شرشال
مدينة السر الخالص، أو مدينة صناعة السر إن جاز تسميتها، بمجرد أن تطأ
بابها ينشد انتباهك وللوهلة الأولى بهذا السر الذي يحتضنها، ويرميها في فيض
الأسئلة وهي يخرج من داخلك لتحملك بعيدا إلى الحضارات التي تعاقبت على
المكان، ابتداء بــ: الفينيقية التي طالما سجل المؤرخون فخرها بمدينة اسمها
إيول، (شرشال حاليا)، قبل أن تزدهر في عهد القرطاجيين، لينفتح السر على
عاشقيه بشيء من المعرفة تحيل على أكثر من لغز خلف عددا من الاعتقادات
العلمية التي تشير إلى أن شرشال كانت قبل العهد الفينيقي مستعمرة مصرية في
منتصف الألف الثانية كانت 1500 قبل الميلاد، ربما وذلك يعود لاكتشاف تمثال
مصري في شرشال عليه خرطوشة الفرعون تحتمس الأول (1493-1482 قبل الميلاد،
موجود في متحف المدينة وهو تمثال منحوت من البازلت الأسود وجلسته جلسة
الألوهية مصرية.
خضعت شرشال عاصمة ولاية تيبازة، المطلة على البحر الأبيض المتوسط، لحكم سيفاكس،
ثم ماسينيسا فأصبحت واحدة من مدن النوميديين، وبعد انتصار الرومان على
مملكة نوميديا عام 105 قبل الميلاد استولوا عليها في العام 40 قبل الميلاد،
وأصبحت في عهد الملك يوبا الثاني عاصمة لموريتانيا القيصرية، حيث تحول
اسمها من إيول إلى قيصرية، تكريما للإمبراطور الروماني أغسطس قيصر (31
ق.م-14 م)، وقد جعل يوبا الثاني من عاصمته قيصرية مركزا للثقافة
اليونانية/الرومانية في عهد الإمبراطور الروماني كاليغولا، إلى أن فقدت
استقلالها وألحقت بروما، غير أنها لم تفقد مركزها التجاري كونها أصبحت
عاصمة للولاية الرومانية الجديدة التي شملت ثلثي الشمال الجزائري.
بعد دمار شرشال على يد الوندال عام 372 م، خضعت المدينة للبيزنطيين منذ عام534
م هي وتيبازا لكنها بعد الفترة البيزنطية تلاشت واختفت من الذاكرة إلى
غاية الفتح العربي الإسلامي لشمال أفريقيا الذي أطلق عليها تسمية شرشال.
ويوجد متحف شرشال الذي يضم تماثيل تعد الأفضل التي اكتشفت في أفريقيا مثل:
التماثيل الضخمة للإلاهين الرومانيين أسكليبيوس وباخوس، كما يوجد في جنوب
المتحف بعض الآثار الرومانية مثل : الفوروم والبازيليكا السيفيلية وكذلك
المسرح الروماني الذي كان يسع من 10.000 إلى 14.000 ألف مقعدا.
ومما يذكر أنه في عهد الاستعمار الفرنسي الأول لشرشال نقلت إلى متاحف في
مدن باريس والجزائر وإن الكثير من المعالم الشرشالية دمرت من أجل حجارتها
للأسف الشديد . المسرح الروماني الذي استخدمت حجارته المكسوة في بناء
الثكنات الفرنسية، بينما استخدمت مواد الهيبودروم (المضمار) في بناء
الكنيسة، بينما رواق الهيبودروم الذي كان معمدا بأعمدة من الغرانيت والرخام
وممهدا بدرجات سلالم جميلة، دمر على يد الكاردينال المسيحي (لافيجيريه) في
بحثه عن قبر القديسة المسيحية (مارسيانا)، كما ظهرت في منطقة شرشال بعض
القيادات لحركة المقاومة الشعبية الجزائرية، مثل محمد بن عيسى البركاني
فقاتل وقتل في معركة الزمالة سنة 1250هـ=1834م، وموسى بن علي بن حسين
المصري الأصل والشهير بالدرقاوي أو بوحمار، نظرا لأنه كان يركب حمارا وهو
يتجول بين القبائل لحثها على الجهاد.
مسجد الرحمن… معلم يعانق عبق شجر الأندلس
مسجد الرحمن المتمركز وسط مدينة شرشال، والمتربع على أحسن ساحاتها معلم
يحمل في تقاسيم تشييده حكاية قوافل كبرى للعابرين عبر تاريخ حافل من
الحضارات تعاقبت على المكان، فبصمت فيه من ثقافة العمران ما سمح لأن يتسلل
منه ما ينعكس على هذا المسجد الذي وإن كان بنائه خلال الحقبة الاستعمارية،
فإنه ظل يعكس بصورته الخارجية شيئا اجتهاد الإنسان عبر الزمن.
وحول المسجد ساحة مسماة بساحة الشهداء تزينها أشجار من نوع خالص، تقول
الحكايات أنها مجلوبة من الأندلس، يوم اشتد الخناق على المسلمون هناك
فحملوا الطبيعة وهم فارون وأعادوا إنتاجها هنا في مدينة شرشال حتى تذكرهم
بالمكان، المكان الذي لم تدم عذريته طويلا، ففي العام 1875 تنبه الفرنسيون
به فوضعوا به كنيسة أبت ثقافة المكان إلا أن تكون شكلها عاكسا لصهيل
التاريخ هنا في شرشال:
لقد كانت الكنيسة التي صممها الفرنسيون ذات شكل مستطيل به مدخل يتكأ في
هندسته على ثمانية أعمدة تشكل الدعائم التي تترتكز عليه مقدمة السقف
المثلثة، وبداخله يوجد طابق علوي ومخزن أرضي وقاعات أخرى ،
ولأن دوام الحال من المحال خصوصا في شرشال مدينة الحلم الذي لا ينتهي، كما
يروي كل الشرشاليين الذي ظلت أنفسهم تشيد في مجسم الكنيسة حكايات كثيرة
وأمنيات قبل أن يصدق عليها المؤرخون في العام 1964، إذ حولت الكنيسة إلى
مسجد، وارتفع صوت المؤذن عاليا ممتدا في الآفاق محاولا طرق أبواب الأندلس
من جديد.
وكما كان امتدت الاستعمار الفرنسي إلى مساجد الجزائريين وحولتها إلى كنائس
ومستشفيات، بل الأبلغ من ذلك أن بعضا حول إلى إسطبلات، فكذلك الحال بعد
الاستقلال إذ حولت معظم الكنائس إلى مساجد تطهيرا لآثار الاستعمار، وقد
انبرى مجموعة من المشايخ الكبار على الاضطلاع بالمهمة التاريخية المتعلقة
بهوية الطن الدينية، وفي مقدمتهم الشيخ الربيحي رحمة الله عليه الذي كان
يفتي على المذاهب الأربعة بعده السيخ بونجار، والشيخ باربارة وإلى آخر ذلك
من اضطلعوا بتعليم القرآن وتفقيه الناس، وتواصلت المسيرة إلى اليوم حيث
يبلغ عدد المدرسين به عشرة، لإضافة إلى حوالي 400 طالب يدرسون القرآن وما
تعلق بشؤون السيرة النبوية وقضايا الفقه والعقيدة والتاريخ الإسلامي:
القيمة التاريخية للمسجد جعلته في واجهة الضيافة لكثير من العلماء والمشايخ
لقد مكن لموقع المسجد، وموقع المدينة وتاريخها الحافل لأن يكون قبلة
للمشايخ والعلماء الذين قادتهم أيامهم لأن يحلوا ضيوفا بالجزائر، وكان من
بين الذي زاروه إبراهيم الأخضر الذي زار المنطقة وتعرف على المسجد ونشاط
المسجد وذهب مندهشا لما وقف عليه وأعجبه، وكذلك الشيخ أيمن السويد وعبد
العزيز القصار، وكذلك الشيخ الراوي رئيس مجلس الشورى بروسيا، وكذلك مفتي
سلطنة عمان أحمد الخليل والقائمة مفتوحة على عدد من الشخصيات الدينية
والوفود،
لجنة المسجد… هيئة واحدة ومهام كثيرة
نظر لأهمية المعلم الدينية والدنيوية تسهر لجنة المسجد على صيانته ونظافته
وإصلاح مواطئ العطب التي يمكن أن تطاله بفعل التقادم ومصدرها في ذلك صندوق
الزكاة أو تبرعات المحسنين، كما تضطلع في أثناء ذلك بوظيفة اجتماعية صرفة
ذات أبعاد روحية إيمانية، من دار ابن السبيل التي تفتح أبوابها خلال شهر
رمضان الكريم، ومنها قفة اليتيم التي تمنح للأيتام بإشراف ذات اللجنة،
وكذلك سهم وهو كميات اللحم التي تجمع في عيد الأضحى في المسجد قبل أن توزع
على الفقراء والمساكين، بالإضافة إلى ذلك محفظة اليتيم التي توزع الأطفال
الأيتام في كل دخول مدرسي.
كما توجد للجان أخرى تخضع للجنة المسجد، وهي عبارة عن لجان شبانية، منهم
لجنة المجلة التي تصدر عددا كل خمسة عشر يوما يعنى بمسائل الثقافة والعلم
والتربية والقرآن، بالإضافة إلى موكلة الأحداث الدينية كالمولد النبوي
الكريم، والامتحانات الرسمية كالبكالوريا.
لقد ورث الشرشاليون أسوة حسنة عن المشايخ فتحولوا إلى أسرة واحدة تسهر على
المسجد في صيانته وفي نظافته، مما جعل المسجد قبلة للمصلين الذين يصل عددهم
يوم الجمعة إلى حوالي 8000 آلاف مصلي، وهذا كله بفضل الانضباط ورح
المسؤولية التي تتحلى بها الأسرة المسجدية، بالإضافة إلى جانب الثقة الذي
منحوه للناس من النشاطات الثقافية والدينية التي نقام في المسجد
المجلة، محو الأمية، المكتبة والمكتبة الرقمية.. عناوين رئيسة للفعل المسجدي
عود مسجد الرحمان رواده على الحضور الدائم بما يقدمه من نشاطات في مقدمتها
محو الأمية الذي استفادت من شريحة واسعة من نساء شرشال، اللواتي حالت
الظروف دون نلقيهم تعليما في مرحلة الصغر، وفي هذا الإطار انبرت مرشدات
دينيات على الاضطلاع بالمهمة الإنسانية العظيمة التي أتت أكلها بمضي الزمن
من خلال عدد النسوة اللواتي تغلبن هاجس الأمية.
وإضافة إلى ذلك الوظيفة المكتبية التي تنمو يوما بعد يوم وسط من خلال
العناوين المتنوعة في الفقه والسيرة واللغة والحديث والتاريخ التي تدخلها
يوميا، إلى أن صارت على قدر محترم من الثراء.
وكمسايرة لما تفرضه التكنولوجيا من ابتكارات دخلت عقول الناس وأصبحت تشكل
جزء كبيرا من ديكورات المنازل من حواسيب ومطابع وأجهزة الرقمنة
التلفزيونية، وقارئ الأقراص المضغوطة، أفردت الأسرة المسجدية بمسجد الرحمن
جناحا واسعا للمكتبة الرقمية التي تعرف نموا متزايدا وسريعا يوما بعد يوم.
وموازاة مع ذلك يعكف مجموعة من الطلبة بإشراف إمام المسجد على تفعيل الجانب
الإعلامي للمسجد من خلال السهر على المجلة الحائطية وإخراجها كل 15 يوميا،
إضافة إلى ذلك إعداد المطويات التي تدعو وتشجع على العمل الخيري وتروج
للفعل المسجدي بخصوص سهم العيد ومحفظة اليتيم، ودار أبن السبيل، وغرس حب
الني عليه الصلاة والسلام في النفوس،
لجنة الزكاة مثال للشفافية والنزاهة
أفرد مسجد الرحمن لجنة خاصة للتسيير أموال الزكاة وتوزيعها على مستحقيها،
ومن وظائف هذه اللجنة جمع محاصيل الزكاة من المال والفطر، ودراسة ملفات
المعوزين، وتحديد القائمة الرئيسة للمستحقين.
وقد عرفت اللجنة تطورا منذ تأسيسها في العام 2005، واستطاعت أن تكسب ثقة
الجميع بدون استثناء، سواء كان ذلك في صفوف المحسنين أو السلطان المحلية،
وذلك ما تقول به الأرقام المسجلة، بلغ في العام 2009 مبلغ زكاة المال زهاء
134 مليون، و مبلغ زكاة الفطر زهاء 43 مليون على مستوى مساجد شرشال الثلاث
استفاد من حوالي 300 مستفيد .
وعلى مستوى قنوات تحويل المحاصيل سواء ما تعلق منها بزكاة المال، أو بزكاة
الفطر، فإن اللجنة تقوم اللجنة بإيداع محاصيل المال في رقم حساب صندوق
الزكاة الخاص بالشؤون الدينية لولاية تيبازا، أما على مستوى محاصيل زكاة
الفطر فإنها تجمع في الأسبوع الأخير من شهر رمضان وتوزع في ليلة الـ27 أو
الــ28 من شهر رمضان على الفقراء والمعوزين.
وإضافة
إلى ذلك تقوم لجنة المسجد وبالتنسيق مع نظارة الشؤون الدينية لولاية
تيبازا، بمنح قروض استثمارية لفائدة الشباب البطال، وذلك بعد دراسة دقيقة
للملفات الطالبين، وتحويلها إلى جهة المشرفة على صندوق الزكاة، حيث سيستفيد
المقبولون بـقرض قدره 20 مليون سنتيم، يقول فتحي حاكم عضو بلجنة المسجد
