ولكن هل تهم الحجّّة؟.. هل يعقل أن تمر عشرة أيام دون أن تلتقيا.. وأين يمكن أن تلتقيا في مكان غير هذا؟ وإذا التقيتما هل ستكتفيان بالحديث؟
كنتِ منجماً للكبريت.. وكان زياد عاشقاً مجوسياً يعبد اللّهب!
فهل كان يمكن أن يصمد طويلاً في وجه نيرانك.. أنت المرأة التي يحلم الرجال أن يحترقوا بها ولو وهماً؟
رحت أبحث في ملامح زياد عن فرحٍ ما، عن سعادةٍ ما أجد فيها الحجة القاطعة على أنك كنت له.
ولكن لم يبدُ على وجهه أي شعور خاص، غير القلق.
فجأة حدثني عنك قال:
- لقد طلبت منها أن تأتي غداً لنتناول معاً غداءنا الأخير..
صحت بشيء من الدهشة:
- لماذا الأخير؟
قال:
- لأنني سأسافر الأحد..
- ولماذا الأحد؟
قلتها وأنا أشعر بشيء من الحزن والفرح معاً.
أجاب زياد:
- لأنني يجب أن أعود.. كنت أنتظر فقط عودتك لأسافر. لم يكن مقرراً أن أبقى هنا أكثر من أسبوعين. لقد قضيت شهراً كاملاً ولا بدّ أن أعود..
ثم أضاف بشيء من السخرية:
- قبل أن أتعود على الحياة الباريسية.
تراك أنتِ الحياة الباريسية التي كان يخاف أن يتعود عليها؟ تراه كان يهرب مرة أخرى من حبٍ آخر أم أن مهمته قد انتهت أخيراً فلم يعد أمامه غير الرحيل؟
مر يوم السبت وسط مشاغل عودتي، وانشغال زياد بترتيب تفاصيل سفره.
حاولت أن أتحاشى الجلوس إليه ذلك المساء. ولكن كان يوم الأحد يتربص بنا ويضعنا أخيراً وجهاً لوجه نحن الثلاثة في ذلك الغداء الحاسم.
يومها قابلتني بحرارة لم أتوقعها. فسّرتها على طريقتي بأنها شعور بالذنب، (أو ربما بالامتنان). ألم أقدم لك حباً على طبق من شعر على طاولة هي.. بيتي؟!
ثم شكرتني على رسائلي، وأبديت إعجابك بأسلوبي.. وكأنك أستاذة قدم لها تلميذ نصّاً إنشائياً.
أزعجني شكرك العلني، وشعرت أنك حدّثت زياد عنها وربما أريته إياها أيضاً.
كنت على وشك أن أقول شيئاً عندما واصلت:
- تمنيت لو كنت معك هناك.. هل غرناطة جميلة حقاً إلى هذا الحد؟ وهل زرت حقاً بيت غارسيا لوركا في (خوانتا فاكيروس).. أليس هذا اسم ضيعته كما قلت؟ حدّثني عنه..
وجدت في طريقتك في بدء الحديث معي من الهوامش، شيئاً مثيراً للدهشة، وربما للتفكير أيضاً.
أهذا كل ما وجدت قوله بعد كل الزوابع التي مرّت بنا، وبعد عشرة أيام من الجحيم الذي عشته وحدي؟
لا أدري كيف خطر عندئذٍ في ذهني شهد لفيلم شاهدته يوماً عن حياة لوركا..
قلت لك:
- أتدرين كيف مات لوركا؟
قلتِ:
-بالإعدام..
قلت:
- لا.. وضعوه أمام سهل شاسع وقالوا له امشِ.. وكان يمشي عندما أطلقوا خلفه الرصاص، فسقط ميتاً دون أن يفهم تماماً ما الذي حدث له.
إنه أحزن ما في موته. فلم يكن لوركا يخاف الموت، كان يتوقّعه، ويذهب إليه مشياً على الأقدام كما نذهب لموعدٍ مع صديق.. ولكن كان يكره فقط أن تأتيه الرصاصة من الظهر!
شعرت آنذاك أن زياد تلقي كلماتي كرصاصة في الصدر. رفع عينيه نحوي، أحسسته على وشك أن يقول شيئاً ولكنه صمت.
كنا نفهم بعضنا دون كثير من الكلام.
ندمت بعدها على إيلامي المتعمد له. فقد كان إيلامه يعزّ عليّ أكثر من ألمك. ولكن كان هذا أقل ما يمكن أن أقوله له بعد كل ما عشته من عذاب بسببه.
وربما كان أكثره أيضاً.
تحول غداؤنا فجأة إلى وجبة صمت مربك تتخلله أحيانا أحاديث مفتعلة، كنتِ تخترعينها أنتِ بفطرةٍ نسائية لترطيب الجو.. وربما للمراوغة. ولكن عبثاً.
كان هناك شيء من البلّور قد انكسر بيننا. ولم يعد هناك من أمل لترميمه.
سألتكِ بعدها:
- هل ستأتين معي لنرافق زياد إلى المطار؟
أجبتِ:
-لا.. لا يمكن أن أذهب إلى المطار.. قد ألتقي بعمي هناك، إذ أنه يحدث أن يمر بمكتب الخطوط الجوية الجزائرية. ثم إنني أكره المطارات.. وأكره مراسيم الوداع. الذين نحبهم لا نودعهم، لأننا في الحقيقة لا نفارقهم. لقد خلق الوداع للغرباء.. وليس للأحبة.
كانت تلك إحدى طلعاتك العجيبة المدهشة كقولك السابق مثلاً "نحن لا نكتب إهداءً سوى للغرباء وأما الذين نحبهم فهم جزء من الكتاب وليسوا في حاجة إلى توقيع في الصفحة الأولى.."
ولماذا الوداع؟
هل هناك من ضرورة لوداع آخر؟
كنت أراك طوال وجبة الغداء تلتهمينه بنظراتك ولا تأكلين شياً سواه.
كانت عيناك تودّعان جسده قطعة قطعة. تتوقّفان طويلاً عند كلّ شيء فيه، وكأنك تختزنين منه صوراً عدة.. لزمن لن يبقى لك فيه سوى الصور.
وكان هو يتحاشى نظراتك، ربما مراعاة لي، أو لأن كلماتي الموجعة أفقدته رغبة الحب.. ورغبة الأكل كذلك. وجعلته يحوّل نظراته الحزينة إلى أعماقه وإلى ما بعد السفر.
وكنت أنا لا أقل حزناً عنكما، ولكن حزني كان فريداً وفرديّاً كخيبتي. متشعّب الأسباب غامضاً كموقفي من قصّتكما العجيبة.
وربما زاده رفضك مرافقتي إلى المطار توتراً. فقد كنت أطمع في عودتك معي على انفراد لأخلو أخيراً بك. لأفهم منك دون كثير من الأسئلة، إلى أيّ مدى كنت قادرة على محو تلك الأيام من ذاكرتك، والعودة إليّ دون جروح أو خدوش..
كنت أدري أن قلبك قد أصبح منحازاً إليه. وربما جسدك أيضاً. ولكنني كنت أثق بمنطق الأيام. وأعتقد أنك في النهاية ستعودين إليّ، لأنه لن يكون هناك سواي.. ولأنني ذاكرتك الأولى.. وحنينك الأول لأبوة كنت أنا نسخة أخرى عنها.
فرحت أراهن على المنطق وأنتظرك.
رحل زياد..
ورحت أستعيد تدريجياً بيتي وعاداتي الأولى قبله.
كنت سعيداً ولكن بمرارة غامضة. فقد كنت تعوّدت على وجوده معي، وكنت أشعر بشيء من الوحدة المفاجئة وهو يتركني وحدي لموسم الشتاء؛ لتلك الأيام الرمادية، والسهرات الطويلة المدهشة.
رحل زياد.. وفرغ البيت منه فجأة كما امتلأ به.
لم يبق سوى تلك الحقيبة التي قد تشهد على مروره من هنا، والتي تركها أسفل الخزانة بعدما جمع فيها أوراقه وأشياءه، والتي رأيت في بقائها عندي مشروع عودة محتملة، قد تكونين أنت أحد أسبابها.
ولكن لابد أن أعترف أن سعادتي كانت تفوق حزني، وأنني كنت أشعر أنني أستعيدك وأنا أستعيد ذلك البيت الفارغ منه.
كنت أشعر أن هذا البيت سيمتلئ أخيراً بحضورك بطريقة أو بأخرى، وأنني سأخلو فيه بك وأنا أخلو لنفسي.
سأعيدك إليه تدريجياً. ألم تعترفي مراراً أنك تحبينه.. تحبين طريقة ترتيبه.. تحبين ضوءه.. منظر نهر السين الذي يطلّ عليه؟
أن ترى كنت تحبين فقط زياد، وحضوره الذي كان يؤثث كل شيء.. ويجعل الأشياء أحلى!
في البدء.. كنت أتوقع هاتفك. كنت أتمسك به، أستنجد به، ولكن صوتك كان ينسحب أيضاً تدريجياً أمام دهشتي.
كان هاتفك يأتي مرة كل أسبوع، ثم كلّ أسبوعين، ثم نادراً، قبل أن ينقطع نهائياً.
كان يأتي شحيحاً كقطرات الدواء. وكنت أشعر أحياناً أنك تطلبينني مجاملة فقط، أو عن ضجر، أو ربما بنية غير معلنة لمعرفة أخبار زياد.
وكنت أنا أثناء ذلك، أتساءل "تراه كان يكتب إليك مباشرة بعنوان البيت، ولهذا لم تكوني في حاجة إلى أن تسأليني مرة عن أخباره؟
أم أنه كعادته أخبرك مسبقاً أنه لن يكتب إليك، وأن عليك مثله أن تتعلمي النسيان. فرحت تطبّقين تلك العقوبة عليّ أيضاً!.
كان زياد يكره أنصاف الحلول في كل شيء.
كان متطرفاً كأي رجل يحمل بندقية. ولذا كان يكره أيضاً ما كان يسمّيه سابقاً "أنصاف الملذات" أو "أنصاف العقوبات"!
كان رجل الاختيارات الحاسمة. فإما أن يحب ويتخلى عندئذٍ عن كل شيء ليبقى مع من يحب، أو يرحل لأن الذي ينتظره هناك أهم. وعندها لن يكون من مبرر لتعذيب النفس بالأشواق والذكرى.
تساءلت طويلاً بعد ذلك، ماذا عساه اختار؟
تراه تصرّف هذه المرة أيضاً كما تصرف منذ سنوات في الجزائر مع تلك الفتاة التي كان على وشك الزواج منها..
أم أنه تغيّر هذه المرة، ربما بحكم العمر.. وربما فقط لأنك أنت، ولأن الذي حدث بينكما لم يكن قصة عادية تحدث بين شخصين عاديين.
كنت أحاول أحياناً استدراجك للحديث عنه، عساني أصل إلى نتيجة تساعدني على تحديد القواعد الجديدة للعبة.. والتأقلم معها.
وكنت تراوغينني كعادتك. كان من الواضح أنك تحبّين أن أحدثك عنه، ولكن دون أن تبوحي لي بشيء.
كنت تناقضين نفسك كل لحظة. تمزجين بين الجد والمزاح، وبين الحقيقة والكذب، في محاولة للهروب من شيء ما..
كان كلامك كذباً أبيض أستمع إليه بفرشاتي، وألوّن جمله بألوان أكثر تناسباً مع كل ما أعرفه عنك.
تعودت أن أكسو ما تقولينه لي بالبنفسجي، بالأزرق.. والرمادي، بالقلق الذي يخيم على كل ما تقولينه.
تعودت أن أجمع حصيلة ما قلته لي، وأصنع منها حواراً لرسوم متتالية على ورق، أضع عليها أنا التعليقات المناسبة لحوار آخر وكلام لم نقله.
لعلني وقتها بدأت أكتشف تدريجياً تلك العلاقة الغامضة التي بدأت تربطك في ذاكرتي بذلك اللون الأبيض.
لم يكن كلامك وحده كذباً أبيض.
كنت امرأة تملك قدرة خارقة على استحضار ذلك اللون في كل أشكاله وأضداده. أو لعلني وقتها أيضاً بدأت دون أن أدري وبحدس غامض أخرج هذا اللون نهائياً من ألوان لوحاتي، وأحاول الاستغناء عنه، في محاولة مجنونة لإلغائك.
كان لوناً متواطئاً معك. منذ ذلك اليوم الذي رأيتك فيه طفلة تحبو بينما أثوابها الطفولية البيضاء تجفّ فوق خشبات منصوبة فوق كانون. غمزة مسبقة للقدر الذي كان يُهيّأ لي معك على نارٍ باردة، أكثر من ثوب أبيض.
كان الأبيض لوناً مثلك يدخل في تركيب كلّ الألوان وكل الأشياء. فكم من الأشياء يجب أن أدمّر قبل أن أنتهي منه! وكم من اللوحات سألغي إن أنا قاطعته!
كنت أحاول بكل الأشكال (والألوان.. ) أن أنتهي منك. ولكني كنت في الحقيقة أزداد تورّطاً في حبك.
اعترفت لك مرة على الهاتف.. في لحظة يأس:
أتدرين.. حبك صحراء من الرمال المتحركة، لم أعد أدري أين أقف فيها..
أجبتني بسخريتكِ الموجعة:
- قف حيث أنت.. المهم ألا تتحرك. فكل محاولة للخلاص في هذه الحالات، ستجعل الرمال تسحبك أكثر نحو العمق. إنها النصيحة التي يوجهها أهل الصحراء لكل من يقع في بالوعة الرمال المتحركة.. كيف لا تعرف هذا؟!
يومها كان لا بد أن أحزن.. ولكنني ضحكت. ربما لأنني أحب سخريتك الذكية حتى عندما تكون موجعة، فنحن قلما نلتقي بامرأة تعذّبنا بذكاء.
وربما لأنك كنتِ تزفّين لي احتمال موت كنت أراه جميلاً بقدر ما هو حتمي..
تذكّرت مثلاً شعبياً رائعاً، لم أكن قد تنبّهت له من قبل" "الطير الحر ما ينحكمش، وإذا انحكم.. ما يتخبّطش!".
وكنت أشعر آنذاك أنني ذلك الطائر المكابر الذي ينتسب إلى سلالة الصقور والنسور التي لا يسهل اصطيادها، والتي عندما تُصطاد، تصبح شهامتها في أن تستسلم بكبرياء، دون أن تقاوم أو تتخبّط كما يفعل طائر صغير وقع في فخّ.
عندما أجبتك يومها بذلك المثل الشعبي، صحتِ دهشة:
- ما أجمله.. لم أكن أعرفه!
أجبتك وسط تنهيدة:
- لأنك لم تعرفي الرجال.. ليس هذا زمناً للصقور ولا للنسور.. إنه زمن للطيور المدجّنة التي تنتظر في الحدائق العمومية!
ست سنوات مرّت على ذلك الحديث. وها أنا أذكره اليوم مصادفة، وأستعيد نصيحتك الأخيرة:
"قف حيث أنت.. المهم ألا تتحرك!".
كنتِ منجماً للكبريت.. وكان زياد عاشقاً مجوسياً يعبد اللّهب!
فهل كان يمكن أن يصمد طويلاً في وجه نيرانك.. أنت المرأة التي يحلم الرجال أن يحترقوا بها ولو وهماً؟
رحت أبحث في ملامح زياد عن فرحٍ ما، عن سعادةٍ ما أجد فيها الحجة القاطعة على أنك كنت له.
ولكن لم يبدُ على وجهه أي شعور خاص، غير القلق.
فجأة حدثني عنك قال:
- لقد طلبت منها أن تأتي غداً لنتناول معاً غداءنا الأخير..
صحت بشيء من الدهشة:
- لماذا الأخير؟
قال:
- لأنني سأسافر الأحد..
- ولماذا الأحد؟
قلتها وأنا أشعر بشيء من الحزن والفرح معاً.
أجاب زياد:
- لأنني يجب أن أعود.. كنت أنتظر فقط عودتك لأسافر. لم يكن مقرراً أن أبقى هنا أكثر من أسبوعين. لقد قضيت شهراً كاملاً ولا بدّ أن أعود..
ثم أضاف بشيء من السخرية:
- قبل أن أتعود على الحياة الباريسية.
تراك أنتِ الحياة الباريسية التي كان يخاف أن يتعود عليها؟ تراه كان يهرب مرة أخرى من حبٍ آخر أم أن مهمته قد انتهت أخيراً فلم يعد أمامه غير الرحيل؟
مر يوم السبت وسط مشاغل عودتي، وانشغال زياد بترتيب تفاصيل سفره.
حاولت أن أتحاشى الجلوس إليه ذلك المساء. ولكن كان يوم الأحد يتربص بنا ويضعنا أخيراً وجهاً لوجه نحن الثلاثة في ذلك الغداء الحاسم.
يومها قابلتني بحرارة لم أتوقعها. فسّرتها على طريقتي بأنها شعور بالذنب، (أو ربما بالامتنان). ألم أقدم لك حباً على طبق من شعر على طاولة هي.. بيتي؟!
ثم شكرتني على رسائلي، وأبديت إعجابك بأسلوبي.. وكأنك أستاذة قدم لها تلميذ نصّاً إنشائياً.
أزعجني شكرك العلني، وشعرت أنك حدّثت زياد عنها وربما أريته إياها أيضاً.
كنت على وشك أن أقول شيئاً عندما واصلت:
- تمنيت لو كنت معك هناك.. هل غرناطة جميلة حقاً إلى هذا الحد؟ وهل زرت حقاً بيت غارسيا لوركا في (خوانتا فاكيروس).. أليس هذا اسم ضيعته كما قلت؟ حدّثني عنه..
وجدت في طريقتك في بدء الحديث معي من الهوامش، شيئاً مثيراً للدهشة، وربما للتفكير أيضاً.
أهذا كل ما وجدت قوله بعد كل الزوابع التي مرّت بنا، وبعد عشرة أيام من الجحيم الذي عشته وحدي؟
لا أدري كيف خطر عندئذٍ في ذهني شهد لفيلم شاهدته يوماً عن حياة لوركا..
قلت لك:
- أتدرين كيف مات لوركا؟
قلتِ:
-بالإعدام..
قلت:
- لا.. وضعوه أمام سهل شاسع وقالوا له امشِ.. وكان يمشي عندما أطلقوا خلفه الرصاص، فسقط ميتاً دون أن يفهم تماماً ما الذي حدث له.
إنه أحزن ما في موته. فلم يكن لوركا يخاف الموت، كان يتوقّعه، ويذهب إليه مشياً على الأقدام كما نذهب لموعدٍ مع صديق.. ولكن كان يكره فقط أن تأتيه الرصاصة من الظهر!
شعرت آنذاك أن زياد تلقي كلماتي كرصاصة في الصدر. رفع عينيه نحوي، أحسسته على وشك أن يقول شيئاً ولكنه صمت.
كنا نفهم بعضنا دون كثير من الكلام.
ندمت بعدها على إيلامي المتعمد له. فقد كان إيلامه يعزّ عليّ أكثر من ألمك. ولكن كان هذا أقل ما يمكن أن أقوله له بعد كل ما عشته من عذاب بسببه.
وربما كان أكثره أيضاً.
تحول غداؤنا فجأة إلى وجبة صمت مربك تتخلله أحيانا أحاديث مفتعلة، كنتِ تخترعينها أنتِ بفطرةٍ نسائية لترطيب الجو.. وربما للمراوغة. ولكن عبثاً.
كان هناك شيء من البلّور قد انكسر بيننا. ولم يعد هناك من أمل لترميمه.
سألتكِ بعدها:
- هل ستأتين معي لنرافق زياد إلى المطار؟
أجبتِ:
-لا.. لا يمكن أن أذهب إلى المطار.. قد ألتقي بعمي هناك، إذ أنه يحدث أن يمر بمكتب الخطوط الجوية الجزائرية. ثم إنني أكره المطارات.. وأكره مراسيم الوداع. الذين نحبهم لا نودعهم، لأننا في الحقيقة لا نفارقهم. لقد خلق الوداع للغرباء.. وليس للأحبة.
كانت تلك إحدى طلعاتك العجيبة المدهشة كقولك السابق مثلاً "نحن لا نكتب إهداءً سوى للغرباء وأما الذين نحبهم فهم جزء من الكتاب وليسوا في حاجة إلى توقيع في الصفحة الأولى.."
ولماذا الوداع؟
هل هناك من ضرورة لوداع آخر؟
كنت أراك طوال وجبة الغداء تلتهمينه بنظراتك ولا تأكلين شياً سواه.
كانت عيناك تودّعان جسده قطعة قطعة. تتوقّفان طويلاً عند كلّ شيء فيه، وكأنك تختزنين منه صوراً عدة.. لزمن لن يبقى لك فيه سوى الصور.
وكان هو يتحاشى نظراتك، ربما مراعاة لي، أو لأن كلماتي الموجعة أفقدته رغبة الحب.. ورغبة الأكل كذلك. وجعلته يحوّل نظراته الحزينة إلى أعماقه وإلى ما بعد السفر.
وكنت أنا لا أقل حزناً عنكما، ولكن حزني كان فريداً وفرديّاً كخيبتي. متشعّب الأسباب غامضاً كموقفي من قصّتكما العجيبة.
وربما زاده رفضك مرافقتي إلى المطار توتراً. فقد كنت أطمع في عودتك معي على انفراد لأخلو أخيراً بك. لأفهم منك دون كثير من الأسئلة، إلى أيّ مدى كنت قادرة على محو تلك الأيام من ذاكرتك، والعودة إليّ دون جروح أو خدوش..
كنت أدري أن قلبك قد أصبح منحازاً إليه. وربما جسدك أيضاً. ولكنني كنت أثق بمنطق الأيام. وأعتقد أنك في النهاية ستعودين إليّ، لأنه لن يكون هناك سواي.. ولأنني ذاكرتك الأولى.. وحنينك الأول لأبوة كنت أنا نسخة أخرى عنها.
فرحت أراهن على المنطق وأنتظرك.
رحل زياد..
ورحت أستعيد تدريجياً بيتي وعاداتي الأولى قبله.
كنت سعيداً ولكن بمرارة غامضة. فقد كنت تعوّدت على وجوده معي، وكنت أشعر بشيء من الوحدة المفاجئة وهو يتركني وحدي لموسم الشتاء؛ لتلك الأيام الرمادية، والسهرات الطويلة المدهشة.
رحل زياد.. وفرغ البيت منه فجأة كما امتلأ به.
لم يبق سوى تلك الحقيبة التي قد تشهد على مروره من هنا، والتي تركها أسفل الخزانة بعدما جمع فيها أوراقه وأشياءه، والتي رأيت في بقائها عندي مشروع عودة محتملة، قد تكونين أنت أحد أسبابها.
ولكن لابد أن أعترف أن سعادتي كانت تفوق حزني، وأنني كنت أشعر أنني أستعيدك وأنا أستعيد ذلك البيت الفارغ منه.
كنت أشعر أن هذا البيت سيمتلئ أخيراً بحضورك بطريقة أو بأخرى، وأنني سأخلو فيه بك وأنا أخلو لنفسي.
سأعيدك إليه تدريجياً. ألم تعترفي مراراً أنك تحبينه.. تحبين طريقة ترتيبه.. تحبين ضوءه.. منظر نهر السين الذي يطلّ عليه؟
أن ترى كنت تحبين فقط زياد، وحضوره الذي كان يؤثث كل شيء.. ويجعل الأشياء أحلى!
في البدء.. كنت أتوقع هاتفك. كنت أتمسك به، أستنجد به، ولكن صوتك كان ينسحب أيضاً تدريجياً أمام دهشتي.
كان هاتفك يأتي مرة كل أسبوع، ثم كلّ أسبوعين، ثم نادراً، قبل أن ينقطع نهائياً.
كان يأتي شحيحاً كقطرات الدواء. وكنت أشعر أحياناً أنك تطلبينني مجاملة فقط، أو عن ضجر، أو ربما بنية غير معلنة لمعرفة أخبار زياد.
وكنت أنا أثناء ذلك، أتساءل "تراه كان يكتب إليك مباشرة بعنوان البيت، ولهذا لم تكوني في حاجة إلى أن تسأليني مرة عن أخباره؟
أم أنه كعادته أخبرك مسبقاً أنه لن يكتب إليك، وأن عليك مثله أن تتعلمي النسيان. فرحت تطبّقين تلك العقوبة عليّ أيضاً!.
كان زياد يكره أنصاف الحلول في كل شيء.
كان متطرفاً كأي رجل يحمل بندقية. ولذا كان يكره أيضاً ما كان يسمّيه سابقاً "أنصاف الملذات" أو "أنصاف العقوبات"!
كان رجل الاختيارات الحاسمة. فإما أن يحب ويتخلى عندئذٍ عن كل شيء ليبقى مع من يحب، أو يرحل لأن الذي ينتظره هناك أهم. وعندها لن يكون من مبرر لتعذيب النفس بالأشواق والذكرى.
تساءلت طويلاً بعد ذلك، ماذا عساه اختار؟
تراه تصرّف هذه المرة أيضاً كما تصرف منذ سنوات في الجزائر مع تلك الفتاة التي كان على وشك الزواج منها..
أم أنه تغيّر هذه المرة، ربما بحكم العمر.. وربما فقط لأنك أنت، ولأن الذي حدث بينكما لم يكن قصة عادية تحدث بين شخصين عاديين.
كنت أحاول أحياناً استدراجك للحديث عنه، عساني أصل إلى نتيجة تساعدني على تحديد القواعد الجديدة للعبة.. والتأقلم معها.
وكنت تراوغينني كعادتك. كان من الواضح أنك تحبّين أن أحدثك عنه، ولكن دون أن تبوحي لي بشيء.
كنت تناقضين نفسك كل لحظة. تمزجين بين الجد والمزاح، وبين الحقيقة والكذب، في محاولة للهروب من شيء ما..
كان كلامك كذباً أبيض أستمع إليه بفرشاتي، وألوّن جمله بألوان أكثر تناسباً مع كل ما أعرفه عنك.
تعودت أن أكسو ما تقولينه لي بالبنفسجي، بالأزرق.. والرمادي، بالقلق الذي يخيم على كل ما تقولينه.
تعودت أن أجمع حصيلة ما قلته لي، وأصنع منها حواراً لرسوم متتالية على ورق، أضع عليها أنا التعليقات المناسبة لحوار آخر وكلام لم نقله.
لعلني وقتها بدأت أكتشف تدريجياً تلك العلاقة الغامضة التي بدأت تربطك في ذاكرتي بذلك اللون الأبيض.
لم يكن كلامك وحده كذباً أبيض.
كنت امرأة تملك قدرة خارقة على استحضار ذلك اللون في كل أشكاله وأضداده. أو لعلني وقتها أيضاً بدأت دون أن أدري وبحدس غامض أخرج هذا اللون نهائياً من ألوان لوحاتي، وأحاول الاستغناء عنه، في محاولة مجنونة لإلغائك.
كان لوناً متواطئاً معك. منذ ذلك اليوم الذي رأيتك فيه طفلة تحبو بينما أثوابها الطفولية البيضاء تجفّ فوق خشبات منصوبة فوق كانون. غمزة مسبقة للقدر الذي كان يُهيّأ لي معك على نارٍ باردة، أكثر من ثوب أبيض.
كان الأبيض لوناً مثلك يدخل في تركيب كلّ الألوان وكل الأشياء. فكم من الأشياء يجب أن أدمّر قبل أن أنتهي منه! وكم من اللوحات سألغي إن أنا قاطعته!
كنت أحاول بكل الأشكال (والألوان.. ) أن أنتهي منك. ولكني كنت في الحقيقة أزداد تورّطاً في حبك.
اعترفت لك مرة على الهاتف.. في لحظة يأس:
أتدرين.. حبك صحراء من الرمال المتحركة، لم أعد أدري أين أقف فيها..
أجبتني بسخريتكِ الموجعة:
- قف حيث أنت.. المهم ألا تتحرك. فكل محاولة للخلاص في هذه الحالات، ستجعل الرمال تسحبك أكثر نحو العمق. إنها النصيحة التي يوجهها أهل الصحراء لكل من يقع في بالوعة الرمال المتحركة.. كيف لا تعرف هذا؟!
يومها كان لا بد أن أحزن.. ولكنني ضحكت. ربما لأنني أحب سخريتك الذكية حتى عندما تكون موجعة، فنحن قلما نلتقي بامرأة تعذّبنا بذكاء.
وربما لأنك كنتِ تزفّين لي احتمال موت كنت أراه جميلاً بقدر ما هو حتمي..
تذكّرت مثلاً شعبياً رائعاً، لم أكن قد تنبّهت له من قبل" "الطير الحر ما ينحكمش، وإذا انحكم.. ما يتخبّطش!".
وكنت أشعر آنذاك أنني ذلك الطائر المكابر الذي ينتسب إلى سلالة الصقور والنسور التي لا يسهل اصطيادها، والتي عندما تُصطاد، تصبح شهامتها في أن تستسلم بكبرياء، دون أن تقاوم أو تتخبّط كما يفعل طائر صغير وقع في فخّ.
عندما أجبتك يومها بذلك المثل الشعبي، صحتِ دهشة:
- ما أجمله.. لم أكن أعرفه!
أجبتك وسط تنهيدة:
- لأنك لم تعرفي الرجال.. ليس هذا زمناً للصقور ولا للنسور.. إنه زمن للطيور المدجّنة التي تنتظر في الحدائق العمومية!
ست سنوات مرّت على ذلك الحديث. وها أنا أذكره اليوم مصادفة، وأستعيد نصيحتك الأخيرة:
"قف حيث أنت.. المهم ألا تتحرك!".