في وجهة قادتنا شرق العاصمة نحو مدينة
تيزي وزو، استوقفتنا ملامح المكان للحظات قليلة، وقبل تقرير أي شيء تسلل
إلينا من تقاسيم الصورة مشهد غامض وعميق حملنا في الخوض في حيثيات تفاصيله
إلى الماضي العميق، الماضي الشاهد على رحلة المكان عبر عوالم من الحوادث
المخملية التي يصعب على العارف الخبير الإمساس بالحدود الفاصلة بين مختلف
ألوانها وأنواعها، غير أنها ظلت تؤشر في وجهة من الوجهات على بعض مما نحن
على دراية به، دراية تزكيها القراءات ويعلنها البعض من سكان تيزي وزو إن
بادرناهم بطرح الأسئلة.
ومضات من التاريخ وتساوق للأحداث يصنع مشهدا خاصا للمدينة
لقد شكل انصهار العنصر العربي الفاتح
بالقبائل بمثابة الصرح الرادع لكل التهديدات التي ظلت تحيط بشمال إفريقيا،
الجنوب الذي ظل بمثابة القبلة التي تستقطب أطماع الكثيرين من دول الأوربية
التي لم ترفع عينها عن المنطقة طمعا أو رغبة أو حقدا دينيا يمتد بجذوره حتى
إلى حقب الحروب الصليبية أو نكبة الأندلس، من بين ما يذكر في هذا المقام
ويندرج في خصوبة المسار التاريخي لهذه المنطقة في سنة 1510 حيث تم رسم
وتأسيس مملكة كوكو على يد عائلة آث القاضي وذلك لصد غزوات الأسبان
والأتراك، كما تم تشييد عدة أبراج في أماكن عدة.
ومع بزوغ المحنة الاستعمارية شاركت تيزي
وزو فيها بآلاف المقاتلين، خصوصا في معركة سطوالي عام 1830 الشهيرة التي
أعلن فيها الداي حسين عجزه، فدعمته المنطقة التي كان يشرف على تأطيرها
مساجد وزوايا بالنفس والنفيس، ولما سقطت العاصمة لم تستسلم تيزي وزو، شأنها
شأن كل المدن والمناطق الجزائرية، وفي هذا يسجل التاريخ المعركة الشهيرة
التي قادتها البطلة لالة فاطمة نسومر والتي أعقبها سقوط منطقة القبائل
1871، سقوطا لم تسقط مع هم الشرفاء الذين باشروا عملية واسعة للمقامة، كل
من موقعه
لالة دماماية… حكاية امرأة واضحة الملامح داخل المشهد
تقترن اسم “لالة دماماية” بحكاية امرأة،
أحزنها الخراب الذي طال المؤسسات الروحية على يد الفرنسيين الذين لم يتركوا
معلما إلا ودنسوه نكاية، فما كان لحزنها إلا ليشحن ألف مرة فيحملها في
وجهة المقاومة، ولكن بما كانت تراه وتعتقد به، فأوقفت قطعة أرض لبناء مسجد
يكون ملتقى لـ (التجماعت) وفضاء للعبادة، ومنطلق للكفاح ضد الجهل والأمية
ومختلف صنوف الاستعمار، فما كانت الفكرة إلا لتعرف طريقها نحو التجسيد،
أمام (لالة دماماية)، أو ما يعرف بالمسجد العتيق
لقد عرفت الفكرة التي بادرت بها “لالة دماماية” طريقها لتجسد أكثر في
العام 1897، إذ تم بناء أول مسجد بمدينة تيزي وزو، أو كما يترجموها من
الأمازيغية إلى العربية بمدينة “هضبة نبات الشوك الأصفر” التي تشتهر
المنطقة بنموه على هضابها، لتسير الشعلة في فضاء المدينة تمد الآخرين بما
يمكن أن يكون عونا لهم خلال أيام الاستعمار السوداء.
وإزاء هذه الحال كان لا بد من العناية
بتعليم الصغار وإعدادهم إعدادا يتلاءم وعناصر الهوية اللغوية والدينية
والتاريخية، ليتمكنوا من مواصلة المسار الذي جاء به الفاتحون وتحمل عبأ
المحافظة عليه كثيرون من أولئك الذين يصوما بشرف على صفحات التاريخ، من
أمثال فاطمة “لالة نسومر” و”سيدي منصور الجنادي” و”سيدي العربي أوشريف”
“العتيق”… كلمة تختصر الذاكرة وتترجم وعي الإنسان بتاريخ المدينة
يتخذ المسجد العتيق في ثقافة سكان مدينة
تيزي وزو الناشئة من أهل تسمية (العتيق) ويرتسم في أذهانهم بأنه أقدم مسجد
بني في مدينة تيزي، وبذلك تكتسي العناية به شيء من الوفاء لعراقة هذه
المدينة ولتاريخها وتاريخ ساكنيها لأزيد من قرن.
واستنادا على هذه الخلفية الثقافية، فقد
تم توسيع المسجد في مرات متعددة، كان آخرها في الثمانينيات من القرن
الماضي، حيث أصبح المسجد الآن يتسع لحوالي 3000 مصلي، وبجواره حديقة كبيرة
جدا تابعة له، تشكل مجلسا للمصلين بعد الانقضاء من أداء الصلاة .
يتشكل المسجد العتيق من عدد من الملحقات
الأساسية، كالقاعة الرئيسة للصلاة المتكونة من طابقين إضافة إلى الجزء
الخاص بالنساء، بالإضافة إلى مكتبة وقاعة للوضوء ومقصورة للإمام، وكذا مسكن
للإمام
المسجد مؤسسة ذات وظيفة اجتماعية متواصلة
وحسب الأستاذ بوعيشى عيسى، إمام بالمسجد،
فقد دأب المشرفون على مسجد “لالة دماماية” على الحرص على النشاط المسجدي
الذي ما عرف انقطاعا أبدا، فبالإضافة إلى النشاط الشعائري المتعلق بإقامة
الصلوات الخمس والآذان وصلاة الجمعة وصلاة العيدين، وجمع محاصيل الزكاة
التي تودع في رقم الحساب الخاص بصندوق الزكاة لدى وزارة الشؤون الدينية،
توجد هناك مدرسة قرآنية يشرف عليها أستاذ تعليم القرآني، حيث يحفظ الصغار
القرآن الكريم، كما توجد هناك مرشدة دينية تشرف على تأطير النساء وتعلمهم
إضافة إلى ما يتعلق بالقرآن فهمهم وحفظه، وكل ما يخص شؤون النساء الفقهية.
ويختلف عدد المسجلين في المدرسة القرآنية
من فصل إلى آخر، ففي العطل الرسمية التي تمنح لأطفال المدارس يكون المسجد
مكتبة المسجد… صرح ثقافي يحتاج إلى تشجيع وتحفيز
يحتوي مسجد “لالة دماماية” على مكتبة
متنوعة بتنوع الكتب الموجود فيها المتراوحة من الكتاب الديني إلى العلمي
إلى الثقافي إلى التعليمي بكامل أطواره وكامل تخصصاته، مما جعلها قبلة
للجميع الذين يطرقون بابها كل مساء، بحثا وتنقيبا عن ما يخصهم سواء في
قضايا الدين، أو في قضايا أخرى تتعلق بالمعرفة والتكوين بشكل عام.
وعلى خلفية هذا الثراء تحولت المكتبة إلى
ملتقى لتلاقح الأفكار والمعارف بين من هم على مستوى تعليمي أعلى، خصوصا
طلبة الجامعة وغيرهم من طلبة التعليم الثانوي أو التعليم الابتدائي أو
المتوسط، هذا فضلا عن الأساتذة الذين قد يتواجدون بها بين الفينة والأخرى،
فيصير مجرد الاحتكاك لهم دفع وتيسير لكل مسالك النجاح مهم بعدت أو أشكلت
وبخصوص شهر رمضان الكريم، برمج القائمون
على المسجد بالتنسيق مع المجلس العلمي لمديرية الشؤون الدينية والأوقاف
دروسا يومية يقدمها أساتذة معرفون في تيزي وزو دأبوا على تقديم مثل هذه
الدروس في مواسم مختلفة.
وتقدم هذه الدروس قبيل صلاة التراويح، حيث
تتضمن ما يخص عموم المصلين من قضايا الدين، والتي يرى الأساتذة أنه من
النافلة، إلا لم نقل الواجب التطرق إليها، ورهن أعينهم إزاء ذلك قاعدتين
أساسيتين، أولاهما تربية الناس وتعليمهم، وثانيها إحياء للشهر الكريم، كما
يشرف القائمون على المسجد بجمع زكاة الفطر وتوزيعها على مستحقيها بعد
دراسة دقيقة لأحوال المحتاجين وتحديد من هم أولى بها
طموح نحو توسيع المسجد العتيق
مع تزايد عدد المصلين وكبر المدينة وقيمة
المسجد التاريخية، يفكر القائمون على المسجد بالتنسيق مع جهات مسؤولة في
توسيع المسجد وجعله في مستوى استيعاب جموع المصلين الذين تكتظ بهم الساحات
المجاورة له في المناسبة الرسمية كالجمعة والعيدين
عودة إلى البداية..
ليس هذا هو المسجد الوحيد في مدينة تيزي
وزو، معقل قبائل البربر، فهناك مساجد أخرى وكثيرة لا تقل عراقة عن مسجد
“لالا دماماية”، ونذكر هنا مسجد “سيدي بالوا” الواقع على أعلى قمة جبل
الشاهق بنيت المدينة على في سفحه، وسمي بسيدي “بالوا” تحريفا لكلمة “أبو
اللواء” نسبة إلى مؤسسه سيدي أبو اللواء أحمد بن عثمان بن محمد عبد القادر
الجيلاني، وأن تسمية أبو اللواء نفسها قد أطلقها والده عليه حين رآه لأول
مرة يوم ولد وذراعه الأيمن مرتفع إلى أعلى فتوقع له أن يحمل لواء الإسلام
حين يكبر، وقد صدق حدس الأب، حيث أصبح أبو اللواء في كبره يفصل في النزاعات
بين القبائل ويعدل بينهم، وهذا ما نأتي عليه مقام آخر.