أتذكرين؟
في ذلك الزمن البعيد، في ذلك الزمن الأول، يوم كنت تحبينني وتبحثين فيّ عن نسخة أخرى لأبيك.
قلت مرة:
- انتظرتك طويلاً.. انتظرتك كثيراً، كما ننتظر الأولياء الصالحين.. كما ننتظر الأنبياء.. لا تكن نبياً مزيفاً يا خالد.. أنا في حاجة إليك!
لاحظت وقتها أنكِ لم تقولي أنا أحبك. قلتِ فقط "أنا في حاجة إليك"..
نحن لا نحب بالضرورة الأنبياء. نحن في حاجة إليهم فقط.. في كل الأزمنة.
أجبتك:
- أنا لم أختر أن أكون نبياً..
قلت مازحة:
- الأنبياء لا يختارون رسالتهم، إنهم يؤدّونها فقط!
أجبتكِ:
- ولا يختارون رعيّتهم أيضاً. ولذا لو حدث واكتشفتِ أنني نبيّ مزيّف.. قد يكون ذلك لأنني بعثت لرعية تحترف الردّة!
ضحكت.. وبعناد أنثى يغريها التحدّي قلت:
- أنت تبحث عن مخرج لفشلك المحتمل معي، أليس كذلك؟..
لن أمنحك مبرراً كهذا. هات وصاياك العشر وأنا أطبقها.
نظرت إليك طويلاً يومها. كنت أجمل من أن تطبّقي وصايا نبي، أضعف من أن تحملي ثقل التعاليم السماوية. ولكن كان فيك نور داخلي لم أشهده في امرأة قبلك.. بذرة نقاء لم أكن أريد أن أتجاهلها..
أليس دور الأنبياء البحث عن بذور الخير فينا؟
قلت:
- دعي الوصايا العشر جانباً واسمعيني.. لقد جئتك بالوصية الحادية عشرة فقط..
ضحكت وقلت بشيء من الصدق:
- هات ما عندك أيها النبي المفلس.. أقسم أنني سأتبعك!
لحظتها شعرت برغبة في أن أستغلّ قسمك. وأقول لك: "كوني لي فقط.." ولكن لم يكن ذلك كلام نبي. وكنت دون أن أدري قد بدأت أمثّل أمامك الدور الذي اخترته لي.. فرحت أبحث في ذهني عن شيء يمكن أن يقوله نبي يباشر وظيفته لأول مرة.. قلت:
- احملي هذا الاسم بكبرياء أكبر.. ليس بالضرورة بغرور، ولكن بوعي عميق أنك أكثر من امرأة. أنت وطن بأكمله.. هل تعين هذا؟ ليس من حق الرموز أن تتهشّم.. هذا زمن حقير، إذا لم ننحز فيه إلى القيم سنجد أنفسنا في خانة القاذورات والمزابل. لا تنحازي لشيء سوى المبادئ.. لا تجاملي أحداً سوى ضميرك.. لأنك في النهاية لا تعيشين مع سواه!
قلت:
- أهذه وصيتك لي.. فقط؟!
قلت:
- لا تستهيني بها.. إن تطبيقها ليس سهلاً كما تتوهّمين.. ستكتشفين ذلك بنفسك ذات يوم..
كان لا بد ألا تسخري يومها من وصية ذلك النبي المفلس.. وتستسهليها إلى هذا الحد..!
مرّت ستّ سنوات على ذلك السفر. على ذلك اللقاء، ذلك الوداع.
حاولت خلالها أن ألملم جرحي وأنسى. حاولت منذ عودتي، أن أضع شيئاً من الترتيب في قلبي. أن أعيد الأشياء على مكانها الأول، دون ضجيج ولا تذمّر، دون أن أكسر مزهرية، دون أن أغيّر مكان لوحة، ولا مكان القيم القديمة التي تكدّس الغبار عليها داخلي منذ زمن.
حاولت أن أعيد الزمان إلى الوراء، دون حقد ولا غفران أيضاً.
لا.. نحن لا نغفر بهذه السهولة لمن يجعلنا بسعادة عابرة، نكتشف كم كنا تعساء قبله. ونغفر أقل، لمن يقتل أحلامنا أمامنا دون أدنى شعور بالجريمة.
ولذا لم أغفر لك.. ولا لهم.
حاولت فقط أن أتعامل معك ومع الوطن بعشق أقل. واخترت اللامبالاة عاطفة واحدة نحوكما.
كان يحدث لأخبارك أن تصلني عن طريق المصادفة، وأنا أستمع إلى من يتحدث عن زوجك، عن صعوده المستمر.. وعن صفقاته وشؤونه السرية والعلنية التي تشغل أحاديث المجالس.
وكان يحدث لأخبار الوطن أن تأتيني أيضاً تارة في جريدة، وتارة في مجالس أخرى. وتارة عندما زارني حسان بعد ذلك لآخر مرة ليشتري تلك السيارة التي وعدته بها..
وكل مرة، كنت أواجه كل ما أسمعه باللامبالاة نفسها التي لا يمكن أن يولّدها سوى اليأس الأخير.
بدأت أتعلّق بحسان فقط، وكأنني اكتشفت فجأة وجوده. أصبح أمره وحده يهمني بعدما وعيت أنه كل ما تبقّى لي في هذا العالم، وبعدما اكتشفت تلك الحياة البائسة التي كان يعيشها، والتي كنت أجهل كل شيء عنها قبل زيارتي إلى قسنطينة.
أصبحت أطلبه هاتفياً بانتظام. أسأله عن أخباره وعن الأولاد، وعن البيت الذي كان ينوي أن يقوم فيه ببعض الإصلاحات، والذي وعدته أن أتكفّل بمصاريف ترميمه وتجديده.
كانت معنوياته تنخفض وترتفع من هاتف إلى آخر. كان يحدثني تارة عن بعض مشاريعه، وعن بعض الاتصالات التي يقوم بها ليتم نقله إلى العاصمة.. ثم يعود ويفقد فجأة حماسه.
كنت أعرف ذلك عندما يسألني في آخر مكالمته:
- متى ستأتي يا خالد؟
أشعر عندئذٍ أنه باخرة تغرق، وتبعث إشارة ضوئية تطلب النجدة مني.
وبرغم ذلك، كنت أسايره فقط، وأعده كل مرة أنني قد أزوره في الصيف القادم. وكنت أعرف في أعماقي أنني أكذب، وأنني قطعت الجسور مع الوطن حتى إشعار آخر.
في الواقع، أصبحت عندي قناعة بانعدام الأمل. كان القطار يسير في الاتجاه المعاكس، وبسرعة لم يكن ممكناً معها أن نفعل شيئاً.. أي شيء، غير الذهول وانتظار كارثة الاصطدام.
وكنت أحزم حقائب القلب.. وأمضي دون أن أدري في اتجاهٍ آخر أيضاً، في الاتجاه المعاكس للوطن.
رحت أؤثث غربتي بالنسيان. أصنع من المنفى وطناً آخر لي، وطناً ربما أبدياً، عليّ أن أتعود العيش فيه.
بدأت أتصالح مع الأشياء. أقمت علاقات طبيعية مع نهر السين.. مع جسر ميرابو.. مع كل المعالم التي كانت تقابلني من تلك النافذة، والتي كنت أعيش في معاداة لها دون سبب.
اخترت لي أكثر من عشيقة عابرة. أثثت سريري بالملذّات الجنونية.. بنساء كنت أدهشهن كل مرة أكثر، وأقتلك بهن كل مرة أكثر، حتى لم يبق شيء منكِ في النهاية.
نسي هذا الجسد شوقه لك، نسي تطرّفه وحماقاته وإضرابه عن كل لذة ما عدا لذّتك الوهمية.
تعمدت أن أفرغ النساء من رموزهن الأولى.
من قال إن هناك امرأة منفى، وامرأة وطناً، فقد كذب..
لا مساحة للنساء خارج الجسد. والذاكرة ليست الطريق الذي يؤدي إليهن. في الواقع هنالك طريق واحد لا أكثر.. يمكنني أن أجزم اليوم بهذا!
اكتشفت شيئاًً لا بد أن أقوله لك اليوم..
الرغبة محض قضية ذهنية. ممارسة خيالية لا أكثر. وهم نخلقه لحظة جنون نقع فيها عبيداً لشخص واحد، ونحكم عليه بالروعة المطلقة لسبب غامض لا علاقة له بالمنطق.
رغبة تولد هكذا من شيء مجهول، قد يعيدنا إلى ذكرى أخرى.. لعطر رائحة أخرى.. لكلمة، لوجه آخر..
رغبة جنونية تولد في مكان آخر خارج الجسد، من الذاكرة أو ربما من اللاشعور، من أشياء غامضة تسللت إليها أنتِ ذات يوم، وإذا بك الأروع، وإذا بك الأشهى، وإذا كل النساء أنتِ.
أفهمت لماذا قتلتك تلقائياً يوم قتلت قسنطينة في داخلي؟
ولم أعجب يومها وأنا أرى جثتك ممدة في سريري.
لم تكونا في النهاية سوى امرأة واحدة.
ستقولين: لماذا كتبت لي هذا الكتاب إذن؟ وسأجيبك أنني أستعير طقوسك في القتل فقط، وأنني قررت أن أدفنك في كتاب لا غير.
فهناك جثث يجب ألا نحتفظ بها في قلبنا. فللحب بعد الموت، رائحة كريهة أيضاً، خاصة عندما يأخذ بُعْد الجريمة.
لاحظي أنني لم أذكر اسمك مرة واحدة في هذا الكتاب. قررت هكذا أن أتركك بلا اسم. هنالك أسماء لا تستحق الذكر.
لنفترض أنك امرأة كان اسمها "حياة"، وربما كان لها اسم آخر.. فهل مهم اسمك حقاً؟
وحدها أسماء الشهداء غير قابلة للتزوير، لأن من حقهم علينا أن نذكرهم بأسمائهم كاملة. كما من حق هذا الوطن علينا أن نفضح من خانوه، وبنوا مجدهم على دماره، وثروتهم على بؤسه، مادام لا يوجد هناك من يحاسبهم.
وأدري.. ستقول إشاعة ما إن هذا الكتاب لك. أؤكد لك سيدتي تلك الإشاعة.
سيقول نقّاد يمارسون النقد تعويضاً عن أشياء أخرى، إن هذا الكتاب ليس رواية، وإنما هذيان رجل لا علم له بمقاييس الأدب.
أؤكد لهم مسبقاً جهلي، واحتقاري لمقاييسهم. فلا مقياس عندي سوى مقياس الألم، ولا طموح لي سوى أن أدهشك أنتِ، وأن أبكيك أنت، لحظة تنتهين من قراءة هذا الكتاب..
فهناك أشياء لم أقلها لك بعد.
اقرئي هذا الكتاب.. وأحرقي ما في خزانتك من كتبٍ لأنصاف الكتاب، وأنصاف الرجال، وأنصاف العشاق.
من الجرح وحده يولد الأدب. فليذهب إلى الجحيم كل الذين أحبوك بتعقّل، دون أن ينزفوا.. دون أن يفقدوا وزنهم ولا اتزانهم..
تصفّحيني بشيء من الخجل.. كما تتصفّحين ألبوم صور مصفرّة، لطفلة كانت أنتِ.
كما تطالعين قاموساً لمفردات قديمة معرّضة للانقراض والموت.
كما تقرأين منشوراً سرياً، عثرت عليه يوماً في صندوق بريدك.
افتحي قلبك.. واقرأيني.
كنت يوماً أريد أن أحدثك عن سي الطاهر وعن زياد وعن آخرين.. عن كل ما كنت تجهلين.
ولكن مات حسان.. ولم يعد اليوم وقت للحديث عن الشهداء.. أصبح كل واحد منا مشروع شهيد.
يحزنني ألا أهبك غزالة. "الغزلان لا تكون غزلاناً إلا عندما تكون حيّة". ولم يبق لي ما يمكن أن أهديكِ اليوم.
لقد أخذت مني كل من أحببت، الواحد بعد الآخر، بطريقة أو بأخرى. وتحول القلب إلى مقبرة جماعية ينام فيها دون ترتيب كل من أحببت. وكأن قبر (أمّا) قد اتسع ليضمهم جميعاً.
ولم أعد أنا سوى شاهد قبر لسي الطاهر.. لزياد ولحسان. شاهد قبر للذاكرة.
كنت أدري الكثير عن حماقة القدر، الكثير عن ظلمه وعن عناده، عندما يصرّ على ملاحقة أحد.
ولكن أكان يمكن لي أن أتوقع أن شيئاً كذلك يمكن أن يحدث؟
كنت اعتقد أنني دفعت لهذا القدر الأحمق ما فيه الكفاية، وأنه حان لي بعد هذا العمر، وتلك السنوات التي تلت فجيعة زياد، وفجيعة زواجك، أن أرتاح أخيراً.
فكيف عاد القدر اليوم ليأخذ مني أخي، أخي الذي لم يكن لموته من منطق. لا كان في جبهة، ولا كان في ساحة قتال ليموت ميتة سي الطاهر، وميتة زياد، رمياً بالرصاص.. أيضاً.
***
ذات يوم من أكتوبر 88، جاء خبر موته هكذا صاعقة يحملها خط هاتفي مشوش، وصوت عتيقة الذي تخفيه الدموع.
ظلت تجهش بالبكاء وتردد اسمي، وأنا أسألها مفجوعاً:
- "واش صار..؟"
كنت على علم بتلك الأحداث التي هزّت البلاد، والتي كانت الجرائد ونشرات الأخبار الفرنسية تتسابق بنقلها مصور، مفصلة، مطوّلة، باهتمام لا يخلو من الشماتة.
كنت أعرف تفاصيلها، وأدري أنها مازالت وهي في يومها الثاني مقتصرة على العاصمة. فمن أين لي أن أتوقّع الذي حدث؟
كان صوت عتيقة يردد مقطّعاً:
- قتلوه.. آ خالد.. يا وخيدتي قتلوه..
وصوتي يردد مذهولاً:
- كيفاش.. كيفاش قتلوه؟
كيف مات حسان؟
هل مهم السؤال، وموته كان أحمق كحياته، ساذجاً كأحلامه.
أقرأ كل الجرائد لأفهم كيف مات أخي، بين الحلم والحلم.. بين الوهم والوهم.
ما الذي ذهب به إلى العاصمة ليقابل "جماعة" هناك، هو الذي لم يزر العاصمة إلا نادراً.
ذهب هكذا في نهاية أسبوع.. ليبحث عن نهايته.
ضاقت به قسنطينة، ولم توصله جسورها الكثيرة إلى شيء.
قالوا له: "في العاصمة ستكون لك "خيوط". ستوصلك الطرق القصيرة هناك.. ولن توصلك الجسور هنا!".
صدّق حسان، وذهب إلى العاصمة ليقابل "فلاناً" من قبل "فلان" آخر..
وكان مقرراً أن تحل قضيته أخيراً هذه المرة، بعد عدة سنوات من الوساطات والتدخلات، ويغادر نهائياً سلك التعليم، لينتقل إلى العاصمة ويعيّن موظفاً في مؤسسة إعلامية.
ولكن القدر هو الذي حسم "ملفه" هذه المرة.
بين "فلان" و "فلان" مات حسان، خطأ برصاصة خاطئة، على رصيف الحلم.
فالحلم ليس في متناول الجميع أخي.. كان عليك ألا تحلم!
أحقاً "إن الشقاء يعرف كيف يختار صفاته" ولهذا اختارني أنا، واختار لي كل هذه الفجائع المذهلة، لأنفرد بها وحدي.
أنا الذي لم أكن أحلم سوى بأن أهبك غزالة..
كيف لي أن أفعل ذلك.. وأنت تهبينني كل هذا الدمار.. كل هذا الخراب؟
***
ويعود فجأة، حديث قديم بيننا إلى البال.
حديث مرّت عليه اليوم ست سنوات. في ذلك الزمن الذي كنت تجدين فيه شبهاً بيني وبين "زوربا". الرجل الذي أحببته الأكثر حسب تعبيرك، والذي كنتِ تحلمين بكتابة رواية كروايته، أو حب رجل مثله.
ترى لأنك كنت عاجزة عن كتابة رواية كتلك، اكتفيت بتحويلي إلى نسخة منه، وجعلتني مثله أتعلم أن أشفى من الأشياء التي أحبها بأكلها حتى التقيؤ..
جعلتني أعشق الخراب الجميل، وأتعلم كطائر يذبح أن أرقص من ألمي..
ها هوذا الخراب الجميل، الذي حدّثتني عنه يوماً بحماسٍ مدهش لم يثر شكوكي، يوم قلتِ:
"مدهش أن يصل الإنسان بفجائعه حد الرقص. إنه تميز في الخيبات والهزائم أيضاً. فليست كل الهزائم في متناول الجميع. لا بد أن تكون لك أحلام فوق العادة، وأفراح وطموحات فوق العادة، لتصل بعواطفك تلك إلى ضدها بهذه الطريقة..".
آه سيدتي لو تدرين!
كم كانت أحلامي كبيرة. وما أفظع هذا الخراب الذي تتسابق قنوات التلفزيون على نقله اليوم!
ما أفظع هذا الدمار، وما أحزن جثة أخي الملقاة على رصيف، يخترقها رصاص طائش!
ما أحزن جثته، وهي تنتظرني الآن في ثلاجة الموتى لأتعرف عليه، وأرافقه جثماناً إلى قسنطينة.
ها هي ذي قسنطينة مرة أخرى..
تلك الأم الطاغية التي تتربص بأولادها، والتي أقسمت أن تعيدنا إليها ولو جثة.
ها هي قد هزمتنا، وأعادتنا إليها معاً. في تلك اللحظة التي اعتقدنا فيها أننا شفينا منها، وقطعنا معها صلة الرحم.
لا حسان سيغادرها إلى العاصمة.. ولا أنا سأقدر على الهرب منها بعد اليوم..
ها نحن نعود إليها معاً..
أحدنا في تابوت.. والآخر أشلاء رجل.
وقع حكمك عليّ أيتها الصخرة.. أيتها الأم الصخرة..
فأشرعي مقابرك، وانتظريني. سآتيك بأخي.. افسحي له مكاناً صغيراً جوار أوليائك الصالحين، وشهدائك، وباياتك.. كان حسان كل هذا على طريقته.
كان غزالاً..
في انتظار ذلك.. تعالي سيدتي وتفرّجي على كل هذا الخراب الجميل!
فبعد قليل سيحضر زوربا ليمسك بكتفي ولنبدأ الرقص معاً.
تعالي..
لا بد ألا تخلفي هذا المشهد، سترين كيف يرقص الأنبياء عندما يفلسون حقاً.
تعالي.. سأرقص اليوم كما لم أرقص يوماً، كما اشتهيت أن أرقص في عرسك ولم أفعل..
سأقفز وكأن جناحينْ قد التصقا بقدمي فجأة، وكأن ذراعي المفقودة قد نبتت من جديد لتصبح ذراعي.
تعالي.. وليعذرني أبي الذي لم أشاركه يوماً في طقوس "عيساوة".
في حفل جذبه ورقصه الجنوني، وغرسه ذلك السفود في جسده من طرف إلى آخر.. بنشوة الألم الذي يجاور اللذة.
للحزن أكثر من طقس، وليس للألم وطن على التحديد. فليعذرني الأنبياء والأولياء الصالحون!
ليعذروني جميعا. لا أدري ماذا يفعل الأنبياء بالتحديد عندما يحزنون، ماذا يفعلون في زمن الردّة؟
هل يبكون أم يصلون؟
أنا قررت أن أرقص. الرقص تواصل أيضاً. الرقص عبادة أيضاً..
فانظر أيها الأعظم.. بذراع واحدة سأرقص لك.
ما أصعب الرقص بذراعٍ واحدة يا ربي! ما أبشع الرقص بذراعٍ واحدة يا ربي! ولكن..
ستعذرني أنت الذي أخذت ذراعي الأخرى.
ستعذرني.. أنت الذي أخذتهم جميعاً.
عدل سابقا من قبل kerrouche في الخميس 5 أغسطس 2010 - 21:38 عدل 1 مرات
في ذلك الزمن البعيد، في ذلك الزمن الأول، يوم كنت تحبينني وتبحثين فيّ عن نسخة أخرى لأبيك.
قلت مرة:
- انتظرتك طويلاً.. انتظرتك كثيراً، كما ننتظر الأولياء الصالحين.. كما ننتظر الأنبياء.. لا تكن نبياً مزيفاً يا خالد.. أنا في حاجة إليك!
لاحظت وقتها أنكِ لم تقولي أنا أحبك. قلتِ فقط "أنا في حاجة إليك"..
نحن لا نحب بالضرورة الأنبياء. نحن في حاجة إليهم فقط.. في كل الأزمنة.
أجبتك:
- أنا لم أختر أن أكون نبياً..
قلت مازحة:
- الأنبياء لا يختارون رسالتهم، إنهم يؤدّونها فقط!
أجبتكِ:
- ولا يختارون رعيّتهم أيضاً. ولذا لو حدث واكتشفتِ أنني نبيّ مزيّف.. قد يكون ذلك لأنني بعثت لرعية تحترف الردّة!
ضحكت.. وبعناد أنثى يغريها التحدّي قلت:
- أنت تبحث عن مخرج لفشلك المحتمل معي، أليس كذلك؟..
لن أمنحك مبرراً كهذا. هات وصاياك العشر وأنا أطبقها.
نظرت إليك طويلاً يومها. كنت أجمل من أن تطبّقي وصايا نبي، أضعف من أن تحملي ثقل التعاليم السماوية. ولكن كان فيك نور داخلي لم أشهده في امرأة قبلك.. بذرة نقاء لم أكن أريد أن أتجاهلها..
أليس دور الأنبياء البحث عن بذور الخير فينا؟
قلت:
- دعي الوصايا العشر جانباً واسمعيني.. لقد جئتك بالوصية الحادية عشرة فقط..
ضحكت وقلت بشيء من الصدق:
- هات ما عندك أيها النبي المفلس.. أقسم أنني سأتبعك!
لحظتها شعرت برغبة في أن أستغلّ قسمك. وأقول لك: "كوني لي فقط.." ولكن لم يكن ذلك كلام نبي. وكنت دون أن أدري قد بدأت أمثّل أمامك الدور الذي اخترته لي.. فرحت أبحث في ذهني عن شيء يمكن أن يقوله نبي يباشر وظيفته لأول مرة.. قلت:
- احملي هذا الاسم بكبرياء أكبر.. ليس بالضرورة بغرور، ولكن بوعي عميق أنك أكثر من امرأة. أنت وطن بأكمله.. هل تعين هذا؟ ليس من حق الرموز أن تتهشّم.. هذا زمن حقير، إذا لم ننحز فيه إلى القيم سنجد أنفسنا في خانة القاذورات والمزابل. لا تنحازي لشيء سوى المبادئ.. لا تجاملي أحداً سوى ضميرك.. لأنك في النهاية لا تعيشين مع سواه!
قلت:
- أهذه وصيتك لي.. فقط؟!
قلت:
- لا تستهيني بها.. إن تطبيقها ليس سهلاً كما تتوهّمين.. ستكتشفين ذلك بنفسك ذات يوم..
كان لا بد ألا تسخري يومها من وصية ذلك النبي المفلس.. وتستسهليها إلى هذا الحد..!
مرّت ستّ سنوات على ذلك السفر. على ذلك اللقاء، ذلك الوداع.
حاولت خلالها أن ألملم جرحي وأنسى. حاولت منذ عودتي، أن أضع شيئاً من الترتيب في قلبي. أن أعيد الأشياء على مكانها الأول، دون ضجيج ولا تذمّر، دون أن أكسر مزهرية، دون أن أغيّر مكان لوحة، ولا مكان القيم القديمة التي تكدّس الغبار عليها داخلي منذ زمن.
حاولت أن أعيد الزمان إلى الوراء، دون حقد ولا غفران أيضاً.
لا.. نحن لا نغفر بهذه السهولة لمن يجعلنا بسعادة عابرة، نكتشف كم كنا تعساء قبله. ونغفر أقل، لمن يقتل أحلامنا أمامنا دون أدنى شعور بالجريمة.
ولذا لم أغفر لك.. ولا لهم.
حاولت فقط أن أتعامل معك ومع الوطن بعشق أقل. واخترت اللامبالاة عاطفة واحدة نحوكما.
كان يحدث لأخبارك أن تصلني عن طريق المصادفة، وأنا أستمع إلى من يتحدث عن زوجك، عن صعوده المستمر.. وعن صفقاته وشؤونه السرية والعلنية التي تشغل أحاديث المجالس.
وكان يحدث لأخبار الوطن أن تأتيني أيضاً تارة في جريدة، وتارة في مجالس أخرى. وتارة عندما زارني حسان بعد ذلك لآخر مرة ليشتري تلك السيارة التي وعدته بها..
وكل مرة، كنت أواجه كل ما أسمعه باللامبالاة نفسها التي لا يمكن أن يولّدها سوى اليأس الأخير.
بدأت أتعلّق بحسان فقط، وكأنني اكتشفت فجأة وجوده. أصبح أمره وحده يهمني بعدما وعيت أنه كل ما تبقّى لي في هذا العالم، وبعدما اكتشفت تلك الحياة البائسة التي كان يعيشها، والتي كنت أجهل كل شيء عنها قبل زيارتي إلى قسنطينة.
أصبحت أطلبه هاتفياً بانتظام. أسأله عن أخباره وعن الأولاد، وعن البيت الذي كان ينوي أن يقوم فيه ببعض الإصلاحات، والذي وعدته أن أتكفّل بمصاريف ترميمه وتجديده.
كانت معنوياته تنخفض وترتفع من هاتف إلى آخر. كان يحدثني تارة عن بعض مشاريعه، وعن بعض الاتصالات التي يقوم بها ليتم نقله إلى العاصمة.. ثم يعود ويفقد فجأة حماسه.
كنت أعرف ذلك عندما يسألني في آخر مكالمته:
- متى ستأتي يا خالد؟
أشعر عندئذٍ أنه باخرة تغرق، وتبعث إشارة ضوئية تطلب النجدة مني.
وبرغم ذلك، كنت أسايره فقط، وأعده كل مرة أنني قد أزوره في الصيف القادم. وكنت أعرف في أعماقي أنني أكذب، وأنني قطعت الجسور مع الوطن حتى إشعار آخر.
في الواقع، أصبحت عندي قناعة بانعدام الأمل. كان القطار يسير في الاتجاه المعاكس، وبسرعة لم يكن ممكناً معها أن نفعل شيئاً.. أي شيء، غير الذهول وانتظار كارثة الاصطدام.
وكنت أحزم حقائب القلب.. وأمضي دون أن أدري في اتجاهٍ آخر أيضاً، في الاتجاه المعاكس للوطن.
رحت أؤثث غربتي بالنسيان. أصنع من المنفى وطناً آخر لي، وطناً ربما أبدياً، عليّ أن أتعود العيش فيه.
بدأت أتصالح مع الأشياء. أقمت علاقات طبيعية مع نهر السين.. مع جسر ميرابو.. مع كل المعالم التي كانت تقابلني من تلك النافذة، والتي كنت أعيش في معاداة لها دون سبب.
اخترت لي أكثر من عشيقة عابرة. أثثت سريري بالملذّات الجنونية.. بنساء كنت أدهشهن كل مرة أكثر، وأقتلك بهن كل مرة أكثر، حتى لم يبق شيء منكِ في النهاية.
نسي هذا الجسد شوقه لك، نسي تطرّفه وحماقاته وإضرابه عن كل لذة ما عدا لذّتك الوهمية.
تعمدت أن أفرغ النساء من رموزهن الأولى.
من قال إن هناك امرأة منفى، وامرأة وطناً، فقد كذب..
لا مساحة للنساء خارج الجسد. والذاكرة ليست الطريق الذي يؤدي إليهن. في الواقع هنالك طريق واحد لا أكثر.. يمكنني أن أجزم اليوم بهذا!
اكتشفت شيئاًً لا بد أن أقوله لك اليوم..
الرغبة محض قضية ذهنية. ممارسة خيالية لا أكثر. وهم نخلقه لحظة جنون نقع فيها عبيداً لشخص واحد، ونحكم عليه بالروعة المطلقة لسبب غامض لا علاقة له بالمنطق.
رغبة تولد هكذا من شيء مجهول، قد يعيدنا إلى ذكرى أخرى.. لعطر رائحة أخرى.. لكلمة، لوجه آخر..
رغبة جنونية تولد في مكان آخر خارج الجسد، من الذاكرة أو ربما من اللاشعور، من أشياء غامضة تسللت إليها أنتِ ذات يوم، وإذا بك الأروع، وإذا بك الأشهى، وإذا كل النساء أنتِ.
أفهمت لماذا قتلتك تلقائياً يوم قتلت قسنطينة في داخلي؟
ولم أعجب يومها وأنا أرى جثتك ممدة في سريري.
لم تكونا في النهاية سوى امرأة واحدة.
ستقولين: لماذا كتبت لي هذا الكتاب إذن؟ وسأجيبك أنني أستعير طقوسك في القتل فقط، وأنني قررت أن أدفنك في كتاب لا غير.
فهناك جثث يجب ألا نحتفظ بها في قلبنا. فللحب بعد الموت، رائحة كريهة أيضاً، خاصة عندما يأخذ بُعْد الجريمة.
لاحظي أنني لم أذكر اسمك مرة واحدة في هذا الكتاب. قررت هكذا أن أتركك بلا اسم. هنالك أسماء لا تستحق الذكر.
لنفترض أنك امرأة كان اسمها "حياة"، وربما كان لها اسم آخر.. فهل مهم اسمك حقاً؟
وحدها أسماء الشهداء غير قابلة للتزوير، لأن من حقهم علينا أن نذكرهم بأسمائهم كاملة. كما من حق هذا الوطن علينا أن نفضح من خانوه، وبنوا مجدهم على دماره، وثروتهم على بؤسه، مادام لا يوجد هناك من يحاسبهم.
وأدري.. ستقول إشاعة ما إن هذا الكتاب لك. أؤكد لك سيدتي تلك الإشاعة.
سيقول نقّاد يمارسون النقد تعويضاً عن أشياء أخرى، إن هذا الكتاب ليس رواية، وإنما هذيان رجل لا علم له بمقاييس الأدب.
أؤكد لهم مسبقاً جهلي، واحتقاري لمقاييسهم. فلا مقياس عندي سوى مقياس الألم، ولا طموح لي سوى أن أدهشك أنتِ، وأن أبكيك أنت، لحظة تنتهين من قراءة هذا الكتاب..
فهناك أشياء لم أقلها لك بعد.
اقرئي هذا الكتاب.. وأحرقي ما في خزانتك من كتبٍ لأنصاف الكتاب، وأنصاف الرجال، وأنصاف العشاق.
من الجرح وحده يولد الأدب. فليذهب إلى الجحيم كل الذين أحبوك بتعقّل، دون أن ينزفوا.. دون أن يفقدوا وزنهم ولا اتزانهم..
تصفّحيني بشيء من الخجل.. كما تتصفّحين ألبوم صور مصفرّة، لطفلة كانت أنتِ.
كما تطالعين قاموساً لمفردات قديمة معرّضة للانقراض والموت.
كما تقرأين منشوراً سرياً، عثرت عليه يوماً في صندوق بريدك.
افتحي قلبك.. واقرأيني.
كنت يوماً أريد أن أحدثك عن سي الطاهر وعن زياد وعن آخرين.. عن كل ما كنت تجهلين.
ولكن مات حسان.. ولم يعد اليوم وقت للحديث عن الشهداء.. أصبح كل واحد منا مشروع شهيد.
يحزنني ألا أهبك غزالة. "الغزلان لا تكون غزلاناً إلا عندما تكون حيّة". ولم يبق لي ما يمكن أن أهديكِ اليوم.
لقد أخذت مني كل من أحببت، الواحد بعد الآخر، بطريقة أو بأخرى. وتحول القلب إلى مقبرة جماعية ينام فيها دون ترتيب كل من أحببت. وكأن قبر (أمّا) قد اتسع ليضمهم جميعاً.
ولم أعد أنا سوى شاهد قبر لسي الطاهر.. لزياد ولحسان. شاهد قبر للذاكرة.
كنت أدري الكثير عن حماقة القدر، الكثير عن ظلمه وعن عناده، عندما يصرّ على ملاحقة أحد.
ولكن أكان يمكن لي أن أتوقع أن شيئاً كذلك يمكن أن يحدث؟
كنت اعتقد أنني دفعت لهذا القدر الأحمق ما فيه الكفاية، وأنه حان لي بعد هذا العمر، وتلك السنوات التي تلت فجيعة زياد، وفجيعة زواجك، أن أرتاح أخيراً.
فكيف عاد القدر اليوم ليأخذ مني أخي، أخي الذي لم يكن لموته من منطق. لا كان في جبهة، ولا كان في ساحة قتال ليموت ميتة سي الطاهر، وميتة زياد، رمياً بالرصاص.. أيضاً.
***
ذات يوم من أكتوبر 88، جاء خبر موته هكذا صاعقة يحملها خط هاتفي مشوش، وصوت عتيقة الذي تخفيه الدموع.
ظلت تجهش بالبكاء وتردد اسمي، وأنا أسألها مفجوعاً:
- "واش صار..؟"
كنت على علم بتلك الأحداث التي هزّت البلاد، والتي كانت الجرائد ونشرات الأخبار الفرنسية تتسابق بنقلها مصور، مفصلة، مطوّلة، باهتمام لا يخلو من الشماتة.
كنت أعرف تفاصيلها، وأدري أنها مازالت وهي في يومها الثاني مقتصرة على العاصمة. فمن أين لي أن أتوقّع الذي حدث؟
كان صوت عتيقة يردد مقطّعاً:
- قتلوه.. آ خالد.. يا وخيدتي قتلوه..
وصوتي يردد مذهولاً:
- كيفاش.. كيفاش قتلوه؟
كيف مات حسان؟
هل مهم السؤال، وموته كان أحمق كحياته، ساذجاً كأحلامه.
أقرأ كل الجرائد لأفهم كيف مات أخي، بين الحلم والحلم.. بين الوهم والوهم.
ما الذي ذهب به إلى العاصمة ليقابل "جماعة" هناك، هو الذي لم يزر العاصمة إلا نادراً.
ذهب هكذا في نهاية أسبوع.. ليبحث عن نهايته.
ضاقت به قسنطينة، ولم توصله جسورها الكثيرة إلى شيء.
قالوا له: "في العاصمة ستكون لك "خيوط". ستوصلك الطرق القصيرة هناك.. ولن توصلك الجسور هنا!".
صدّق حسان، وذهب إلى العاصمة ليقابل "فلاناً" من قبل "فلان" آخر..
وكان مقرراً أن تحل قضيته أخيراً هذه المرة، بعد عدة سنوات من الوساطات والتدخلات، ويغادر نهائياً سلك التعليم، لينتقل إلى العاصمة ويعيّن موظفاً في مؤسسة إعلامية.
ولكن القدر هو الذي حسم "ملفه" هذه المرة.
بين "فلان" و "فلان" مات حسان، خطأ برصاصة خاطئة، على رصيف الحلم.
فالحلم ليس في متناول الجميع أخي.. كان عليك ألا تحلم!
أحقاً "إن الشقاء يعرف كيف يختار صفاته" ولهذا اختارني أنا، واختار لي كل هذه الفجائع المذهلة، لأنفرد بها وحدي.
أنا الذي لم أكن أحلم سوى بأن أهبك غزالة..
كيف لي أن أفعل ذلك.. وأنت تهبينني كل هذا الدمار.. كل هذا الخراب؟
***
ويعود فجأة، حديث قديم بيننا إلى البال.
حديث مرّت عليه اليوم ست سنوات. في ذلك الزمن الذي كنت تجدين فيه شبهاً بيني وبين "زوربا". الرجل الذي أحببته الأكثر حسب تعبيرك، والذي كنتِ تحلمين بكتابة رواية كروايته، أو حب رجل مثله.
ترى لأنك كنت عاجزة عن كتابة رواية كتلك، اكتفيت بتحويلي إلى نسخة منه، وجعلتني مثله أتعلم أن أشفى من الأشياء التي أحبها بأكلها حتى التقيؤ..
جعلتني أعشق الخراب الجميل، وأتعلم كطائر يذبح أن أرقص من ألمي..
ها هوذا الخراب الجميل، الذي حدّثتني عنه يوماً بحماسٍ مدهش لم يثر شكوكي، يوم قلتِ:
"مدهش أن يصل الإنسان بفجائعه حد الرقص. إنه تميز في الخيبات والهزائم أيضاً. فليست كل الهزائم في متناول الجميع. لا بد أن تكون لك أحلام فوق العادة، وأفراح وطموحات فوق العادة، لتصل بعواطفك تلك إلى ضدها بهذه الطريقة..".
آه سيدتي لو تدرين!
كم كانت أحلامي كبيرة. وما أفظع هذا الخراب الذي تتسابق قنوات التلفزيون على نقله اليوم!
ما أفظع هذا الدمار، وما أحزن جثة أخي الملقاة على رصيف، يخترقها رصاص طائش!
ما أحزن جثته، وهي تنتظرني الآن في ثلاجة الموتى لأتعرف عليه، وأرافقه جثماناً إلى قسنطينة.
ها هي ذي قسنطينة مرة أخرى..
تلك الأم الطاغية التي تتربص بأولادها، والتي أقسمت أن تعيدنا إليها ولو جثة.
ها هي قد هزمتنا، وأعادتنا إليها معاً. في تلك اللحظة التي اعتقدنا فيها أننا شفينا منها، وقطعنا معها صلة الرحم.
لا حسان سيغادرها إلى العاصمة.. ولا أنا سأقدر على الهرب منها بعد اليوم..
ها نحن نعود إليها معاً..
أحدنا في تابوت.. والآخر أشلاء رجل.
وقع حكمك عليّ أيتها الصخرة.. أيتها الأم الصخرة..
فأشرعي مقابرك، وانتظريني. سآتيك بأخي.. افسحي له مكاناً صغيراً جوار أوليائك الصالحين، وشهدائك، وباياتك.. كان حسان كل هذا على طريقته.
كان غزالاً..
في انتظار ذلك.. تعالي سيدتي وتفرّجي على كل هذا الخراب الجميل!
فبعد قليل سيحضر زوربا ليمسك بكتفي ولنبدأ الرقص معاً.
تعالي..
لا بد ألا تخلفي هذا المشهد، سترين كيف يرقص الأنبياء عندما يفلسون حقاً.
تعالي.. سأرقص اليوم كما لم أرقص يوماً، كما اشتهيت أن أرقص في عرسك ولم أفعل..
سأقفز وكأن جناحينْ قد التصقا بقدمي فجأة، وكأن ذراعي المفقودة قد نبتت من جديد لتصبح ذراعي.
تعالي.. وليعذرني أبي الذي لم أشاركه يوماً في طقوس "عيساوة".
في حفل جذبه ورقصه الجنوني، وغرسه ذلك السفود في جسده من طرف إلى آخر.. بنشوة الألم الذي يجاور اللذة.
للحزن أكثر من طقس، وليس للألم وطن على التحديد. فليعذرني الأنبياء والأولياء الصالحون!
ليعذروني جميعا. لا أدري ماذا يفعل الأنبياء بالتحديد عندما يحزنون، ماذا يفعلون في زمن الردّة؟
هل يبكون أم يصلون؟
أنا قررت أن أرقص. الرقص تواصل أيضاً. الرقص عبادة أيضاً..
فانظر أيها الأعظم.. بذراع واحدة سأرقص لك.
ما أصعب الرقص بذراعٍ واحدة يا ربي! ما أبشع الرقص بذراعٍ واحدة يا ربي! ولكن..
ستعذرني أنت الذي أخذت ذراعي الأخرى.
ستعذرني.. أنت الذي أخذتهم جميعاً.
عدل سابقا من قبل kerrouche في الخميس 5 أغسطس 2010 - 21:38 عدل 1 مرات