كان يطلق الرصاص على كل شيء حوله.. بعدما لم يعد يثق في شيء!
آخ.. كم كان زياد مدهشاً!
لا بد أن أعترف اليوم أنه كان مدهشاً حقاً، وأنني كنت أحمق. كان لا بد أن أحدثك عنه وأنا أتوهم أن الجبال لا تلتقي..
لماذا كنت أحدثك عنه بتلك الحماسة، وبتلك الشاعرية؟
أكنت أريد التقرب إليك به، وأقنعك من خلاله أن لي قرابة سابقة بالكتاب والشعراء، فأكبر بذلك في عينيك؟
أم كنت أصفه لك في صورته الأجمل، لأنني كنت أعتقد حتى ذلك اليوم أنني أشبهه، وأنني كنت أصف لك نفسي لا غير..
ربما كان كل هذا حقاً.. ولكن..
كنت أريد أيضاً، أن تكتشفي العروبة في رجال استثنائيين، كما لم تنجب هذه الأمة.
رجال ولدوا في مدن عربية مختلفة، ينتمون إلى أجيال مختلفة، واتجاهات سياسية مختلفة، ولكنهم جميعاً لهم قرابة ما بأبيك.. بوفائه وشهامته، بكبريائه وعروبته..
جميعهم ماتوا أو سيموتون من أجل هذه الأمة.
كنت لا أريد أن تنغلقي في قوقعة الوطن الصغير، وأن تتحولي إلى منقّبة للآثار والذكريات، في مساحة مدينة واحدة.
فكل مدينة عربية اسمها قسنطينة. وكل عربي ترك خلفه كل شيء وذهب ليموت من أجل قضية، كان يمكن أن يكون اسمه الطاهر..
وكان يمكن أن تكون لك قرابة به.
كنت أريد أن تملأي رواياتك بأبطال آخرين أكثر واقعية، أبطال تخرجين معهم من مراهقتك السياسية، ومراهقتك العاطفية.
ألم أقل لك ذلك اليوم _بحماقة_ "لو عرفتِ رجالاً مثل زياد.. لما أحببت بعد اليوم "زوربا" ولما كنت في حاجة إلى خلق أبطال وهميين. هنالك في هذه الأمة أبطال جاهزون بفوقون خيال الكتّاب..".
لم أكن أتوقع يومها أن يحصل كل الذي حصل، وأن أكون أنا الذي سيتحوّل ذات يوم إلى منقب يبحث بين سطورك عن آثار زياد، ويتساءل من منّا أحببت أكثر، ولمن بنيت ضريحك الأخير، وروايتك الأخيرة..
ألي.. أم له؟
في ذلك اليوم، وضعتِ فجأة قبلة على خدّي. وقلت بلهجة جزائرية ونحن على وشك أن ننهض للذهاب:
" خالد.. انحبك.."
توقف كل شيء لحظتها حولي، وتوقف عمري على شفتيك. وكان يمكن وقتها أن أحتضنك، أو أقبّلك.. أو أردّ عليك بألف.. ألف أحبك أخرى.
ولكنني جلست من دهشتي، وطلبت من النادل قهوة أخرى، وقلت لك أول جملة خطرت آنذاك في ذهني:
" لماذا اليوم بالذات؟"
أجبتني بصوت خافت:
- لأنني اليوم أحترمك أكثر. إنها أول مرة منذ ثلاثة أشهر تحدثني فيها عن نفسك. اكتشفت اليوم أشياء مدهشة. لم أكن أتصور أنك حضرت إلى باريس لهذه الأسباب. عادة يأتي الفنانون هنا بحثاً عن الشهرة أو الكسب لا أكثر. لم أتوقع أن تكون تخليت عن كل شيء هناك، لكي تبدأ من الصفر هنا..
قاطعتكِ مصحِّحاً لكلامك:
- لم أبدأ من الصفر.. نحن لا نبدأ من الصفر أبداً عندما نسلك طريقاً جديداً. إننا نبدأ من أنفسنا فقط. أنا بدأت من قناعاتي.
شعرت يومها أننا ندخل مرحلة أخرى من علاقتنا، وأنك عجينة تأخذ فجأة كل قناعاتي، وشكل طموحاتي وأحلامي القادمة.
تذكّرت جملة قرأتها يوماً في كتاب عن الرسم لأحد النقّاد تقول:
"إنّ الرسام لا يقدم لنا من خلال لوحته صورة شخصيّة عن نفسه. إنه يقدم لنا فقط مشروعاً عن نفسه ويكشف لنا الخطوط العريضة لملامحه القادمة".
وكنتِ أنتِ مشروعي القادم.
كنت ملامحي القادمة، ومدينتي القادمة. كنت أريدك الأجمل، أريدك الأروع.
كنت أريد لك وجهاً آخر، ليس وجهي تماماً، وقلباً آخر، ليس قلبي، وبصمات أخرى، لا علاقة لها بما تركه الزمن على جسدي وروحي من بصمات زرقاء.
يومها عرضت عليك بعد شيء من التردّد، أن تزوري ذات يوم مرسمي، لأريك ما رسمته في الأيام الأخيرة.
وكنت سعيداً أن تقبلي عرضي دون تردد أو خوف. فقد كنت أحرص على ألا تسيئي الظنّ بي. وكنت قررت أن ألغي ذلك العرض نهائياً إذا ما ضايقك.
ولكنك فاجأتني وأنت تصيحين بفرح طفلة عُرض عليها زيارة مدينة للألعاب:
- أو... رائع يسعدني حقاً أن أزوره!
في اليوم التالي، طلبتني هاتفياً لتخبريني أن عندك ساعتين وقت الظهر، يمكنك أن تزوريني خلالهما.
وضعت السماعة.. ورحت أحلم، أسبق الساعات، وأسبق الزمن.
أنت في بيتي.. أحقاً سيحدث هذا؟
أحقاً ستدقّين جرس هذا الباب، ستجلسين على هذه الأريكة، ستمشين هنا أمامي.
أنتِ.. أخيراً أنتِ؟
أخيراً سأجلس إلى جوارك، وليس مقابلاً لك. أخيراً لن يلاحقنا نادل بطلباته وخدماته. لن تلاحقنا عيون روّاد المقهى، ولا عيون الغرباء من المارة.
أخيراً يمكننا أن نتحدث، أن نحزن ونفرح، دون أن يكون من شاهد على تقلباتنا النفسية.
رحت من فرحي أشرع الباب لك مسبقاً، وأنا أجهل أنني أشرع قلبي للعواطف والزوابع.
أيّ جنون كان.. أن آتي بك إلى هنا، أن أفتح لك عالمي السريّ الآخر، أن أحوّلك إلى جزء من هذا البيت.
هذا البيت الذي أصبح جنّتي في انتظارك، والذي قد يصبح جحيمي بعدك.
أكنت عندئذٍ أعي كلّّ هذا؟ أم كنت سعيداً وأحمق كأيّ عاشقٍ لا يرى أبعد من موعده القادم؟
تساءلت بعدها.. إن كنت حقاً لا أريد غير إطلاعك على لوحتي الأخيرة.. وعلى حديقتي السرّيّة للجنون.
تذكّرت كاترين، وتلك اللوحة التي رسمتها لها اعتذارا لأنني ذات يوم، كنت عاجزاً عن أن أرسم شيئاً آخر غير وجهها، بينما كان الآخرون يتسابقون في رسم جسدها العاري، المعروض للوحي في قاعة للفنون الجميلة.
تذكّرت يوم عرضت عليها أن تزورني لأريها تلك اللوحة..
لم أتوقع أن تكون تلك اللوحة البريئة، سبباً بعد ذلك في علاقة غير بريئة دامت سنين.
أليس في دعوتي لك لزيارة مرسمي، شيء من قلّة التعقّل، ورغبة سرية لاستدراج الظروف لأشياء أخرى؟
تراني كنت أفعل ذلك، وأنا أستعيد جملة كاترين، وهي تستسلم لي في ذلك المرسم، وسط فوضى اللوحات المرسومة، واللوحات البيضاء المتّكئة على الجدران، وتقول لي بإشارة متعمدة:
- هذا مكان يغري بالحب..
فأجبتها بشيء من الواقعية:
- لم أكن أعرف هذا قبل اليوم..
فهل كان مرسمي يغري بالحب؟ أم أن في كل مكان للخلق جاذبية ما تغري بالجنون؟
ولكن، ورغم هذا كنت أدري أنك لم تكوني كاترين.. ولن تكونيها. فبيننا من الحواجز ما لن يحطمه أيّ جنون..
اليوم، بعد ستّ سنوات على تلك الزيارة، أستعيد ذلك اليوم، وكأنني أعيشه مرة أخرى، بكل هزّاته النفسية المتقلبة.
ها أنت تدخلين في فستان أبيض (لماذا أبيض؟)، يسبقك عطرك إلى الطابق العاشر. يسبقك القلب إلى المصعد ويهرول أمامك.
ها أنا أكاد أضع قبلة على خدك.. وإذا بي أصافحك (لماذا أصافحك؟).
أسألك هل وجدت البيت بسهولة فتأتي الكلمات بالفرنسية (لماذا أيضاً بالفرنسية؟) تراني كنت أبحث عن حرّيّة أو جرأة أكثر، داخل تلك اللغة الغريبة عن تقاليدي وحواجزي النفسية؟
على تلك الأريكة جلستِ.
قلت وأنت تلقين نظرة عامة على غرفة الجلوس:
- لم أكن أتصور بيتك هكذا. إنه رائع ومؤثث بكثير من الذوق!
سألتك:
- كيف كنت تتصورينه إذن؟
أجبتني:
- بفوضى.. وبأشياء أكثر.
قلت لك ضاحكاً:
- لست في حاجة إلى أن أسكن شقة مغبّرة، بأشياء كثيرة مبعثرة لأكون فنّاناً. إنها فكرة أخرى خاطئة عن الرسّامين. أنا مسكون بالفوضى، ولكنني لا أسكنها بالضرورة. إنها طريقتي الوحيدة، في وضع شيء من الترتيب داخلي.
لقد اخترت هذه الشقة الشاهقة، لأن الضوء يؤثثها وهو كل ما يلزم للرسام، فاللوحة مساحة لا تؤثث بالفوضى وإنما بالضوء ولعبة الظل والألوان.
فتحت نافذتي الزجاجية الكبيرة، ودعوتك للخروج إلى الشرفة.
قلت:
- انظري هذه النافذة، إنها الجسر الذي يربطني بهذه المدينة. من هنا، من شرفتي أتعامل مع سماء باريس المتقلّبة.
كل صباح تقدم لي باريس نشرتها النفسية، فأجلس هنا في الشرفة لأتفرج عليها وهي تنقلب من طور إلى آخر.
يحدث كثيراً أن أرسم أمام هذه النافذة، ويحدث أن أجلس في الخارج لأتفرج على نهر السين، وهو يتحول إلى إناء يطفح بدموع مدينة تحترف البكاء.
يحلو لي الجلوس هنا على حافّة المطر قريباً ومحمياً منه في آن واحد. منظر المطر يستدرجني لأحاسيس متطرفة.
" إن الإنسان ليشعر أنه في عنفوان الشباب عند نزول المطر"
عندئذٍ، نظرت إلى السماء وكأنك تصلين لتمطر، وقلت بالعربية:
- إن المطر يغريني بالكتابة.. وأنت؟
وكنت على وشك أن أجيبك " وأنا يغريني بالحب".
نظرت طويلاً إلى السماء. كانت صافية زرقاء كسماء حزيران.
كان زرقتها تضايقني فجأة، ربما لأنني تعودت أن أراها رمادية.
وربما لأنني تمنيت في سرّي، لو أمطرت لحظتها؛ لو تواطأت معي ورمتك إلى صدري عصفورة مبللة.
ولم أقل لك شيئاً من كل هذا.
نقلت نظرتي من السماء إلى عينيك.
كنت أراهما لأول مرة في الضوء. شعرت أنني أتعرف عليهما.
ارتبكت أمامهما كأول مرة. كانتا أفتح من العادة، وربما أجمل من العادة.
كان فيهما شيء من العمق والسكون في آن واحد. شيء من البراءة، والمؤامرة العشقية..
تراني أطلت النظر إليك؟ سألتني بطريقة من يعرف الجواب مسبقاً:
- لماذا تنظر إليّ هكذا؟
كان صوتك بالعربية يأتي كموسيقى عزف منفرد.
وجدت الجواب في قصيدة، حفظت مطلعها ذات يوم:
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر
سألتني مدهوشة:
- أتعرف شعر السياب أيضاً؟. عجيب!
قلت في جواب مزدوج:
- أعرف "أنشودة المطر".
عرت أنك ربما أحببتني أكثر تلك اللحظة بالذات، وكأنني أصبحت في نظرك السيّاب أيضاً.
وككل مرة أفاجئك فيها ببيت شعر، أو بمقولة ما باللغة العربية، سألتني:
- متى قرأت هذا؟
أجبتك هذه المرة:
- أنا لم أفعل شيئاً عزيزتي سوى القراءة. ثروة الآخرين تعدّ بالأوراق النقدية، وثروتي بعناوين الكتب. أنا رجل ثري كما ترين.. قرأت كلّ ما وقعت عليه يدي.. تماماً كما نهبوا كل ما وقعت عليه يدهم!.
بعدها قلت وأنت تحدقين في ذلك الجسر الحجري الرمادي، الذي يجري تحته نهر السين بزرقة صيفية استثنائية:
- أنت محظوظ بهذا المنظر، جميل أن تطلّ شرفتك على نهر السين، ما اسم هذا الجسر؟