منتديات التاريخ المنسي
<div style="text-align: center;"><img src="https://i.servimg.com/u/f27/11/57/48/93/m0dy_n10.gif"><br></div>


منتديات التاريخ المنسي
<div style="text-align: center;"><img src="https://i.servimg.com/u/f27/11/57/48/93/m0dy_n10.gif"><br></div>

منتديات التاريخ المنسي
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات التاريخ المنسيدخول

التاريخ المنسي


descriptionالحلقة العاشرة من سلسلة ذاكرة الجسد Emptyالحلقة العاشرة من سلسلة ذاكرة الجسد

more_horiz
وهكذا بدأت ذلك الصباح لوحة لقنطرة جديدة، قنطرة سيدي راشد.
لم أكن أتوقع يومها وأنا أبدأها، أنني أبدأ أغرب تجربة رسم في حياتي، وأنها ستكون البداية لعشر لوحات أخرى، سأرسمها في شهر ونصف دون توقف، إلا لسرقة ساعات قليلة من النوم، أنهض منها غالباً مخطوفاً بشهية جنونية للرسم.
كانت الألوان تأخذ فجأة لون ذاكرتي، وتصبح نزيفاً يصعب إيقافه.
ما كنت أنتهي من لوحة حتى تولد أخرى، وما أنتهي من حيّ حتى يستيقظ آخر، وما أكاد أنتهي من قنطرة، حتى تصعد من داخلي أخرى..
كنت أريد أن أرضي قسنطينة حجراً.. حجراً، جسراً.. جسراً.. حياً.. حياً، كما يرضي عاشق جسد امرأة لم تعد له.
كنت أعبرها ذهاباً وإياباً بفرشاتي، وكأنني أعبرها بشفاهي. أقبّل ترابها.. وأحجارها وأشجارها ووديانها. أوزّع عشقي على مساحتها قُبلاً ملونة. أرشها بها شوقاً.. وجنوناً.. وحباً حتى العرق.
وكنت أسعد وذلك القميص يلتصق بي، بعد ساعات من الالتحام بها.
العرق دموع الجسد. ونحن في ممارسة الحب كما في ممارسة الرسم، لا نبكي جسدنا من أجل أية امرأة. ولا من أجل أية لوحة. الجسد يختار لمن يعرق.
وكنت سعيداً أن تكون قسنطينة، هي اللوحة التي بكى لها جسدي.
في ذلك الشهر الأخير من الصيف، كنت ما أزال أتوقع رسالة منك، تعطيني شيئاً من القوة والحماسة اللتين افتقدتهما خلال الشهرين الماضيين لغيابك. عندما فاجأتني رسالة من زياد.
كانت رسائله القادمة من بيروت تدهشني دائماً حتى قبل أن أفتحها.
كنت أتساءل كل مرة، كيف وصلت هذه الرسالة إلى هنا؟ من أي مخيم أو من أية جبهة، تحت أي سقف مدمر يكون قد كتبها؟ أي صندوق أودعها، وكم من ساعي بريد تناوب عليها حتى تصل هنا، داخل صندوق بريدي.. بالحي السادس عشر بباريس؟
كنت أعاملها دائماً بحب خاص. كانت تذكرني بزمن حرب التحرير، يوم كنا نبعث الرسائل لأهلنا مهربة تحت الثياب.
كم من الرسائل لم تصل، وماتت مع أصحابها! وكم من الرسائل وصلت بعد فوات الأوان. هنالك قصص تصلح لأكثر من رواية.
آخر رسالة لزياد كانت تعود لما يقارب السنة.
كان يحدث أن يكتب لي هكذا دون مناسبة، رسائل مطوّلة أحياناً، وموجزة أحياناً أخرى، كان يسمّيها "إشعار بالحياة".
في البدء ضحكت لهذه التسمية التي يريد أن يخبرني بها فقط أنه مازال على قيد الحياة.
بعدها أصبحت أخاف صمته الطويل، وانقطاع رسائله. فقد كان يحمل لي احتمال إشعار بشيء آخر.
هذه المرة، كان يريد أن يخبرني أنه قد يحضر إلى باريس في بداية أيلول. وأنه ينتظر جواباً سريعاً مني ليتأكد من وجودي في باريس في هذه الفترة.
فاجأتني رسالته.. وأسعدتني وأدهشتني.
ذهب تفكيري إليك وقلت "طويل عمر هذا الرجل.. ما كدت أذكره معكِ حتى حضر". ثم تساءلت تراك قرأت أشعاره؟ وهل أعجبتك؟ وماذا سيكون رد فعلك إذا قلت لك إنه سيحضر إلى باريس، أنت التي خفت أن يكون قد مات، وأبديت اهتماماَ بقصته؟
كان الصيف ينسحب تدريجياً. وكنت أستعيد توازني تدريجياً كذلك.
لقد أنقذتني تلك اللوحات من الانهيار. كان لا بد أن أرسمها لأخرج من تلك المطبات الجنونية التي وضعت عليها قدميّ معك.
كنت قد فقدت كثيراً من وزني. ولكن لم يكن ذلك يعنيني. أو ربما لم أكن وقتها لأنتبه له، بعدما أصبحت أنظر إلى اللوحات، وأنسى أن أنظر إلى نفسي في مرآة.
كنت أعتقد أن الذي خسرته من وزن في أيام، هو الذي ربحته من مجد إلى الأبد. ولذا كان يحلو لي أن أتأمل نزيفي وجنوني معلّقاً أمامي: إحدى عشرة لوحة لم تعد تكفيها جدران البيت.
وربما جاء تعلّقي بها، كذلك، لكوني كنت أدري وأنا أضع فرشاتي لآخر مرة وأنا أنتهي منها، أنه قد تمر عدة أشهر قبل أن أشعر برغبة جديدة في الرسم.
فقد كنت فرغت مرة واحدة من ذاكرتي.. وارتحت.
كنا على أبواب أيلول. وكنت سعيدا أو ربما في حالة ترقّب للسعادة.
ستعودين أخيراً.. كنت أنتظر الخريف كما لم أنتظره من قبل. كانت الثياب الشتوية المعروضة في الواجهات تعلن عودتك. اللوازم المدرسية التي تملأ رفوف المحلات، تعلن عودتك.
والريح، والسماء البرتقالية.. والتقلبات الجوية.. كلها كانت تحمل حقائبك.
ستعودين..
مع النوء الخريفي، مع الأشجار المحمرة، مع المحافظ المدرسية.
ستعودين..
مع الأطفال العائدين إلى المدارس، مع زحمة السيارات، مع مواسم الإضرابات، مع عودة باريس إلى ضوضائها.
مع الحزن الغامض.. مع المطر.
مع بدايات الشتاء.. مع نهايات الجنون.




ستعودين لي.. يا معطفي الشتوي.. يا طمأنينة العمر المتعب.. يا أحطاب الليالي الثلجية.
أكنت أحلم؟. كيف نسيت تلك المقولة الرائعة لأندريه جيد "لا تهيئ أفراحك!" كيف نسيت نصيحة كهذه؟
كنتِ في الواقع امرأة زوبعة. تأتي وترحل وسط الأعاصير والدمار. كنتِ معطفاً لغيري وبرداً لي.
كنتِ الأحطاب التي أحرقتني بدل أن تدفئني.
كنت أنتِ.
وكنت أنتظر أيلول إذن..
أنتظر عودتك لنتحدث أخيراً بصدق مطلق. ماذا تريدين مني بالتحديد. ومن أكون أنا بالنسبة إليك.. وما اسم قصتنا هذه؟
أخطأت مرة أخرى.
لم يكن الوقت للسؤال ولا للجواب. كان وقتا لجنون آخر.
كنت أنتظر الأمان. وجئت، زوبعة صادفت زوبعة أخرى، اسمها زياد..
وكانت الأعاصير.
لم يتغير زياد منذ آخر مرة رأيته فيها، منذ خمس سنوات بباريس. ربما أصبح فقط أكثر امتلاءً، أكثر رجولة مع العمر، من ذلك الوقت الذي زارني فيه لأول مرة في الجزائر سنة 1972 في مكتبي. يوم كان شاباً فارعاً بوزن أقل، وربما بهموم أقل أيضاً.
مازال شعره مرتباً بفوضوية مهذبة. وقميصه المتمرد الذي لم يتعود يوماً على ربطة عنق، مفتوحاً دائماً بزرٍ أو زرين. وصوته المميز دفئاً وحزناً، يوهمك أنه يقرأ شعراً، حتى عندما يقول أشياء عادية. فيبدو وكأنه شاعر أضاع طريقه وأنه يوجد خطأ حيث هو.
في كل مدينة قابلته فيها، شعرت أنه لم يصل بعد إلى وجهته النهائية، وأنه يعيش على أهبة سفر.
كان حتى عندما يجلس على كرسي يبدو جالساً على حقائبه. لم يكن يوماً مرتاحاً حيث كان، وكأن المدن التي يسكنها محطات ينتظر فيها قطاراً لا يدري متى يأتي.
ها هو ذا.. كما تركته، محاطاً بأشيائه الصغيرة ومحملاً بالذاكرة، ومرتدياً سروال الجينز نفسه، كأنه هويته الأخرى.
كان زياد يشبه المدن التي مر بها. فيه شيء من غزّة، من عمان.. ومن بيروت وموسكو.. ومن الجزائر وأثينا.
كان يشبه كلّ من أحب. فيه شيء من بوشكين، من السيّاب.. من الحلاج، من ميشيما.. من غسان كنفاني.. ومن لوركا وتيودوراكيس.
ولأنني كثيراً ما قاسمت زياد ذاكرته، حدث أن أحببت كل ما أحب ومن أحب، دون أن أدري.
كنت في حاجة إليه في تلك الأيام.
شعرت وأنا أستقبله، أنني افتقدته طوال هذه السنوات دون أن أدري، وأنني بعده لم ألتقِ بشخصٍ يمكن أن أدعوه صديقاً.
ها هو زياد. باعدتنا الأيام وباعدتنا القارات. ووحدها قناعاتنا القديمة ظلّت تجمعنا.
ولذلك لم تزل في القلب مكانته الأولى. فلم يحدث لزياد أن فقد احترامي لسبب أو لآخر خلال كل هذه السنوات.
أليس هذا أمراً نادراً هذه الأيام؟
جاء زياد..
واستيقظ البيت الذي ظلّ مغلقاً لشهرين في وجه الآخرين،حتى في وجه كاترين نفسها.
راح زياد يملأه بحضوره، بأشيائه وفوضاه، بضحكته العالية أحياناً، وبحضوره السري الغامض دائماً. فأكاد أشكره فقط، لأنه أشرع نوافذ هذا البيت، واحتل غرفة من غرفه.. وربما احتلّه كله.
عُدنا تلقائياً إلى عاداتنا القديمة التي تعود إلى خمس سنوات، عندما زارني لأول مرة في باريس.
رحنا من جديد إلى المطاعم نفسها تقريباً. جلسنا وتحدثنا في الموضوعات نفسها تقريباً، فلا شي تغيّر منذ ذلك الحين. لم يسقط نظامٌ عربي واحد من تلك الأنظمة التي كان زياد يراهن على سقوطها منذ عرفته. لم يحدث أيّ زلزال سياسي هنا أو هناك، ليغيّر خريطة هذه الأمة.
وحده لبنان أصبح وطناً للزلازل والرمال المتحركة. ولكن من تراه سيبتلع في النهاية؟

descriptionالحلقة العاشرة من سلسلة ذاكرة الجسد Emptyرد: الحلقة العاشرة من سلسلة ذاكرة الجسد

more_horiz
كان هذا هو السؤال الذي حاولنا أن نتنبأ به بأكثر من جواب. وكان النقاش يصبّ في النهاية دائماً في القضية الفلسطينية، وفي خلافات فصائلها، والمعارك التي حدثت بين عناصرها في لبنان، والتصفيات الجسدية التي راح ضحيتها أكثر من اسم فلسطيني في الخارج.
كان حديث زياد ينتهي كالعادة بشتم تلك الأنظمة التي تشتري مجدها بالدم الفلسطيني، تحت أسماء مستعارة كالرفض والصمود.. والمواجهة. فينعتها في فورة غضبه بكل النعوت الشرقية البذيئة، التي أضحك لها وأنا أكتشف بعضها لأول مرة.
وأكتشف أيضاً أن لكل ثوّار قاموسهم الخاص، الذي تفرزه ثورتهم ومعايشتهم الخاصة، فأستعيد بحنين، مفردات أخرى لزمنٍ آخر وثورة أخرى.
ربما كان هذا الأسبوع هو أجمل الأيام التي قضيتها مع زياد، والتي حاولت بعد ذلك ولعدة سنوات ألا أذكر غيرها، حتى لا أشعر بالمرارة ولا بالحسرة على كل ما عشته بعدها عن خطأ أو عن صواب.
كل ما مرّ بي من ألم.. من غيرة ومن صدمات، وأنا أضعكما ذات يوم هكذا وجهاً لوجه، دون أية مقدمات أو توضيحات خاصة..
له قلت: "سنتغدّى غدا مع صديقة كاتبة.. لا بد أن أعرفك عليها..".
لم يبد عليه اهتمام خاص بكلامي. قال على طريقته الخاصة وهو يعود لقراءة جريدته: " أنا أكره النساء عندما يحاولن ممارسة الأدب تعويضاً عن ممارسات أخرى.. أتمنى ألا تكون صديقتك هذه عانساً، أو امرأة في سن اليأس.. فأنا لا صبر لي على هذا النوع من النساء!"
لم أجبه. رحت أتعمق في فكرته.. وأبتسم!
على الهاتف قلت لك: "تعالي غداً للغداء في ذلك المطعم نفسه.. فأنا أحمل لك مفاجأة لا تتوقعينها.."
قلتِ:
"إنها لوحتي.. أليس كذلك؟"
أجبتك بعد شيء من التردد: "لا.. إنها شاعر!"
***
التقيتما إذن..
ويمكن أن أقول هذه المرة أيضاً:
"الذين قالوا وحدها الجبال لا تلتقي أخطأوا. والذين بنوا بينها جسوراً لتتصافح دون أن تنحني، لا يفهمون شيئاً في قوانين الطبيعة.
الجبال لا تلتقي إلا في الزلازل والهزات الأرضية الكبرى. وعندها لا تتصافح، بل تتحول إلى تراب واحد".
التقيتما إذن.. وكان كلاكما بركاناً.. فأين العجب، إذا كنت هذه المرة أيضاً أنا الضحية!
مازلت أذكر ذلك اليوم..




وصلتِ متأخرة بعض الشيء، وكنت مع زياد قد طلبنا مشروباً في انتظارك..
ودخلتِ..
كان زياد يحدّثني عن شيء ما عندما صمت فجأة، وتوقفت عيناه عليك وهو يراك تجتازين باب المطعم.
فاستدرت بدوري نحو الباب.. ورأيتك تتقدّمين نحونا في ثوبٍ أخضر.. أنيقة، مغرية، كما لم تكوني يوماً.
وقف زياد ليسلّم عليك وأنت تقتربين منّا. وبقيت أنا من دهشتي جالساً. كان من الواضح أنه لم يتوقّعك هكذا.
ها أنت ذي أخيراً..
أحسست أن شيئاً ما يسمّرني إلى ذلك الكرسي، وكأن تعب كلّ الأسابيع الماضية، وكلّ عذابي بعدك قد نزل عليّ فجأة، ومنع رجليّ من الوقوف.
ها أنت ذي أخيراً.. أهذه أنت حقاً!؟
وقبل أن أفكر في تعريفكما ببعض، كنتِ قد قدّمت نفسك لزياد، وكان هو بدوره على وشك أن يعرّفك بنفسه عندما قاطعته قائلة:
- دعني أحزر.. ألست زياد خليل؟
ووقف زياد مدهوشاً قبل أن يسألك:
- كيف عرفتِ؟
استدرتِ نحوي عندئذٍ وكأنك تكتشفين وجودي هناك، فوضعت قبلتين على خدّي وقلت وأنت توجّهين الحديث إليه:
- أنت تملك شبكة إعلان قوية في شخص هذا الرجل..
ثم سألتني وأنت تتفحّصين ملامحي:
- لقد تغيرت بعض الشيء.. ما الذي حدث لك في هذه العطلة؟
تدخّل زياد ليقول ساخراً:
- لقد رسم إحدى عشرة لوحة في شهر ونصف.. إنه لم يفعل شيئاً غير هذا. نسي حتى أن يأكل ونسي أن ينام.. أعتقد أنني لو لم أحضر إلى باريس لمات هذا الرجل الذي أمامك جوعاً وإعياءً وسط لوحاته.. كما لم يعد الرسامون يموتون اليوم!
وبدل أن تسأليني سألت زياد بشيء من الذعر، وكأنك كنت تخافين أن أكون قد رسمت إحدى عشرة نسخة من صورتك:
- ماذا رسم؟
أجابك زياد بابتسامة وجّهها إليّ:
- لقد رسم قسنطينة.. لا شيء سوى قسنطينة.. وكثيراً من الجسور..
صحتِ وأنت تسحبين كرسياً وتجلسين:
- لا.. أرجوكم لا تحدثوني عن قسنطينة مرة أخرى.. إنني عائدة تواً منها. إنها مدينة لا تطاق.. إنها الوصفة المثالية لكي ينتحر المرء أو يصبح مجنوناً!
ثم وجّهتِ كلامك إليّ:
- متى تشفى أنت من هذه المدينة؟
كان يمكن أن أقول لك لو كنا على انفراد "يوم أشفى منك!"
ولكن زياد أجاب ربما نيابة عني:
- نحن لا نشفى من ذاكرتنا يا آنستي.. ولهذا نحن نرسم.. ولهذا نحن نكتب.. ولهذا يموت بعضنا أيضاً..
رائع زياد.. كان مدهشاً وشاعراً في كل شيء.
كان يقول شعراً دون جهد. ويحب ويكره دون جهد. ويغري دون جهد.
كنت أنظر إليه وهو يسألك "أنتِ جزائرية إذن؟". ولا أستمع لما تقولينه له.
بدا لي في تلك اللحظة أن الحديث كان يدور بينكما فقط، وأنني لم أقل كلمة واحدة منذ قدومك.
كنت طرفاً فقط في تلك الجلسة الغريبة للقدر.
كنت أنظر إليك.. وأبحث في تفاصيلك عن شرح لما حلّ بي.
سألتك يوماً: "ما هو أجمل شيء فيك؟"
ابتسمت بإيماء غامض ولم تجيبي.
لم تكوني الأجمل، كنت الأشهى. فهل هناك من تفسيرٍ للرغبة!
ربما كان زياد يشبهك أيضاً..
اكتشفت ذلك مع مرور الأيام، وأنا أنظر إليكما وأنتما تتحدثان أمامي كلّ مرة.
كان أيضاً شي من السحر الغامض فيه.. من الجاذبية التي لا علاقة لها بالجمال. وكانت فكرة تشابهكما أو تطابقكما هذه تزعجني.. بل وأزعجتني ربما من اللحظة الأولى. عندما نبّهتني إلى تدهور صحتي وشحوب لوني، بينما كنت أراكما أمامي في صحّة وتألق مثير للغيرة.
ترى بدأت الغيرة تتسلل إلي اللحظة.. وأنا أكتشف أنني لست سوى شبح بينكما، ووجه حشر خطأ في لوحتكما الثنائية؟
لم تَتَنَبّهي يومها أنني وصلت إلى تلك الحالة بسببك. ولذا لم تعتذري لي، بل وأكثر من ذلك كنت تتحدثين قليلاً إليّ.. وكثيراً إليه.
قلتِ له:
- لقد أحببت ديوانك الأخير "مشاريع للحب القادم"؛ لقد ساعدني شيئاً ما على تحمل هذه العطلة البائسة. هنالك مقاطع منه حفظتها لفرط ما أعدت قراءتها..

descriptionالحلقة العاشرة من سلسلة ذاكرة الجسد Emptyرد: الحلقة العاشرة من سلسلة ذاكرة الجسد

more_horiz
كان هذا هو السؤال الذي حاولنا أن نتنبأ به بأكثر من جواب. وكان النقاش يصبّ في النهاية دائماً في القضية الفلسطينية، وفي خلافات فصائلها، والمعارك التي حدثت بين عناصرها في لبنان، والتصفيات الجسدية التي راح ضحيتها أكثر من اسم فلسطيني في الخارج.
كان حديث زياد ينتهي كالعادة بشتم تلك الأنظمة التي تشتري مجدها بالدم الفلسطيني، تحت أسماء مستعارة كالرفض والصمود.. والمواجهة. فينعتها في فورة غضبه بكل النعوت الشرقية البذيئة، التي أضحك لها وأنا أكتشف بعضها لأول مرة.
وأكتشف أيضاً أن لكل ثوّار قاموسهم الخاص، الذي تفرزه ثورتهم ومعايشتهم الخاصة، فأستعيد بحنين، مفردات أخرى لزمنٍ آخر وثورة أخرى.
ربما كان هذا الأسبوع هو أجمل الأيام التي قضيتها مع زياد، والتي حاولت بعد ذلك ولعدة سنوات ألا أذكر غيرها، حتى لا أشعر بالمرارة ولا بالحسرة على كل ما عشته بعدها عن خطأ أو عن صواب.
كل ما مرّ بي من ألم.. من غيرة ومن صدمات، وأنا أضعكما ذات يوم هكذا وجهاً لوجه، دون أية مقدمات أو توضيحات خاصة..
له قلت: "سنتغدّى غدا مع صديقة كاتبة.. لا بد أن أعرفك عليها..".
لم يبد عليه اهتمام خاص بكلامي. قال على طريقته الخاصة وهو يعود لقراءة جريدته: " أنا أكره النساء عندما يحاولن ممارسة الأدب تعويضاً عن ممارسات أخرى.. أتمنى ألا تكون صديقتك هذه عانساً، أو امرأة في سن اليأس.. فأنا لا صبر لي على هذا النوع من النساء!"
لم أجبه. رحت أتعمق في فكرته.. وأبتسم!
على الهاتف قلت لك: "تعالي غداً للغداء في ذلك المطعم نفسه.. فأنا أحمل لك مفاجأة لا تتوقعينها.."
قلتِ:
"إنها لوحتي.. أليس كذلك؟"
أجبتك بعد شيء من التردد: "لا.. إنها شاعر!"
***
التقيتما إذن..
ويمكن أن أقول هذه المرة أيضاً:
"الذين قالوا وحدها الجبال لا تلتقي أخطأوا. والذين بنوا بينها جسوراً لتتصافح دون أن تنحني، لا يفهمون شيئاً في قوانين الطبيعة.
الجبال لا تلتقي إلا في الزلازل والهزات الأرضية الكبرى. وعندها لا تتصافح، بل تتحول إلى تراب واحد".
التقيتما إذن.. وكان كلاكما بركاناً.. فأين العجب، إذا كنت هذه المرة أيضاً أنا الضحية!
مازلت أذكر ذلك اليوم..




وصلتِ متأخرة بعض الشيء، وكنت مع زياد قد طلبنا مشروباً في انتظارك..
ودخلتِ..
كان زياد يحدّثني عن شيء ما عندما صمت فجأة، وتوقفت عيناه عليك وهو يراك تجتازين باب المطعم.
فاستدرت بدوري نحو الباب.. ورأيتك تتقدّمين نحونا في ثوبٍ أخضر.. أنيقة، مغرية، كما لم تكوني يوماً.
وقف زياد ليسلّم عليك وأنت تقتربين منّا. وبقيت أنا من دهشتي جالساً. كان من الواضح أنه لم يتوقّعك هكذا.
ها أنت ذي أخيراً..
أحسست أن شيئاً ما يسمّرني إلى ذلك الكرسي، وكأن تعب كلّ الأسابيع الماضية، وكلّ عذابي بعدك قد نزل عليّ فجأة، ومنع رجليّ من الوقوف.
ها أنت ذي أخيراً.. أهذه أنت حقاً!؟
وقبل أن أفكر في تعريفكما ببعض، كنتِ قد قدّمت نفسك لزياد، وكان هو بدوره على وشك أن يعرّفك بنفسه عندما قاطعته قائلة:
- دعني أحزر.. ألست زياد خليل؟
ووقف زياد مدهوشاً قبل أن يسألك:
- كيف عرفتِ؟
استدرتِ نحوي عندئذٍ وكأنك تكتشفين وجودي هناك، فوضعت قبلتين على خدّي وقلت وأنت توجّهين الحديث إليه:
- أنت تملك شبكة إعلان قوية في شخص هذا الرجل..
ثم سألتني وأنت تتفحّصين ملامحي:
- لقد تغيرت بعض الشيء.. ما الذي حدث لك في هذه العطلة؟
تدخّل زياد ليقول ساخراً:
- لقد رسم إحدى عشرة لوحة في شهر ونصف.. إنه لم يفعل شيئاً غير هذا. نسي حتى أن يأكل ونسي أن ينام.. أعتقد أنني لو لم أحضر إلى باريس لمات هذا الرجل الذي أمامك جوعاً وإعياءً وسط لوحاته.. كما لم يعد الرسامون يموتون اليوم!
وبدل أن تسأليني سألت زياد بشيء من الذعر، وكأنك كنت تخافين أن أكون قد رسمت إحدى عشرة نسخة من صورتك:
- ماذا رسم؟
أجابك زياد بابتسامة وجّهها إليّ:
- لقد رسم قسنطينة.. لا شيء سوى قسنطينة.. وكثيراً من الجسور..
صحتِ وأنت تسحبين كرسياً وتجلسين:
- لا.. أرجوكم لا تحدثوني عن قسنطينة مرة أخرى.. إنني عائدة تواً منها. إنها مدينة لا تطاق.. إنها الوصفة المثالية لكي ينتحر المرء أو يصبح مجنوناً!
ثم وجّهتِ كلامك إليّ:
- متى تشفى أنت من هذه المدينة؟
كان يمكن أن أقول لك لو كنا على انفراد "يوم أشفى منك!"
ولكن زياد أجاب ربما نيابة عني:
- نحن لا نشفى من ذاكرتنا يا آنستي.. ولهذا نحن نرسم.. ولهذا نحن نكتب.. ولهذا يموت بعضنا أيضاً..
رائع زياد.. كان مدهشاً وشاعراً في كل شيء.
كان يقول شعراً دون جهد. ويحب ويكره دون جهد. ويغري دون جهد.
كنت أنظر إليه وهو يسألك "أنتِ جزائرية إذن؟". ولا أستمع لما تقولينه له.
بدا لي في تلك اللحظة أن الحديث كان يدور بينكما فقط، وأنني لم أقل كلمة واحدة منذ قدومك.
كنت طرفاً فقط في تلك الجلسة الغريبة للقدر.
كنت أنظر إليك.. وأبحث في تفاصيلك عن شرح لما حلّ بي.
سألتك يوماً: "ما هو أجمل شيء فيك؟"
ابتسمت بإيماء غامض ولم تجيبي.
لم تكوني الأجمل، كنت الأشهى. فهل هناك من تفسيرٍ للرغبة!
ربما كان زياد يشبهك أيضاً..
اكتشفت ذلك مع مرور الأيام، وأنا أنظر إليكما وأنتما تتحدثان أمامي كلّ مرة.
كان أيضاً شي من السحر الغامض فيه.. من الجاذبية التي لا علاقة لها بالجمال. وكانت فكرة تشابهكما أو تطابقكما هذه تزعجني.. بل وأزعجتني ربما من اللحظة الأولى. عندما نبّهتني إلى تدهور صحتي وشحوب لوني، بينما كنت أراكما أمامي في صحّة وتألق مثير للغيرة.
ترى بدأت الغيرة تتسلل إلي اللحظة.. وأنا أكتشف أنني لست سوى شبح بينكما، ووجه حشر خطأ في لوحتكما الثنائية؟
لم تَتَنَبّهي يومها أنني وصلت إلى تلك الحالة بسببك. ولذا لم تعتذري لي، بل وأكثر من ذلك كنت تتحدثين قليلاً إليّ.. وكثيراً إليه.
قلتِ له:
- لقد أحببت ديوانك الأخير "مشاريع للحب القادم"؛ لقد ساعدني شيئاً ما على تحمل هذه العطلة البائسة. هنالك مقاطع منه حفظتها لفرط ما أعدت قراءتها..

descriptionالحلقة العاشرة من سلسلة ذاكرة الجسد Emptyرد: الحلقة العاشرة من سلسلة ذاكرة الجسد

more_horiz
شكرااااااا الحلقة العاشرة من سلسلة ذاكرة الجسد 624285

descriptionالحلقة العاشرة من سلسلة ذاكرة الجسد Emptyرد: الحلقة العاشرة من سلسلة ذاكرة الجسد

more_horiz
شكراااااا

descriptionالحلقة العاشرة من سلسلة ذاكرة الجسد Emptyرد: الحلقة العاشرة من سلسلة ذاكرة الجسد

more_horiz
يعطيك العافية اخوي كروش

descriptionالحلقة العاشرة من سلسلة ذاكرة الجسد Emptyرد: الحلقة العاشرة من سلسلة ذاكرة الجسد

more_horiz
الحلقة العاشرة من سلسلة ذاكرة الجسد 1893833ks13w4s76r

descriptionالحلقة العاشرة من سلسلة ذاكرة الجسد Emptyرد: الحلقة العاشرة من سلسلة ذاكرة الجسد

more_horiz
شكرااااااااااا

descriptionالحلقة العاشرة من سلسلة ذاكرة الجسد Emptyرد: الحلقة العاشرة من سلسلة ذاكرة الجسد

more_horiz
شكرا و يعطيك الف عافية

descriptionالحلقة العاشرة من سلسلة ذاكرة الجسد Emptyرد: الحلقة العاشرة من سلسلة ذاكرة الجسد

more_horiz
مجهود راااائع

مرسي كروش
privacy_tip صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
power_settings_newقم بتسجيل الدخول للرد