منتديات التاريخ المنسي
<div style="text-align: center;"><img src="https://i.servimg.com/u/f27/11/57/48/93/m0dy_n10.gif"><br></div>


منتديات التاريخ المنسي
<div style="text-align: center;"><img src="https://i.servimg.com/u/f27/11/57/48/93/m0dy_n10.gif"><br></div>

منتديات التاريخ المنسي
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات التاريخ المنسيدخول

التاريخ المنسي


descriptionالحلقة السادسة من سلسلة ذاكرة الجسد Emptyالحلقة السادسة من سلسلة ذاكرة الجسد

more_horiz
استوقفتني كلمة جسر، وتذكّرت تلك اللوحة، وكأنني تذكرت الفصل الأهم من قصة، كنت أرويها لك وربما أرويها لنفسي أيضاً، عساني أصدّق غرابتها. وقفت وقلت:

- تعالي سأريك شيئاً.

تبعتني دون سؤال.

وقفت أمام تلك اللوحة. قلت لك وأنت تنتظرين مدهوشة ما سأقوله:

- أتدرين.. يوم رأيتك تقفين أمام هذه اللوحة، في ذلك اليوم الأول، سرت قشعريرة في جسدي. شعرت أن بينك وبين هذه اللوحة قرابة ما أجهلها. ولكنني كنت متأكداً منها، ولذا أتيت لأسلّم عليك عساني أكتشف خطأ حدسي.. أو صوابه.

قلت متعجبة:

- وهل كنت مصيباً في حدسك؟

قلت:

- ألم تلاحظي التاريخ المكتوب على هذه اللوحة؟

أجبت وأنت تبحثين عنه أسفلها..

- لا..

قلت:

_ إنه قريب من تاريخ ميلادك الرسمي. أنت تكبرين هذه اللوحة بأسبوعين فقط. إنها توأمك إذا شئتِ!

قلت مدهوشة:

- عجيب.. عجيب كل هذا!

نظرت إلى اللوحة وكأنك تبحثين فيها عن نفسك، فقلت:

- أليست هذه قنطرة الحبال؟

أجبتك:

- إنها أكثر من قنطرة.. إنها قسنطينة. وهذه هي القرابة الأخرى التي تربطك بهذه اللوحة.

- يوم دخلت هذه القاعة، دخلت قسنطينة معك..

- دَخَلَت في طلّتك.. في مشيتك.. في لهجتك.. وفي سوار كنت تلبسينه.

- فكرت قليلاً ثم قلت:

- - آ.. تعني "المقياس".. يحدث أحياناً أن ألبسه في بعض المناسبات.. ولكنه ثقيل يوجع معصمي.

قلت:

- لأن الذاكرة ثقيلة دائماً. لقد لبسته "أمّا" عدة سنوات متتالية،ولم تشك من ثقله. ماتت وهو في معصمها.. إنها العادة فقط!

لم أعتب عليك. كان في صوتي حسرة، ولكن لم أقل لك شيئاً. كنت تنتمين لجيل يثقل عليه حمل أي شيء. ولذا اختصر الأثواب العربية القديمة بأثواب عصرية من قطعة أو قطعتين. واختصر الصيغة والحليّ القديمة، بحلي خفيفة تلبس وتخلع على عجل. واختصر التاريخ والذاكرة كلها بصفحة أو صفحتين في كتب مدرسيّة، واسم أو اسمين في الشعر العربي..

لن أعتب عليك، نحن ننتمي لأوطان لا تلبس ذاكرتها إلا في المناسبات، بين نشرة أخبار وأخرى. وسرعان ما تخلعها عندما تطفأ الأضواء، وينسحب المصوّرون، كما تخلع امرأة أثواب زينتها.

قلت وكأنك تعتذرين عن خطأ لم تتعمديه:

- إذا شئت سألبس ذلك السوار من أجلك.. أيسعدك هذا؟

فاجأني كلامك. كان الموقف جزيناً شيئاً ما، رغم تلقائيته، وربما كان مضحكاً بحزن.

كنت هنا أعرض عليك أبوتي، وكنت تعرضين عليّ أمومتك. أنت الفتاة التي كان يمكن أن تكون ابنتي، والتي أصبحت دون أن تدري.. أمّي!

وكان يمكن أن أجيبك لحظتها بكلمة واحدة، أختصر فيها كل تناقضات موقفنا ذلك، وأختصر فيها كل ما أشعر به تجاهك من عواطف متطرفة.. وجامحة. ولكنني قلت شيئاً آخر.

قلت:

- يسعدني ذلك، ويسعدني أيضاً أن تلبسيه من أجلك أنت.

لا بد أن تعي أنك لن تفهمي شيئاً من الماضي الذي تبحثين عنه، ولا من ذاكرة أب لم تعرفيه، إذا لم تفهمي قسنطينة بعاداتها وتلتحمي بها. إننا لا نكتشف ذاكرتنا ونحن نتفرج على بطاقة بريدية.. أو لوحة زيتية كهذه.





نحن نكتشفها عندما نلمسها، عندما نلبسها ونعيش بها.

هذا السوار مثلاً، لقد أصبحت علاقتي به فجأة علاقة عاطفية. لقد كان في ذاكرتي رمزاً للأمومة دون أن أدري. اكتشفت هذا يوم رأيتك تلبسينه، وكان يمكن ألا تلبسيه. وتظل كل تلك الأحاسيس التي فجرها داخلي نائمة في دهاليز النسيان. هل تفهمين الآن.. أن الذاكرة أيضاً في حاجة إلى أن نوقظها أحياناً؟

كم كنت أحمق.. كنت دون أن أدري، أوقظ داخلي مارداً كان نائماً منذ سنين. وكنت أحوّلك في حمّى جنوني من فتاة إلى مدينة. وكنت تستمعين لي بانبهار تلميذة، وتتلقّين كلماتي كما يتلقّى شخص في جلسة تنويم مغنطيسي، تعاليمه وأوامره من منوم يفعل به ما يشاء.

اكتشفت يومها قدرتي على ترويضك، وعلى السيطرة على نارك المحرقة.

وقرَّرت في سرّي أن أحولك إلى مدينة شاهقة.. شامخة، عريقة.. عميقة، لن يطأها الأقزام ولا القراصنة.

حكمت عليك أن تكوني قسنطينة ما..

وكنت أحكم على نفسي بالجنون.

قضينا معاً وقتاً أطول ذلك اليوم.. وافترقنا مثقلين بالهزّات النفسية، مشحونين بالانفعالات المتطرّفة، التي عشناها خلال أربع ساعات من الحديث المستمرّ. قلنا الكثير، وسط دموعنا المكابرة أحياناً، ووسط صمتنا المخيف أحياناً أخرى.

كنت سعيداً ربما لأنني رأيتك تبكين لأول مرة. كنت أحتقر الناس الذين لا دموع لهم، فهم إما جبابرة.. أو منافقون. وفي الحالتين هم لا يستحقون الاحترام.

كنت المرأة التي كنت أريد أن أضحك وأبكي معها.

وكان هذا أروع ما اكتشفته ذلك اليوم.

تذكّرت لقاءنا الأول، الذي بدأناه دون تخطيط بالتعليقات الساخرة. يومها تذكّرت مثلاً فرنسياً يقوم: "أقصر طريق لأن تربح امرأة هو أن تضحكها"، وقلت ها أنذا ربحتها دون جهد..

اليوم اكتشفت حماقة ذلك المثل الذي يشجّع على الربح السريع، وعلى المغامرات العابرة التي لا يهمّ أن تبكي بعدها المرأة التي قد ضحكت في البداية.

لم أربحك بعد نوبة ضحك..

ربحتك يوم بكيت أمامي وأنت تستمعين إلى قصّتك التي كانت قصّتي أيضاً. ثمَّ في تلك اللحظة التي تأملت فيها تلك اللوحة بتأثر واضح. وكنت ربّما على وشك أن تضعي قبلة على خدّي، أو تحضنيني في لحظة حنان مفاجئ.. ولكنَّك لم تفعلي.

وافترقنا مثل العادة، ونحن نتصافح، وكأننا نخاف أن تتحول تلك القبلة العابرة على الخدّ، إلى فتيلة تشعل البراكين النائمة.

كنّا نفهم بعضنا بصمت متواطئ. كان حضورك يوقظ رجولتي. كان عطرك يستفزّني ويستدرجني إلى الجنون. وعيناك كانت تجرّدانني من سلاحي حتى عندما تمطران حزناً.

وصوتك.. آه صوتك كم كنت أحبه.. من أين جئت به؟ أيّ لغة كانت لغتك؟ أيّ موسيقى كانت موسيقاك..

كنت دهشتي الدائمة، وهزيمتي المؤكدة، فهل كان يمكن أن تكوني ابنتي، أنت التي لم يكن يمكن في المنطق أن تكوني شيئاً آخر غير ذاك بالنسبة لي.

ورحت أقاومك بحواجز وهمية أضعها بيننا كلّ مرة، كما توضع حواجز في ساحة سباق، ولكنك كنت فرساً خلقت للتحدي وربح الرهان. كنت تقفزين عليها جميعاً مرة واحدة، بنظرة واحدة.

كانت نظراتك تتسكع فوقي، تتوقف أحياناً هنا.. وأحياناً هناك، لتنتهي عند عينيّ أو زرّ قميصي المفتوح كالعادة.

قلت مرة وأنت تتأملينني أكثر:

- فيك شيء من زوربا. شيء من قامته.. من سمرته.. وشعره الفوضوي المنسّق. ربما كنت فقط أكثر وسامة منه.

أجبتك:

- يمكن أن تضيفي كذلك، أنني في سنه، وفي جنونه وتطرفه، وأنّ في أعماقي شيئاً من وحدته.. من حزنه ومن انتصاراته التي تتحول دائماً إلى هزائم.

قلت متعجبة:

- أتعرف عنه كل ها... أتحبه؟

أجبت:

- ربما..

قلت:

- أتدري أنه الرجل الذي أثّر أكثر في حياتي؟

أدهشني اعترافك. فكَّرت إما أنك لم تعرفي كثيراً من الرجال.. أو لم تقرئي كثيراً من الكتب. وقبل أن أقول شيئاً واصلت بحماسة:

- يعجبني جنونه وتصرّفاته غير المتوقعة.. علاقته العجيبة بتلك المرأة.. فلسفته في الحب والزواج.. في الحرب والعبادة، وتعجبني أكثر طريقته في أن يصل بأحاسيسه إلى ضدّها. أتذكّر قصة الكرز، يوم كان يحبّ الكرز كثيراً وقرر أن يُشفى من ولعه به بأن يأكل منه كثيراً.. كيراً حتى يتقيّأه. بعد ذلك أصبح يعامله كفاكهة عادية. كانت تلك طريقته في أن يشفى من الأشياء التي يشعر أنها تستعبده.

قلت:

- لا أذكر هذه القصة..

قلت:

- وهل تذكر رقصته تلك وسط ما يسميه بالخراب الجميل؟ إنه شيء مدهش أن يصل الإنسان بخيبته وفجائعه حدّ الرقص. إنه تميّز في الهزائم أيضاً، فليست كلّ الهزائم في متناول الجميع. فلا بد أن تكون لك أحلام فوق العادة، وأفراح وطموحات فوق العادة، لتصل بعواطفك تلك إلى ضدّها بهذه الطريقة..


descriptionالحلقة السادسة من سلسلة ذاكرة الجسد Emptyرد: الحلقة السادسة من سلسلة ذاكرة الجسد

more_horiz
كنت أستمع إليك بانبهار وبمتعة. وبدل أن أجد في ذلك "الخراب الجميل" الذي كنت تصفينه لي بحماسة، ما يمكن أن يثير مخاوفي من نزعة سادية، أو مازوشية ما قد تسكنك، رحت أنقاد لجمال فكرتك فقط، وأقول دون كثير من التفكير:

- صحيح.. جميل ما تقولين. _ ثم أضفت_ لم أكن أدري أنك تحبين زوربا إلى هذا الحد!

قلت ضاحكة:

- سأعترف لك بشيء.. لقد أربكتني هذه القصة كثيراً. يوم قرأتها شعرت بشيء من الغبطة والحزن معاً. كنت أريد أن أحبّ رجلاً كهذا.. أو أكتب رواية كهذه، ولم يكن ذلك ممكناً، ولهذا ستطاردني هذه القصة حتى أشفى منها بطريقة أو بأخرى.

قلت ساخراً:

- يسعدني إذن أن تجدي شيئاً من الشبه بيني وبينه، فقد تحققين الأمنيتين معاً..

تأملتني بشيء من الشيطة المحبّبة وقلت:

- معك أريد أن أحقق إحدى الأمنيتين فقط.

وأضفت قبل أن أسألك أيّهما:

- لن أكتب عنك شيئاً.

- آ.. لماذا..؟

- لأني لا أريد قتلك، أنا سعيدة بك.. نحن نكتب الروايات لنقتل الأشخاص الذين أصبح وجودهم عبئاً علينا.. نحن نكتب لننتهي منهم..

يومها ناقشتك طويلاً في نظرتك "الإجرامية" للأدب وقلت لك ونحن نفترق:

- أيمكنني أخيراً أن أطّلع على روايتكم الأولى.. أو "جريمتك الأولى"؟!

ضحكت وأجبت:

- طبعاً.. شرط ألا تتحول إلى محقِّق جنائي أو طرفٍ في تلك القصّة!

- تراك كنت تتنبئين بما ينتظرني، وتدرين مسبقاً أنني لن أكون معك قاراً محايداً بعد الآن.

في اليوم التالي أحضرت لي تلك الرواية. قلت وأنت تمدّين نحوي الكتاب:

- أتمنى أن تجد شيئاً من المتعة في قراءتها..

قلت مازحاً:

- وأتمنى ألا يفسد عدد ضحاياك متعتي!

أجبت باللهجة نفسها:

- لا.. اطمئن.. فأنا أكره المقابر الجماعية!

كيف نسيت هذه الجملة الأخيرة..

عندما أتذكرها الآن، أقتنع أن قصّتك الجديدة هذه، التي تروج لها المجلات والجرائد، لن تكون سوى ضريح فردي لبطل واحد ربَّما كان زياد.. وربما كان أنا.. فمن ترى المحظوظ منَّا بميتة كهذه؟!

وحده كتابك قد يحمل جواباً على هذا السؤال، وعلى أسئلة أخرى تطاردني.

ولكن.. لماذا يثير كلّ ما تكتبيه لديّ أكثر من سؤال؟ ولماذا أشعر أنني طرف في كل قصصك الواقعية والوهمية، حتى تلك التي كتبتها قبلي؟

ترى لأنني أتوهم أن لي حقاً تاريخياً عليك، أو لأنك يوم أهديتني كتابك الأول ذاك، لم تضعي عليه أيّ إهداء، وقلت ذلك التعليق المدهش الذي لم أنسه:

"إننا نخطّ إهداءً للغرباء فقط.. وأمّا الذين نحبهم فمكانهم ليس في الصفحة البيضاء الأولى، وإنما في صفحات الكتاب..".

يومها أسرعت إلى ذلك الكتاب ألتهمه في سهرتين. رحت أركض لاهثاً من صفحة إلى أخرى، وكأنني أبحث عن شيء ما غير الذي أقرأه. عن شيء قد تكونين كتبته لي مسبقاً مثلاً حتى قبل أن نلتقي. عن شيء ما قد يكون يربطنا من خلال قصة لم تكن قصتنا.




أدري أنَّ ذلك كان جنوناً، ولكن أليس في الحياة مصادفات مدهشة كتلك اللوحة التي رسمتها ذات أيلول من سنة 1957، وبقيت تنتظرك ربع قرن دون أن أنها كانت لك.. بل إنها كانت أنتِ؟

وكان ذلك محض أوهام.. لم تخبّئي لي في كتابك ذاك، سوى مرارة وألم وغيرة حمقاء، ذقت نارها لأول مرّة. غيرة جنونية من رجل من ورق، قد يكون مرّ بحياتك حقاً.. وقد يكون مخلوقاً خيالياً، أثَّثت به فراغ أيامك وبياض الصفحات فقط.

ولكن أين هو الحد الفاصل بين الوهم والواقع؟ لم تجيبيني مرة واحدة عن ذلك السؤال.. رحتِ تعمّقين حيرتي بأجوبة أكثر غموضاً.. قلت:

- إنّ المهمّ في كل ما نكتبه.. هو ما نكتبه لا غير، فوحدها الكتابة هي الأدب.. وهي التي ستبقى، وأمّا الذين كتبنا عنهم فهم حادثة سير.. أناس توقفنا أمامهم ذات يوم لسببٍ أو لآخر.. ثم واصلنا الطريق معهم أو بدونهم.

قلت:

- ولكن لا يمكن أن تكون علاقة الكاتب بملهمه مبسّطة إلى هذا الحد. إن الكاتب لا شيء دون من يلهمه.. إنه مدين له بشيء..

قاطعتني..

- مدين له بماذا..؟.. إن ما كتبه "أراغون" عن عيون "إلزا" هو أجمل من عيون "إلزا" التي ستشيخ وتذبل.. وما كتبه نزار قباني عن ضفائر "بلقيس" أجمل بالتأكيد من شعر غزير كان محكوماً عليه أن يبيضّ ويتساقط.. وما رسمه ليونارد ديفانشي في ابتسامة واحدة للجوكاندا، أخذ قيمته ليس في ابتسامة ساذجة للمونوليزا، وإنما في قدرة ذلك الفنان المذهلة على نقل أحاسيس متناقضة، وابتسامة غامضة تجمع بين الحزن والفرح في آن واحد.. فمن هو المدين للآخر بالمجد إذن؟

كان حديثنا يأخذ منحى آخر ربما أردته أنت في محاولة للهرب من الحقيقة. فأعدت عليك السؤال بصيغة أكثر مباشرة:

- هل مرّ هذا الرجل بحياتك.. أم لا؟

ضحكت.. وقلت:

- عجيب.. إن في روايات "أغاتا كريستي" أكثر من 60 جريمة. وفي روايات كاتبات أخريات أكثر من هذا العدد من القتلى. ولم يرفع أيّ مرة قارئ صوته ليحاكمهن على كل تلك الجرائم، أو يطالب بسجنهنَّ. ويكفي كاتبةً أن تكتب قصة حب واحدة، لتتجه كل أصابع الاتهام نحوها، وليجد أكثر من محقق جنائي أكثر من دليل على أنها قصتها. أعتقد أنه لا بد للنقاد من أن يحسموا يوماً هذه القضية نهائياً، فإما أن يعترفوا أن للمرأة خيالاً يفوق خيال الرجال، وإما أن يحاكمونا جميعاً!

ضحكت لحجتك التي أدهشتني ولم تقنعني. قلت:

- في انتظار أن يحسم النقاد هذه القضية، دعيني أكرر عليك سؤالاً لم تجيبيني عنه.. هل مرّ هذا الرجل بحياتك حقاً؟

قلت وأنت تعبثين بأعصابي:

- المهم أنه مات بعد هذا الكتاب..

- آ.. لأنك قادرة على أن تقتلي الماضي هكذا بجرة قلم؟

قلت وأنت تواصلين مراوغتك:

- أيّ ماضٍ؟.. نحن قد نكتب أيضاً لنصنع أضرحة لأحلامنا لا غير..

كان في أعماقي شعور ما بأن تلك القصة كانت قصتك، وأن ذلك الرجل قد مرّ بحياتك.. وربما بجسدك أيضاً.

كنت أكاد أشمّ بين السطور رائحة تبغه. أكاد أكتشف أشياءه مبعثرة بين صفحات كتابك. في كلّ فقرة شيء منه.. من سمرته.. من مذاق قبلته.. من ضحكته.. من أنفاسه.. ومن اشتهائك الفاضح له..

تراه أبدع في حبّك حقاً.. أم أنت التي أبدعت في وصفه؟ أم تراه محض اختراع نسائي، كسته لغتك رجولة وأحلاماً، صنعت لها بعد ذلك ضريحاً جميلاً.. على مقاسه. وأنا، بأيّ منطق رحت أطالع ذلك الكتاب، في زيّ عاشق متنكر ببدلة شرطي أخلاق. وإذا بي أنقّب بين الكلمات وأبحث بين الفواصل، عساني أكتشفك متلبسة بقبلة ما.. هنا، أو أكتشف الأحرف الأولى من اسمه هناك.

ذهب تفكيري بعيداً.. تذكّرت أنك في باريس من أربع سنوات، وأنك تقطنين عند عمك منذ عُيّن في باريس، أي منذ سنتين فقط. فماذا تراك فعلت قبل ذلك في كلّ الفترة التي كنت فيها بمفردك؟

أرهقني كتابك ذاك، كان ممتعاً ومتعباً مثلك.. اعترفت لك في ما بعد، أن علاقتي بك قد تغيّرت منذ قرأتك وأنني أشكّ في أن أكون قادراً على الصمود بعد اليوم.. فأنا لم أكن مهيأً لسلاح الكلمات.

قلتِ فقط وكأنَّ الأمر لا يعنيك تماماً:

- كان عليك ألا تقرأني إذن!

أجبتك بحماقة:

- ولكنني أحب أن أقرأك. ثم أنا لا أملك طريقة أخرى لفهمك..

أجبت:

- مخطئ.. أنت لن تفهم شيئاً هكذا.. الكاتب إنسان يعيش على حافة الحقيقة، ولكنه لا يحترفها بالضرورة. ذلك اختصاص المؤرّخين لا غير.. إنه في الحقيقة يحترف الحلم.. أي يحترف نوعاً من الكذب المهذّب.

descriptionالحلقة السادسة من سلسلة ذاكرة الجسد Emptyرد: الحلقة السادسة من سلسلة ذاكرة الجسد

more_horiz
والروائي الناجح هو رجل يكذب بصدق مدهش، أو هو كاذب يقول أشياء حقيقيّة.

ثمّ أضفتِ بعد شيء من التفكير.. أعذب الكذب كان كذبك، وأكثره ألماً كذلك. قررت يومها ألا أنقّب بعد ذلك في ذاكرتك. أنت لن تبوحي لي بشيء. ربما لأنك أنثى تحترف المراوغة. وربما لأنه ليس هناك من شي يستحقّ الاعتراف.

كنت تريدين فقط أن توهميني أنك لم تعودي تلك الطفلة التي عرفتها. في الواقع.. كنت فارغة، وكان كذبك في مساحة فراغك. وإلا ما سرّ تعلّقك بي، ولماذا كنت تطاردين ذاكرتي بالأسئلة، وتسدرجينها للحديث عن كلّ شيء؟ لماذا كلّ تلك الشراهة للمعرفة، كلّ تلك الرغبة في مقاسمتي ذاكرتي وكلّ ما أحببت وما كرهت من أشياء.. أكانت الذاكرة عقدتك؟

***

لا بد لمعرضي أن ينتهي، لننتبه أننا نعرف بعضنا من أسبوعين فقط، وليس منذ أشهر كما كان يبدو لنا. فكيف فرغنا من ذاكرتنا في بضعة أيام؟ كيف تعلَّمنا في بضع ساعات قضيناها معاً، أن نحزن ونفرح ونحلم بتوقيت واحد؟

كيف أصبحنا نسخة من بعضنا.. وكيف يمكن لنا أن نغادر هذا المكان، الذي أصبح جزءاً من ذاكرتنا؟ كيف..؟ وهو الذي وضعنا لعدة أيام، خارج حدود الزمان والمكان، في قاعة شاسعة، يسكنها الصمت ويؤثثها الفن، وربع قرن من المعاناة والجنون؟

كنّا لوجة وسط عدة لوحات أخرى.

كنا لوحة متقلّبة الأطوار، متعدّدة الألوان، رسمتها المصادفة يوماً ثم واصلت رسمها يد الأقدار. وكنت أتلذذ بوضعي الجديد ذاك وأنا أتحول من صاحب ذلك المعرض، إلى لوحة من لوحاته لا أكثر.

لم يحدث، مثل تلك المرة، أن شعرت بحزن وأنا أرفع تلك اللوحات المعلّقة على الجدران، لوحة بعد أخرى، وأجمعها في الصناديق لأترك القاعة فارغة لرسَّام آخر، سيأتي بلوحاته.. بحزنه وبفرحه وبقصص أخرى لا تشبه قصّتي.

كنت أشعر أنني أجمع أيامي معك.

فجأة، توقفت يدي وهي على وشك أن ترفع تلك اللوحة التي تركتها للآخر.

تأملتها مرة أخرى، شعرت أنها ناقصة. لم يكن على مساحتها سوى جسر يعبرها من طرف إلى آخر، معلّق نحو الأعلى بحبال من طرفيه كأرجوحة حزن.

وتحت الأرجوحة الحديدية هوّة صخرية ضاربة في العمق تعلن تناقضها الصارخ مع المزاج الصافي لسماء استفزازية الهدوء والزرقة.

لم أشعر، قبل تلك اللحظة، أن هذه اللوحة في حاجة إلى تفاصيل جديدة تكسر هذا التضاد، وتؤثث عري اللونين اللذين ينفردان بها.

في الواقع، لم تكن "حنين" لوحة، كانت رؤوس أقلام ومشاريع أحلام تجاوزتها الأحداث بخمس عشرة سنة من الحنين والدهشة وليس فقط بربع قرن من الزمن.

حملتها تحت إبطي، وكأنني أميّزها عن الأخريات. كنت فجأة على عجل. أريد أن أجلس أمامها بعد كل تلك السنوات، محملاً بفرشاة وألوان أخرى، لأنفخ الحياة والضجيج فيها، وأنقل إليها أخيراً حجارة "قنطرة الحبال" حجراً.. حجراً. ولكن كان في ذهني المبعثر لحظتها هاجس آخر يطغى على كلّ شيء: كيف يمكن أن نلتقي بعد الآن... وأين؟

انتهت عطلتك الجامعية مع نهاية معرضي تقريباً. وها نحن محاصران بكل مستحيلات الزمان والمكان. ملاحقان بكل العيون التي قد تسرق سرنا. بكل أولئك الذين لا نعرفهم.. ويعرفوننا. أيّ جنون.. وأيّ قدر كان قدري معك! ولماذا وحدي تفضحني عاهتي؟ ولماذا كل هذا الحذر.. ولماذا أنت بالذات؟ كان مجرد احتمال لقائي بسي الشريف ذات يوم وأنا بصحبتك، يجعلني أعدل عن هذه الفكرة، وأشعر فجأة بحرج الموقف، وبذلك الارتباك الذي سيفضحني لا محالة.

اتفقنا على أن تطلبيني هاتفياً، وأن نتفق على برنامج جديد.

كان ذلك هو الحل الوحيد. فلم يكن ممكناً أ، أزورك في حيّك الجامعي. فقد كانت ابنة عمك تتابع دراستها معك في الجامعة نفسها.

أكان يمكن لنا أن نجد ظروفاً أكثر تعقيداً من هذه؟.

أطول نهاية أسبوع على الإطلاق، كانت تلك التي قضيتها في انتظار هاتفك صباح الاثنين.





يوم الأحد دقّ الهاتف.

أسرعت إليه وأنا أراهن أنّك أنت. فربما نجحت في سرقة لحظات تحدّثينني فيها.. ولو قليلاً. كانت كاترين على الخطّ. أخفيت عنها خيبتي. ورحت أستمع لها وهي تثرثر حول مشاغلها اليومية، ومشروع سفرها القادم إلى لندن.. ثم سألتني عن أخبار المعرض وقالت وهي تنتقل من موضوع إلى آخر:

- لقد قرأت مقالاً جيداً عن معرضك في مجلة أسبوعية.. من المؤكد أنك اطلعت عليه.. إنه بقلم روجيه نقَّاش، يبدو أنه يعرفك.. أو يعرف لوحاتك جيداً.

لم أكن أشعر برغبة في الحديث.. قلت لها باقتضاب:

- نعم، إنه صديق قديم..

تخلّصت منها بلباقة.

لم أكن أشعر بأية رغبة في لقائها ذلك اليوم. ربما كانت حاجتي للرسم يومها، تفوق حاجاتي الجسدية الأخرى.. وربما كنت فقط ممتلئاً بكِ.

عدت إلى مرسمي مثقل الخطى.

كنت شرعت في إعداد تشكيلة من الألوان، لأبدأ في وضع لمسات على تلك اللوحة.

ولكنني ارتبكت. تحولت أمامها إلى ذلك الرسام المبتدئ الذي كنته منذ خمس وعشرين سنة.

ترى قرابتها الجديدة لك، هي التي أضفت عليها هذه الصبغة المربكة؟

أم تراني كنت مرتبكاً لأنني كنت أجلس أمام الماضي لا غير.. لأضفي على الذاكرة_ وليس على لوحة_ بعض "الرتوشات"؟

كنت أشعر أنني على وشك أن أرتكب حماقة. وأدري_رغم رغبتي المضادة للمنطق_ أنه لا ينبغي أبداً العبث بالماضي، وأن أية محاولة لتجميله، ليست سوى محاولة لتشويهه.

كنت أدرك هذا.. ولكن هذه اللوحة أصبحت تضايقني فجأة هكذا.. كان كلّ شيء فيها مبسّطاً حدّ السذاجة، فلماذا لا أواصل رسمها اليوم، ولماذا لا أعاملها بمنطق فنّي لا أكثر؟

ألم يقضِ ( شاغال) خمس عشرة سنة في رسم إحدى لوحاته؟ كان يعود إليها دائماً بين لوحة وأخرى ليضيف شيئاً أو وجهاً جديداً عليها، بعدما أصرَّ على أن يجمع فيها كلّ الوجوه والأشياء التي أحبها منذ طفولته؟

أليس من حقي أيضاً أن أعود إلى هذه اللوحة، أن أضع على هذا الجسر بعض خطى العابرين، وأرشّ على جانبيه بعض البيوت المعلّقة فوق الصخور، وأسفله شيئاً من ذلك النهر الذي يشق المدينة، بخيلاً أحياناً، ورقراقاً زبديّاً أحياناً أخرى.. ألم يعد ضرورياً أن أضع عليها بصمات ذاكرتي الأولى، التي كنت عاجزاً عن نقلها في السابق، يوم كنت رساماً مبتدئاً وهاوياً لا غير؟

لا أدري كيف تذكّرت لحظتها روجيه نقّاش، صديق طفولتي.. وصديق غربتي.

ذكرت ولعه بقسنطينة، وتعلقه بذكراها، هو الذي لم يعد إليها أبداً منذ غادرها سنة 1959 مع أهله، ومع فوج من الجالية اليهودية التي كانت تريد أن تبني لها مستقبلاً آمناً في بلد آخر.

لك يحدث أن زرته مرة في بيته، دون أن يصرّ على أن يسمعني شريطاً جديداً للمطربة اليهودية "سيمون تمّار" وهي تغني المالوف والموشَّحات القسنطينية بأداء وبصوت مدهش، مرتدية ذلك الثوب القسنطيني الفاخر، الذي أهدوها إياه في أول عودة لها هناك.. والذي يزيّن غلاف شريطها.

منذ بضعة أشهر أخبرني روجيه أن سيمن ماتت مقتولة على يد زوجها في إحدى نوبات غيرته، فقد كان يتهمها بحبّ رجل عربي.

سألته إن كان ذلك حقاً.. أجابني.. "لا أدري.." ثم أضاف بمرارة ما.. " أدري أنها كانت تحب قسنطينة".

وروجيه أيضاً كان يحبها.. وكان حلمه السري أن يعود إليها ولو مرة واحدة، أو يأتيه أحد على الأقل بثمرة واحدة من شجرة التين التي كانت تطال نافذة غرفته والتي كانت في حديقة بيته منذ أجيال..

وكنت أشعر بمزيج من السعادة والإحراج معاً وأنا أستمع إليه، يقصّ عليّ بلهجته القسنطينية المحببة التي لم يطمس ربع قرن من البعد أيّ نبرة فيها، شوقه إلى تلك المدينة.. لقاتلة!

وكان يزيد إحراجي كل ما قام به روجيه لمساعدتي منذ سنوات، عندما وصلت إلى باريس لأستقر فيها. فقد كان له من الصداقات والوساطات، ما يمكن أن يسهّل عليّ_دون أن أطلب منه_ كثيراً من المعاملات والمشكلات التي تواجه رجلاً في وضعي.

descriptionالحلقة السادسة من سلسلة ذاكرة الجسد Emptyرد: الحلقة السادسة من سلسلة ذاكرة الجسد

more_horiz
حلقات ممتعة جدا

مرسي كروش

descriptionالحلقة السادسة من سلسلة ذاكرة الجسد Emptyرد: الحلقة السادسة من سلسلة ذاكرة الجسد

more_horiz
حلقة جميلة

استمر اخوي كروش

يعطيك العافية الحلقة السادسة من سلسلة ذاكرة الجسد 717552

descriptionالحلقة السادسة من سلسلة ذاكرة الجسد Emptyرد: الحلقة السادسة من سلسلة ذاكرة الجسد

more_horiz
merci bcp kerrouche

descriptionالحلقة السادسة من سلسلة ذاكرة الجسد Emptyرد: الحلقة السادسة من سلسلة ذاكرة الجسد

more_horiz
يعطيك العافيه محمد ماتقصر

descriptionالحلقة السادسة من سلسلة ذاكرة الجسد Emptyرد: الحلقة السادسة من سلسلة ذاكرة الجسد

more_horiz
مرسي كروش يعطيك الصحة

descriptionالحلقة السادسة من سلسلة ذاكرة الجسد Emptyرد: الحلقة السادسة من سلسلة ذاكرة الجسد

more_horiz
الحلقة السادسة من سلسلة ذاكرة الجسد E4560a72

descriptionالحلقة السادسة من سلسلة ذاكرة الجسد Emptyرد: الحلقة السادسة من سلسلة ذاكرة الجسد

more_horiz
ثانكس

descriptionالحلقة السادسة من سلسلة ذاكرة الجسد Emptyرد: الحلقة السادسة من سلسلة ذاكرة الجسد

more_horiz
شكراااااااااااااا
privacy_tip صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
power_settings_newقم بتسجيل الدخول للرد