منتديات التاريخ المنسي
<div style="text-align: center;"><img src="https://i.servimg.com/u/f27/11/57/48/93/m0dy_n10.gif"><br></div>


منتديات التاريخ المنسي
<div style="text-align: center;"><img src="https://i.servimg.com/u/f27/11/57/48/93/m0dy_n10.gif"><br></div>

منتديات التاريخ المنسي
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات التاريخ المنسيدخول

التاريخ المنسي


descriptionالحلقة الثامن عشر من سلسلة ذاكرة الجسد Emptyالحلقة الثامن عشر من سلسلة ذاكرة الجسد

more_horiz
أنا ذا العاهة الآخر الذي أحبها، أنا"أحدب نوتردام" الآخر، وأحمق قسنطينة الآخر.. ما الذي أوصلني إلى جنون كهذا؟ ما الذي أوقفني عند أبواب قلبها عمراً؟
وكانت تشبهك..
تحمل اسمين مثلك، وعدة تواريخ للميلاد. خارجة لتوّها من التاريخ، باسمين: واحد للتداول.. وآخر للتذكار.
كان اسمها يوماً "سيرتا". قاهرة كانت.. كمدينة أنثى.
وكانوا رجالاً.. في غرور العسكر!
من هنا مرّ صيفاكس.. ماسّينيسا.. ويوغررطة.. وقبلهم آخرون.
تركوا في كهوفها ذاكرتهم. نقشوا حبّهم وخوفهم وآلهتهم.
تركوا تماثيلهم وأدواتهم، وصكوكهم النقدية، أقواس نصرهم وجسوراً رومانية..
.. ورحلوا.
لم يصمد من الجسور سوى واحد. ولم يبق من أسمائها سوى اسم "قسنطينة" الذي منحه لها من ستة عشرة قرناً "قسطنطن".
أحسد ذلك الإمبراطور الروماني المغرور، الذي منح اسمه لمدينة لم تكن حبيبته بالدرجة الأولى.. وإنما اقترن بها لأسباب تاريخية محض.
وحدي منحتك اسما لم يكن اسمي.
وربما لذلك، يحدث أن أعاكس قانون الحماقات هذا. وأنادي تلك المدينة "سيرتا" لأعيدها إلى شرعيّتها الأولى.
تماما.. كما أناديك "حياة".
ككلّ الغزاة.. أخطأ قسطنطين.
المدن كالنساء.. نحن لا نمتلكها لمجرد أننا منحناها اسمنا.
لقد كانت "سيرتا" مدينة نذرت للحب والحروب، تمارس إغراء التاريخ، وتتربّص بكل فاتح سبق أن ابتسمت له يوماً من علوّ صخرتها.
كنسائها كانت تغري بالفتوحات الوهمية..
ولكن لم يعتبر من مقابرها أحد!
هنا أضرحة الرومان.. والوندال.. والبيزنطيين.. والفاطميين.. والحفصيين.. والعثمانيين.. وواحد وأربعين باياً تناوبوا علها قبل أن تسقط في يد الفرنسيين.
هنا وقفت جيوش فرنسا سبع سنوات بأكملها على أبواب قسنطينة.
فرنسا التي دخلت الجزائر سنة 1830، لم تفتح هذه المدينة الجالسة على صخرة، إلا سنة 1837، سالكة ممراً جبليا تركت فيه نصف جيشها، وتركت فيه قسنطينة خيرة رجالها.
منذ ذلك اليوم، ولد أكثر من جسر حول تلك المدينة، وكثرت الطرقات المؤدية إليها.
ولكن، كانت الصخرة دائماً أكبر من الجسور، لأنها تدري أن لا شيء تحت الجسور سوى الهاوية!
ها هي مدينة تتربص بكل فاتح.. تلف نفسها بملاءتها السوداء وتخفي سرّها عن كل سائح.
تحرسها الوهاد العميقة من كل جانب، تحرسها كهوفها السرية وأكثر من وليّ صالح، تبعثرت أضرحتهم على المنعرجات الخضراء تحت الجسور.
هنا القنطرة.. أقرب جسر لبيتي ولذاكرتي. أعبرها تلقائيا وكأنني أرسمها، مشياً على الأقدام، بين الدوار المبهم والتذكار وكأنني أعبر حياتي، أجتاز العمر من طرف إلى آخر.
كل شيء كان يبدو مسرعاً على هذا الجسر. السيارات والعابرون وحتى الطيور، وكأن شيئاً ما كان ينتظرهم على الطرف الآخر.
ربما كان بعضهم يجهل آنذاك أن الذي يبحث عنه، قد يكون تركه خلفه، وأنه في الحقيقة، لا فرق بين طرفي الجسر. الفرق الوحيد هو ما في فوقه.. وما تحته.
تلك الهاوية المخيفة التي يفصلك عنها حاجز حديدي لا أكثر، والتي لا يتوقف أحد لبنظر إليها، ربما لأن الإنسان بطبعه لا يحب أن يتأمل الموت.. كثيرا.
وحدي تستوقفني هذه الهاوية الموغلة في العمق.
ترى لأنني أتيتها بأفكار مسبقة وذاكرة متوارثة؟ أم سلكت هذا الطريق، لأنفرد بهذه المدينة على جسر؟
***
هنالك حماقات يجب عدم ارتكابها، كأن تأخذ موعداً مع ذاكرتك على جسر.
خاصة عندما تتذكر فجأة، تلك القصة التي نسيتها تماماً منذ سنين..
قصة جدك البعيد الذي رمى بنفسه يوماً من جسر ربما كان هذا.. بعدما توعده أحد البايات بالقتل.. عندما جاءه خبر خيانته وتآمره عليه مع بعض وجهاء قسنطينة للإطاحة به. هو الذي كان مبعوثه ورسوله الخاص.. ورجل ثقته.
يبدو أنه كان لا يحب رواية هذه الحادثة. فقد كان الانتحار في حدّ ذاته عاراً وكفراً في مجتمع قسنطيني متدين. ولهذا هاجرت عائلتنا بعد ذلك إلى غرب الجزائر مستبدلة باسم نكرة اسمها الأول. ولم تعد إلى قسنطينة إلا بعد جيل وأكثر، باسمٍ لمدينة أخرى.
أعيد نظري إلى أسفل.
ماذا تراني جئت أبحث هنا، في هذا الجسر المعلّق على ارتفاع مئة وسبعين متراً من جوف الأرض، والذي تعبره أسراب الغربان على عجل؟
تراني أبحث عن بقايا جدّ ما، كان اسمه أحمد.. يقال إنه كان وسيماً وذا مالٍ وعلم كبير، وأنه رمى يوماً كل شيء من هنا.. ليترك حزنه وجرحه إرثاً لتلك العائلة.
هذه هي قسنطينة..
مدينة لا يهمها غير نظرة الآخرين لها، تحرص على صيتها خوفاً من القيل والقال الذي تمارسه بتفوق. وتشتري شرفها بالدم تارة.. والبُعد والهجرة تارة أخرى.
تراها تغيّرت؟
أذكر أنني سمعت وأنا شاب بعائلة غادرت قسنطينة فجأة إلى مدينة أخرى، بعدما شاع أن إحدى الأغاني التي ما يزال يغنّيها "الفرقاني" اليوم، قد نظمها أحدهم تغزّلاً في إحدى بناتها!
ويظل السؤال.. ما الذي جئت أفعل هنا فوق هذا الجسر؟
تراني على موعد مع ذاكرتي، أم فقط مع لوحتي في هذا الصباح؟
ها أنا أقف أمامها اليوم دون فرشاة ولا ألوان، وبلا قلق أو خوف من مربّع القماش الأبيض.
أنا لست خالقها في هذه اللحظة. لست رسّامها ولا مبدعها. أنا جزء منها. ويمكنني أن أصبح حتى جزءاً من تفاصيلها وتضاريسها.
يمكنني أن أجتاز هذا الحاجز الحديدي الذي يفصلني عنها، وكأنني أجتاز إطار لوحة.. كأنني أخترقها لأسكنها إلى الأبد.
أتدحرج نحو هذا الوادي الصخري العميق نقطة بشرية، قطرة للونٍ ما.. على لوحةٍ أبدية، لمنظر أردت أن أرسمه.. فرسمني.
أليست هذه أجمل نهاية لرسّام، أن يتوحد مع لوحته في مشهد واحد؟
كنت أدري في تلك اللحظة وأنا أنظر إلى الوهاد العميقة تحتي، إلى تلك الأنفاق الصخرية التي يشطرها نهر الرمال ببطء زبديّ، أن "الهاوية الأنثى" كانت تستدرجني إلى العمق، في موت شبقيّ أخير، ربما كان فرصتي الأخيرة للتوحد الجسديّ مع قسنطينة، ومع ذاكرة جدّ بدأت أشعر بتواطؤ غامض معه.
ترى شهوة السقوط والتحطم هي التي أشعرتني عندئذٍ بالدوار، وأنا معلّق على ذلك الجسر وحدي؟
وإذا بي أشعر فجأة بالخجل من هذه المدينة.. وأكاد أعتذر لها. وحدهم الغرباء هنا يشعرون بالدوار. فمتى بالتحديد وضعتني قسنطينة في خانتهم؟
ورغم ذلك أعترف، أنني لم أكن يومها مستعداً للموت.
ليس تمسكاً منيّ بالحياة. ولكن لأنني وصلت بذلك الحزن الجارف العميق الذي اجتاحني منذ وطئت هذه المدينة، إلى عاطفة غامضة متطرفة أخرى.
لقد وصلت بمرارتي وخيبتي حد الطمأنينة والسعادة المبهمة.
فلقد تعلّمت أن أسخر من استفزاز الأشياء لي، وأقابل تلك المواجهة مع الذاكرة بشيء من التهكم المرّ.
ألم آت هنا إثر قرارٍ جنوني، ربما بحثاً عن الجنون في مدينة تكاد تحترفه! ولذا بدأت أتلذّذ سراً بهذه اللعبة الموجعة، وأحرص على أن أعيش صدماتي بمازوشيّة متعمّدة. فربما كانت خيبتي اليوم مع هذه المدينة، هي منجم جنوني وعبقريتي القادمة.
وبرغم ذلك قررت فجأة أن أهرب من ذلك الجسر الذي كان بداية جنوني يوماً.
فجأة تطيّرت منه، أن الذي أولعت به طويلاً وحولته إلى ديكور لحياتي، بعدما أحطت نفسي بأكثر من نسخة منه.
أيكون ذلك الإحساس جاءني، وأنا ألمح من حيث كنت تلك السفوح الجبلية التي كانت يوماً مرشوشة بشقائق النعمان.. وأزهار النرجس المنثور بين الممرات الخضراء، والتي كان أهل قسنطينة يأتون إليها كل سنة لاستقبال الربيع.. محمّلين بما أعدّته النساء لتلك المناسبة من "براج" وحلويات وقهوة.. والتي تبدو اليوم حزينة، وكأن أزهارها غادرتها لسبب غامض؟
أم تراه منظر مزار (سيدي محمد الغراب) الذي يعود فجأة إلى الذاكرة. وإذا بي أستعيد ما قرأته عنه مؤخراً في كتاب تاريخي عن قسنطينة. فتعبرني قشعريرة غامضة.
ماذا لو لاحقتني دون أن أدري اللعنة التي لاحقت صالح باي أكبر بايات قسنطينة على الإطلاق بسبب هذا الجسر؟ هو الذي كان يريد أن يختم إنجازاته المعمارية الهائلة، وإصلاحاته المختلفة التي وهبها لتلك المدينة، بإصلاح جسر القنطرة، اللسان الترابي الوحيد الذي كان يربط المدينة بالخارج، والجسر الوحيد الذي صمد من بين خمسة جسور رومانية.
تقول أسطورة شعبية، إن هذا الجسر كان أحد أسباب هلاك (صالح باي) ونهايته المفجعة..
فقد قتل فوقه (سيدي محمد)، أحد الأولياء الذين كانوا يتمتّعون بشعبية كبيرة. وعندما سقط رأس الرجل الولي على الأرض، تحول جسمه إلى غراب، وطار متوجهاً نحو دار صالح باي الريفية التي كانت على تلك السفوح. ولعنه واعداً إياه بنهاية لا تقل قسوة ولا ظلماً عن نهاية الولي الذي قتله.

فما كان من صالح باي إلا أن غادر بيته وأراضيه إلى الأبد، تطيّراً من ذلك الغراب، واكتفى بداره في المدينة.
هكذا أطلق الناس على ذلك المكان اسم "سيدي محمد الغراب"، ليبقى بعد قرنين مزار المسلمين واليهود في قسنطينة، يأتونه في نهايات الأسبوع وفي المواسم، لقضاء أسبوع كامل يرتدون خلاله ثياباً وردية، يؤدون بها طقوساً متوارثة جيلاً عن جيل، فيقدّمون له ذبائح الحمام، ويستحمّون في المياه الدافئة لبركته الصخرية حيث كانت تستحمّ السلاحف، ويعيشون على شرب "العروق" لا غير، والاستسلام لنوبات رقص بدائية، في حلقات جماعية يؤدونها في الهواء الطلق.. على وقع بندير "الفقيرات".

descriptionالحلقة الثامن عشر من سلسلة ذاكرة الجسد Emptyرد: الحلقة الثامن عشر من سلسلة ذاكرة الجسد

more_horiz
ولكن قسنطينة، لم تحقد على بايها الذي وهبها الكثير من الوجاهة والرفاهية.
سوّت فقط بطيبة أو بجنون.. بين القاتل والقتيل.
صنعت من (سيدي محمد الغراب) أشهر مزار وليّ قسنطيني على الإطلاق، في مدينة يحمل كل شارع فيها اسم وليّ.
وخلّدت من بين واحد وأربعين باياً حكمها، اسم صالح باي وحده، فكتبت فيه أجمل أشعارها، وغنّت فجيعة موته في أجمل أغنية رثاء. ومازالت تلبس حداده حتى اليوم مع ملاءات نسائها السوداء.. دون أن تدري!
هذه هي قسنطينة..
لا فرق بين لعنتها ورحمتها، لا حاجز بين حبّها وكراهيّتها، لا مقاييس معروفة لمنطقها.
تمنح الخلود لمن تشاء، وتنزل العقاب بمن تشاء.
فمن عساه يحاسبها على جنونها، ومن عساه يحسم موقفه منها، حباً أو كراهية.. إجراماً أو براءةً.. دون أن يعترف أنها تحمل في كل الحالات ضدّها؟
***
في كل يوم كنت أقضيه في تلك المدينة، كنت أتورط أكثر في ذاكرتها، فرحت أبحث في سهراتي مع حسان، وأحاديثنا الجانبية الطويلة، التي تمتد بنا أحياناً حتى ساعة متأخرة من الليل.. عن وصفة أخرى للنسيان.
أبحث في ذلك الجو العائلي الذي افتقدته طويلاً عن طمأنينة أخرى خارج فضائها.
كان لوجودي في ذلك البيت العائلي الذي أعرفه ويعرفني، تأثير على نفسيّتي في تلك الأيام. وربما كان سندي السريّ الذي لم أتوقّعه. لقد كنت أعود إليه كل ليلة، وكأنني أصعد نحو دهاليز طفولتي البعيدة، لأصبح جنيناً من جديد..
أختبئ في جوف أمٍ وهمية، مازال مكانها هنا فارغاً منذ ثلاثين سنة.
يحدث في تلك الليالي أن أذكر زياد، يوم أقام عندي لبضعة أشهر في الجزائر، عندما رفض مستأجره أن يجدّد له عقد إيجار البيت.
تعوّدت وقتها أن أترك له سريري، وأنام على فراش آخر وضعته على الأرض في غرفة أخرى.
وكان زياد يحتج ويشعر بشيء من الإحراج، معتقداً أنني أفعل ذلك مجاملة له.
وكنت أوكّد له كل مرة، أنني اكتشفت بفضله أنني أسعد أكثر بالنوم على الأرض. فقد كان ذلك الفراش الأرضي يذكّرني بطفولتي وبنومي إلى جوار أمي لعدة سنوات، على ذلك المطرح الصوفي الذي ما زلت أذكر لونه الأزرق. بل وتلك الأيام التي كانت تخصّصها (أمّا) كل خريف، لغسل الصوف وتجديد تلك المطارح الصوفية التي كانت الأثاث الأساسي لغرفة نومي.
تمنّيت لو طلبت من عتيقة أن تضع لي في المستقبل فراشاً على الأرض، تماماً كما تفعل مع أولادها الذين ينامون في الغرف الأخرى، على فراش أرضي مشترك يوحي بالدفء والرغبة بالانزلاق تحت أغطيته الصوفية الجميلة التي تثير غيرتي وحنيني لزمنٍ لم أعد أدري لبعده، إن كنت عشته حقاً.. أم تخيّلته.
ولكن أيعقل أن أطلب هذا الطلب من عتيقة؟ هي التي أعطتني أجمل غرف بيتها، غرفة نومها العصرية المعدّة لاستقبال الضيوف، أكثر منها لقضاء ليالٍ زوجية.. للحب؟
لو فعلت هذا فلربما أحرجتها، ولما وجدت تفسيراً لجنوني هذا. فقد كانت عتيقة تشارك أحياناً في سهرتنا، وتحاول أن تستنجد بي، بصفتي رجلاً متحضّراً قادماً من باريس، لأقنع أخي بالتخلي عن هذا البيت العربي القديم، وهذه الطريقة المتخلّفة في العيش. وتكاد تعتذر لي عن كل الأشياء التي كانت تبدو في نظري جميلة.. ونادرة.
ولأنني لم أكن أملك القدرة على إقناعها برأيي، ولا الجرأة على معاكسة رأيها، كنت أكتفي بالاستماع إلى نقاشها مع حسان، ذلك النقاش الذي يكاد يتحول أحياناً إلى شجار قبل أن تنسحب هي إلى النوم، ويعلّق حسان شبه معتذر:
"لا يمكن أن تقنع امرأة تشاهد مسلسل (دالاس) على التلفزيون، أن تسكن بيتاً كهذا وتحمد الله.. لا بد أن يوقفوا هذا المسلسل، ماداموا عاجزين عن منح الناس سكناً محترماً.. وحياة أفضل..".
كنت أحسد قناعة حسان. وأعجب بفلسفته في الحياة.
كان يقول: "لكي تكون سعيداً عليك أن تنظر إلى من تحتك. فإذا كان في يدك قطعة رغيف، ونظرت لمن ليس في يده شيء، ستسعد وتحمد الله. وأما إذا رفعت رأسك كثيراً ونظرت لمن في يدهم قطعة "كعك" فأنت لن تشبع، بل ستموت قهراً فقط.. وتتعس باكتشافك!".
وهكذا ففي نظر حسان أن العيش في بيت كهذا برغم كل سلبياته التي تبدو أحياناً مزعجة، بتفاصيلها الصغيرة التي تجاوزها العصر، يظل أفضل مما يعانيه آلاف الناس. بل وعشرات الآلاف الذين لم يجدوا بيتاً واسعاً كهذا يسكنونه بمفردهم مع أولادهم وزوجتهم. بل كثيراً ما يتقاسمون مع أهلهم وأقاربهم، الشقة الضيقة التي تكون بيتاً لعائلتين لعدة سنوات.
هكذا كان حسان..
"لقد كانت نظرته إلى الأشياء نظرة عمودية، فقد تعلم كل ما تعلمه في صباه على سبورة بالحائط..".
وكان سعيداً بتلك النظرة التي قد تعود أيضاً إلى عقليته كموظف محدود الدخل.. ومحدود الأحلام!
فَبِمَ يمكن أن يحلم أستاذ للعربية يقضي يومه في شرح النصوص الأدبية، وسرد سيرة الكتّاب والشعراء القدامى على تلاميذه.. وتصحيح أخطائهم النحوية والإنشائية، ولا يجد متسعاً من الوقت _أو الجرأة_ لشرح ما كان يحدث أمامه، وتصحيح أخطاء أكبر ترتكب على مرأى منه باسم كلمات خرجت فجأة من اللغة، لتدخل قاموس الشعارات والمزايدات؟.
كان في أعماق حسان مرارة غامضة تبدو على كل تفاصيل حياته. ولكنه كان يحتفظ بها لنفسه.
من الواضح أنه كان متعباً وغارقاً في مشكلات أولاده الستّة وزوجته الشابة التي تحلم بحياة أخرى غير حياة قسنطينة المغلقة. وأما هو فلم يكن يجرؤ على الحلم، أو بالأحرى كان يحلم آنذاك بالعثور على شخص يتوسط له ليحصل على ثلاجة جديدة.. لا غير
عندما عرفت أمنيته البسيطة الصعبة، حزنت وأنا أكتشف أننا لم نكن متخلّفين عن أوربا وفرنسا فقط، كما كنت اعتقد، وإلا لهان الأمر.. وبدا منطقياً. لقد كنا متخلّفين عما كنّا عليه منذ نصف قرن وأكثر. يوم كنّا تحت الاستعمار.
يومها كانت أمنياتنا أجمل.. وأحلامنا أكبر.
يكفي أن تتأمل وجوه الناس اليوم وأن تسمع أحاديثهم وأن تلقي نظرة على واجهات المكتبات لتفهم ذلك.
يومها كنّا وطناً يصدّر الأحلام.. مع كل نشرة أخبار إلى كل شعوب العالم.
وكانت هذه المدينة بمفردها تصدّر من الجرائد والمجلات والكتب ما لا تصدّره اليوم المؤسسات الوطنية لا نوعاً.. ولا عداً.
يومها كان لنا من المفكرين والعلماء.. والشعراء والظرفاء والكتاب، ما يملأنا زهواً وغروراً بعروبتنا.
اليوم.. لم يعد أحد يشتري الجرائد ليحتفظ بها في خزانة، إذ لم يعد في الجرائد ما يستحق الحفظ.
ولم يعد أحد يجلس إلى كتاب ليتعلّم منه شيئاً. لقد أصبح البؤس الثقافي ظاهرة جماعية، وعدوى قد تنتقل إليك وأنت تتصفّح كتاباً. " لقد كانت الكتب دائماً على صواب في ذلك العهد، وكان الواحد منّا فصيحاً يتكلم كما تتكلم الكتب..".
واليوم أصبحت الكتب تكذب أيضاً.. مثلها مثل الجرائد. ولذا تقلّص صدقنا.. وماتت فصاحتنا، منذ أصبح حديثنا يدور فقط حول المواد الاستهلاكية المفقودة!
عندما قلت يومها هذا الكلام لحسان، ظل يتأملني بذهول وكأنه اكتشف شيئاً لم ينتبه له من قبل.. ثم قال بشيء من الحسرة:
- صحيح.. لقد خلقوا لنا أهدافاً صغيرة لا علاقة لها بقضايا العصر. وانتصارات فردية وهمية، قد تكون بالنسبة للبعض الحصول على شقة صغيرة بعد سنوات من الانتظار.. أو قد تكون الحصول على ثلاجة، أو التمكن من شراء سيارة.. أو حتى دواليبها فقط! ولا أحد عنده متسع من الوقت والأعصاب ليذهب أكثر من هذا، ويطالب بأكثر من هذا..
نحن متعبون.. أهلكتنا هموم الحياة اليومية المعقّدة التي تحتاج دائماً إلى وساطة لحل تفاصيلها العادية. فكيف تريد أن نفكّر في أشياء أخرى، عن أيّ حياة ثقافية تتحدث؟ نحن همّنا الحياة لا غير.. وما عدا هذا ترف.. لقد تحولنا إلى أمة من النمل، تبحث عن قوتها وجحر تختبئ فيه مع أولادها لا أكثر..
سألته بسذاجة:
- وماذا يفعل الناس؟
قال مازحاً:
- الناس..؟ لا شيء.. البعض ينتظر.. والبعض يسرق.. والبعض الآخر ينتحر، هذه مدينة تقدم لك الاختيارات الثلاثة بالمبررات نفسها.. والحجة نفسها!
يومها خفت على حسان من تلك المدينة.. وانتابتني فجأة قشعريرة مبهمة.
سألته دون تفكير.. وكأنني أسأله أي الوصفات الثلاثة أختار:
- وهل لك أصدقاء هنا تلتقي بهم.. وتخرج معهم؟
أجابني وكأنه يعجب لسؤالي، أو يسعد لاهتمامي المفاجئ بكل تفاصيل حياته:
- لي أصدقاء معظمهم مدرسون معي في الثانوية.. ما عدا هذا ليس لي أحد.. لقد فرغت قسنطينة من أهلها، ورحلت كل العائلات القديمة التي عرفناها.
وراح يسرد عليّ أسماء عائلات كبيرة هاجرت أو راحت تستقر في العاصمة أو في الخارج، لتترك تلك المدينة لآخرين.. جاء معظمهم من القرى و المدن الصغيرة المجاورة.
قبل أن يضيف تلك الجملة التي لم تستوقفني ساعتها، والتي أخذت بعد ست سنوات كل أبعاد القدر الأحمق، قال:
- لقد أصبح سكان هذه المدينة الأصليون، لا يزورونها سوى في الأعراس.. أو في المآتم!
وقبل أن أعلّق على كلامه، أضاف وكأنه تذكّر شيئاً:
- سأعرفك على ناصر ابن سي الطاهر.. من المؤكد أنه سيأتي بعد غدٍ لحضور زواج أخته. سترى.. لقد أصبح رجلاً بطولك وبضخامتك، وهو يتردد عليّ منذ بضعة أشهر، منذ قرّر أن يستقر في قسنطينة. إنه الوحيد الذي قام بهجرة معاكسة. لقد رفض حتى منحة إلى الخارج.. تصور! لا أحد يصدّق هذا.. عندما سألته لماذا لم يسافر مثل الآخرين ويهرب من هذا البلد، قال لي: "أخاف إن سافرت ألا أعود أبداً.. كل أصحابي الذين سافروا لم يعودوا..".
ضحكت وأنا أكتشف هذا التطرف الذي يذكّرني بك، وكأنه سمة عائلية. وشعرت برغبة في إطالة ذلك الحديث الذي كان يؤدي إليك بطريقة.. أو بأخرى..
سألته:
- وماذا يفعل الآن؟
- لقد أعطوه بصفته ابن شهيد محلاً تجارياً وشاحنة يعودان عليه بدخل كبير. ولكنه مازال ضائعاً متردداً، يفكر أحياناً في مواصلة دراسته، ثم أحياناً أخرى في التفرّغ للتجارة. والحقيقة أنني عاجز عن نصحه. فمن المؤسف أن ينقطع إنسان عن دراسته العليا، لأنه سيظل يشعر بذلك النقص طوال حياته.. ومن ناحية أخرى، لم تعد تفيد الشهادات اليوم في شيء حسب قوله، وهو يرى شباباً بشهادات عليا عاطلين عن العمل، وآخرين جهلة يتنقّلون في سيارات مرسيدس ويسكنون فيلات فخمة.. ليس هذا زمناً للعلم.. إنه زمن الشّطارة.. فكيف يمكن أن تقنع اليوم صديقك أو حتى تلميذك بالتفاني في المعرفة؟. لقد اختلت المقاييس نهائياً..
قلت لحسان:
المهم أن يعرف الإنسان ما هو هدفه الحقيقي في الحياة.. هل المال هو مشكلته الأولى.. أم المعرفة وتوازنه الداخلي؟
ردّ حسان مازحاً:
- توازن..؟ عن أي توازن تتحدث.. نحن شعب نصف مختلّ. لا أحد فينا يدري ما يريد بالضبط.. ولا ماذا ينتظر بالتحديد.. إن المشكل الحقيقي هو هذا الجو الذي يعيشه الناس، وهذا الإحباط العام لشعبٍ بأكمله. إنه يفقدك شهية المبادرة والحلم والتخطيط لأي مشروع. فلا المثقفون سعداء.. ولا الجاهلون ولا البسطاء ولا الأغنياء. قل لي يرحم والديك.. ماذا يمكن أن تفعل بعلمك إذا كنت ستنتهي موظفاً يعمل تحت إشراف مدير جاهل، وُجِد في منصبه مصادفة ليس لسعة معرفته، وإنما.. لكثرة معارفه وعرض أكتافه.! وماذا يمكن أن تفعل بأموالك في قسنطينة مثلاً.. سوى أن تدفعها عمولة لتحصل على شقة غير صالحة للسكن في معظم الأحيان.. أو تقيم عرساً بها يغنّي فيه "الفرقاني"؟ أما إذا كان كل ما تملكه لا يتجاوز العشرين ألف دينار.. فيبقى أمامك أن تدفعها "شراب قهوة" لمسؤول محليّ يختبئ خلف أيّ موظّف آخر، ليبيع جوازات سفر إلى الحجّ. وهكذا يمكنك أن تؤدي فريضتك وتحجز لك غرفة صغيرة في الآخرة.. بعدما ضاقت بك الدنيا!
صحت عجباً:
- واش.. أحقاً تقول.. هل يبيعون جوازات سفر إلى الحج بمليونين!؟
- طبعاً.. لأن الحكومة حددت عدد الحجاج كل عام بسبب تكاليفهم الباهظة بالعملة الصعبة، بعدما اكتشفت أن معظمهم يسافر عدة مرات لأسباب لا علاقة لها بالحج، وإنما لأغراض تجارية محض. وإلا كيف تفسر أن يكون بعضهم قد حج ست مرات أو سبعاً دون أن يكون ذلك واضحاً على سلوكه وأخلاقه؟ أنا أعرف حاجاً "سوكارجي" لا تفارق الخمرة بيته، وأعرف آخر متفرغاً للترافيك و"البزنيس".. وتغيير العملة الصعبة في الأسواق السوداء.. هؤلاء مازالوا يسافرون كل عام للحج. يمكنهم أن يحصلوا على عشرين ألف دينار بسهولة. وأما أنا فمن أين لي هذا المبلغ لأقوم بتأدية فريضتي، ودخلي لا يتجاوز الأربعة آلاف دينار في الشهر؟
قلت له وأنا أنتقل من دهشة إلى أخرى:
- علاش.. هل تنوي الحج؟
- طبعاً.. ولم لا.. ألست مسلماً؟ لقد عدت إلى الصلاة منذ سنتين ولولا إيماني لأصبحت مجنوناً. كيف يمكن أن تصمد أمام كل هذا المنكر وهذا الظلم دون إيمان؟ وحدها التقوى تعطيك القدرة على الصمود.. انظر حولك: لقد توصّل جميع الناس إلى هذه النتيجة وربما الشباب أكثر من غيرهم لأنهم الضحية الأولى في هذا الوطن.. وحتى ناصر نفسه أصبح يصلّي منذ عاد إلى قسنطينة، ربما لهذا السبب وربما لأن الدين كالكفر.. عدوى أيضاً! والله يا خالد.. لو رأيتهم يوم الجمعة يتجهون إلى المساجد بالآلاف حتى تضيق بهم جدرانها.. وتفيض بهم الشوارع.. لوقفت معهم تصلي دون أن تتساءل لماذا!
لم أجد شيئا أعلّق به على كلام حسان في تلك السهرة العجيبة، التي طالت بنا حتى الثانية صباحاً. فقد كان حسان سعيداً بوجودي، وسعيداً ببدء العطلة الصيفية التي تسمح له بالسهر والتحدث إليّ طويلاً بعد كل هذه السنوات التي باعدتنا.
فتركته يتحدث.. ويعري أمامي هذا الوطن الذي كنت كسوته حنيناً وعشقاً وجنوناً.
أكان يخاف عليّ من خيبتي،ويخشى أن يفقد فرحة عودتي إليه وإلى هذا الوطن مرة أخرى، عندما كان يتوقف أحياناً عن الحديث لينتقل بي إلى موضوع آخر؟ كأن يستدرجني مثلاً بطريقة غير مباشرة إلى الدين وإلى التقوى والإيمان. ويغريني بالتوبة، وكأن وجودي في فرنسا بحد ذاته قد أصبح ذنبا وكفراً.
أهذا هو حسان؟.
لم أمنع نفسي ساعتها من الابتسام وأنا أتذكر أنني أحضرت له معي زجاجتيْ ويسكي كالعادة..
تساءلت ليلتها وأنا في فراشي عن ذنوبي. حاولت أن ألخصها، أن أحصرها.. فلم أجدها أكبر من ذنوب غيري، بل وربما وجدتها أقل بدرجات..
لم أكن مجرماً.. ولا مقامراً.. ولا كافرا.. ولا كاذباً.. ولا سكّيراً.. ولا خائناً..
لم تكن لي زوجة ولا سرير شرعي استبدلت به آخر.
خمسون سنة من الوحدة. نصفها تماماً ما يمكن أن أسمّيه "السنوات المعطوبة" تلك التي قضيتها بذراعٍ واحدة، مشوّه الجسد والأحلام.
كم أحببت من النساء؟. لم أعد أذكر. منذ حبّي الأول لتلك الجارة اليهودية التي أغريتها. إلى تلك الممرضة التونسية التي أغرتني. إلى نساء أخريات.. لم أعد أذكر أسماءهن ولا ملامحهن، تناوبن على سريري لأسباب جسدية محض، وذهبن محملات بي لأبقى فارغاًً منهن

descriptionالحلقة الثامن عشر من سلسلة ذاكرة الجسد Emptyرد: الحلقة الثامن عشر من سلسلة ذاكرة الجسد

more_horiz
مازلت
أذكر ذلك السبت العجيب.. عندما رن الهاتف ذلك المساء بتوقيت نشرة الأخبار.
كان سي الشريف على الخط بحرارة وشوق أسعداني في البداية، وأخرجاني من رتابة صمتي الليلي ووحدته.
كان صوته عندي عيداً بحد ذاته والصلة الوحيدة التي ظلت تربطني بك، بعدما سدّت كل الطرق الموصلة إليك.
وكنت أستبشر خيراً به. إنه يحمل دائماً احتمال لقاءٍ بك بطريقة أو بأخرى.
ولكنه هذه المرة كان يحمل لي أكثر من هذا..
راح سي الشريف يعتذر أولاً عن انقطاعه عني منذ سهرتنا الأخيرة، بسبب مشاغله الكثيرة، وزيارات المسؤولين التي لا تتوقف إلى باريس.. قبل أن يضيف:
"إنني لم أنسك طوال هذه الفترة.. لقد علّقت لوحتك في الصالون وأصبحت أتقاسم معك البيت.. أتدري، لقد تركت التفاتتك تلك أثراً كبيراً في نفسي، وخلقت لي أكثر من حاسد.. وكل مرة لا بد أن أشرح للآخرين صداقتنا وعلاقتنا التي تعود إلى أيام الشباب".
كنت أستمع له وكان القلب قد ذهب بحماقة على عجل إليك..
كان يكفي أن أعرف أن تلك المكالمة تأتي من بيتٍ أنتِ فيه، لأعود عاشقاً مبتدئاً بكل انفعالات العشّاق وحماقاتهم.
ولكن صوته أعادني إلى الواقع عندما سألني:
- أتدري لماذا طلبتك الليلة؟ إنني قررت أن أصحبك معي إلى قسنطينة.. لقد أهديتني لوحة عن قسنطينة وأنا سأهديك سفرة إليها..
صحت متعجّباً:
- قسنطينة.. لماذا قسنطينة؟
قال وكأنه يزفّ لي بشرى:
- لحضور عرس ابنة أخي الطاهر..
ثم أضاف بعد شيء من التفكير.
- .. ربما تذكرها. لقد حضرت افتتاح معرضك منذ شهور مع ابنتي ناديا..
شعرت فجأة أن صوتي انفصل عن جسدي، وأنني عاجز عن أن أجيب بكلمة واحدة.
أيمكن للكلمات أن تنزل صاعقة على شخص بهذه الطريقة؟
أيمكن للجسد أن يصبح إثر كلمة، عاجزاً عن الإمساك بسماعة؟
يحدث في لحظات كهذه، أن أتذكر فجأة أنني أملك يداً واحدة..
سحبت بقدمي كرسياً مجاوراً وحلست عليه.
وربما لاحظ سي الشريف صمتي وحدوث شيء ما.. فقطع ذهولي قائلاً:
- يا خويا.. ما الذي يخيفك في سفرٍ كهذا؟ لقد جاء ذكرك منذ أيام في جلسة مع بعض الأصدقاء في الأمن، وأكدوا لي أنه لا توجد أية تعليمات في شأنك، وأن بإمكانك أن تزور الجزائر متى شئت. لقد تغيرت الأمور كثيراً منذ مجيئك، ولا بد أن تعود إلى الجزائر ولو في زيارة خاطفة.. إنني أتحمل مسؤولية عودتك.. ستسافر معي وعلى حسابي.. فما الذي يقلقك إلى هذا الحد؟
أجبته وأنا أبحث عن مخرج لتوتري:
- الحقيقة أنني لست مستعداً نفسياً بعد لزيارة كهذه.. وأفضّل أن تكون في ظروف أخرى..
قال:
- أنت لن تجد ظروفاً أحسن من هذه للعودة.. أنا واثق من أنني إذا لم أجرّك هكذا من يدك هذه المرة، فقد تمضي عدة سنوات أخرى قبل أن تعود إليها. هل ستقضي عمرك في رسم قسنطينة؟ ثم ألا يسعدك حضور زواج ابنة سي الطاهر؟ إنها ابنتك أيضاً، لقد عرفتها طفلة ويجب أن تحضر عرسها للبركة.. افعل هذا لوجه أبيها، يجب أن تقف معي في ذلك اليوم مكان سي الطاهر..
كان سي الشريف يعرف نقطة ضعفي، ويدري مكانة سي الطاهر عندي. فراح يحرّك ما تبقّى داخلي من وفاء لماضينا وذاكرتنا المشتركة.
كان في ذلك الموقف شيء من السريالية واللامعقول.
كنت أقف على الحد الفاصل بين العقل والجنون، بين الضحك والبكاء..
"لقد عرفتها طفلة.." لا يا صديقي! عرفتها أنثى أيضاً وهذه هي المشكلة. "إنها ابنتك أيضاً.." لا لم تكن ابنتي، كان يمكن فقط أن تكون زوجتي.. كان يمكن أن تكون لي.
سألته:
- لمن ستكون؟
قال:
- أعطيتها لـ (سي....) لقد سهرت معه المرة الماضية.. لا أدري ما رأيك فيه، ولكنني أعتقد أنه رجل طيب برغم ما يُقال عنه.
كان في جملته الأخيرة جواب مسبق على ردٍ كان يتوقعه.
(سي....) إذن ولا أحد غيره!
"رجل طيب.." هل الطيبة هي حقاً صفته المميزة الأولى؟ أعرف أنا أكثر من رجل طيب كان يمكن إذن أن يصبح زوجها.
ولكن (سي....) كان أكثر من ذلك. كان رجل الصفقات السرية والواجهات الأمامية. كان رجل العملة الصعبة والمهمات الصعبة. كان رجل العسكر.. ورجل المستقبل. فهل مهم بعد هذا أن يكون طيباً أو لا يكون؟

تجمعت في الحلق أكثر من غصة، منعتني من أن أبدي رأيي فعلاً في ذلك الشخص، وأسأل سي الشريف سؤالاً واحداً فقط: تراه يعتقد حقاً أن بإمكان رجل لا أخلاق له.. أن يكون طيباً؟

أم تراني صمتّ لأنني كنت بدأت لا أفرق كثيرا بينه وبين "صهره" وأنا أسأل نفسي سؤالاً آخر.. هل يمكن لشخص يتصاهر مع رجل قذر.. أن يكون نظيفاً حقاً؟
فقدت فجأة شهية الكلام. أخرستني الصدمات المتتالية في مكالمة واحدة. فاختصرت كل الكلام في جملة واحدة قابلة لأكثر من تفسير:
- كل شيء مبروك..
رد سي الشريف حسب التقاليد:
- الله يهنيك.. ويبارك فيك..
ثم أضاف بسعادة من نجح في امتحان:
-إذن سنراك..راني نعوّل عليك.. سنسافر بعد عشرة أيام تقريباً فالزواج سيكون في 15 يوليو.. أطلبني هاتفياً كي نتّفق على تفاصيل سفرك.
انتهت المكالمة، وبدأت مرحلة جديدة من حياتي.
بدأ عمري الآخر الذي أعلنت يومها رسمياً خروجك منه. ولكن.. هل خرجت حقاً؟
أحسست أن رقعة الشطرنج أصبحت فارغة إلا مني. كانت كل المربعات بلون واحد لا غير.. وكل القطع أصبحت قطعة واحدة أمسكها وحدي.. بيدٍ واحدة!
فهل كنت الرابح أم الخاسر الوحيد.. كيف لي أن أعرف ذلك؟ لقد تقلصت الرقعة، ومعها مساحة الأمل والترقب، حسمها طرف آخر، كنا نلعب جميعاً منذ البدء نيابة عنه: إنه القدر!

descriptionالحلقة الثامن عشر من سلسلة ذاكرة الجسد Emptyرد: الحلقة الثامن عشر من سلسلة ذاكرة الجسد

more_horiz
يسلموووووو

descriptionالحلقة الثامن عشر من سلسلة ذاكرة الجسد Emptyرد: الحلقة الثامن عشر من سلسلة ذاكرة الجسد

more_horiz
أخوي كروش الحلقة السادسة عشر هنا ايضا تكررت بالخطا

يعطيك العافية

descriptionالحلقة الثامن عشر من سلسلة ذاكرة الجسد Emptyرد: الحلقة الثامن عشر من سلسلة ذاكرة الجسد

more_horiz
شكراااااااا

descriptionالحلقة الثامن عشر من سلسلة ذاكرة الجسد Emptyرد: الحلقة الثامن عشر من سلسلة ذاكرة الجسد

more_horiz
i am here and at 5:18 of morning
hello every budy

descriptionالحلقة الثامن عشر من سلسلة ذاكرة الجسد Emptyرد: الحلقة الثامن عشر من سلسلة ذاكرة الجسد

more_horiz
<img src=" longdesc="3" /> Arrow pig
privacy_tip صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
power_settings_newقم بتسجيل الدخول للرد