كنا نكتشف بصمت أننا نتكامل بطريقة مخيفة. كنت أنا الماضي الذي تجهلينه، وكنتِ أنت الحاضر الذي لا ذاكرة له، والذي أحاول أن أودعه بعض ما حمّلتني السنوات من ثقل.
كنتِ فارغة كإسفنجة، وكنت أنا عميقاً ومثقلاً كبحر.
رحت تمتلئين بي كلّ يومٍ أكثر..
كنت أجهل ساعتها أنني كنت كلما فرغت امتلأت بك أيضاً، وأنني كلما وهبتك شياً من الماضي، حوّلتك إلى نسخة منّي. وإذا بنا نحمل ذاكرة مشتركة، طرقاً وأزقة مشتركة، وأفراحاً وأحزاناً مشتركة كذلك. فقد كنَّا معاً معطوبي حرب، وضعتنا الأقدار في رحاها التي لا ترحم، فخرجنا كلُّ بجرحه.
كان جرحي واضحاً و جرحك خفياً في الأعماق. لقد بتروا ذراعي، وبتروا طفولتك. اقتلعوا من جسدي عضواً.. وأخذوا من أحضانك أبا.. كنَّا أشلاء حرب.. وتمثالين محطّمين داخل أثواب أنيقة لا غير.
أذكر ذلك اليوم الذي طلبت فيه مني لأول مرة، أن أحدَّثك عن أبيك. واعترفت بشيء من الارتباك، أنَّك جئت لزيارتي من البدء.. بهذه النية فقط. كان في صوتك شيء من الحزن المكابر.. شي من المرارة التي اكتشفتها فيك لأول مرة.
قلت:
- ما فائدة أن يمنح اسم أبي لشارع كبير، وأن أحمل ثقل اسمه الذي يردده أمامي المارة والغرباء عدة مرات في اليوم. ما فائدة ذلك إذا كنت لا أعرف عنه أكثر مما يعرفون، وإذا كان لا يوجد بينهم شخص واحد قادر على أن يحدّثني عنه حقاً؟
قلت لك متعجباً:
- ألم يحدثك عنه عمّك مثلاً؟
قلت:
- عمّي لا وقت له لهذا.. وعندما يحدث أن يذكره أمامي، يأتي كلامه وكأنه أقرب لخطبة تأبينية يتوجه بها لغرباء يستعرض أمامهم مآثر أخيه، ولا يتوجه فيها إليّ ليحدثني عن رجل هو أبي قبل كلّ شي..
الذي أريد أن أعرفه عن أبي، ليس تلك الجمل الجاهزة لتمجيد الأبطال والشهداء، والتي تقال في كلّ مناسبة عن الجميع؛ وكأنَّ الموت سوّى فجأة بين كلّ الشهداء، فأصبحوا جميعاً نسخة طبق الأصل.
يهمني أن أعرف شيئاً عن أفكاره.. بعض تفاصيل حياته.. أخطاءه وحسناته.. طموحاته السرية.. هزائمه السرية. لا أريد أن أكون ابنة لأسطورة، الأساطير بدعة يونانية. أريد أن أكون ابنة لرجل عادي بقوّته وبضعفه، بانتصاراته وبهزائمه. ففي حياة كلّ رجل خيبة ما وهزيمة ما، ربما كانت سبباً في انتصار آخر.
حلّ شيء من الصمت بيننا..
كنت أتأملك وأغوص في أعماق نفسي. رحت أبحث عن الحدّ الفاصل بين هزائمي وانتصاراتي. لم أكن في تلك اللحظة نبيّاً، ولا كنت أنت آلهة إغريقية.. كنّا فقط تمثالين أثريين قديمين محطمَي الأطراف، يحاولان ترميم أجزائهما بالكلمات. فرحت أستمع إليك وأنت ترمِّمين ما في أعماقك من دمار.
قلت:
- يحدث أن أشعر أنني ابنة لرقم فقط، رقم بين مليون ونصف مليون رقم آخر. ربما كان بعضها أكبر أو أصغر، ربما كتب اسم بعضها بخط أكبر أو أصغر من خطّ آخر، ولكنها جميعاً أرقام لمأساة ما.
وأضفتِ:
- أن يكون أبي أورثني اسماً كبيراً، هذا لا يعني شيئاً. لقد أورثني مأساة في ثقل اسمه، وأورث أخي الخوف الدائم من السقوط، والعيش مسكوناً بهاجس الفشل، وهو الابن الوحيد للطاهر عبد المولى الذي ليس من حقه أن يفشل في الدراسة ولا في الحياة، لأنه ليس من حق الرموز أن تتحطم. والنتيجة، أنه تخلى عن دراسته الجامعية وهو يكتشف عبثية تكديس الشهادات، في زمن يكدّس فيه الآخرون الملايين. ربما كان على حق، فالشهادات هي آخر ما يمكن أن يوصلك اليوم إلى وظيفة محترمة.
لقد رأى أصدقاءه الذين تخرجوا قبله، ينتقلون مباشرة إلى البطالة أو إلى موظَّفين برواتب وأحلام محدودة، فقرَر أن ينتقل إلى التجارة. ورغم أنني أشاطره رأيه، إلا أنه يحزنني أن يتحول أخي وهو في عزّ شبابه، إلى تاجر صغير يدير محلاً تجارياً وشاحنة وهبتها له الجزائر كامتياز بصفته ابن شهيد. لا أعتقد أن أبي كان يتوقَّع له مستقبلاً كهذا!
قاطعتك في محاولة لتخفيف تذمرك:
- إنه لم يتوقع أيضاً لك مستقبلاً كهذا. لقد ذهبت أبعد من أحلامه؛ إنك الوريثة لكلّ طموحاته ومبادئه. كان رجلاً يقدّس العلم والمعرفة، ويعشق العربية، ويحلم بجزائر لا علاقة لها بالخرافات والعادات البالية التي أرهقت جيله وقضت عليه. إنك لا تعين أن يكون لك اليوم هذا الحظ الاستثنائي، في وطن يمنحك فرصة أن تكوني فتاة مثقَّفة، يمكنها الدراسة والعمل وحتى الكتابة..
أجبت بشيء من السخرية:
- قد أكون مدينة للجزائر بثقافتي أو بعلمي، ولكن الكتابة شي آخر لم يمنّ به أحد عليّ. نحن نكتب لنستعيد ما أضعناه وما سرق خلسة منّا.. كنت أفضِل أن تكون لي طفولة عادية وحياة عادية، أن يكون لي أب وعائلة كالآخرين؛ وليس مجموعة من الكتب وجزمة من الدفاتر. ولكن أبي أصبح ملكاً لكل الجزائر، ووحدها الكتابة أصبحت ملكي.. ولن يأخذها منِّي أحد!
أذهلني كلامك. ملأني بأحاسيس متناقضة. أحزنني، ولكنه لم يوصلني إلى حد الشفقة عليك. إنَّ امرأة ذكية لا تثير الشفقة. إنها دائماً تثير الإعجاب حتى في حزنها. وكنت معجباً بك، بجرحك المكابر، بطريقتك الاستفزازية في تحدّي هذا الوطن. كنت تشبهينني أنا الذي كنت أرسم بيد لأستعيد يدي الأخرى. كنت أفضِّل لو بقيت رجلاً عاديا بذراعين اثنتين، لأقوم بأشياء عادية يومية، ولا أتحول إلى عبقري بذراع واحدة، لا تتأبط غير الرسوم واللوحات.
لم يكن حلمي أن أكون عبقرياً ولا نبياً ولا فناناً رافضاً ومرفوضاً. لم أجاهد من أجل هذا. كان حلمي أن تكون لي زوجة وأولاد، ولكن القدر أراد لي حياة أخرى، فإذا بي أب لأطفال آخرين وزوج للغربة والفرشاة.. لقد بتروا أيضاً أحلامي.
قلت لك:
- لن يأخذ أحد منك الكتابة.. إن ما في أعماقنا هو لنا ولن تطوله يد أحد.
قلتِ:
- ولكن ليس في أعماقي شيء سوى الفراغات المحشوة بقصاصات الجرائد.. بنشرات الأخبار، وبكتب ساذجة ليس بيني وبينها من قرابة.
ثم أضفت وكأنك تودعينني سراً:
- أتدري لماذا كنت أحبّ جدّتي أكثر من أي شخص آخر.. وأكثر حتى من أمّي؟ إنها الوحيدة التي كانت تجد متسعاً من الوقت لتحدِّثني عن كلِّ شيء.. كانت تعود إلى الماضي تلقائياً، وكأنها ترفض الخروج منه. كانت تلبس الماضي.. تأكل الماضي.. ولا تطرب سوى لسماع أغانيه.
كانت تحلم بالماضي في زمن كان الآخرون يحلمون فيه بالمستقبل. ولذا كثيراً ما تحدّثني عن أبي دون أن أطلب منها ذلك، فقد كان أجمل ما في ماضيها الأنثوي العابر. وكانت لا تتعب من الحديث عنه، كأنها تستعيده بالكلمات وتستحضره. كانت تفعل ذلك بحسرة الأم التي ترفض أن تنسى أنها فقدت بكرها إلى الأبد.. ولكنها لم تكن تقول لي عنه أكثر مما تقوله أم عن ابنها. كان الطاهر هو الأجمل.. هو الأروع.. هو الابن البارّ الذي لم يجرحها يوماً بكلمة.
يوم الاستقلال بكت جدّتي كما لم تبك يوماً. سألتها "أمّا.. لماذا تبكين وقد استقلَّت الجزائر؟" قالت: "كنت في الماضي أنتظر الاستقلال ليعود لي الطاهر، اليوم أدركت أنني لم أعد أنتظر شيئاً".
يوم مات أبي لم تزغرد جدّتي كما في قصص الثورة الخياليّة التي قرأتها فيما بعد. وقفت في وسط الدار وهي تشهق بالبكاء وتنتفض عارية الرأس مرددة بحزن بدائي: " يا وخيدتي.. يا سوادي.. آه الطاهر أحنَاني لمن خلّيتني.. نروح عليك أطراف".
وكانت أمي تبكي بصمت وهي تحاول تهدئتها، وكنت أنا أتفرج عليهما وأبكي دون أن أفهم تماماً أنني أبكي رجلاً لم أره سوى مرَّات.. رجلاً كان أبي.
لماذا كان ذكرك لـ ( أمّا الزهرة) يثير دائماً فيّ تلك العواطف الغامضة، التي كانت جميلة ودافئة قبل ذلك اليوم، والتي أصبحت فجأة موجعة حدّ البكاء؟
مازلت أذكر ملامح تلك العجوز الطيبة التي أحبّتني بقدر ما أحببتها والتي قضيت طفولتي وصباي متنقلاً بين بيتها وبيتنا. كان لتلك المرأة طريقة واحدة في الحبّ، اكتشفت بعدها أنها طريقة مشتركة لكلّ الأمهات عندنا. إنها تحبّك بالأكل، فتعد من أجلك طبقك المفضل وتلاحقك بالأطعمة، وتحمّلك بالحلويات، وبالكسرة والرخسيس الذي انتهت لتوِّها من إعداده.
لقد كانت تنتمي لجيل من النساء نذرن حياتهنَّ للمطبخ، ولذا كنّ يعشن الأعياد والأعراس كوليمة حبّ، يهبن فيها من جملة ما يهبن فائض أنوثتهنَّ.. وحنانهنَ وجوع سرّي لم يجد له من تعبير آخر خارج الأكل.
لقد كنَّ في الوقع يطعمن كل يوم أكثر من مائدة.. وأكثر من "ترّاس".. وينمن كل ليلة دون أن ينتبه أحد إلى جوعهنّ المتوارث من عصور..اكتشفت هذه الحقيقة مؤخراً فقط، يوم وجدت نفسي ربَّما وفاءً لهنَّ_ عاجزاً عن حبّ امرأة تعيش على الأكل الجاهز، ولا وليمة لها غير جسدها!
سألتك وأنا أهرب من تلك الذكريات هربي من خدوش طفولتي البعيدة:
- وأمك.. إنك لم تحدّثيني عنها أبداً كيف عاشت بعد وفاة سي الطاهر؟
قلتِ:
- لقد كانت قليلة الحديث عنه.. ربّما كانت في أعماقها تعتب على الذين زوجوها منه، فقد كانوا يزفّونها لشهيد وليس لرجل..
كانت تعرف مسبقاً نشاطه السياسي، وتدري أنه سيلتحق بالجبهة بعد الزواج، وسيدخل في الحياة السرّيّة، ولن يزورها إلا خلسة بين الحين والآخر، وقد لا يعود إليها إلا جثماناً، فلماذا هذا الزواج إذن؟ ولكن كان لا بدّ لذلك الزواج أن يتمّ؛ كان في الجوّ رائحة صفقة ما. فقد كان أهلها فخورين بمصاهرة الطاهر عبد المولى، صاحب الاسم والثروة الكبيرة. ولا بأس أن تكون أمي زواجه الثاني أو أرملته القادمة. وربما كانت جدتي تعرف أنه خلق ليستشهد فراحت تزور الأولياء والصالحين متضرِّعة باكية لابنها أخيراً ذريّة.. تماماّ كما كانت تزور سابقاً يوم كانت حبلى به طالبة آنذاك أن يكون مولودها صبيّاً..
سألتك:
- من أين تعرفين كلّ هذه القصص؟
قلت:
- منها هي.. ومن أمي أيضاً. تصور أنها يوم كانت حبلى بأبي لم تفارق مزار (سيدي محمد الغراب) بقسنطينة، حتى إنها كادت تلده هناك.. ولذا سمَته ( محمد الطاهر) تباركاً به.. ثمّ سمّت عمي ( محمد الشريف) تباركاً به أيضاً.. بعدها عرفت أنَّ نصف رجال تلك المدينة أسماؤهم هكذا.. وأنَّ أهل تلك المدينة يولون اهتماماً كبيراً للأسماء، وأنَ معظمهم يحمل أسماء الأنبياء أو الأولياء الصالحين. وهكذا كادت تسمِيني "السيدة" تباركاً بالسيدة المنوبيّة التي كانت تزورها في تونس كلّ مرة محملة بالشمع والسجاد والدعوات، متنقلة بين ضريحها ومزار (سيدي عمر الفاياش). ربما سمعت به، ذلك الولي الذي كان يعيش عارياً تماماً من كل شيء.. وهو ما جعل السلطات التونسية تقوم بربط قدمه إلى سلسال حديدي حتى لا يغادر البيت عارياً كما تعوّد أن يفعل.. وهكذا كان يعيش مقيداً، يدور ويصرخ وسط غرفة فارغة، إلا من النساء اللاتي يتسابقن لزيارته، بعضهن للتبارك به.. وأخريات لمجرد اكتشاف رجولته المعروضة للفرجة.. ولفضول النساء الملتحفات بـ (السفساري) والمتظاهرات بالحشمة الكاذبة!.
سألتك ضاحكاًً..
- وهل زرته أنت؟.
قلتِ:
- طبعاً.. لقد زرته بعد ذلك مع كلّ واحدة منهنَّ على انفراد؛ وزرت أيضاً "السيدة المنوبية"، المرأة التي كدت أحمل اسمها، لولا أنَّ أمي أنقذتني من تلك الكارثة، وقررت أن تسميني "حياة" في انتظار مجيء أبي، الذي يعود إليه القرار الأخير في اختيار اسمي.
توقَّف القلب عند هذا الاسم.. وركضت الذاكرة إلى الوراء. تعثّر اللسان وهو يلفظ هذا الاسم بعد ربع قرن تماماً وفاجأك سؤالي:
- هل يسعدك أن أناديك "حياة"؟
قلت متعجبة..
- لماذا.. ألا يعجبك اسمي الحقيقي.. أليس أجمل؟!
قلت:
- إنه حقا أجمل.. حتى إنني تعجّبت وقتها كيف خطر اسم كهذا في بال والدك. كنت أسمعه لأول مرة ولم يكن في حياته آنذاك ما يمكن أن يوحي باسم جميل كهذا.. وبرغم ذلك أحبّ أن أسمِّيك "حياة" لأنني قد أكون الوحيد مع والدتك الذي يعرف اليوم هذا الاسم. أريد أن يكون بيننا ككلمة سرّ، ليذكّرك بعلاقتنا الاستثنائية، وبأنك أيضاً.. طفلتي بطريقة ما.
كنتِ فارغة كإسفنجة، وكنت أنا عميقاً ومثقلاً كبحر.
رحت تمتلئين بي كلّ يومٍ أكثر..
كنت أجهل ساعتها أنني كنت كلما فرغت امتلأت بك أيضاً، وأنني كلما وهبتك شياً من الماضي، حوّلتك إلى نسخة منّي. وإذا بنا نحمل ذاكرة مشتركة، طرقاً وأزقة مشتركة، وأفراحاً وأحزاناً مشتركة كذلك. فقد كنَّا معاً معطوبي حرب، وضعتنا الأقدار في رحاها التي لا ترحم، فخرجنا كلُّ بجرحه.
كان جرحي واضحاً و جرحك خفياً في الأعماق. لقد بتروا ذراعي، وبتروا طفولتك. اقتلعوا من جسدي عضواً.. وأخذوا من أحضانك أبا.. كنَّا أشلاء حرب.. وتمثالين محطّمين داخل أثواب أنيقة لا غير.
أذكر ذلك اليوم الذي طلبت فيه مني لأول مرة، أن أحدَّثك عن أبيك. واعترفت بشيء من الارتباك، أنَّك جئت لزيارتي من البدء.. بهذه النية فقط. كان في صوتك شيء من الحزن المكابر.. شي من المرارة التي اكتشفتها فيك لأول مرة.
قلت:
- ما فائدة أن يمنح اسم أبي لشارع كبير، وأن أحمل ثقل اسمه الذي يردده أمامي المارة والغرباء عدة مرات في اليوم. ما فائدة ذلك إذا كنت لا أعرف عنه أكثر مما يعرفون، وإذا كان لا يوجد بينهم شخص واحد قادر على أن يحدّثني عنه حقاً؟
قلت لك متعجباً:
- ألم يحدثك عنه عمّك مثلاً؟
قلت:
- عمّي لا وقت له لهذا.. وعندما يحدث أن يذكره أمامي، يأتي كلامه وكأنه أقرب لخطبة تأبينية يتوجه بها لغرباء يستعرض أمامهم مآثر أخيه، ولا يتوجه فيها إليّ ليحدثني عن رجل هو أبي قبل كلّ شي..
الذي أريد أن أعرفه عن أبي، ليس تلك الجمل الجاهزة لتمجيد الأبطال والشهداء، والتي تقال في كلّ مناسبة عن الجميع؛ وكأنَّ الموت سوّى فجأة بين كلّ الشهداء، فأصبحوا جميعاً نسخة طبق الأصل.
يهمني أن أعرف شيئاً عن أفكاره.. بعض تفاصيل حياته.. أخطاءه وحسناته.. طموحاته السرية.. هزائمه السرية. لا أريد أن أكون ابنة لأسطورة، الأساطير بدعة يونانية. أريد أن أكون ابنة لرجل عادي بقوّته وبضعفه، بانتصاراته وبهزائمه. ففي حياة كلّ رجل خيبة ما وهزيمة ما، ربما كانت سبباً في انتصار آخر.
حلّ شيء من الصمت بيننا..
كنت أتأملك وأغوص في أعماق نفسي. رحت أبحث عن الحدّ الفاصل بين هزائمي وانتصاراتي. لم أكن في تلك اللحظة نبيّاً، ولا كنت أنت آلهة إغريقية.. كنّا فقط تمثالين أثريين قديمين محطمَي الأطراف، يحاولان ترميم أجزائهما بالكلمات. فرحت أستمع إليك وأنت ترمِّمين ما في أعماقك من دمار.
قلت:
- يحدث أن أشعر أنني ابنة لرقم فقط، رقم بين مليون ونصف مليون رقم آخر. ربما كان بعضها أكبر أو أصغر، ربما كتب اسم بعضها بخط أكبر أو أصغر من خطّ آخر، ولكنها جميعاً أرقام لمأساة ما.
وأضفتِ:
- أن يكون أبي أورثني اسماً كبيراً، هذا لا يعني شيئاً. لقد أورثني مأساة في ثقل اسمه، وأورث أخي الخوف الدائم من السقوط، والعيش مسكوناً بهاجس الفشل، وهو الابن الوحيد للطاهر عبد المولى الذي ليس من حقه أن يفشل في الدراسة ولا في الحياة، لأنه ليس من حق الرموز أن تتحطم. والنتيجة، أنه تخلى عن دراسته الجامعية وهو يكتشف عبثية تكديس الشهادات، في زمن يكدّس فيه الآخرون الملايين. ربما كان على حق، فالشهادات هي آخر ما يمكن أن يوصلك اليوم إلى وظيفة محترمة.
لقد رأى أصدقاءه الذين تخرجوا قبله، ينتقلون مباشرة إلى البطالة أو إلى موظَّفين برواتب وأحلام محدودة، فقرَر أن ينتقل إلى التجارة. ورغم أنني أشاطره رأيه، إلا أنه يحزنني أن يتحول أخي وهو في عزّ شبابه، إلى تاجر صغير يدير محلاً تجارياً وشاحنة وهبتها له الجزائر كامتياز بصفته ابن شهيد. لا أعتقد أن أبي كان يتوقَّع له مستقبلاً كهذا!
قاطعتك في محاولة لتخفيف تذمرك:
- إنه لم يتوقع أيضاً لك مستقبلاً كهذا. لقد ذهبت أبعد من أحلامه؛ إنك الوريثة لكلّ طموحاته ومبادئه. كان رجلاً يقدّس العلم والمعرفة، ويعشق العربية، ويحلم بجزائر لا علاقة لها بالخرافات والعادات البالية التي أرهقت جيله وقضت عليه. إنك لا تعين أن يكون لك اليوم هذا الحظ الاستثنائي، في وطن يمنحك فرصة أن تكوني فتاة مثقَّفة، يمكنها الدراسة والعمل وحتى الكتابة..
أجبت بشيء من السخرية:
- قد أكون مدينة للجزائر بثقافتي أو بعلمي، ولكن الكتابة شي آخر لم يمنّ به أحد عليّ. نحن نكتب لنستعيد ما أضعناه وما سرق خلسة منّا.. كنت أفضِل أن تكون لي طفولة عادية وحياة عادية، أن يكون لي أب وعائلة كالآخرين؛ وليس مجموعة من الكتب وجزمة من الدفاتر. ولكن أبي أصبح ملكاً لكل الجزائر، ووحدها الكتابة أصبحت ملكي.. ولن يأخذها منِّي أحد!
أذهلني كلامك. ملأني بأحاسيس متناقضة. أحزنني، ولكنه لم يوصلني إلى حد الشفقة عليك. إنَّ امرأة ذكية لا تثير الشفقة. إنها دائماً تثير الإعجاب حتى في حزنها. وكنت معجباً بك، بجرحك المكابر، بطريقتك الاستفزازية في تحدّي هذا الوطن. كنت تشبهينني أنا الذي كنت أرسم بيد لأستعيد يدي الأخرى. كنت أفضِّل لو بقيت رجلاً عاديا بذراعين اثنتين، لأقوم بأشياء عادية يومية، ولا أتحول إلى عبقري بذراع واحدة، لا تتأبط غير الرسوم واللوحات.
لم يكن حلمي أن أكون عبقرياً ولا نبياً ولا فناناً رافضاً ومرفوضاً. لم أجاهد من أجل هذا. كان حلمي أن تكون لي زوجة وأولاد، ولكن القدر أراد لي حياة أخرى، فإذا بي أب لأطفال آخرين وزوج للغربة والفرشاة.. لقد بتروا أيضاً أحلامي.
قلت لك:
- لن يأخذ أحد منك الكتابة.. إن ما في أعماقنا هو لنا ولن تطوله يد أحد.
قلتِ:
- ولكن ليس في أعماقي شيء سوى الفراغات المحشوة بقصاصات الجرائد.. بنشرات الأخبار، وبكتب ساذجة ليس بيني وبينها من قرابة.
ثم أضفت وكأنك تودعينني سراً:
- أتدري لماذا كنت أحبّ جدّتي أكثر من أي شخص آخر.. وأكثر حتى من أمّي؟ إنها الوحيدة التي كانت تجد متسعاً من الوقت لتحدِّثني عن كلِّ شيء.. كانت تعود إلى الماضي تلقائياً، وكأنها ترفض الخروج منه. كانت تلبس الماضي.. تأكل الماضي.. ولا تطرب سوى لسماع أغانيه.
كانت تحلم بالماضي في زمن كان الآخرون يحلمون فيه بالمستقبل. ولذا كثيراً ما تحدّثني عن أبي دون أن أطلب منها ذلك، فقد كان أجمل ما في ماضيها الأنثوي العابر. وكانت لا تتعب من الحديث عنه، كأنها تستعيده بالكلمات وتستحضره. كانت تفعل ذلك بحسرة الأم التي ترفض أن تنسى أنها فقدت بكرها إلى الأبد.. ولكنها لم تكن تقول لي عنه أكثر مما تقوله أم عن ابنها. كان الطاهر هو الأجمل.. هو الأروع.. هو الابن البارّ الذي لم يجرحها يوماً بكلمة.
يوم الاستقلال بكت جدّتي كما لم تبك يوماً. سألتها "أمّا.. لماذا تبكين وقد استقلَّت الجزائر؟" قالت: "كنت في الماضي أنتظر الاستقلال ليعود لي الطاهر، اليوم أدركت أنني لم أعد أنتظر شيئاً".
يوم مات أبي لم تزغرد جدّتي كما في قصص الثورة الخياليّة التي قرأتها فيما بعد. وقفت في وسط الدار وهي تشهق بالبكاء وتنتفض عارية الرأس مرددة بحزن بدائي: " يا وخيدتي.. يا سوادي.. آه الطاهر أحنَاني لمن خلّيتني.. نروح عليك أطراف".
وكانت أمي تبكي بصمت وهي تحاول تهدئتها، وكنت أنا أتفرج عليهما وأبكي دون أن أفهم تماماً أنني أبكي رجلاً لم أره سوى مرَّات.. رجلاً كان أبي.
لماذا كان ذكرك لـ ( أمّا الزهرة) يثير دائماً فيّ تلك العواطف الغامضة، التي كانت جميلة ودافئة قبل ذلك اليوم، والتي أصبحت فجأة موجعة حدّ البكاء؟
مازلت أذكر ملامح تلك العجوز الطيبة التي أحبّتني بقدر ما أحببتها والتي قضيت طفولتي وصباي متنقلاً بين بيتها وبيتنا. كان لتلك المرأة طريقة واحدة في الحبّ، اكتشفت بعدها أنها طريقة مشتركة لكلّ الأمهات عندنا. إنها تحبّك بالأكل، فتعد من أجلك طبقك المفضل وتلاحقك بالأطعمة، وتحمّلك بالحلويات، وبالكسرة والرخسيس الذي انتهت لتوِّها من إعداده.
لقد كانت تنتمي لجيل من النساء نذرن حياتهنَّ للمطبخ، ولذا كنّ يعشن الأعياد والأعراس كوليمة حبّ، يهبن فيها من جملة ما يهبن فائض أنوثتهنَّ.. وحنانهنَ وجوع سرّي لم يجد له من تعبير آخر خارج الأكل.
لقد كنَّ في الوقع يطعمن كل يوم أكثر من مائدة.. وأكثر من "ترّاس".. وينمن كل ليلة دون أن ينتبه أحد إلى جوعهنّ المتوارث من عصور..اكتشفت هذه الحقيقة مؤخراً فقط، يوم وجدت نفسي ربَّما وفاءً لهنَّ_ عاجزاً عن حبّ امرأة تعيش على الأكل الجاهز، ولا وليمة لها غير جسدها!
سألتك وأنا أهرب من تلك الذكريات هربي من خدوش طفولتي البعيدة:
- وأمك.. إنك لم تحدّثيني عنها أبداً كيف عاشت بعد وفاة سي الطاهر؟
قلتِ:
- لقد كانت قليلة الحديث عنه.. ربّما كانت في أعماقها تعتب على الذين زوجوها منه، فقد كانوا يزفّونها لشهيد وليس لرجل..
كانت تعرف مسبقاً نشاطه السياسي، وتدري أنه سيلتحق بالجبهة بعد الزواج، وسيدخل في الحياة السرّيّة، ولن يزورها إلا خلسة بين الحين والآخر، وقد لا يعود إليها إلا جثماناً، فلماذا هذا الزواج إذن؟ ولكن كان لا بدّ لذلك الزواج أن يتمّ؛ كان في الجوّ رائحة صفقة ما. فقد كان أهلها فخورين بمصاهرة الطاهر عبد المولى، صاحب الاسم والثروة الكبيرة. ولا بأس أن تكون أمي زواجه الثاني أو أرملته القادمة. وربما كانت جدتي تعرف أنه خلق ليستشهد فراحت تزور الأولياء والصالحين متضرِّعة باكية لابنها أخيراً ذريّة.. تماماّ كما كانت تزور سابقاً يوم كانت حبلى به طالبة آنذاك أن يكون مولودها صبيّاً..
سألتك:
- من أين تعرفين كلّ هذه القصص؟
قلت:
- منها هي.. ومن أمي أيضاً. تصور أنها يوم كانت حبلى بأبي لم تفارق مزار (سيدي محمد الغراب) بقسنطينة، حتى إنها كادت تلده هناك.. ولذا سمَته ( محمد الطاهر) تباركاً به.. ثمّ سمّت عمي ( محمد الشريف) تباركاً به أيضاً.. بعدها عرفت أنَّ نصف رجال تلك المدينة أسماؤهم هكذا.. وأنَّ أهل تلك المدينة يولون اهتماماً كبيراً للأسماء، وأنَ معظمهم يحمل أسماء الأنبياء أو الأولياء الصالحين. وهكذا كادت تسمِيني "السيدة" تباركاً بالسيدة المنوبيّة التي كانت تزورها في تونس كلّ مرة محملة بالشمع والسجاد والدعوات، متنقلة بين ضريحها ومزار (سيدي عمر الفاياش). ربما سمعت به، ذلك الولي الذي كان يعيش عارياً تماماً من كل شيء.. وهو ما جعل السلطات التونسية تقوم بربط قدمه إلى سلسال حديدي حتى لا يغادر البيت عارياً كما تعوّد أن يفعل.. وهكذا كان يعيش مقيداً، يدور ويصرخ وسط غرفة فارغة، إلا من النساء اللاتي يتسابقن لزيارته، بعضهن للتبارك به.. وأخريات لمجرد اكتشاف رجولته المعروضة للفرجة.. ولفضول النساء الملتحفات بـ (السفساري) والمتظاهرات بالحشمة الكاذبة!.
سألتك ضاحكاًً..
- وهل زرته أنت؟.
قلتِ:
- طبعاً.. لقد زرته بعد ذلك مع كلّ واحدة منهنَّ على انفراد؛ وزرت أيضاً "السيدة المنوبية"، المرأة التي كدت أحمل اسمها، لولا أنَّ أمي أنقذتني من تلك الكارثة، وقررت أن تسميني "حياة" في انتظار مجيء أبي، الذي يعود إليه القرار الأخير في اختيار اسمي.
توقَّف القلب عند هذا الاسم.. وركضت الذاكرة إلى الوراء. تعثّر اللسان وهو يلفظ هذا الاسم بعد ربع قرن تماماً وفاجأك سؤالي:
- هل يسعدك أن أناديك "حياة"؟
قلت متعجبة..
- لماذا.. ألا يعجبك اسمي الحقيقي.. أليس أجمل؟!
قلت:
- إنه حقا أجمل.. حتى إنني تعجّبت وقتها كيف خطر اسم كهذا في بال والدك. كنت أسمعه لأول مرة ولم يكن في حياته آنذاك ما يمكن أن يوحي باسم جميل كهذا.. وبرغم ذلك أحبّ أن أسمِّيك "حياة" لأنني قد أكون الوحيد مع والدتك الذي يعرف اليوم هذا الاسم. أريد أن يكون بيننا ككلمة سرّ، ليذكّرك بعلاقتنا الاستثنائية، وبأنك أيضاً.. طفلتي بطريقة ما.