فهل انتهى جنوني حقاً؟
لا.. أصبح فقط جنوناً داخلياً لا علاقة له بالإبداع. أصبح أحاسيس مرضيّة أبذّرها هباءً في الغيرة واليأس.
كان إذا غيّر زياد بدلته، شعرت أنه يتوقع قدومك، وإذا جلس ليكتب فهو يكتب لك، وإذا ترك البيت فهو على موعد معك..
نسيت في زحمة غيرتي، حتى الأسباب التي جاء من أجلها زياد إلى باريس، ولقاءاته.. وهواجسه الأخرى.
.. ثم جاء ذلك السفر الذي كدت أنساه.
ربما كانت تلك أكثر تجاربي ألماً على الإطلاق. فقد كان عليّ أن أترككما عشرة أيام كاملة معاً في مدينة واحدة. وربما غالباً في بيتٍ واحد هو بيتي.. نظراً لصعوبة لقائكما خارج البيت.
سافرت يومها وأنا أحاول أن أقنع نفسي أنها فرصة لنا جميعاً، لنضع شيئاً من الترتيب في علاقتنا، وأنه كان لابد لأحدنا أن يتغيّب لتحسم هذه الأمور الغامضة بيننا نهائياً.
طبعاً، لم أكن مقتنعاً في أعماقي بهذا المنطق، أو على الأقل بهذا القدر العنيد الذي جعل القرعة تقع عليّ.
فمن الواضح أن القدر كان منحازاً لكما. وكان ذلك يؤلمني كثيراً. ولكن ما الذي كان أشدّ إيلاماً لي:
أن أدري أنك مع رجل آخر، أم أن يكون ذلك الرجل هو زياد لا سواه، أم أن تتم خيانتي في بيتي في غرف لم أتمتع بك فيها؟
إلى أيّ حدّ ستذهبين معه.. وإلى أي حدّ سيذهب هو معك؟ وهل ستوقفه ذاكرتنا المشتركة.. وكل ما جمعنا يوماً من قيم؟
قلت لكِ الكثير عن زياد.. ولم أقل لك الأهم.
كان زياد يوماً خليّتي السرية، أوراق انتمائي السرية.
كان هزائمي وانتصاراتي، حججي وقناعاتي، كان عمراً سرّياً لعمرٍ آخر. فهل سيخونني زياد؟
كنت قد بدأت أعتب عليه، وربما أحقد عليه مسبقاً.
نسيت في جنون غيرتي، أنني لم أفعل شيئاً غير ذلك معك، أنا الذي تنكّرت أيضاً لسي الطاهر، لرجلٍ كان يوماً قائدي، وكان يوماً صديقي.. لرجل أودعك عندي وصيّة ذات يوم ومات شهيداً.
من منا الأكثر خيانة إذن؟
هو الذي قد يضع أحلامه ورغباته حيّز التنفيذ.. أم أنا الذي لم أنفّذها لأنني لم أجد فرصة لذلك؟
أنا الذي أنام وأصحو معك من شهور، وأغتصبك حتّى في غفوتي.. أم هو الذي ستكونين له بإرادتك؟
هنالك مدن كالنساء، تهزمك أسماؤها مسبقاً. تغريك وتربكك، تملأك وتفرغك، وتجرّدك ذاكرتها من كل مشاريعك، ليصبح الحب كل برنامجك.
هنالك مدن.. لم تخلق لتزورها بمفردك. لتتجول وتنام وتقوم فيها.. وتتناول فطور الصباح وحيداً.
هنالك مدن جميلة كذكرى، قريبة كدمعة، موجعة كحسرة..
هنالك مدن.. كم تشبهك!
فهل يمكن أن أنساك في مدينة اسمها.. غرناطة؟
كان حبّك يأتي مع المنازل البيضاء الواطئة، بسقوفها القرميدية الحمراء.. مع عرائش العنب.. مع أشجار الياسمين الثقيلة.. مع الجداول التي تعبر غرناطة.. مع المياه.. مع الشمس.. مع ذاكرة العرب.
كان حبك يأتي مع العطور والأصوات والوجوه، مع سمرة الأندلسيات وشعرهن الحالك.
مع فساتين الفرح.. مع قيثارة محمومة كجسدك.. مع قصائد لوركا الذي تحبينه.. مع حزن أبي فراس الحمداني الذي أحبه.
كنت أشعر أنك جزء من تلك المدينة أيضاً.. فهل كل المدن العربية أنت.. وكل ذاكرة عربية أنت؟
مر الزمان وأنت مازلت كمياه غرناطة، رقراقة الحنين.. تحملين طعماً مميزاً لا علاقة له بالمياه القادمة من الأنابيب والحنفيات.
مر الزمن، وصوتك مازال يأتي كصدى نوافير المياه وقت السّحر، في ذاكرة القصور العربية المهجورة، عندما يفاجئ المساء غرناطة، وتفاجئ غرناطة نفسها عاشقة لملك عربي غادرها لتوه..
كان اسمه "أبا عبد الله". وكان آخر عاشق عربي قبّلها!
تراني كنت ذلك الملك الذي لم يعرف كيف يحافظ على عرشه؟
تراني أضعتك بحماقة أبي عبد الله، وسأبكيك يوماً مثله؟
كانت أمه قد قالت له يوماً وغرناظة تسقط في غفلة منه: "ابك مثل النساء مُلكاً مُضاعاً، لم تحافظ عليه مثل الرجال.."
فهل حقاً لم أحافظ عليك؟. وعلى من أُعلن الحرب.. أسألك؟
على مَنْ.. وأنتما ذاكرتي وأحبّتي.
على مَنْ.. وأنت مدينتي وقلعتي.
فلِمَ الخجل؟
هل هناك ملك عربي واحد.. حاكم عربي واحد، لم يبكِ منذ أبي عبد الله مدينة ما؟
فاسقطي قسنطينة.. هذا زمن السقوط السريع!
هل سقطت حقاً يومها.. هذا ما لن أعرفه أبداً.
ولكن أعرف فقط تاريخ سقوطك الأخير، سقوطك النهائي الذي كنت شاهداً عليه بعد ذلك.
فأيّ جنون كان أن تزيد المسافات من حبّك، وأن تأخذي ملامح تلك المدينة أيضاً. وإذا بي كمجنون أجلس كلّ ليلة لأكتب لك رسائل كانت تولد من دهشتي وشوقي وغيرتي عليك. كنت أقصّ لك فيها تفاصيل يومي وانطباعاتي في مدينة تشبهك حد الدهشة.
لا.. أصبح فقط جنوناً داخلياً لا علاقة له بالإبداع. أصبح أحاسيس مرضيّة أبذّرها هباءً في الغيرة واليأس.
كان إذا غيّر زياد بدلته، شعرت أنه يتوقع قدومك، وإذا جلس ليكتب فهو يكتب لك، وإذا ترك البيت فهو على موعد معك..
نسيت في زحمة غيرتي، حتى الأسباب التي جاء من أجلها زياد إلى باريس، ولقاءاته.. وهواجسه الأخرى.
.. ثم جاء ذلك السفر الذي كدت أنساه.
ربما كانت تلك أكثر تجاربي ألماً على الإطلاق. فقد كان عليّ أن أترككما عشرة أيام كاملة معاً في مدينة واحدة. وربما غالباً في بيتٍ واحد هو بيتي.. نظراً لصعوبة لقائكما خارج البيت.
سافرت يومها وأنا أحاول أن أقنع نفسي أنها فرصة لنا جميعاً، لنضع شيئاً من الترتيب في علاقتنا، وأنه كان لابد لأحدنا أن يتغيّب لتحسم هذه الأمور الغامضة بيننا نهائياً.
طبعاً، لم أكن مقتنعاً في أعماقي بهذا المنطق، أو على الأقل بهذا القدر العنيد الذي جعل القرعة تقع عليّ.
فمن الواضح أن القدر كان منحازاً لكما. وكان ذلك يؤلمني كثيراً. ولكن ما الذي كان أشدّ إيلاماً لي:
أن أدري أنك مع رجل آخر، أم أن يكون ذلك الرجل هو زياد لا سواه، أم أن تتم خيانتي في بيتي في غرف لم أتمتع بك فيها؟
إلى أيّ حدّ ستذهبين معه.. وإلى أي حدّ سيذهب هو معك؟ وهل ستوقفه ذاكرتنا المشتركة.. وكل ما جمعنا يوماً من قيم؟
قلت لكِ الكثير عن زياد.. ولم أقل لك الأهم.
كان زياد يوماً خليّتي السرية، أوراق انتمائي السرية.
كان هزائمي وانتصاراتي، حججي وقناعاتي، كان عمراً سرّياً لعمرٍ آخر. فهل سيخونني زياد؟
كنت قد بدأت أعتب عليه، وربما أحقد عليه مسبقاً.
نسيت في جنون غيرتي، أنني لم أفعل شيئاً غير ذلك معك، أنا الذي تنكّرت أيضاً لسي الطاهر، لرجلٍ كان يوماً قائدي، وكان يوماً صديقي.. لرجل أودعك عندي وصيّة ذات يوم ومات شهيداً.
من منا الأكثر خيانة إذن؟
هو الذي قد يضع أحلامه ورغباته حيّز التنفيذ.. أم أنا الذي لم أنفّذها لأنني لم أجد فرصة لذلك؟
أنا الذي أنام وأصحو معك من شهور، وأغتصبك حتّى في غفوتي.. أم هو الذي ستكونين له بإرادتك؟
هنالك مدن كالنساء، تهزمك أسماؤها مسبقاً. تغريك وتربكك، تملأك وتفرغك، وتجرّدك ذاكرتها من كل مشاريعك، ليصبح الحب كل برنامجك.
هنالك مدن.. لم تخلق لتزورها بمفردك. لتتجول وتنام وتقوم فيها.. وتتناول فطور الصباح وحيداً.
هنالك مدن جميلة كذكرى، قريبة كدمعة، موجعة كحسرة..
هنالك مدن.. كم تشبهك!
فهل يمكن أن أنساك في مدينة اسمها.. غرناطة؟
كان حبّك يأتي مع المنازل البيضاء الواطئة، بسقوفها القرميدية الحمراء.. مع عرائش العنب.. مع أشجار الياسمين الثقيلة.. مع الجداول التي تعبر غرناطة.. مع المياه.. مع الشمس.. مع ذاكرة العرب.
كان حبك يأتي مع العطور والأصوات والوجوه، مع سمرة الأندلسيات وشعرهن الحالك.
مع فساتين الفرح.. مع قيثارة محمومة كجسدك.. مع قصائد لوركا الذي تحبينه.. مع حزن أبي فراس الحمداني الذي أحبه.
كنت أشعر أنك جزء من تلك المدينة أيضاً.. فهل كل المدن العربية أنت.. وكل ذاكرة عربية أنت؟
مر الزمان وأنت مازلت كمياه غرناطة، رقراقة الحنين.. تحملين طعماً مميزاً لا علاقة له بالمياه القادمة من الأنابيب والحنفيات.
مر الزمن، وصوتك مازال يأتي كصدى نوافير المياه وقت السّحر، في ذاكرة القصور العربية المهجورة، عندما يفاجئ المساء غرناطة، وتفاجئ غرناطة نفسها عاشقة لملك عربي غادرها لتوه..
كان اسمه "أبا عبد الله". وكان آخر عاشق عربي قبّلها!
تراني كنت ذلك الملك الذي لم يعرف كيف يحافظ على عرشه؟
تراني أضعتك بحماقة أبي عبد الله، وسأبكيك يوماً مثله؟
كانت أمه قد قالت له يوماً وغرناظة تسقط في غفلة منه: "ابك مثل النساء مُلكاً مُضاعاً، لم تحافظ عليه مثل الرجال.."
فهل حقاً لم أحافظ عليك؟. وعلى من أُعلن الحرب.. أسألك؟
على مَنْ.. وأنتما ذاكرتي وأحبّتي.
على مَنْ.. وأنت مدينتي وقلعتي.
فلِمَ الخجل؟
هل هناك ملك عربي واحد.. حاكم عربي واحد، لم يبكِ منذ أبي عبد الله مدينة ما؟
فاسقطي قسنطينة.. هذا زمن السقوط السريع!
هل سقطت حقاً يومها.. هذا ما لن أعرفه أبداً.
ولكن أعرف فقط تاريخ سقوطك الأخير، سقوطك النهائي الذي كنت شاهداً عليه بعد ذلك.
فأيّ جنون كان أن تزيد المسافات من حبّك، وأن تأخذي ملامح تلك المدينة أيضاً. وإذا بي كمجنون أجلس كلّ ليلة لأكتب لك رسائل كانت تولد من دهشتي وشوقي وغيرتي عليك. كنت أقصّ لك فيها تفاصيل يومي وانطباعاتي في مدينة تشبهك حد الدهشة.