يقترن ذكر اسم زاوية سيدي منصور بالبعد
الحضاري العريق للإنسان الأمازيغي الذي عمر على هذه الأرض المعطاء من أزمنة
البعيدة، وقد رصع تاريخها بمآثر بصمت على صفحات تاريخ من التفاعل بين
الأمازيغ والعرب الفاتحين الذي تأبى حركة التنقيب في المصنفات إلا التوقف
لتستخرج منه ما يعلن عن بداية الحماية أو يضيف للحكاية شيئا جديدا .
تقع زاوية سيدي منصور شرق ولاية تيزي وزو على بعد حوالي 50 كيلومتر في قرية
تيميزار، القرية التي تتشكل من عرش (آث جناد)، أنشأها العالم الجليل
والولي الصالح سيدي منصور الجنادي، وكلمة الجنادي في ما تقول به بعض
الروايات المحلية هو كنية تطلق على المتحكم في فن الرماية، أي المالك
للقدرة على إصابة الهدف بدقة، وقد وقع انحراف وفي للفظ فحلت الجيم محل
الزاي فصاروا أحفاده يعرفون بأبناء جناد، أو (آث جناد) بالأمازيغية.
لقد مكنت الحاجة الملحة لأبناء المنطقة في الاضطلاع بمعرفة شؤون دينهم،
وإكمالا لمسيرة دشنها الفاتحون وحمل لواءها ابن تمورت وطارق بن زياد وآخرين
من الأمازيغ أن تبرز للميدان قلعة من القلاع العلمية التي وضع أساسها
الأول سيدي منصور في العام 1046 هـ الموافق لـ 1635 م، انطلقت في بدايتها
بتحفيظ كتاب الله وتعريف الناس بقضايا الدين ليكمل أبناؤه بعده المسيرة وكل
رأسمالهم حفظ الأمانة الني روثوها أبا عن جد.
ويروي ياسين بوعاش، أحد أحفاد الشيخ منصور الجنادي، والمسير والمشرف الفعلي
على إدارة شؤون الزاوية، أن الشيخ منصور الجنادي هو شيخ وعالم زاهد رمت به
الأقدار في قرية تدعى (تيزي فر)، وهي قرية تقع مابين مدينة آقبو وزاوية
عبد الرحمن الأيلولي بمدينة الأيلولية، وقرية (تيزي فر) هي النقطة الفاصلة
بين منطقتي القبائل الصغرى والقبائل الكبرى، وتعني بالعربية النقطة
السوداء، التي دائما ما يتشح سماؤها بالسحاب الذي يظهر دائما فوقها، وقد
ولجها الشيخ قادما من (أفيحانن)، قبل أن يشد الرحال مرة أخرى باتجاه
إعكوران حيث توجد قرية (جغيغة)، التي تعنى بالعربية الوردة، حيث أقام بها
حوالي سنتين، ولما لم يجد من أهلها الترحيب الكافي سار إلى قرية تيمزار –
معناها بالعربية الحقول الصغيرة- التي لقي تمام الكرم والحفاوة
والاستقبال، فاختار لنفسه خلوة في بغابة الحمام الواقعة أسفل القرية، حيث
بادر أهلها ببناء مسجد له فيها تحول في أيامه الأولى إلى مصلى يؤم الشيخ
المصلين فيه من أهل القرية، ويعلمهم شؤون دينهم، ويحفظ أبناءهم القرآن،
ليتحول بمضي الوقت إلى زاوية يقصدها أبناء القرى المجاورة، إلى أن حلت
منيته بذات المكان فدفن به.
قد عاش الشيخ منصور الجنادي في القرن التاسع للهجرة، في وقت حكم عمر بن
القاضي الذي حكم جبال زواوة زمن سلطنة كوكو التي أسسها الجناديون عام 1510،
وذلك لصد غزوات الإسبان والأتراك، وهناك قصة دونها الكاتب الانكليزي
الراحل (داتير) يتطرق فيها إلى مجريات لقاء جرى في 1618، بين الولي الصالح
سيدي منصور الجنادي وعمر بن القاضي حاكم سلطنة كوكو ، كما يتطرق في حيثات
بحث لعدد من القضايا التي تميط اللثام على الأدوار التي لعبتها الزاوية
وظلت تلعبها حتى إلى يومنا هذا:
بعد رحيل الشيخ سيدي منصور الجنادي نالت زاويته سمعة طيبة وشهرة واسعة، لما
كان يدرس فيها من قرآن وعلومه ولغة وعلومها، مما قصدها القاصي والداني،
فكانت بمثابة القلعة المتكفلة بتعليم ونفقة عشرات الطلبة على مدار العام،
ويصلون في أحايين كثيرة إلى المائة، وقد بنقص هذا العدد بقليل أو يزيد.
زاوية سيدي منصور والحقبة الاستعمارية مرجع خفي في تعطيل التوسع الاستعماري
لما كانت الزاوية تاريخيا بمثابة الصرح
الواسع الذي يمد المجتمع بإطاراته وقادته وأقطابه، فإنها لم تتخلف على ذلك
كلما حل بهذا المجتمع محنة أو أزمة، كما تم تسجيله لصالح زاوية سيدي منصور
خلال الحقبة الاستعمارية، مما يسجله المؤرخ الفرنسي ليل روبان الذي تطرق في
كتابه عن منطقة القبائل عن مشاركة زاوية سيد منصور إضافة إلى زوايا أخر في
معركة سطوالي الشهيرة التي جرت بتاريخ 14 جوان 1830 بحوالي خمس وعشرين ألف
مقاتل انضموا إلى الداي حسين، وهم من مريدي الطريقة الرحمانية التي ظلت
عليها زاوية سيدي منصور، وكان شيخها الأكبر في ذلك الوقت سيدي العربي
أوشريف، حيث كان صاحب زاوية أيضا تقع بمنطقة تزروت.
وبعد دخول الاستدمار الفرنسي إلى منطقة القبائل 1871 وتدميره لكل المؤسسات
الروحية، تقلص دور الزاوية، واكتفت بتحفيظ القرآن فقط، إلى غاية اندلاع
الثورة التحريرية المباركة في العام 1954 حيث تم تحويل هذه الزاوية إلى
ثكنة لجنود الاستعمار الفرنسي:
استقلال الجزائر وحركية الزاوية في التكيف مع عجلة التاريخ
بعد الاستقلال عادت الزاوية إلى النشاط
الاجتماعي والديني في العام 1968 بعد قام الجناديون بتنقيتها من الآثار
الاستعمارية، وفي مقدمتهم إضافة إلى أعيان أعراش تيمزار الكولونيل محمد
أيعزورن المكنى بـ(بريروش)، حيث استعادت مكانتها الاجتماعية والدينية كمركز
للثقافة العربية الإسلامية، مثلها كمثل كل الزوايا التي ظلت ولا تزال
مدارا وبيوتا وملجأ للعمل الخيري، غير أن أهم ما اختصت به تحفيظ القرآن
الكريم، وتعليم ما يلزمه من علوم اللغة وعلوم الشرع والتاريخ.
وفي هذا المقام يستوقفنا أحمد توفيق المدني المؤرخ الجزائري في حديثه عن
الدور الريادي للزاوية الذي لا يستطيع أن ينكره حتى المكابر، لما يبذله
رجالها من عرس للقيم الدينية واللغوية والإنسانية في النفوس في كامل
الأصقاع وقد كان يرتادها حتى من البلدان الشقيقة:
من الوظيفة الدينية إلى الاجتماعية…شريان للألفة يشد قلوب الناس إلى فضاء مركزه الزاوية
لقد دأبت الزاوية على لعب دور المناط بها تاريخيا، كما برز ذلك خلال الحقبة
الاستعمارية السوداء التي تجلى فيها الدور الدفاعي عن الوطن وعن الشرف
الوطني لزاوية سيدي منصور واضحا وقويا، الإضافة إلى الدور التعليمي العلمي،
واليوم تلعب زاوية سيدي منصور دورا اجتماعيا بالغا يتصل اتصالا مباشرا
بيوميات الأفراد، ومشكلاتهم الخاصة والعامة، كحفل ختان أطفال عرش بني جناد
الذي تشرف عليه الزاوية في ليلة قدر في شهر رمضان من كل سنة، وعلى سبيل
الذكر فقد بلغ عدد الأطفال الذين تم ختانهم في العام 2005 حوالي 94 طفلا
على حساب نفقة الزاوية، وكذلك مساعدة الفقراء والمحتاجين حسب الحاجة وحسب
استطاعتها التي يقومها المحسنون.
من بين الأدوار التي تعنى به زاوية سيدي منصور الدور الثقافية الذي يفعل
روح التنافس بين أفراد المنطقة وأبناءها في تحفيظ القرآن وإقامة المسابقات
الفكرية وتكريم الفائزين والتشجيع على المطالعة وغرس حب الطبيعة والتكافل
والإصلاح وبالبناء:
عشرات الطلبة على مدار العام ومشاريع الرفع من المستوى والإعلام الآلي لفائدة طلبة الزاوية
في محاولة منها لمسايرة العصر، وللرفع من
أدائها والوقوف في وجه التحديات جسدا زاوية سيدي منصور تفكيرا سليما لفائدة
طلبتها المقدر عددهم في غالب الأحوال بـ 85 طالبا على مدار العام، وتكمن
هذه التجسيدات بالإضافة إلى حفظهم للقرآن الكريم توجد هناك الدروس المتعلقة
بعلومه وعلوم العربية، والفقه المالكي متن ابن عاشر وشرح خليل ومتن
الأجرومية، فضلا عن دروس في التربية الوطنية، هذا فضلا دروس الإعلام الآلي
والمعلوماتية التي أدرجتها ضمنا نشاطها التعليمي في الفترة الأخيرة .
ومن بين هذه التجسيدات تقوم الزاوية بتشجيع طلبة القرآن على التسجيل في
التعليم عن بعد ومساعدتهم في فهم الدروس بالشكل الذي يسمح بالرفع من
مستواهم المعرفي والمنهجي، وقد أنعكس هذا في نجاح الكثير في شهادة
البكالوريا.
ولضمان الحد الأدنى من النجاح تطلب زاوية سيدي منصور من وزارة الشؤون
الدينية الشد على العضد بالشكل الذي يسمح لها بمواصلة المسيرة، ويقيها من
السقوط، خصوصا على أهميتها البالغة في منطقة القبائل الكبرى، ناهيك عن عدد
المتخرجين سنويا الذين يصل عددهم في أغلب الأحيان إلى 25 طالبا:
زاوية سيدي منصور ومشروع تأطير المساجد خلال تراويح رمضان
تشرف زاوية سيدي منصور على تأطير المساجد
والمصليات بالطلبة المقرئين من حفظة القرآن الكريم، حيث يقومون بإمامة
المصلين خلال التراويح، وقد بلغ عددهم في السنة الماضية حوالي 31 طالبا
موزعين على 25 مسجدا في منطقة القبائل، إضافة إلى ذلك الدروس الرمضانية
التي يتناوب على تقديمها عدد من الأساتذة والمدرسين ممن هم على علاقة
بجوانب الوعظ خلال الشهر الكريم بمسجد الزاوية، نهيك عن تكريم الكبار من
حفظة القرآن في القرية:
المعهد الإسلامي مشروع طموح تشرف على انجازه الزاوية
من المشاريع الضخمة التي تسعى الزاوية
لاستكمالها وتتمنى من المحسنين المساهمة فيها أكثر بالشكل الذي يسمح
بالانتهاء منها في القريب، مشروع المعهد الإسلامي الذي بلغت أشغال الانجاز
به حوالي 60 بالمائة، وهو متوقف لغياب التمويل.
ويتكون هذا المعهد من 6 قاعات كبيرة للتدريس ومكتبة ومطعم بكامل لوازمه
ودور خاصة للطلبة الذين سيدرسون به، بإلاضافة إلى سكنات للمدرسين:
ليست هذه هي الزاوية الوحيدة في ولاية
تيزي وزو فهناك زوايا أخر، نذكر منها زاوية عبد الله بن حسان بقرية آيت بو
يحيي، والتي يطلق عليها زاوية “سيدي حسان” والتي تضم مسجدا وضريحا لسيدي
حسان، ومركزا لتحفيظ القرآن وتدريس المواد الدينية، وهذا سنأتي عليه في
مقام لاحق.