بكيته ذلك المساء..
ذلك البكاء الموجع المكابر الذي نسرقه سراً من رجولتنا.
وتساءلت أي رجل فيه كنت أبكي الأكثر.
ولِمَ البكاء؟
لقد مات شاعراً كما أراد.. ذات صيف كما أراد. مقاتلاً في معركة ما كما أراد أيضاً.
لقد هزمني حتى بموته.
تذكّرت وقتها تلك المقولة الرائعة للشاعر والرسام "جان كوكتو" الذي كتب يوماً سيناريو فيلم يتصور فيه موته مسبقاً، فتوجه إلى بيكاسو وإلى أصدقائه القلائل الذين وقفوا يبكونه، ليقول لهم بتلك السخرية الموجعة التي كان يتقنها:
"لا تبكوا هكذا.. تظاهروا فقط بالبكاء.. فالشعراء لا يموتون. إنهم يتظاهرون بالموت فقط!".
وماذا لو كان زياد يتظاهر بالموت فقط؟ لو فعل ذلك عن عناد.. ليقنعني أن الشعراء يموتون حقاً في الصيف ويبعثون في كل الفصول؟
وأنتِ..
تراك تدرين؟ هل أتاك خبر موته؟ أم سيأتيك ذات يوم وسط قصة أخرى وأبطال آخرين؟
وماذا ستفعلين يومها؟ أستبكينه.. أم تجلسين لتبني له ضريحاً من الكلمات، وتدفنيه بين دفّتي كتاب، كما تعودت أن تدفني على عجل كلّ من أحببت وقررت قتلهم يوماً؟
هو الذي كان يكره الرثاء، كراهيته لربطات العنق والبدلات الفاخرة، بأية لغة سترثينه؟
في الواقع.. لقد هزمك زياد كما هزمني.
وضعك أمام الحد الفاصل بين لعبة الموت.. والموت. فليس كل الأبطال قابلين للموت على الورق.
هنالك من يختارون موتهم وحدهم.. ولا يمكننا قتلهم لمجرد رواية.
وكان يكذب.. كبطل جاهز لرواية.
كان يكابر ويدّعي أن فلسطين وحدها أمّه. ويعترف أحياناً فقط بعد أكثر من كأس، أن لا قبر لأمه، تلك التي دفنت في مقابر جماعية لمذبحة أولى كان اسمها (تلّ الزعتر).
وإنهم أخذوا صوراً تذكارية، ورفعوا علامات النصر ووقفوا بأحذيتهم على جثث.. قد تكون بينها جثّتها.
ولحظتها فقط كان يبدو لي أنه يبكي.
فَلِمَ البكاء زياد؟
في كل معركة كانت لك جثّة. في كلّ مذبحة تركت قبراً مجهولاً. وها أنت ذا تواصل بموتك منطق الأشياء. فلا شي كان في انتظارك غير قطار الموت.
هنالك من أخذ قطار تلّ الزعتر، وهنالك من أخذ قطار (بيروت 82) أو قطار صبرا وشاتيلا..
وهناك من هنا أو هناك، مازال ينتظر رحلته الأخيرة، في مخيّم أو في بقايا بيت، أو في بلد عربي ما..
وبين كلّ قطار وقطار.. قطار.
بين كلّ موت وموت.. موت.
فما أسعد الذين أخذوا القطار صديقي. ما أسعدهم وما أتعسنا أمام كلّ نشرة أخبار!
بعدهم كثرت "وكالات السفريات" و "الرحلات الجماعية". أصبحت ظاهرة عربية يحترفها كلّ نظام على طريقته..
بعدهم أصبح الوطن مجرد محطة. وأصبحت في أعماق كلّ منّا سكّة حديدية تنتظر قطاراً ما.. يحزننا أن نأخذه.. ويحزننا أن يسافر دوننا.
رحل زياد إذن..
وإذا بحقيبته السوداء المنسيّة في ركن خزانته، منذ عدة شهور، تغطّي فجأة على كل أثاث البيت، وتصبح أثاثي الوحيد، حتى أنني لا أرى غيرها.
عندما أعود إلى البيت. أشعر أنها تنتظرني وأنني على موعد معه. عندما أترك بيتي، أشعر أنني أهرب منها وأنها كانت بلغزها جاثمة على صدري، دون أن أدري.
ولكن كيف الهروب منها وهي تتربص بي كل مساء، عندما أطفئ جهاز التلفزيون، وأجلس وحيداً لأدخن سيجارة قبل النوم فيبدأ العذاب..
وأعود إلى السؤال نفسه: ماذا داخل هذه الحقيبة.. وماذا أفعل بها؟
أحاول أن أتذكّر ماذا يفعل الناس عادة بأشياء الموتى. بثيابهم مثلاً وحاجاتهم الخاصة. فتعود (أمّأ) إلى الذاكرة ومعها تلك الأيام المؤلمة التي سبقت وتلت وفاتها.
أتذكّر ثيابها وأشياءها، أتذكر (كندورتها) العنابي التي لم تكن أجمل أثوابها، ولكنها كانت أحب أثوابها إليّ. فقد تعودت أن أراها تلبسها في كل المناسبات.
كانت الثوب الذي يحمل الأكثر عطرها ورائحتها المميزة، رائحة فيها شيء من العنبر، شيء من عرقها، وشيء شبيه بالياسمين المعتّق. مزيج من عطور طبيعية بدائية، كنت أستنشق معها الأمومة.
سألت عن تلك (الكندورة) بعد أيام من وفاة (أمّا) فقيل لي بشيء من الاستغراب إنها أعطيت مع أشياء أخرى للنساء الفقيرات، اللاتي حضرن لإعداد الطعام في ذلك اليوم.
صرخت: "إنها لي.. كنت أريدها.." ولكن خالتي الكبرى قالت: "إن أشياء الميت يجب أن تخرج من البيت قبل خروجه منه.. ما عدا بعض الأشياء الثمينة التي يحتفظ بها للذكرى أو للبركة".
ومقياس (أمّا).. ذلك السوار الذي لم يفارق معصمها يوماً وكأنها ولدت به، ماذا تراهم فعلوا به؟
لم أجرؤ على السؤال.
كان أخي حسّان الذي لم يكن يتجاوز السنوات العشر، لا يعي شيئاً مما يحدث حوله سوى وفاة (أمّا) وغيابها النهائي.
وكنت محاطاً بحشد من النساء اللاتي كن يقرّرن كل شيء. كأن ذلك البيت أصبح فجأة لهن:
أين (مقياس) أمّا؟ من الأرجح أن يكون قد أصبح من نصيب إحدى الخالات، أو ربما استحوذ عليه أبي مع بقية صيغتها ليقدّمها هدية لعروسه الجديدة.
كلما عدت إلى هذه الذكرى وتفاصيلها، ازدادت علاقتي بهذه الحقيبة تعقيداً.
فقد كان لبعض الأشياء على بساطتها، قيمة لا علاقة لها بمقاييس الآخرين للتركة والمخلفات. فماذا أفعل بحقيبة تركها صاحبها منذ ثمانية أشهر دون أية وصية أو توضيح خاص.. ومات؟
هل أتصدق بها على الفقراء، مادامت أشياء الموتى يجب أن تلحق بهم، أم أحتفظ بها كذكرى من صديق مادمنا لا نحتفظ إلا بالأشياء الثمينة؟
أهي عبء.. أم أمانة؟
وإذا كانت عبئا.. لماذا أخذتها منه دون مناقشة، لماذا لم أقنعه بحملها معه، بحجة أنني قد أترك باريس مثلاً؟
وإذا كانت أمانة.. ألم تتحول بموت صاحبها إلى وصية. فهل نتصدّق بوصايا الشهداء.. هل نضعها عند بابنا هدية لأول عابر سبيل؟
وكنت أدري خلال تلك الأيام التي عشتها مسكوناً بهاجس تلك الحقيبة أنني أرهق نفسي هباءً، وأن محتواها وحده يمكن أن يحدد قيمتها وصفتها، ويحدد بالتالي ما يمكن أن أفعله بها. ولذا بدأت أخافها فجأة، أنا الذي لم أكن أعيرها اهتماماً من قبل.
ترى أكان موت زياد هو الذي أضفى عليها ذلك الطابع المربك، أم أنني في الحقيقة، كنت أخاف أن تحمل لي سرّك، تحمل شيئا عنك كنت أخاف أن أعرفه؟
***
كان لا بد أن أفتح تلك الحقيبة.. لأغلق أبواب الشكّ.
أخذت ذلك القرار ذات ليلة سبت، بعد مرور أسبوع على قراءتي خبر استشهاد زياد.
كان هناك احتمال آخر فقط، لا يخلو من الحماقة، كأن آخذها إلى مقر المنظمة وأسلّمها لأحدهم هناك، ليتكفّل بإرسالها إلى أقرباء زياد في لبنان أو في مكان آخر..
ولكنني عدلت عن هذه الفكرة الساذجة وأنا أتذكّر أنه لم يعد لزياد من أهل في لبنان. فلمن سيسلّمها هؤلاء.. وعند أية قبيلة وأية فصيلة سينتهي مصيرها؟
من سيكون "أبوها".. وهنالك أكثر من "أبو" يعتقد أنه ينفرد وحده بأبوّة القضية الفلسطينية، وأنه الوريث الشرعي الوحيد للشهداء.. وأن الآخرين خونة؟
ومن أدراني على يد من مات زياد؟
على يد المجرمين "الإخوة".. أم على يد المجرمين الأعداء؟ أما كان يقول: "لقد حوّلوا "القضية" إلى قضايا.. حتى يمكنهم قتلنا تحت تسمية أخرى غير الجريمة.."
فبأية رصاصة مات زياد.. وخيرة الشباب الفلسطيني قتل برصاص فلسطيني.. أو عربي لا غير؟
في ذلك المساء.. ارتجفت يدي وأنا أفك أقفال تلك الحقيبة.
شيء ما جعلني أتذكّر أنني أملك يداّ واحدة.
لم تكن الحقيبة مغلقة بمفتاح ولا بأقفال جانبية. وكأنه تعمّد أن يتركها لي شبه مفتوحة كما يترك أحد الباب موارباً، في دعوة صامتة للدخول.
شعرت بشيء من الارتياح لهذه "الالتفاتة"، ولهذا الإذن السابق أو المتأخر عن أوانه، الذي منحه لي زياد لدخول عالمه الخاص دون إحراج..
تراه فعل ذلك لأنه كان يكره الأقفال المخلوعة، والأبواب المفتوحة عنوة كراهيته للمخبرين ولأقدام العسكر؟
أم لأنه كان يتوقّع يوماً كهذا؟
كل هذه الافتراضات لم تمنع قشعريرة من أن تسري في جسدي، وفكرة أخرى تعبرني..
لقد كان يعرف مسبقاً أنه ذاهب إلى الموت. وهذه الحقيبة كانت معدّة لي منذ البداية. وكان بإمكاني أن أفتحها منذ عدة شهور. فهي لم تعد موجودة بالنسبة إليه منذ أن غادر هذا البيت.
إنها طريقته في قطع جذور الذاكرة.. كالعادة.
رفعت النصف الفوقي للحقيبة، بعد أن وضعتها على طرف السرير.. وألقيت نظرة أولى على ما فيها.
وإذا بالموت والحياة يهجمان عليّ معاً، وأنا أرى ثيابه أمامي، ألمس كنزته الصوفية الرمادية، وجاكيته الجلدي الأسود الذي تعوّدت أن أراه به..
ها أنا أملك حجة حضوره، وحجة موته.. وحجة حياته. وها هي رائحة الحياة والموت تنبعثان معاً وبالقوة نفسها من ثنايا تلك الحقيبة.
ها أنا معه ودونه.. أمام بقاياه.
ثياب.. ثياب.. أغلفه خارجية لكتاب بشريّ.
واجهة قماشية لمسكن من زجاج.
انكسر المسكن وظلّت الواجهة، ذاكرة مثنية في حقيبة، فلماذا ترك لي الواجهة؟.
بين الثياب قميص حريري سماوي اللون، مازال في غلافه اللامع الشفاف.. لم يفتح بعد. أستنتج دون جهد أنه هدية منك.
ثم ثلاثة أشرطة موسيقية، أحدها لتيودوركيس، والأخرى مقطوعات كلاسيكية أضعها جانباً وأنا أتذكر أن زياد كلما سافر ترك لي أشرطة وكتباً.. وثياباً.. وحبّاً معلّقاً أيضاً.
ولكن هذه هي المرة الأولى التي يترك أشياءه مجموعة في حقيبة، مرتبة بعناية وكأنه أعدها لنفسه وجمع فيها مل ما يحب استعداداً لسفر ما. كأنه أراد أن يأخذها معه حيث سيذهب وحيث كان يريد أن يرتدي جاكيته الأسود المفضّل.. ويستمع إلى موسيقى تيودوركيس!
وفجأة تقع يدي على روايتك أسفل الحقيبة. فأصاب بهزّة أولى. ترتعش يدي، تتوقف لحظات قبل أن تمسك بالكتاب. أجلس على طرف السرير قبل أن أفتحه. وكأنني سأفتح طرداً ملغوماً.
أتصفح الكتاب بسرعة. وكأنني لا أعرفه.
ثم أتذكّر شيئاً.. وأركض إلى الصفحة الأولى بحثاً عن الإهداء، فتقابلني ورقة بيضاء.. دون كلمة واحدة. دون توقيع أو إهداء. فأشعر بنوبة حزن تشلّ يدي، وبرغبة غامضة للبكاء.
لمن منّا أهديت نسختك المزوّرة؟ وكلانا يملك نسخة دون توقيع؟
من منا أوهمته أنه يسكن الصفحات الداخلية للكتاب_ كما يسكن قلبك_ وأنه ليس في حاجة إلى إهداء؟
وهل صدّقك زياد.. هل صدّقك _هو أيضاً_ لدرجة أنه قرّر أن يأخذ معه هذه الرواية ليعيد قراءتها، حيث سيذهب.. هناك!
كانت تلك الصفحة البيضاء كافية لإدانتك. كانت تقول بالكلمات التي لم تكتب، أكثر مما كان يمكن أن تكتبي.. فهل كان مهماً بعد ذلك ألا أجد أية رسالة لك في تلك الحقيبة؟
لقد كنتِ امرأة تتقن الكتابة على بياض.. ووحدي كنت أعرف ذلك.
ما عدا روايتك لم أجد سوى مفكرة سوداء متوسطة الحجم موضوعة أسفل الحقيبة_أيضاً_ كسرّ عميق.
ما كدت أرفعها حتى وقعت منها "البطاقة البرتقالية" التي كان يستعملها زياد للتنقلّ بالميترو. داخلها قصاصة بتاريخ (أكتوبر) الشهر الأخير الذي رحل فيه.
أنظر على تلك البطاقة على عجل، وأنا لا أفكر إلا في الإطلاع على تلك المفكرة. ولكن صورته تستوقفني..
مربكة صور الموتى..
ومربكة أكثر صور الشهداء. موجعة دائماً. فجأة يصبحون أكثر حزناً وأكثر غموضاً من صورتهم.
فجأة.. يصبحون أجمل بلغزهم، ونصبح أبشع منهم.
فجأة.. نخاف أن نطيل النظر إليهم.
فجأة.. نخاف من صورنا القادمة ونحن نتأمّلهم!
كَمْ كان وسيماً ذاك الرجل.
تلك الوسامة الغامضة المخفيّة التي لا تفسير لها. ها هو حتى في صورة سريعة تلتقط له في ثلاث دقائق، بخمسة فرنكات، يمكنه أن يكون مميزا.
يمكنه أن يكون حتى بعد موته مغرياً، بذلك الحزن الغامض الساخر. وكأنه يسخر من لحظة كهذه.
وأفهم مرة أخرى أن تكوني أحببته. لقد أحببته قبلك بطريقة أخرى. كما نحب شخصاً نعجب به ونريد أن نشبهه، لسبب أو لآخر. فنكثر من الجلوس إليه والخروج برفقته والظهور معه. وكأننا نعتقد في أعماقنا أن الجمال والجنون والموهبة والصفات التي تبهرنا فيه قد تكون قابلة للعدوى والانتقال إلينا عن طريق المعاشرة.
أية فكرة حمقاء كانت تلك! لم أكتف أنها كانت سبب كارثتي إلا مؤخراً. عندما قرأت قولاً رائعاً لكاتب فرنسي (رسام أيضاً..) "لا تبحث عن الجمال..لأنك عندما تجده، تكون قد شوّهت نفسك!"
ولم أكن فعلت شيئاً غير هذه الحماقة.
أعدت بطاقته وصورته إلى الحقيبة، ورحت أقلّب تلك المفكرة..
كنت أشعر أنها تحمل شيئاً قد يفاجئني، قد يعكر مزاجي ويشرع الباب للعواصف المتأخرة عن مواسمها. فماذا تراه كتب في هذا الدفتر؟
كنت أدري أن الحقيقة تولد صغيرة دائماً. وكنت أشعر أن الحقيقة هنا كانت صغيرة في حجم مفكرة جيب. فخفت المفكرة..
بحثت عن سيجارة أشعلها. واستلقيت على ذلك السرير لأتصفح جرحي على مهل..
كانت الصفحات تتالى مليئة بالمقاطع الشعرية المبعثرة بين تاريخ وآخر. بالكتابات الهامشية.. ثم بقصائد أخرى تشغل وحدها أحياناً صفحتين أو ثلاثاً. ثم خواطر قصيرة من بضعة سطور مكتوبة وسط الصفحة بلون أحمر دائماً.. وكأنه كان يريد أن يميزها عن بقية ما كتب.
ربما لأنها لم تكن شعراً وربما لأنها كانت أهم من الشعر.
من أين أبدأ هذه المفكرة؟.. من أي مدخل أدخل هذه الدهاليز السرية لزياد، التي حلمت دائماً بالتسلل إليها عساني أكتشفك فيها؟
كانت العناوين تستوقفني، فأبدأ في قراءة قصيدة. أحاول فك لغز الكلمات المتقاطعة.. أبحث عنك وسط الرموز تارة، ووسط التفاصيل الأكثر اعترافاً أحياناً أخرى.
ثم لا ألبث أن أتركها وألهث مسرعاً إلى صفحة أخرى، بحثاً عن حجج أخرى، عن إيضاحات أكثر، عن كلمات تقول لي بالأسود والأبيض.. ما الذي حدث.
ولكنني كنت في الواقع على درجة من الانفعال والأحاسيس المتطرفة المتناقضة التي كانت تكاد تشلّ تفكيري، وتجعلني عاجزا عن التمييز بين ما أقرأ وما أتوهم قراءته.
كان منظر تلك الحقيبة المفتوحة أمامي بأشيائها المبعثرة، وبذلك الدفتر الأسود الصغير الذي كنت ممسكاً به تجعلني أخجل من نفسي في تلك اللحظة. وكأنني بفتحها لم أفعل شيئاً غير تشريح جثّة زياد المبعثرة بأشيائها وأشلائها على سريري، لأخرج منها هذا الدفتر الذي هو قلبه لا غير.
قلب زياد الذي نبض يوماً لك، والذي هاهو اليوم حتى بعد موته بواصل نبضه بين يديّ على وقع الكلمات المشحونة حسرة وخوفاً.. حزناً.. وشهوة..
"على جسدي مررّي شفتيك
فما مرّروا غير تلك السيوف عليّ
أشعليني أيا امرأة من لهب
يقرّبنا الحب يوماً
يباعدنا الموت يوماً
ويحكمنا حفنة من تراب..
تقرّبنا شهوة للجسد
ثم يوماً
يباعدنا الجرح لمّا يصير بحجم جسد
توحدت فيك
أيا امرأة من تراب ومرمر
سقيتك ثم بكيت وقلت..
أميرة عشقي..
أميرة موتي تعالي!؟
ذلك البكاء الموجع المكابر الذي نسرقه سراً من رجولتنا.
وتساءلت أي رجل فيه كنت أبكي الأكثر.
ولِمَ البكاء؟
لقد مات شاعراً كما أراد.. ذات صيف كما أراد. مقاتلاً في معركة ما كما أراد أيضاً.
لقد هزمني حتى بموته.
تذكّرت وقتها تلك المقولة الرائعة للشاعر والرسام "جان كوكتو" الذي كتب يوماً سيناريو فيلم يتصور فيه موته مسبقاً، فتوجه إلى بيكاسو وإلى أصدقائه القلائل الذين وقفوا يبكونه، ليقول لهم بتلك السخرية الموجعة التي كان يتقنها:
"لا تبكوا هكذا.. تظاهروا فقط بالبكاء.. فالشعراء لا يموتون. إنهم يتظاهرون بالموت فقط!".
وماذا لو كان زياد يتظاهر بالموت فقط؟ لو فعل ذلك عن عناد.. ليقنعني أن الشعراء يموتون حقاً في الصيف ويبعثون في كل الفصول؟
وأنتِ..
تراك تدرين؟ هل أتاك خبر موته؟ أم سيأتيك ذات يوم وسط قصة أخرى وأبطال آخرين؟
وماذا ستفعلين يومها؟ أستبكينه.. أم تجلسين لتبني له ضريحاً من الكلمات، وتدفنيه بين دفّتي كتاب، كما تعودت أن تدفني على عجل كلّ من أحببت وقررت قتلهم يوماً؟
هو الذي كان يكره الرثاء، كراهيته لربطات العنق والبدلات الفاخرة، بأية لغة سترثينه؟
في الواقع.. لقد هزمك زياد كما هزمني.
وضعك أمام الحد الفاصل بين لعبة الموت.. والموت. فليس كل الأبطال قابلين للموت على الورق.
هنالك من يختارون موتهم وحدهم.. ولا يمكننا قتلهم لمجرد رواية.
وكان يكذب.. كبطل جاهز لرواية.
كان يكابر ويدّعي أن فلسطين وحدها أمّه. ويعترف أحياناً فقط بعد أكثر من كأس، أن لا قبر لأمه، تلك التي دفنت في مقابر جماعية لمذبحة أولى كان اسمها (تلّ الزعتر).
وإنهم أخذوا صوراً تذكارية، ورفعوا علامات النصر ووقفوا بأحذيتهم على جثث.. قد تكون بينها جثّتها.
ولحظتها فقط كان يبدو لي أنه يبكي.
فَلِمَ البكاء زياد؟
في كل معركة كانت لك جثّة. في كلّ مذبحة تركت قبراً مجهولاً. وها أنت ذا تواصل بموتك منطق الأشياء. فلا شي كان في انتظارك غير قطار الموت.
هنالك من أخذ قطار تلّ الزعتر، وهنالك من أخذ قطار (بيروت 82) أو قطار صبرا وشاتيلا..
وهناك من هنا أو هناك، مازال ينتظر رحلته الأخيرة، في مخيّم أو في بقايا بيت، أو في بلد عربي ما..
وبين كلّ قطار وقطار.. قطار.
بين كلّ موت وموت.. موت.
فما أسعد الذين أخذوا القطار صديقي. ما أسعدهم وما أتعسنا أمام كلّ نشرة أخبار!
بعدهم كثرت "وكالات السفريات" و "الرحلات الجماعية". أصبحت ظاهرة عربية يحترفها كلّ نظام على طريقته..
بعدهم أصبح الوطن مجرد محطة. وأصبحت في أعماق كلّ منّا سكّة حديدية تنتظر قطاراً ما.. يحزننا أن نأخذه.. ويحزننا أن يسافر دوننا.
رحل زياد إذن..
وإذا بحقيبته السوداء المنسيّة في ركن خزانته، منذ عدة شهور، تغطّي فجأة على كل أثاث البيت، وتصبح أثاثي الوحيد، حتى أنني لا أرى غيرها.
عندما أعود إلى البيت. أشعر أنها تنتظرني وأنني على موعد معه. عندما أترك بيتي، أشعر أنني أهرب منها وأنها كانت بلغزها جاثمة على صدري، دون أن أدري.
ولكن كيف الهروب منها وهي تتربص بي كل مساء، عندما أطفئ جهاز التلفزيون، وأجلس وحيداً لأدخن سيجارة قبل النوم فيبدأ العذاب..
وأعود إلى السؤال نفسه: ماذا داخل هذه الحقيبة.. وماذا أفعل بها؟
أحاول أن أتذكّر ماذا يفعل الناس عادة بأشياء الموتى. بثيابهم مثلاً وحاجاتهم الخاصة. فتعود (أمّأ) إلى الذاكرة ومعها تلك الأيام المؤلمة التي سبقت وتلت وفاتها.
أتذكّر ثيابها وأشياءها، أتذكر (كندورتها) العنابي التي لم تكن أجمل أثوابها، ولكنها كانت أحب أثوابها إليّ. فقد تعودت أن أراها تلبسها في كل المناسبات.
كانت الثوب الذي يحمل الأكثر عطرها ورائحتها المميزة، رائحة فيها شيء من العنبر، شيء من عرقها، وشيء شبيه بالياسمين المعتّق. مزيج من عطور طبيعية بدائية، كنت أستنشق معها الأمومة.
سألت عن تلك (الكندورة) بعد أيام من وفاة (أمّا) فقيل لي بشيء من الاستغراب إنها أعطيت مع أشياء أخرى للنساء الفقيرات، اللاتي حضرن لإعداد الطعام في ذلك اليوم.
صرخت: "إنها لي.. كنت أريدها.." ولكن خالتي الكبرى قالت: "إن أشياء الميت يجب أن تخرج من البيت قبل خروجه منه.. ما عدا بعض الأشياء الثمينة التي يحتفظ بها للذكرى أو للبركة".
ومقياس (أمّا).. ذلك السوار الذي لم يفارق معصمها يوماً وكأنها ولدت به، ماذا تراهم فعلوا به؟
لم أجرؤ على السؤال.
كان أخي حسّان الذي لم يكن يتجاوز السنوات العشر، لا يعي شيئاً مما يحدث حوله سوى وفاة (أمّا) وغيابها النهائي.
وكنت محاطاً بحشد من النساء اللاتي كن يقرّرن كل شيء. كأن ذلك البيت أصبح فجأة لهن:
أين (مقياس) أمّا؟ من الأرجح أن يكون قد أصبح من نصيب إحدى الخالات، أو ربما استحوذ عليه أبي مع بقية صيغتها ليقدّمها هدية لعروسه الجديدة.
كلما عدت إلى هذه الذكرى وتفاصيلها، ازدادت علاقتي بهذه الحقيبة تعقيداً.
فقد كان لبعض الأشياء على بساطتها، قيمة لا علاقة لها بمقاييس الآخرين للتركة والمخلفات. فماذا أفعل بحقيبة تركها صاحبها منذ ثمانية أشهر دون أية وصية أو توضيح خاص.. ومات؟
هل أتصدق بها على الفقراء، مادامت أشياء الموتى يجب أن تلحق بهم، أم أحتفظ بها كذكرى من صديق مادمنا لا نحتفظ إلا بالأشياء الثمينة؟
أهي عبء.. أم أمانة؟
وإذا كانت عبئا.. لماذا أخذتها منه دون مناقشة، لماذا لم أقنعه بحملها معه، بحجة أنني قد أترك باريس مثلاً؟
وإذا كانت أمانة.. ألم تتحول بموت صاحبها إلى وصية. فهل نتصدّق بوصايا الشهداء.. هل نضعها عند بابنا هدية لأول عابر سبيل؟
وكنت أدري خلال تلك الأيام التي عشتها مسكوناً بهاجس تلك الحقيبة أنني أرهق نفسي هباءً، وأن محتواها وحده يمكن أن يحدد قيمتها وصفتها، ويحدد بالتالي ما يمكن أن أفعله بها. ولذا بدأت أخافها فجأة، أنا الذي لم أكن أعيرها اهتماماً من قبل.
ترى أكان موت زياد هو الذي أضفى عليها ذلك الطابع المربك، أم أنني في الحقيقة، كنت أخاف أن تحمل لي سرّك، تحمل شيئا عنك كنت أخاف أن أعرفه؟
***
كان لا بد أن أفتح تلك الحقيبة.. لأغلق أبواب الشكّ.
أخذت ذلك القرار ذات ليلة سبت، بعد مرور أسبوع على قراءتي خبر استشهاد زياد.
كان هناك احتمال آخر فقط، لا يخلو من الحماقة، كأن آخذها إلى مقر المنظمة وأسلّمها لأحدهم هناك، ليتكفّل بإرسالها إلى أقرباء زياد في لبنان أو في مكان آخر..
ولكنني عدلت عن هذه الفكرة الساذجة وأنا أتذكّر أنه لم يعد لزياد من أهل في لبنان. فلمن سيسلّمها هؤلاء.. وعند أية قبيلة وأية فصيلة سينتهي مصيرها؟
من سيكون "أبوها".. وهنالك أكثر من "أبو" يعتقد أنه ينفرد وحده بأبوّة القضية الفلسطينية، وأنه الوريث الشرعي الوحيد للشهداء.. وأن الآخرين خونة؟
ومن أدراني على يد من مات زياد؟
على يد المجرمين "الإخوة".. أم على يد المجرمين الأعداء؟ أما كان يقول: "لقد حوّلوا "القضية" إلى قضايا.. حتى يمكنهم قتلنا تحت تسمية أخرى غير الجريمة.."
فبأية رصاصة مات زياد.. وخيرة الشباب الفلسطيني قتل برصاص فلسطيني.. أو عربي لا غير؟
في ذلك المساء.. ارتجفت يدي وأنا أفك أقفال تلك الحقيبة.
شيء ما جعلني أتذكّر أنني أملك يداّ واحدة.
لم تكن الحقيبة مغلقة بمفتاح ولا بأقفال جانبية. وكأنه تعمّد أن يتركها لي شبه مفتوحة كما يترك أحد الباب موارباً، في دعوة صامتة للدخول.
شعرت بشيء من الارتياح لهذه "الالتفاتة"، ولهذا الإذن السابق أو المتأخر عن أوانه، الذي منحه لي زياد لدخول عالمه الخاص دون إحراج..
تراه فعل ذلك لأنه كان يكره الأقفال المخلوعة، والأبواب المفتوحة عنوة كراهيته للمخبرين ولأقدام العسكر؟
أم لأنه كان يتوقّع يوماً كهذا؟
كل هذه الافتراضات لم تمنع قشعريرة من أن تسري في جسدي، وفكرة أخرى تعبرني..
لقد كان يعرف مسبقاً أنه ذاهب إلى الموت. وهذه الحقيبة كانت معدّة لي منذ البداية. وكان بإمكاني أن أفتحها منذ عدة شهور. فهي لم تعد موجودة بالنسبة إليه منذ أن غادر هذا البيت.
إنها طريقته في قطع جذور الذاكرة.. كالعادة.
رفعت النصف الفوقي للحقيبة، بعد أن وضعتها على طرف السرير.. وألقيت نظرة أولى على ما فيها.
وإذا بالموت والحياة يهجمان عليّ معاً، وأنا أرى ثيابه أمامي، ألمس كنزته الصوفية الرمادية، وجاكيته الجلدي الأسود الذي تعوّدت أن أراه به..
ها أنا أملك حجة حضوره، وحجة موته.. وحجة حياته. وها هي رائحة الحياة والموت تنبعثان معاً وبالقوة نفسها من ثنايا تلك الحقيبة.
ها أنا معه ودونه.. أمام بقاياه.
ثياب.. ثياب.. أغلفه خارجية لكتاب بشريّ.
واجهة قماشية لمسكن من زجاج.
انكسر المسكن وظلّت الواجهة، ذاكرة مثنية في حقيبة، فلماذا ترك لي الواجهة؟.
بين الثياب قميص حريري سماوي اللون، مازال في غلافه اللامع الشفاف.. لم يفتح بعد. أستنتج دون جهد أنه هدية منك.
ثم ثلاثة أشرطة موسيقية، أحدها لتيودوركيس، والأخرى مقطوعات كلاسيكية أضعها جانباً وأنا أتذكر أن زياد كلما سافر ترك لي أشرطة وكتباً.. وثياباً.. وحبّاً معلّقاً أيضاً.
ولكن هذه هي المرة الأولى التي يترك أشياءه مجموعة في حقيبة، مرتبة بعناية وكأنه أعدها لنفسه وجمع فيها مل ما يحب استعداداً لسفر ما. كأنه أراد أن يأخذها معه حيث سيذهب وحيث كان يريد أن يرتدي جاكيته الأسود المفضّل.. ويستمع إلى موسيقى تيودوركيس!
وفجأة تقع يدي على روايتك أسفل الحقيبة. فأصاب بهزّة أولى. ترتعش يدي، تتوقف لحظات قبل أن تمسك بالكتاب. أجلس على طرف السرير قبل أن أفتحه. وكأنني سأفتح طرداً ملغوماً.
أتصفح الكتاب بسرعة. وكأنني لا أعرفه.
ثم أتذكّر شيئاً.. وأركض إلى الصفحة الأولى بحثاً عن الإهداء، فتقابلني ورقة بيضاء.. دون كلمة واحدة. دون توقيع أو إهداء. فأشعر بنوبة حزن تشلّ يدي، وبرغبة غامضة للبكاء.
لمن منّا أهديت نسختك المزوّرة؟ وكلانا يملك نسخة دون توقيع؟
من منا أوهمته أنه يسكن الصفحات الداخلية للكتاب_ كما يسكن قلبك_ وأنه ليس في حاجة إلى إهداء؟
وهل صدّقك زياد.. هل صدّقك _هو أيضاً_ لدرجة أنه قرّر أن يأخذ معه هذه الرواية ليعيد قراءتها، حيث سيذهب.. هناك!
كانت تلك الصفحة البيضاء كافية لإدانتك. كانت تقول بالكلمات التي لم تكتب، أكثر مما كان يمكن أن تكتبي.. فهل كان مهماً بعد ذلك ألا أجد أية رسالة لك في تلك الحقيبة؟
لقد كنتِ امرأة تتقن الكتابة على بياض.. ووحدي كنت أعرف ذلك.
ما عدا روايتك لم أجد سوى مفكرة سوداء متوسطة الحجم موضوعة أسفل الحقيبة_أيضاً_ كسرّ عميق.
ما كدت أرفعها حتى وقعت منها "البطاقة البرتقالية" التي كان يستعملها زياد للتنقلّ بالميترو. داخلها قصاصة بتاريخ (أكتوبر) الشهر الأخير الذي رحل فيه.
أنظر على تلك البطاقة على عجل، وأنا لا أفكر إلا في الإطلاع على تلك المفكرة. ولكن صورته تستوقفني..
مربكة صور الموتى..
ومربكة أكثر صور الشهداء. موجعة دائماً. فجأة يصبحون أكثر حزناً وأكثر غموضاً من صورتهم.
فجأة.. يصبحون أجمل بلغزهم، ونصبح أبشع منهم.
فجأة.. نخاف أن نطيل النظر إليهم.
فجأة.. نخاف من صورنا القادمة ونحن نتأمّلهم!
كَمْ كان وسيماً ذاك الرجل.
تلك الوسامة الغامضة المخفيّة التي لا تفسير لها. ها هو حتى في صورة سريعة تلتقط له في ثلاث دقائق، بخمسة فرنكات، يمكنه أن يكون مميزا.
يمكنه أن يكون حتى بعد موته مغرياً، بذلك الحزن الغامض الساخر. وكأنه يسخر من لحظة كهذه.
وأفهم مرة أخرى أن تكوني أحببته. لقد أحببته قبلك بطريقة أخرى. كما نحب شخصاً نعجب به ونريد أن نشبهه، لسبب أو لآخر. فنكثر من الجلوس إليه والخروج برفقته والظهور معه. وكأننا نعتقد في أعماقنا أن الجمال والجنون والموهبة والصفات التي تبهرنا فيه قد تكون قابلة للعدوى والانتقال إلينا عن طريق المعاشرة.
أية فكرة حمقاء كانت تلك! لم أكتف أنها كانت سبب كارثتي إلا مؤخراً. عندما قرأت قولاً رائعاً لكاتب فرنسي (رسام أيضاً..) "لا تبحث عن الجمال..لأنك عندما تجده، تكون قد شوّهت نفسك!"
ولم أكن فعلت شيئاً غير هذه الحماقة.
أعدت بطاقته وصورته إلى الحقيبة، ورحت أقلّب تلك المفكرة..
كنت أشعر أنها تحمل شيئاً قد يفاجئني، قد يعكر مزاجي ويشرع الباب للعواصف المتأخرة عن مواسمها. فماذا تراه كتب في هذا الدفتر؟
كنت أدري أن الحقيقة تولد صغيرة دائماً. وكنت أشعر أن الحقيقة هنا كانت صغيرة في حجم مفكرة جيب. فخفت المفكرة..
بحثت عن سيجارة أشعلها. واستلقيت على ذلك السرير لأتصفح جرحي على مهل..
كانت الصفحات تتالى مليئة بالمقاطع الشعرية المبعثرة بين تاريخ وآخر. بالكتابات الهامشية.. ثم بقصائد أخرى تشغل وحدها أحياناً صفحتين أو ثلاثاً. ثم خواطر قصيرة من بضعة سطور مكتوبة وسط الصفحة بلون أحمر دائماً.. وكأنه كان يريد أن يميزها عن بقية ما كتب.
ربما لأنها لم تكن شعراً وربما لأنها كانت أهم من الشعر.
من أين أبدأ هذه المفكرة؟.. من أي مدخل أدخل هذه الدهاليز السرية لزياد، التي حلمت دائماً بالتسلل إليها عساني أكتشفك فيها؟
كانت العناوين تستوقفني، فأبدأ في قراءة قصيدة. أحاول فك لغز الكلمات المتقاطعة.. أبحث عنك وسط الرموز تارة، ووسط التفاصيل الأكثر اعترافاً أحياناً أخرى.
ثم لا ألبث أن أتركها وألهث مسرعاً إلى صفحة أخرى، بحثاً عن حجج أخرى، عن إيضاحات أكثر، عن كلمات تقول لي بالأسود والأبيض.. ما الذي حدث.
ولكنني كنت في الواقع على درجة من الانفعال والأحاسيس المتطرفة المتناقضة التي كانت تكاد تشلّ تفكيري، وتجعلني عاجزا عن التمييز بين ما أقرأ وما أتوهم قراءته.
كان منظر تلك الحقيبة المفتوحة أمامي بأشيائها المبعثرة، وبذلك الدفتر الأسود الصغير الذي كنت ممسكاً به تجعلني أخجل من نفسي في تلك اللحظة. وكأنني بفتحها لم أفعل شيئاً غير تشريح جثّة زياد المبعثرة بأشيائها وأشلائها على سريري، لأخرج منها هذا الدفتر الذي هو قلبه لا غير.
قلب زياد الذي نبض يوماً لك، والذي هاهو اليوم حتى بعد موته بواصل نبضه بين يديّ على وقع الكلمات المشحونة حسرة وخوفاً.. حزناً.. وشهوة..
"على جسدي مررّي شفتيك
فما مرّروا غير تلك السيوف عليّ
أشعليني أيا امرأة من لهب
يقرّبنا الحب يوماً
يباعدنا الموت يوماً
ويحكمنا حفنة من تراب..
تقرّبنا شهوة للجسد
ثم يوماً
يباعدنا الجرح لمّا يصير بحجم جسد
توحدت فيك
أيا امرأة من تراب ومرمر
سقيتك ثم بكيت وقلت..
أميرة عشقي..
أميرة موتي تعالي!؟