كنت أحقد على ذلك القدر أحياناً، ولكن كنت كثيراً ما أستسلم له دون مقاومة. بلذّة غامضة وبفضول رجل يريد أن يعرف كلّ مرة، إلى أي حد يمكن لها القدر أن يكون أحمق، ولهذه الحياة أن تكون غير عادلة، وأن تكون عاهرة لا تهب نفسها سوى لذوي الثروات السريعة، ولأصحاب السلوك المشبوه الذين يغتصبونها على عجل..
وعندها كنت أجد سعادتي النادرة في مقارنة نفسي بتفاهة الآخرين. وأجد في هزائمي الذاتية، دليلاً على انتصارات أخرى ليست في متناول الجميع.
تراني في لحظة جنون كهذه قبلت أن أحضر عرسك، وأن أكون شاهداً على مأتمي، وعلى الحقارة التي يمكن أن يصلها البعض دون خجل؟
أم تراني ككل المبدعين، كنت مازوشيّاً بتفوق، وأصرّ في غياب السعادة المطلقة، أن أعيش حزني المطلق، وأن أذهب معك إلى أبعد نقطة في تعذيب النفس، فأمارس كيّ هذا القلب بنفسي ليشفى منك؟
كرهتك ذلك اليوم بشراسة لم أكن عرفتها من قبل.
انقلبت عواطفي مرة واحدة إلى عاطفة جديدة، فيها مزيج من المرارة والغيرة والحقد.. وربما الاحتقار أيضاً.
ما الذي أوصلك هنا؟
وهل النساء حقاً مثل الشعوب، يشعرن دائماً بإغراء.. وبضعف ما تجاه البدلات العسكرية.. حتى الباهتة منه؟!
ما زلت حتى اليوم أتساءل.. كيف قبلت يومها أن أذهب إلى قسنطينة لحضور عرسك؟
كنت أعرف مسبقاً أن دعوتي لم تكن مجرد نية حسنة، والتفاتة ود وصداقة لرجل تجمعني به أكثر من قرابة.
ولكن كانت قبل كلّ شيء، استغلالاً للذاكرة واستعمالاً سيئاً لاسم من الأسماء القليلة التي ظلّت نظيفة في زمن انتشر فيه وباء القذارة.
كان سي الشريف يدري أنه يسقوم بصفقة قذرة، وأنه يبيع بزواجه اسم أخيه، وأحد كبار شهدائنا مقابل منصب وصفقات أخرى..
وأنه يتصرف باسمه، بطريقة لم يكن ليقبلها لو كان حياً.
وكان يلزمه أنا.. ولا أحد غيري لأبارك اغتصابك، أنا صديق سي الطاهر الوحيد ورفيق سلاحه.
أنا الهيكل المفتت الأطراف الأخير، الذي بقي من ذلك الزمن الغابر.
كانت تلزمه مباركتي، ليُسكت بحضوري ضميره ويعتقد أن سي الطاهر سيغفر له، هو الذي عاش من اسمه طويلاً.
فلماذا قبلت الدخول في تلك اللعبة؟ لماذا قبلت دون نقاش أن أسلمك لأظافرهم؟
ألأنني أدري أن مباركتي قضية شكلية، لن تقدم ولن تؤخر في شيء، وأنه لو لم يزوّجك من (سي....) لكنت من نصيب (سي....) آخر من السادة الجدد.
فماذا يهم في النهاية، أي اسم من أسماء الأربعين لصاً ستحملين!
لماذا قبلت السفر.. ألكل هذا أم لأنني استسلمت لإغراء قسنطينة، ولندائها السرّي الذي كان يلاحقني ويطاردني من الأزل، كما يطارد نداء الحوريات في الجزر المسحورة أولئك البحارة الذين نزلت على بواخرهم لعنة الآلهة..
أم تراني كنت عاجزاً عن أن أخلف موعداً معك، حتى ولو كان ذلك مناسبة زواجك؟
هنالك قرارات وليدة ضدها، فكيف يمكن لي اليوم أن أفسّر قراراً أخذته خارج المنطق؟
كنت كعالم فيزيائي مجنون، يريد أن يجمع بين صيغتين متفجّرتين في الوقت نفسه: أنت.. وقسنطينة، صيغتين صنعتهما بنفسي في نوبة شوق وعشق وجنون، قست قدرتهما التدميرية كلا على انفراد، وأردت أن أجربهما معاً كما تجرّب قنبلة ذرية في صحراء.
أردت أن أعيشهما معاً في انفجار داخلي واحد.. يهزّني وحدي.. يدمرني وحدي.. وأخرج بعده من وسط الحرائق والدمار، إما رجلاً آخر.. وأشلاء رجل.
ألم تقولي مرة إن هناك رغبة سرية تسكننا جميعاً اسمها "شهوة اللهب"؟
اكتشفت بعدها بنفسي التطابق بينك وبين تلك المدينة.
كان فيكما معاً، شيء من اللهيب الذي لم ينطفئ.. وقدرة خارقة على إشعال الحرائق..
ولكنكما معاً، كنتما تتظاهران بإعلان الحرب على المجوس. إنه زيف المدن العريقة المحترمة.. ونفاق بنات العائلات.. أليس كذلك؟
***
جاء صوتك يوم الاثنين هكذا دون مقدمات. دون أية نبرة حزن أو فرح مميزة.. دون ارتباك ولا أي خجل واضح.
ورحت تتحدّثين إليّ، وكأنك تواصلين حديثاً بدأناه البارحة، كأن صوتك لم يعبر هذا الخط الهاتفي منذ أكثر من ستّة أشهر.
ما أغرب علاقتك بالزمن.. وما أغرب ذاكرتك!
- أهلاً خالد.. هل أيقظتك؟
كان يمكن أن أقول لا، وكان من الأصح أن أقول نعم. ولكنني قلت بصوت من يخرج من غيبوبة عشق:
- أنتِ..؟!
ضحكت.. تلك الضحكة الطفولية التي أسرتني يوماً وقلت:
- أعتقد أنني أنا.. هل نسيت صورتي؟!
ثم أضفت أمام صمتي:
- كيف أنت؟
- أحاول أن أصمد..
- تصمد في وجه من.؟
- في وجه الأيام..
قلت بعد شيء من الصمت.. وكأنك شعرت بذنبٍ ما:
- كلنا نحاول ذلك..
ثم أضفتِ:
- هل أخباري هي التي أزعجتك؟
عجيب سؤالك. عجيب كذاكرتك. كعلاقتك بمن تحبّين!
قلت:
- أخبارك ليست سوى جزء من تقلّبات الأيام.
أجبت ببراءة كاذبة:
- كنت أتوقع أن تستقبل خبر زواجي بطريقة أخرى. لقد سمعت عمي يتحدث إليك أمس على الهاتف، وتعجبت أن تكون قبلت المجيء إلى قسنطينة دون مناقشة أو تردد. لقد أسعدني ذلك كثيراً، وقررت أن أطلبك.. استنجت أنك لم تعد عاتباً عليّ.. فأنا أريد أن تحضر إلى هذا العرس.. من الضروري أن تحضر..
لا أدري لماذا أعادتني كلماتك إلى مكالمتي السابقة مع سي الشريف، وإلى ذلك الموقف العجيب، عندما كان يقنعني أنك ابنتي.
شعرت مرة أخرى أنني أقف على الحد الفاصل بين العقل واللاعقل، بين البكاء والضحك..
سألتك بشيء من المرارة الساخرة:
- أتمنى أن أفهم سر إصراركم جميعاً على حضوري..
قلتِ:
- سبب إصرار عمي على حضورك لا يهمني إطلاقاً. ولكنني أدري أنني سأكون تعيسة لو تغيّبت عن المجيء..
أجبتك بتهكم:
- هل السادية .. آخر هواياتك؟
قلتِ بنبرة فاجأتني:
- لقد أحببت هذه المدينة من أجلك.
أجبتك بتلك الطريقة نفسها التي أجبتني بها يوماً، وأنا أعترف لك "لقد أحببتك يوم قرأتك" فقلتِ "كان ينبغي ألا تقرأني..".
قلتُ:
- كان ينبغي ألا تحبّيها إذن..
وإذا بجوابك يدهشني.. يوقظني.. ويبثّ شحنة كهربائية في جسدي..
- ... ولكنني أحببتك!
ها هي الكلمة التي انتظرتها عاماً دون جدوى. فهل أشكرك أم أبكي. أم أسألك لماذا اليوم.. لماذا الآن.. ولماذا كلّ هذا العذاب إذن؟
سألتك فقط:
- وهو؟
أجبتني وكأنك تتحدّثين عن شيء لا يعنيك تماماً:
- إنه قدر جاهز.
قاطعتك:
- لكل شخص القدر الذي يستحقّه. كنت أتوقع قدراً غير هذا.. كيف قبلت أن ترتبطي به؟
قلتِ:
- أنا لا أرتبط به.. أنا أهرب إليه فقط من ذاكرة لم تعد تصلح للسكن، بعدما أثثتها بالأحلام المستحيلة والخيبات المتتالية
وعندها كنت أجد سعادتي النادرة في مقارنة نفسي بتفاهة الآخرين. وأجد في هزائمي الذاتية، دليلاً على انتصارات أخرى ليست في متناول الجميع.
تراني في لحظة جنون كهذه قبلت أن أحضر عرسك، وأن أكون شاهداً على مأتمي، وعلى الحقارة التي يمكن أن يصلها البعض دون خجل؟
أم تراني ككل المبدعين، كنت مازوشيّاً بتفوق، وأصرّ في غياب السعادة المطلقة، أن أعيش حزني المطلق، وأن أذهب معك إلى أبعد نقطة في تعذيب النفس، فأمارس كيّ هذا القلب بنفسي ليشفى منك؟
كرهتك ذلك اليوم بشراسة لم أكن عرفتها من قبل.
انقلبت عواطفي مرة واحدة إلى عاطفة جديدة، فيها مزيج من المرارة والغيرة والحقد.. وربما الاحتقار أيضاً.
ما الذي أوصلك هنا؟
وهل النساء حقاً مثل الشعوب، يشعرن دائماً بإغراء.. وبضعف ما تجاه البدلات العسكرية.. حتى الباهتة منه؟!
ما زلت حتى اليوم أتساءل.. كيف قبلت يومها أن أذهب إلى قسنطينة لحضور عرسك؟
كنت أعرف مسبقاً أن دعوتي لم تكن مجرد نية حسنة، والتفاتة ود وصداقة لرجل تجمعني به أكثر من قرابة.
ولكن كانت قبل كلّ شيء، استغلالاً للذاكرة واستعمالاً سيئاً لاسم من الأسماء القليلة التي ظلّت نظيفة في زمن انتشر فيه وباء القذارة.
كان سي الشريف يدري أنه يسقوم بصفقة قذرة، وأنه يبيع بزواجه اسم أخيه، وأحد كبار شهدائنا مقابل منصب وصفقات أخرى..
وأنه يتصرف باسمه، بطريقة لم يكن ليقبلها لو كان حياً.
وكان يلزمه أنا.. ولا أحد غيري لأبارك اغتصابك، أنا صديق سي الطاهر الوحيد ورفيق سلاحه.
أنا الهيكل المفتت الأطراف الأخير، الذي بقي من ذلك الزمن الغابر.
كانت تلزمه مباركتي، ليُسكت بحضوري ضميره ويعتقد أن سي الطاهر سيغفر له، هو الذي عاش من اسمه طويلاً.
فلماذا قبلت الدخول في تلك اللعبة؟ لماذا قبلت دون نقاش أن أسلمك لأظافرهم؟
ألأنني أدري أن مباركتي قضية شكلية، لن تقدم ولن تؤخر في شيء، وأنه لو لم يزوّجك من (سي....) لكنت من نصيب (سي....) آخر من السادة الجدد.
فماذا يهم في النهاية، أي اسم من أسماء الأربعين لصاً ستحملين!
لماذا قبلت السفر.. ألكل هذا أم لأنني استسلمت لإغراء قسنطينة، ولندائها السرّي الذي كان يلاحقني ويطاردني من الأزل، كما يطارد نداء الحوريات في الجزر المسحورة أولئك البحارة الذين نزلت على بواخرهم لعنة الآلهة..
أم تراني كنت عاجزاً عن أن أخلف موعداً معك، حتى ولو كان ذلك مناسبة زواجك؟
هنالك قرارات وليدة ضدها، فكيف يمكن لي اليوم أن أفسّر قراراً أخذته خارج المنطق؟
كنت كعالم فيزيائي مجنون، يريد أن يجمع بين صيغتين متفجّرتين في الوقت نفسه: أنت.. وقسنطينة، صيغتين صنعتهما بنفسي في نوبة شوق وعشق وجنون، قست قدرتهما التدميرية كلا على انفراد، وأردت أن أجربهما معاً كما تجرّب قنبلة ذرية في صحراء.
أردت أن أعيشهما معاً في انفجار داخلي واحد.. يهزّني وحدي.. يدمرني وحدي.. وأخرج بعده من وسط الحرائق والدمار، إما رجلاً آخر.. وأشلاء رجل.
ألم تقولي مرة إن هناك رغبة سرية تسكننا جميعاً اسمها "شهوة اللهب"؟
اكتشفت بعدها بنفسي التطابق بينك وبين تلك المدينة.
كان فيكما معاً، شيء من اللهيب الذي لم ينطفئ.. وقدرة خارقة على إشعال الحرائق..
ولكنكما معاً، كنتما تتظاهران بإعلان الحرب على المجوس. إنه زيف المدن العريقة المحترمة.. ونفاق بنات العائلات.. أليس كذلك؟
***
جاء صوتك يوم الاثنين هكذا دون مقدمات. دون أية نبرة حزن أو فرح مميزة.. دون ارتباك ولا أي خجل واضح.
ورحت تتحدّثين إليّ، وكأنك تواصلين حديثاً بدأناه البارحة، كأن صوتك لم يعبر هذا الخط الهاتفي منذ أكثر من ستّة أشهر.
ما أغرب علاقتك بالزمن.. وما أغرب ذاكرتك!
- أهلاً خالد.. هل أيقظتك؟
كان يمكن أن أقول لا، وكان من الأصح أن أقول نعم. ولكنني قلت بصوت من يخرج من غيبوبة عشق:
- أنتِ..؟!
ضحكت.. تلك الضحكة الطفولية التي أسرتني يوماً وقلت:
- أعتقد أنني أنا.. هل نسيت صورتي؟!
ثم أضفت أمام صمتي:
- كيف أنت؟
- أحاول أن أصمد..
- تصمد في وجه من.؟
- في وجه الأيام..
قلت بعد شيء من الصمت.. وكأنك شعرت بذنبٍ ما:
- كلنا نحاول ذلك..
ثم أضفتِ:
- هل أخباري هي التي أزعجتك؟
عجيب سؤالك. عجيب كذاكرتك. كعلاقتك بمن تحبّين!
قلت:
- أخبارك ليست سوى جزء من تقلّبات الأيام.
أجبت ببراءة كاذبة:
- كنت أتوقع أن تستقبل خبر زواجي بطريقة أخرى. لقد سمعت عمي يتحدث إليك أمس على الهاتف، وتعجبت أن تكون قبلت المجيء إلى قسنطينة دون مناقشة أو تردد. لقد أسعدني ذلك كثيراً، وقررت أن أطلبك.. استنجت أنك لم تعد عاتباً عليّ.. فأنا أريد أن تحضر إلى هذا العرس.. من الضروري أن تحضر..
لا أدري لماذا أعادتني كلماتك إلى مكالمتي السابقة مع سي الشريف، وإلى ذلك الموقف العجيب، عندما كان يقنعني أنك ابنتي.
شعرت مرة أخرى أنني أقف على الحد الفاصل بين العقل واللاعقل، بين البكاء والضحك..
سألتك بشيء من المرارة الساخرة:
- أتمنى أن أفهم سر إصراركم جميعاً على حضوري..
قلتِ:
- سبب إصرار عمي على حضورك لا يهمني إطلاقاً. ولكنني أدري أنني سأكون تعيسة لو تغيّبت عن المجيء..
أجبتك بتهكم:
- هل السادية .. آخر هواياتك؟
قلتِ بنبرة فاجأتني:
- لقد أحببت هذه المدينة من أجلك.
أجبتك بتلك الطريقة نفسها التي أجبتني بها يوماً، وأنا أعترف لك "لقد أحببتك يوم قرأتك" فقلتِ "كان ينبغي ألا تقرأني..".
قلتُ:
- كان ينبغي ألا تحبّيها إذن..
وإذا بجوابك يدهشني.. يوقظني.. ويبثّ شحنة كهربائية في جسدي..
- ... ولكنني أحببتك!
ها هي الكلمة التي انتظرتها عاماً دون جدوى. فهل أشكرك أم أبكي. أم أسألك لماذا اليوم.. لماذا الآن.. ولماذا كلّ هذا العذاب إذن؟
سألتك فقط:
- وهو؟
أجبتني وكأنك تتحدّثين عن شيء لا يعنيك تماماً:
- إنه قدر جاهز.
قاطعتك:
- لكل شخص القدر الذي يستحقّه. كنت أتوقع قدراً غير هذا.. كيف قبلت أن ترتبطي به؟
قلتِ:
- أنا لا أرتبط به.. أنا أهرب إليه فقط من ذاكرة لم تعد تصلح للسكن، بعدما أثثتها بالأحلام المستحيلة والخيبات المتتالية