..
كنت دهشتي الدائمة، وهزيمتي المؤكدة، فهل كان يمكن أن تكوني ابنتي، أنت التي لم يكن يمكن في المنطق أن تكوني شيئاً آخر غير ذاك بالنسبة لي.
ورحت أقاومك بحواجز وهمية أضعها بيننا كلّ مرة، كما توضع حواجز في ساحة سباق، ولكنك كنت فرساً خلقت للتحدي وربح الرهان. كنت تقفزين عليها جميعاً مرة واحدة، بنظرة واحدة.
كانت نظراتك تتسكع فوقي، تتوقف أحياناً هنا.. وأحياناً هناك، لتنتهي عند عينيّ أو زرّ قميصي المفتوح كالعادة.
قلت مرة وأنت تتأملينني أكثر:
- فيك شيء من زوربا. شيء من قامته.. من سمرته.. وشعره الفوضوي المنسّق. ربما كنت فقط أكثر وسامة منه.
أجبتك:
- يمكن أن تضيفي كذلك، أنني في سنه، وفي جنونه وتطرفه، وأنّ في أعماقي شيئاً من وحدته.. من حزنه ومن انتصاراته التي تتحول دائماً إلى هزائم.
قلت متعجبة:
- أتعرف عنه كل ها... أتحبه؟
أجبت:
- ربما..
قلت:
- أتدري أنه الرجل الذي أثّر أكثر في حياتي؟
أدهشني اعترافك. فكَّرت إما أنك لم تعرفي كثيراً من الرجال.. أو لم تقرئي كثيراً من الكتب. وقبل أن أقول شيئاً واصلت بحماسة:
- يعجبني جنونه وتصرّفاته غير المتوقعة.. علاقته العجيبة بتلك المرأة.. فلسفته في الحب والزواج.. في الحرب والعبادة، وتعجبني أكثر طريقته في أن يصل بأحاسيسه إلى ضدّها. أتذكّر قصة الكرز، يوم كان يحبّ الكرز كثيراً وقرر أن يُشفى من ولعه به بأن يأكل منه كثيراً.. كيراً حتى يتقيّأه. بعد ذلك أصبح يعامله كفاكهة عادية. كانت تلك طريقته في أن يشفى من الأشياء التي يشعر أنها تستعبده.
قلت:
- لا أذكر هذه القصة..
قلت:
- وهل تذكر رقصته تلك وسط ما يسميه بالخراب الجميل؟ إنه شيء مدهش أن يصل الإنسان بخيبته وفجائعه حدّ الرقص. إنه تميّز في الهزائم أيضاً، فليست كلّ الهزائم في متناول الجميع. فلا بد أن تكون لك أحلام فوق العادة، وأفراح وطموحات فوق العادة، لتصل بعواطفك تلك إلى ضدّها بهذه الطريقة..
- تعالي سأريك شيئاً.
تبعتني دون سؤال.
وقفت أمام تلك اللوحة. قلت لك وأنت تنتظرين مدهوشة ما سأقوله:
- أتدرين.. يوم رأيتك تقفين أمام هذه اللوحة، في ذلك اليوم الأول، سرت قشعريرة في جسدي. شعرت أن بينك وبين هذه اللوحة قرابة ما أجهلها. ولكنني كنت متأكداً منها، ولذا أتيت لأسلّم عليك عساني أكتشف خطأ حدسي.. أو صوابه.
قلت متعجبة:
- وهل كنت مصيباً في حدسك؟
قلت:
- ألم تلاحظي التاريخ المكتوب على هذه اللوحة؟
أجبت وأنت تبحثين عنه أسفلها..
- لا..
قلت:
_ إنه قريب من تاريخ ميلادك الرسمي. أنت تكبرين هذه اللوحة بأسبوعين فقط. إنها توأمك إذا شئتِ!
قلت مدهوشة:
- عجيب.. عجيب كل هذا!
نظرت إلى اللوحة وكأنك تبحثين فيها عن نفسك، فقلت:
- أليست هذه قنطرة الحبال؟
أجبتك:
- إنها أكثر من قنطرة.. إنها قسنطينة. وهذه هي القرابة الأخرى التي تربطك بهذه اللوحة.
- يوم دخلت هذه القاعة، دخلت قسنطينة معك..
- دَخَلَت في طلّتك.. في مشيتك.. في لهجتك.. وفي سوار كنت تلبسينه.
- فكرت قليلاً ثم قلت:
- - آ.. تعني "المقياس".. يحدث أحياناً أن ألبسه في بعض المناسبات.. ولكنه ثقيل يوجع معصمي.
قلت:
- لأن الذاكرة ثقيلة دائماً. لقد لبسته "أمّا" عدة سنوات متتالية،ولم تشك من ثقله. ماتت وهو في معصمها.. إنها العادة فقط!
لم أعتب عليك. كان في صوتي حسرة، ولكن لم أقل لك شيئاً. كنت تنتمين لجيل يثقل عليه حمل أي شيء. ولذا اختصر الأثواب العربية القديمة بأثواب عصرية من قطعة أو قطعتين. واختصر الصيغة والحليّ القديمة، بحلي خفيفة تلبس وتخلع على عجل. واختصر التاريخ والذاكرة كلها بصفحة أو صفحتين في كتب مدرسيّة، واسم أو اسمين في الشعر العربي..
لن أعتب عليك، نحن ننتمي لأوطان لا تلبس ذاكرتها إلا في المناسبات، بين نشرة أخبار وأخرى. وسرعان ما تخلعها عندما تطفأ الأضواء، وينسحب المصوّرون، كما تخلع امرأة أثواب زينتها.
قلت وكأنك تعتذرين عن خطأ لم تتعمديه:
- إذا شئت سألبس ذلك السوار من أجلك.. أيسعدك هذا؟
فاجأني كلامك. كان الموقف جزيناً شيئاً ما، رغم تلقائيته، وربما كان مضحكاً بحزن.
كنت هنا أعرض عليك أبوتي، وكنت تعرضين عليّ أمومتك. أنت الفتاة التي كان يمكن أن تكون ابنتي، والتي أصبحت دون أن تدري.. أمّي!
وكان يمكن أن أجيبك لحظتها بكلمة واحدة، أختصر فيها كل تناقضات موقفنا ذلك، وأختصر فيها كل ما أشعر به تجاهك من عواطف متطرفة.. وجامحة. ولكنني قلت شيئاً آخر.
قلت:
- يسعدني ذلك، ويسعدني أيضاً أن تلبسيه من أجلك أنت.
لا بد أن تعي أنك لن تفهمي شيئاً من الماضي الذي تبحثين عنه، ولا من ذاكرة أب لم تعرفيه، إذا لم تفهمي قسنطينة بعاداتها وتلتحمي بها. إننا لا نكتشف ذاكرتنا ونحن نتفرج على بطاقة بريدية.. أو لوحة زيتية كهذه.
نحن نكتشفها عندما نلمسها، عندما نلبسها ونعيش بها.
هذا السوار مثلاً، لقد أصبحت علاقتي به فجأة علاقة عاطفية. لقد كان في ذاكرتي رمزاً للأمومة دون أن أدري. اكتشفت هذا يوم رأيتك تلبسينه، وكان يمكن ألا تلبسيه. وتظل كل تلك الأحاسيس التي فجرها داخلي نائمة في دهاليز النسيان. هل تفهمين الآن.. أن الذاكرة أيضاً في حاجة إلى أن نوقظها أحياناً؟
كم كنت أحمق.. كنت دون أن أدري، أوقظ داخلي مارداً كان نائماً منذ سنين. وكنت أحوّلك في حمّى جنوني من فتاة إلى مدينة. وكنت تستمعين لي بانبهار تلميذة، وتتلقّين كلماتي كما يتلقّى شخص في جلسة تنويم مغنطيسي، تعاليمه وأوامره من منوم يفعل به ما يشاء.
اكتشفت يومها قدرتي على ترويضك، وعلى السيطرة على نارك المحرقة.
وقرَّرت في سرّي أن أحولك إلى مدينة شاهقة.. شامخة، عريقة.. عميقة، لن يطأها الأقزام ولا القراصنة.
حكمت عليك أن تكوني قسنطينة ما..
وكنت أحكم على نفسي بالجنون.
قضينا معاً وقتاً أطول ذلك اليوم.. وافترقنا مثقلين بالهزّات النفسية، مشحونين بالانفعالات المتطرّفة، التي عشناها خلال أربع ساعات من الحديث المستمرّ. قلنا الكثير، وسط دموعنا المكابرة أحياناً، ووسط صمتنا المخيف أحياناً أخرى.
كنت سعيداً ربما لأنني رأيتك تبكين لأول مرة. كنت أحتقر الناس الذين لا دموع لهم، فهم إما جبابرة.. أو منافقون. وفي الحالتين هم لا يستحقون الاحترام.
كنت المرأة التي كنت أريد أن أضحك وأبكي معها.
وكان هذا أروع ما اكتشفته ذلك اليوم.
تذكّرت لقاءنا الأول، الذي بدأناه دون تخطيط بالتعليقات الساخرة. يومها تذكّرت مثلاً فرنسياً يقوم: "أقصر طريق لأن تربح امرأة هو أن تضحكها"، وقلت ها أنذا ربحتها دون جهد..
اليوم اكتشفت حماقة ذلك المثل الذي يشجّع على الربح السريع، وعلى المغامرات العابرة التي لا يهمّ أن تبكي بعدها المرأة التي قد ضحكت في البداية.
لم أربحك بعد نوبة ضحك..
ربحتك يوم بكيت أمامي وأنت تستمعين إلى قصّتك التي كانت قصّتي أيضاً. ثمَّ في تلك اللحظة التي تأملت فيها تلك اللوحة بتأثر واضح. وكنت ربّما على وشك أن تضعي قبلة على خدّي، أو تحضنيني في لحظة حنان مفاجئ.. ولكنَّك لم تفعلي.
وافترقنا مثل العادة، ونحن نتصافح، وكأننا نخاف أن تتحول تلك القبلة العابرة على الخدّ، إلى فتيلة تشعل البراكين النائمة.
كنّا نفهم بعضنا بصمت متواطئ. كان حضورك يوقظ رجولتي. كان عطرك يستفزّني ويستدرجني إلى الجنون. وعيناك كانت تجرّدانني من سلاحي حتى عندما تمطران حزناً.
وصوتك.. آه صوتك كم كنت أحبه.. من أين جئت به؟ أيّ لغة كانت لغتك؟ أيّ موسيقى كانت موسيقاك..
كنت دهشتي الدائمة، وهزيمتي المؤكدة، فهل كان يمكن أن تكوني ابنتي، أنت التي لم يكن يمكن في المنطق أن تكوني شيئاً آخر غير ذاك بالنسبة لي.
ورحت أقاومك بحواجز وهمية أضعها بيننا كلّ مرة، كما توضع حواجز في ساحة سباق، ولكنك كنت فرساً خلقت للتحدي وربح الرهان. كنت تقفزين عليها جميعاً مرة واحدة، بنظرة واحدة.
كانت نظراتك تتسكع فوقي، تتوقف أحياناً هنا.. وأحياناً هناك، لتنتهي عند عينيّ أو زرّ قميصي المفتوح كالعادة.
قلت مرة وأنت تتأملينني أكثر:
- فيك شيء من زوربا. شيء من قامته.. من سمرته.. وشعره الفوضوي المنسّق. ربما كنت فقط أكثر وسامة منه.
أجبتك:
- يمكن أن تضيفي كذلك، أنني في سنه، وفي جنونه وتطرفه، وأنّ في أعماقي شيئاً من وحدته.. من حزنه ومن انتصاراته التي تتحول دائماً إلى هزائم.
قلت متعجبة:
- أتعرف عنه كل ها... أتحبه؟
أجبت:
- ربما..
قلت:
- أتدري أنه الرجل الذي أثّر أكثر في حياتي؟
أدهشني اعترافك. فكَّرت إما أنك لم تعرفي كثيراً من الرجال.. أو لم تقرئي كثيراً من الكتب. وقبل أن أقول شيئاً واصلت بحماسة:
- يعجبني جنونه وتصرّفاته غير المتوقعة.. علاقته العجيبة بتلك المرأة.. فلسفته في الحب والزواج.. في الحرب والعبادة، وتعجبني أكثر طريقته في أن يصل بأحاسيسه إلى ضدّها. أتذكّر قصة الكرز، يوم كان يحبّ الكرز كثيراً وقرر أن يُشفى من ولعه به بأن يأكل منه كثيراً.. كيراً حتى يتقيّأه. بعد ذلك أصبح يعامله كفاكهة عادية. كانت تلك طريقته في أن يشفى من الأشياء التي يشعر أنها تستعبده.
قلت:
- لا أذكر هذه القصة..
قلت:
- وهل تذكر رقصته تلك وسط ما يسميه بالخراب الجميل؟ إنه شيء مدهش أن يصل الإنسان بخيبته وفجائعه حدّ الرقص. إنه تميّز في الهزائم أيضاً، فليست كلّ الهزائم في متناول الجميع. فلا بد أن تكون لك أحلام فوق العادة، وأفراح وطموحات فوق العادة، لتصل بعواطفك تلك إلى ضدّها بهذه الطريقة..